مقدمة

تنشأ الهجرات من حاجة الإنسان إلى حياة أفضل، لذلك كانت سمة غالبة على كلّ عصر وعلى كلّ جماعة بشرية ولم يكن عصرٌ بذاته عصرًا للهجرة، وإن تضاعفت نسب مهاجريه أو وطئت أقدامهم كلّ أركان المعمورة. ولم تكن مساحة ما من الجغرافيا الأرضية مقصدًا دائمًا للهجرات. غير أنّ دوافع تلك الهجرات كانت كثيرة ومتغيّرة ومعقّدة بما يجعل تيّاراتها تتبدّل على الدوام. فإذا نظرنا إلى علاقة الهجرة القائمة بين شعوب القارّتين الأوروبية والأفريقية نرى تبدّلًا على مدى القرنين الماضيين، فبعد أن كانت أفريقيا مقصدًا للمهاجرين الأوروبيين في الحقبة الاستعمارية، تحوّلت الوجهة بصورة عكسية فصارت أوروبا مقصد المهاجرين الأفارقة منذ النصف الثاني من القرن العشرين على أقلّ تقدير.

لقد سمحت المرحلة الاستعمارية بتنشئة علاقة ما بين القارّتين كان العامل الجغرافي الجامع بينهما محدّدًا في ذلك. ولئن كانت الهجرة في التوصيف العام والمشتق من التجارب البشرية السابقة تعني استقرارًا لجماعة بشرية بأرض أخرى استقرارًا دائمًا فإنّ الهجرات المؤقتة بدت وضعًا جديدًا تكوَّن بوضوح منذ أواسط القرن العشرين؛ فقد اتخذت أوروبا منذ ستينيات القرن الماضي سياسة الهجرة المؤقتة إزاء مهاجري الشمال الأفريقي عبر استقدام قوى عاملة من الشباب المغاربي لسدّ نقص العمالة في الجانب الأوروبي من دون أن يصطحبوا معهم عوائلهم في البداية. غير أنّ التحوّلات التي طرأت في سياسات الهجرة بعد ذلك جعلت من المهاجرين إلى أوروبا ومن مهاجري الشمال الأفريقي قضيّة سياسية وحضارية ونشأت قوانين تضبط وجودهم على الأرض الأوروبية، مع استحداث مشاريع لإعادة توطينهم في بلدانهم الأصلية بعد انتهاء عقود عملهم عبر الاتفاق مع دولهم أو إقامة تصورات مشتركة لدعم دول القارة الأفريقية، في محاولة لخفض منسوب الهجرة. إلّا أنّ شيئًا من ذلك لم يحدث، فمنذ الطفرة التقانية والاتصالية التي سادت العالم والدخول اقتصاديًا في عصر العولمة منذ بداية الألفية الثالثة، تطوّرت الهجرة إلى أوروبا بنسق متضاعف وحازت الهجرة غير القانونية منها قصب السبق في هذا المضمار للنسب العالية التي حققتها من المهاجرين الذين دخلوا أوروبا عبر البحر أو عبر الجهة الشرقية.

لقد أكسب هذا المنحى مسألة الهجرة تسييسًا متزايدًا بدخولها في دروب السياسة الداخلية والعلاقات الثنائية والإقليمية بين الدول وسياسات الأمن القومي والدولي. لقد أورث كلّ ذلك قلقًا غير معهود في أوروبا إزاء هذا الوضع الجديد للهجرة. وطُرحت أسئلة كثيرة شديدة الصلة بالهويّة ومستقبل القارة والموقف من هويّات المهاجرين القادمين إليها. وعلاقة كلّ ذلك بالجانب الديمغرافي الذي يؤدي أدوارًا رئيسية في سياسات الدول ومقدار سلطتها في إدارة السياسة العالمية.

أمام هذه الأهمية رأينا من المناسب أن نتناول أثر مهاجري جنوب المتوسط في الديمغرافيا السياسية في أوروبا. وجدل الهويّة والهجرة في الفضاء الأوروبي من وجهة نظر اليمين الفكري، وقد فصّلنا ذلك في عنصرين رئيسيين، هما الهجرة والديمغرافيا السياسية من جهة والهويّة والاندماج ومستقبل أوروبا من جهة ثانية.

أولًا: الهجرة والديمغرافيا السياسية في أوروبا

سنتناول في بحثنا في مسألة الهجرة إلى البلدان الأوروبية القضية من الداخل الأوروبي من خلال جوانب رئيسية ثلاثة هي الجغرافيا والديمغرافيا والسياسة. وسيكون الأمر أكثر جدوى حين نقف على مشرب علمي جديد هو «الديمغرافيا السياسية» الذي يضمّ هذه الجوانب ولا يقف عند هذا الحدّ، بل يبني نتائج من خلال بحث علائقي بينها ببيان جدل التأثر والتأثير المتبادلين انطلاقًا من رصد الكيفيات التي يصوغ بها السياسيُّ الديمغرافيَّ، أو كيف يبني الديمغرافيُّ السياسيَّ ويكيّفه. وهو مبحث بكر اجترحه الجغرافيّ والاقتصادي والديمغرافي جيرار فرانسوا دومون، أستاذ جامعة السوربون في باريس. ومؤسس مجلة Population and Avenir ومؤلف الكثير من الكتب في جميع مجالات الجغرافيا البشرية أهمّها كتاب الديمغرافيا السياسية[1]. يتميز هذا الميدان البحثي الجديد بخصلتين اثنتين على الأقل، أولاهما أنّه يجمع مسالك بحثية متنوعة كالجغرافيا السياسية وديمغرافيا السكّان والديمغرافيا التاريخية وديمغرافيا الأديان وغيرها، وجميعها مباحث متجاورة ومنفصلة في آن، وثانيتهما أنّ هذا المبحث يطرق مسائل أكثر تعقيدًا لأنّه ينظر في اتصال الديمغرافيا بالسياسة من جهة ويجمع نتائج الميادين البحثية المختلفة لدراسة السكان من جهة ثانية.

يعتقد جيرار دومون أنه منذ ظهور الدول والكيانات السياسية كان الجانب الديمغرافي محدّدًا رئيسيًا لموازين القوة، فالدول ذات الديمغرافيا السكانية الكبيرة تكون عادة دولًا مهيمنة وتمارس سياسات هيمنة على الدول الأقل ثقلًا ديمغرافيًا منها، بل وتتحدّد الطبيعة السياسية لتلك الدول وفق عدد سكانها. لم يكن هذا الأمر شأنًا يخصّ الدول في التاريخ بل هو أمر لا يزال قائمًا اليوم وبقوّة. فالحضور السياسي الوازن للصين منذ النصف الثاني من القرن العشرين يعود في جزء كبير منه إلى المسألة الديمغرافية.

وإذا نظرنا إلى الواقع الأوروبي نرى أنّ السياسات الديمغرافية المتبعة في بعض البلدان، القائمة على التشجيع على الإنجاب من خلال الحوافز المالية والاجتماعية التي توفرها الدولة لذلك، تصبّ من دون شك في جعل مؤشر النموّ السكّاني مرتفعًا أو ثابتًا، وتتنزّل هذه السياسات كذلك في سياق مقاومة نسب التهرّم العالية السائدة في أوروبا بما ينذر بانخفاض ملحوظ لعدد السكّان الأصليين.

والواقع أنّ قانون العدد (Lois du nombre) ليس الوحيد الذي يبني عليه دومون نظريته في الديمغرافيا السياسية فإلى جانب ذلك يتناول تسعة قوانين أخرى أهمّها قانون المجموعات البشرية (Loi des groupes humains) وقانون النوع (Loi du genre) وقانون التمايز (Loi du différentiel) وقانون الجذب (Loi d’attirance) وقانون الدفع (Loi de repoussement) وقانون الشتات (Loi des Diasporas). غير أنّنا سنقف عند مسألة العدد التي تهمّنا في سياق هذا البحث مع استئناس بمسائل أخرى إن اقتضت الضرورة.

يظهر من السياسات الديمغرافية الشائعة للدول عبر التاريخ أنها تشجع المجموعات السكانية الموالية للدولة على الاستقرار في المناطق الحدودية درءًا لنشوب حركات انفصالية وتقليصًا لاحتمالات تدفق الأسلحة لسكان الحدود. وإن كان هذا النموذج من السياسات لا يزال حاضرًا في كثير من البلدان النامية بصورته التقليدية. غير أنّ ما يحدث في أوروبا اليوم من سياسات يبدو أكثر تعقيدًا ويتنزّل معظمه تحت مسميّات كثيرة كتجنّب التركُّز السكاني في المركز الجغرافي، أو إعادة توزيع مراكز الثقل الاقتصادي، ومع ذلك، غالبًا ما تُستخدم هذه التبريرات لتمويه المخاوف الديمغرافية السياسية الحقيقة كانعدام التوازن الإثني أو العرقي داخل الدولة. وهو ما يتراءى اليوم بوضوح من خلال إثارة موضوعات الهويّة الوطنية داخل دول الاتحاد الأوروبي.

ما يزال متوسط ​​عمر المهاجرين منخفضًا نسبيًا في البلدان الأوروبية التي أصبحت مؤخرًا بلدان هجرة، ولكنه يميل إلى الارتفاع في البلدان ذات التاريخ الطويل للهجرة. وما يحظى بالاهتمام هو أنّ عدد المهاجرين الوافدين على أوروبا في تصاعد كبير ومعظمهم من الشباب، وهذا ما جعل نسبة التهرّم السكاني في أوروبا من المهاجرين والسكان الأصليين تنخفض وتعود إلى ما يقارب معدلاتها قبل 30 سنة خلت‏[2]. يخفّض المهاجرون نسب التهرّم السكاني وإن بدرجة ضئيلة. فنسبة مرتفعة من هؤلاء المهاجرين الذين يصلون إلى عمر الخمسين فأكثر يعودون نهائيًا إلى أوطانهم الأصلية التي هاجروا منها، وهذا ما يجعل معدل أعمار المهاجرين في الغالب منخفضًا وإن كانت النسب لا تزال ضعيفة التأثير.

1 – «اللفياثان» الجديد: الدولة والهجرة في أوروبا

لم يجد توماس هوبز أبلغ من اللفياثان‏[3] ليعبّر عن سلطة الدولة التي لا تُقهر ولا رادّ لهيمنتها. فالدولة الحديثة بترسانة القوانين الصارمة التي تنهض عليها والحقل القيمي الواسع الذي تستند إليه هي الجبّار الذي لا طاقة لأحد على قهره أو تجاوزه. غير أنّ هذا القول الذي ذكره هوبز‏[4] كان يخصّ الدولة القومية الحديثة زمن فتوّتها، في حين تغيّر الأمر، وبخاصة بداية من الألفية الثالثة، إذ أدّى التطور التكنولوجي والسيبراني الهائل أدوارًا حاسمة في إضعاف الدول الوطنية حين سُلبت منها أجزاء كبيرة من مجال سلطتها لمصلحة شركات ومؤسسات لا تحمل انتماءً لدولة بعينها. ولم يكن الضعف ناشئًا من هذا فحسب بل من قيم ما بعد الحداثة كذلك التي ذهبت إلى مزيد من الفردانية وجعلت قيم الدولة كالتعدّدية والديمقراطية والمواطنة والحريات الفرديّة، شكلًا معبّرًا عن اللين والهشاشة، بما صيّر الهويّة المؤسسة على معطى الدين أو العرق أو الإثنية غائبة تقريبًا. لقد أضعفت قيم الحداثة وأبرزها الديمقراطية الدولةَ وحوّلتها إلى كيان بلا سلطة بسبب ما أحدثته من نقطة فراغ في السلطة كما يقول كلود لوفور‏[5]. وهذا الفراغ لا يخدم الدول بقدر ما يهدّدها.

تعرف أوروبا تقابلًا بين ضعف الدولة‏[6] وموجات الهجرة القويّة التي تجتاحها، إلى الحدّ الذي يمكن أن يغيّر سحنة أوروبا إلى الأبد؛ لا من جهة الانتماء الجيني أو الديني فحسب، وإنما قد يُنبئ الأمر بنكوص مريع عن قيم الحداثة إلى عصر وسيط جديد. ولا يتعلّق الأمر بغلبة المهاجرين على السكّان الأصليين وإنّما بسير أوروبا إلى عصر من الفاشية والتوتاليتارية، بدأت بوادره تظهر بصعود قويّ لأحزاب اليمين المتطرف في مختلف أركان القارة.

لقد ظلّ خطاب العولمة في السياسات الأوروبية أقرب إلى الشعارات أو البروتوكولات السياسية وبعيدًا من كونه قاعًا سوسيولوجيًا للحداثة الغربية. فإذا كان معتقد العولمة هو بناء شعب عقائدي خليط من كلّ الأعراق والأديان والإثنيات. فإنّ سياسات الهجرة المتبعة في أوروبا تقول غير ذلك، بل إنّها أعادت الدوافع العنصرية عن قصد أو بغيره؛ ففي ألمانيا حاولت أنجيلا ميركل تجاوز الماضي العنصري والنازي لألمانيا من خلال الترحيب باللاجئين السوريين عقب الأزمة المندلعة في ما يُعرف بالربيع العربي. وبالرغم من أنّ سياسة ميركل كانت متناغمة مع ثقافة الحداثة المعولمة إلّا أنّ ذلك لم يغير من واقع العداوة المتزايد ضدّ الأجانب المسلمين في ألمانيا نفسها. وهي عداوة رَبَتْ من خلال استنهاض هويّات لا همّ لها إلّا استعداء الأجانب. والواقع أنّ تنامي الهويّات القائمة على ماضٍ ثقافي أسطوري لم يكن شأنًا خاصًا بدول بعينها وإنّما هو أمر شمل جميع أنحاء العالم. وهذا النموّ الهويّاتيّ لا يمكنه بأيّ حال أن ينفي الأثر القويّ للعولمة التي حفرت عميقًا في بناء الهويّة البشرية على مدى الأعوام الثلاثين الماضية. ولم يعد ممكنًا الآن العودة إلى الوحدة الوطنية القديمة حتى وإن وقع إيقاف الهجرة بصورة كلّية. والواقع أنّ أوروبا والدول الغربية بوجه عام تعاني اليوم وضعًا دقيقًا بسبب أخطاء ماضية تمثّلت بعجز هذه الدول أو عدم رغبتها في ابتناء نموذج الدولة الحديثة في العالم غير الغربيّ بما خلق فجوة لم يعد ممكنًا اليوم تجسيرها.

فمشاريع دمقرطة العالم غير الغربي والعالم الإسلامي على وجه التحديد لم تكن مشاريع حقيقية، وحتّى الثورات المفتعلة في الشقّ الشرقي للقارة الأوروبية أو في الوطن العربي لم تعمل على تحويل دولها إلى كيانات ديمقراطية، وإن كانت النخب الأوروبية قد اعتقدت أنّ الثورات الملوّنة في شرق أوروبا‏[7] والعراق ستوقظ الجوع إلى الديمقراطية عند سائر الشعوب العربية بما يهدّئ من التطرّف الإسلامي فيها ومن ثمّ في أوروبا، أو أن يكبح جماح التدفقات العالية لهجرة العرب والمسلمين إليها، فإنّ شيئًا من ذلك لم يتحقق، إذ لم يقع إنقاذ أوروبا رغم الجهود الأمريكية المبذولة‏[8]؛ بل لم يعد من الممكن إيقاف مدّ الهجرة القادم من المتوسط وبدا كأنّه «لفياثان» جديد يكتسح القارة الأوروبية بلا هوادة.

تأتي هذه المواقف انطلاقًا من الاستنتاج الشائع الذي يقول إنّ معظم المهاجرين القادمين من الضفّة الجنوبية للمتوسط لم يكن تصوّرهم للدولة الحديثة مكتملًا، وكان يعوزهم فهم القوانين الجاري بها العمل مع انعدام الرغبة في تمثّل قيم الحداثة. لقد أدى سوء التقبّل لقيم الدولة من جانب قطاع كبير من المهاجرين الأفارقة المسلمين إلى شعور عام بالضجر من جانب المهاجرين والسكان الأوروبيين على السواء. وهذا ما أنتج حراكًا أوروبيًا دؤوبًا نحو استعادة الهويّات القومية، وقد تجلّى ذلك من خلال تقدّم التيارات اليمينية المتطرفة في مختلف الاستحقاقات الانتخابية. وهو تقدّم ينذر بخطر على الديمقراطية الغربية. ويذهب الباحث بروس باور إلى قياس ما يجري في أوروبا اليوم على ما جرى فيها بُعيْد الحرب العالمية الأولى، وفي ألمانيا على وجه التحديد. ففي الوقت الذي كانت الشيوعية تجتاح شرق أوروبا كانت حكومة فايمار (Weimar)[9] الألمانية قد مزقتها الصراعات البرلمانية التي لا همّ لها إلّا تعطيل المشاريع‏[10]. ومن رحم هذا الضعف تنامى المدّ النازي ليدخل الأوروبيون والعالم في أتون حرب كونية طاحنة‏[11].

2 – الهجرة وديمغرافيا الأديان

جعل التغيّر الإثني والديني والديمغرافي المتسارع في أوروبا منذ تسعينيات القرن العشرين وخوف ضياع الهويّة الحداثية الناهضة على مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة والتداول السلمي على السلطة، موضوعَ الهويّة مصدرًا للجدل في الدوائر الأكاديمية والإعلامية وعلى صفحات التواصل الاجتماعي. يعود الجدل حول هذه المسألة إلى جملة التطوّرات التي شملت السياق الحضاري الكوني وأهمّها عودة الديني، إذ سرى اعتقاد لدى الناس منذ تجارب العلمنة الأولى في أوروبا بأنّ الدين يشهد انكساره الأخير وأنّ نفيه الكلّي عن المشهد العالمي هو مسألة وقت ليس إلّا. غير أنّ الدين أصبح مرة أخرى حقيقة جيوسياسية رئيسية من غير الممكن تجاهلها أو غضّ الطرف دونها.

ويتوقع معهد الأبحاث بيو ريسرتش (Pew Research)، المختص في الدراسات المستقبلية المتعلقة بالأديان، أنّ في أفق سنة 2050 سيقترب عدد المسلمين من المسيحيين في العالم إلى حدّ التطابق بـ 2.8 مليار مسلم، أي 30 بالمئة من سكان العالم، مقابل 2.9 مليار مسيحي، أي بنسبة 31 بالمئة. بما يعني أنّ نسبة النمو عند المسلمين هي الأسرع على الإطلاق من بين سائر الأديان بــ 73 بالمئة من عام 2010 إلى المتوقع عام 2050، قياسًا على المسيحية، علمًا أنّ هذه النسب سترتفع بمقدار أكبر مع نهاية سنة 2100. ويعيد المعهد المذكور هذا التطوّر الكبير أساسًا إلى العامل الديمغرافي‏[12]. بمعنى أنّ التطوّر في عدد المسلمين في العالم لا يعود إلى موجات اعتناق لهذا الدين بقدر ما يعبّر عن التطور الديمغرافي للمسلمين وهو الأمر نفسه الذي يتعلّق بنموّ الهندوسية.

تؤكّد هذه النسب أنّ الديمغرافيا الإسلامية تتطور بصورة ملحوظة في العالم، وفي أوروبا بوجه خاص؛ فنسب الهجرة الإسلامية إلى أوروبا هي الأعلى من بين سائر الأديان، بما يعني تحوّلًا مرتقبًا في ديمغرافيا الأديان في القارة الأوروبية، ذلك أنّ العدد المتزايد للمهاجرين المسلمين يقابله تراجع مستمرّ في الديمغرافيا المسيحية إمّا بفعل التهرّم السكّاني وما ينتجه من ارتفاع نسبة الوفيات وإما من خلال التخلّي عن المسيحية، حيث إنّ أكثر من 300000 مسيحي في ألمانيا على سبيل المثال يقرّرون مغادرة المنظومة الكنائسية كلّ سنة ويتخلّون عن الانتماء إليها بصورة رسمية‏[13]، لأسباب منها الضريبة الكنسية المفروضة وكذلك الميل إلى الاعتقاد الديني الفردي بعيدًا من الانتظام الجماعي.

لقد منحت القوانين المدنية في البلدان الأوروبية المهاجرين وضعًا مناسبًا جعلتهم خارج دائرة التعسّف وسوء المعاملة في الغالب، وإن كانت نسب منهم لم تحظ بالمعاملة نفسها أو كانوا عرضة للميز والتهميش.

هذا المتغيّر الديمغرافي الديني ألقى بظلاله على الجانب السياسي من خلال تطوّر نسب الاقتراع للأحزاب اليمينية المتطرفة، كما هي الحال في فرنسا مع حزب الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبان (Marine Le Pen) في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي لسنة 2022 حين حلّت ثانية في الدور الأول بنسبة 23.15 بالمئة، وكذلك من خلال تطور نسب الأحزاب الاشتراكية الاجتماعية التي تتولّى الدفاع عن المهاجرين. فقد حل جون لوك ميلنشون (Jean-Luc Mélenchon) ممثّل اليسار الفرنسي ثالثًا بنسبة 21.95 بالمئة من مجمل الأصوات‏[14]. لقد حقق ميلنشون هذه النسبة المرتفعة بفعل تصويت المسلمين الذين منحوه 69 بالمئة من مجمل الأصوات التي تحصّل عليها. هذا التحشيد المتقابل يؤكد أنّ التطوّر الديمغرافي، وبخاصة المتعلّق بالديمغرافيا الدينية، يُعدّ عاملًا شديد التأثير في صناعة السياسات. بما يستنهض أسئلة كثيرة، أهمّها سؤال الهويّة الذي غدا في أوروبا أمرًا ملحًّا وقضية راهنة بامتياز. لقد ظلّ الدين مشغلًا مركزيًا في حياة الإنسان الذي أظهر موهبة فريدة على مدى تاريخه الطويل في وضعه في خدمة مقاصده الخاصة. فبه شنّ الحروب وبه عقد السلم وبنى الدول. وفي هذه المرحلة، وفي كلّ مرحلة مضت من التاريخ البشري، كانت الديمغرافيا والديمغرافيا الدينية مثل اللفياثان الذي لا سبيل إلى مواجهته‏[15].

3 – من «الشتاء الديمغرافي» إلى ربيع الهجرات

يُطلق لفظ الشتاء الديمغرافي (Hiver démographique) أو الانهيار الديمغرافي على وضع بعض الدول التي تفوق فيها نسبة الوفيات نسبة الولادات. وتُعدّ ألمانيا وبولندا من الدول المعنية بهذا الأمر، نظرًا إلى نسبة التهرّم العالية التي يعانيها السكّان. فبين إحصاءَي 2002 و2010 انخفض عدد سكان ألمانيا من 83,252,000 نسمة إلى 82,282,988 نسمة. على أنّ شبح الشتاء الديمغرافي ما يزال يلاحق دولًا أوروبية أخرى ليست في مأمن منه، مثل النمسا وبلجيكا؛ وإن بدت فرنسا بعيدة إلى حدٍ ما من مؤشر الخطر. فعلى المستوى الأوروبي، وفي نهاية عام 2010، احتلت فرنسا المرتبة الثانية خلف ألمانيا، وبموجب قانون الأرقام‏[16]، تستفيد فرنسا من الوزن الديمغرافي داخل الاتحاد الأوروبي، وبخاصة بعد مغادرة المملكة المتحدة. علمًا أنّ قانون الأرقام الذي تم سنّه في معاهدة لشبونة في 13 كانون الأول/ديسمبر 2007 يوزع عدد أصوات الدول في المجلس الأوروبي وفقًا لقاعدة التناسب الصارم مع سكان البلدان مانحًا فرنسا تقدّمًا غير حقيقي، لأنّه مبنيّ على تناقص أعداد السكّان في البلدان الأوروبية الأخرى. وهذا ما سيعمل تلقائيًا على تعديل الوزن الانتخابي لكل دولة داخل المجلس الأوروبي على المدى الطويل.

إنّ متوسط ​​التوقعات الديمغرافية التي وضعها مكتب الإحصاء الأوروبي (Eurostat)، والتي تستند أساسًا إلى استمرار الاتجاهات الديمغرافية التي لوحظت في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تُعلن عن زيادة مكانة فرنسا في مؤسسات الاتحاد الأوروبي بتطوّر عدد سكّانها الذي ارتفع بين سنتي 2002 و2010 من 59,766,000 نسمة إلى 65,821,885 نسمة، مع انخفاض في المقابل في عدد السكّان لدى معظم دول الاتحاد الأوروبي. من المتوقع أن يجعل هذا النمو السكاني فرنسا تتفوق على ألمانيا بعدد سكانها بحلول النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين داخل الاتحاد الأوروبي، بما يمنح فرنسا تأثيرًا أكبر في قرارات الاتحاد.

انطلاقًا من كلّ ما سبق، نرى أنّ البعد الديمغرافيّ ينهض بمهمات سياسية كبيرة، وهو محطّ أنظار سياسيّي القارة الأوروبية. فعدد السكّان محدّد مركزيّ في تكييف سياسات الدول. والواقع أنّ فرنسا بمؤشراتها الديمغرافية الرّاهنة والمتوقعة تؤكّد الدور الإيجابي الذي تقوم به الهجرة في هذا البلد. رغم أنّ المؤشرات المتوقعة تظلّ في حدود الافتراض لأنّ تدفقات المهاجرين إلى فرنسا أو إلى أوروبا يصعب التنبؤ بها نظرًا إلى تنوع العوامل التي تولّدها.

وكي تحافظ فرنسا على صدارتها أوروبيًا في نسبة النموّ السكاني وجب عليها أن تتبع سياسات هجرة أكثر انفتاحًا واتساعًا. تدفع هذه الفرضية إلى القول إنّ الهجرة إلى أوروبا بهذه الكثافة التي نشهدها اليوم ستجعل فرنسا على سبيل المثال في مأمن تام من «الشتاء الديمغرافي» المتوقع. إنّ فضائل الهجرة إلى أوروبا بالنسبة إلى دولها كبيرة بلا شكّ، وبخاصة أنّ مسألة العدد تؤدي أدوارًا على درجة عالية من الأهميّة. والمرجّح أنّ الدول الأوروبية، وبخاصة فرنسا وألمانيا، ستعمل على فتح قنوات الهجرة مستقبلًا على الشاكلة الكندية أو الأسترالية لتغطية الانهيار الديمغرافي القائم اليوم والذي سيتضاعف مستقبلًا. ولا شكّ في أنّ معطيات الديمغرافيا السياسية تؤكّد أنّ الهجرة المكثّفة إلى أوروبا ستكون حلًا للقارة إذا أراد الأوروبيون الإبقاء على مكانتهم الريادية في العالم، وإن كانت أطراف أوروبية أخرى ترى أنّ الهجرة هي المشكل الجوهري الذي يهدّد القارّة ومستقبلها.

4 – الهويّة ومستقبل أوروبا من منظور اليمين

نقصر البحث في هذا المقام المتعلّق بالرؤى الغربية لمسألة الهويّة والهجرة ومستقبل أوروبا على تصوّر اليمين الأوروبي بصورة أساسيّة لسببين جوهريين: أولًا للأهميّة المتزايدة لليمين داخل أوروبا. تتجلّى هذه الأهميّة بوضوح من خلال الصعود السياسي لأحزابه في دول أوروبية وازنة كالنمسا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وغيرها، فعلى مدى العقدين الأوّلين من القرن الحادي والعشرين تطوّرت شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة، وبخاصة في فرنسا وإيطاليا، بما يعني أنّ تصوراتها تجد الرواج الشعبي في أوروبا وأنّ رؤاها بدأت بالتبلور والنموّ داخل النسيجين السياسي والاجتماعي الأوروبي. لم يكن هذا اليمين معزولًا اجتماعيًا في كل هذه المدّة أو قبلها، فدوره في صناعة الرأي العام كبيرة من خلال اختراقه طائفة من النخب السياسية والفكرية وحضوره في وسائل الإعلام وعمله على تكوين جزء غير يسير من الخطاب الإعلامي السائد ولا سيَّما في الموقف من المهاجرين المسلمين المغاربة أو أفارقة جنوب الصحراء‏[17].

ثانيًا بسبب المتغيّرات الدولية والإقليمية، وبخاصة تلك الحادثة بالدول المرتبطة جغرافيًا بأوروبا، مثل دول الساحل الجنوبي للمتوسط، أو الجوائح الكونية المستشرية، مثل كورونا التي تركت آثارًا سلبية في عدّة مستويات، أو المشكلات الاقتصادية والمناخية وفشل النخب الحداثية ومؤسسات الحداثة في تجاوز هذه الأزمات المختلفة مع ضعف الدولة وانتشار الشعبوية السياسية. كلّ هذه المتغيّرات، مع ما مثّلته الهجرة من تهديد للأمن العام في الدول الأوروبية، زادت بلا شكّ مستوى الخوف الأوروبي الذي لم يجد من مناص غير التشبّث باليمين المتطرف الذي رأى من البداهة أن يُطرح سؤال الهويّة الأوروبية، وأن يربط الهويّة بمستقبل أوروبا.

وبالعودة إلى الماضي، وتحديدًا إلى النصف الثاني من القرن العشرين، نرى أنّ جدلًا قد حدث في دوائر اليمين المتطرف الأوروبي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية حول مستقبل أوروبا من خلال محاولة تحديد هويّتها الجامعة التي تستوعب الاختلافات الثقافية والعرقية الداخلية، بالبحث عن عامل جامع يجعل من القارة تحمل سماتها الإثنية والثقافية والتاريخية التي تفصلها عن غيرها. وتحديد الهويّة بهذا المعنى ضروري في تصوّرهم لأنّه بضبط مفهوم الهويّة يمكن ضبط أمرين هما حدود الذات وحدود الآخر.

ثانيًا: هويّة العرق الأبيض

لم تؤزّم موجات الهجرة المكثّفة إلى أوروبا هويّات الوافدين إليها فحسب، وإنّما أزّمت هويّات بلدان المقصد من السكّان الأصليين. وأنشأت سؤالًا حارقًا هو: أيّ هويّة ممكنة لأوروبا اليوم؟ هل هي هويّات بداية القرن العشرين أم هويّات القرن الحادي والعشرين؟ وهل الهويّة شيء ثابت لنذكّر بقوانينه التي لا تتبدّل؟

عوامل كثيرة جعلت سؤال الهويّة في أوروبا أمرًا ملحًّا وقضية راهنة بامتياز، أهمّها شعور الأوروبيين بانحسار إثنيّتهم قياسًا على إثنيات جديدة بدأت تكتسح الشارع الأوروبي عبر مظاهر التديّن اللافتة للانتباه والحاضرة على نحوٍ كثيف ومركّز مثلما هو شأن الفئات المهاجرة إلى أوروبا وأهمّها مهاجرو جنوب المتوسط من العرب والأفارقة المسلمين، نتيجة المؤثرات القويّة التي شملت تكوينهم التعليمي والثقافي في بلدان المنشأ، المستندة في الغالب إلى أدبيات الإسلام السياسي.

أمام هذا الوضع لم يكن من بدّ أمام اليمين الأوروبي، إلا العمل على تأصيل هويّة أوروبية جامعة ومحدّدة، إذ يذكر الباحث بيار أندري تاغياف هذه الهويّة محدّدًا إيّاها ببعدين هما: «حدود الدم» (Les frontières du sang) والمقصود به «العرق الأبيض»، والهويّة الحضارية التي تُختصر في الأصل الهندي الأوروبي‏[18]. كانت غايات التحديد تلك تهدف إلى إقامة إمبراطورية أوروبية جديدة قويّة وفاعلة. ومن أبرز منظّريها الألماني أوتّو شتراسر (Otto Strasser) والقومي الثوري البلجيكي جون تيريارت الذي نظّر لأوروبا الكبرى في كتابيْن مهمّيْن له هما إمبراطورية من أربعمائة مليون إنسان[19] والأمة العظيمة من بريست إلى بوخاريست[20]. ولم يكن العرق هو العنصر الوحيد الذي وقع تدويره ليعود بوجه جديد مكوّن للهويّة الأوروبية بل الأرض كذلك، انطلاقًا من العودة إلى كتابات البريطاني هالفورد ماكيندر (Halford Mackinder) الذي استحدث مصطلح «قلب الأرض» سنة 1904، ليشير إلى مساحة كبيرة من الأرض تجمع بين أوروبا وآسيا لتكون إطارًا لقيام إمبراطورية ثابتة وقوية، فالعامل الجغرافي محدّد كذلك في بناء الهويّة. ورغم تقادم تصوّرات ماكيندر فإنّ بعض الدارسين المعاصرين ما يزالون على اعتقاد بأنّ نظرية «قلب الأرض» ليست مجرّد حلم أوروبي – آسيوي فحسب، بل هي كذلك مساهمة بارزة في الجغرافيا السياسية ببيان دورها في السياسة العالمية.

يشير عاملا «العرق» و«الأرض» في أدبيات اليمين الفكري ضمنًا إلى ضرورة أن تتخلّى أوروبا عن كثير من الإرث الحداثي الذي تحمله وأن تتراجع إلى أزمنة الدول الوطنية المغلقة بهويّة صارمة. فقد بدت تحديدات هؤلاء المنظّرين ورؤاهم لمستقبل أوروبا مشحونة بنزعات فاشية لا تختلف كثيرًا عن خطابات النازيين الألمان أو فاشية موسيليني إبّان الحرب العالمية الثانية. وإن كانت هذه الحركات متأثرة بموجة الأيديولوجيات القومية التي اجتاحت العالم في تلك الحقبة. وبالعودة إلى كتابات بيار أندريه تاغياف نرى أنّ قيام أوروبا الكبرى محكوم بهذه الهويّة الجيوسياسية التي تنصبّ اهتماماتها على أمرين اثنين، هما صدّ الغزو الإسلامي المفترض لأوروبا من جهة والعمل على تحرير الشعوب الأوروبية من الوصاية الأمريكية، وهو الأمر الذي يثبت أنّ هذه التحديدات الجيوسياسية هي التي تعطي لمفهوم الهويّة معناه. أي أنّ الهويّة لا تتأسس إلّا على مواجهة الآخر وخلق مسافة من الاختلاف والتمايز عنه، وهي مسألة كان قد نظّر لها الباحث الألماني كارل شميت (Carl Schmitt) في مؤلفه مفهوم السياسي[21] عندما بنى تصوّره للسياسي على الثنائية الضدّية «العدوّ والصديق».

ومع تراجع الأيديولوجيات القومية منذ انتشار العولمة، بدأت المحدّدات التقليدية للهويّة، القائمة على العرق واللغة والدين، بالضمور لينفسح المجال بعد ذلك لظهور هويّة جديدة هي الهويّة الحضارية التي تعني في السياق الأوروبي كلّ الميراث الحداثي الذي نشأ في أوروبا منذ ظهور المرسوم الويستفالي (L’ordre westphalien)، بما يشتمل عليه من قيم الدولة الحديثة والنظم الاجتماعية والسياسية إلى اليوم. وربما كان لكتاب صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون الدور في دعم معنى «الهوية الحضارية» التي من مهماتها إعادة التنظيم الجغرافي للقوميات الإقليمية. وعلى الرغم من وجود خيط ناظم مشترك يجمع بين القوميات الأوروبية فإنّ تعبير «حضارة أوروبية» بمعنى الحضارة التي لها خصوصيتها الثقافية والسوسيولوجية والفكرية يبدو غير واقعي. ذلك أنّ الدول الأوروبية قد أنتجت على مرّ التاريخ ثقافات شديدة التباين يجعلها من غير الواقعي أو المقنع أن تؤلف كيانًا متجانسًا ومتمايزًا من غيره.

لقد رسمت تنظيرات اليمين الفكري في أوروبا على مدى عقدين من الزمان بعد الحرب العالمية الثانية البنيان الأوروبي الكبير على مُعطيين ينتميان إلى المجال الحضاري والإثني، وهما العرق والإرث الحضاري القديم وربما الجيولوجي السحيق (تكوّن أوراسيا)، في سبيل تأسيس كيان أوروبي يقوم على القومية الاجتماعية.

إنّ مصطلحات من قبيل «حدود الدم» و«قلب الأرض» الشائعة في كتابات اليمين الفكري الأوروبي تظلّ على قدر غير يسير من الضبابية واليوتوبيا وتفتقر إلى إجماع أوروبي ولا يمكنها أن تمثّل وعيًا جمعيًا. ولم تخترق تنظيرات هذا اليمين النسيج المجتمعي الأوروبي؛ وحتى الحركات العنصرية والتنظيمات الفاشية لم تكن حاضرة بفعالية كما هي اليوم. كما لم تكن الأيدي العاملة العربية أو الأفريقية حاضرة بزخم كبير في المشهد الأوروبي حينئذ. غير أنّ المتغيّرات الديمغرافية والسياسية والاقتصادية التي ألمّت بأوروبا منذ العشرية الأخيرة من القرن الماضي جعلت من الخطاب الفكري لليمين الأوروبي يسير صوب تشدد أكبر. فالتنامي الملحوظ لليمين السياسي في النمسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا وفرنسا من جهة، واليمين الاجتماعي الذي تعبِّر عنه التنظيمات المعادية للمهاجرين في ألمانيا والسويد من جهة أخرى جعل كل هذا من نظرية استعادة العرق الأبيض تحظى باهتمام شعبي لم تكن تمتلكه من قبل. وبات التراجع إلى حدود الدولة العرقية مطلبًا يحظى باهتمام شعبي أوروبيّ مطّرد. وإن بدا الأمر أشبه بأمنية أكثر منه أمرًا واقعًا.

ثالثًا: الهجرة و«الإسلاموفوبيا»: رؤى غربية في الهويّة

أشرنا في ما سبق إلى أنّ المتغيّرات التي حدثت في القارة الأوروبية منذ تسعينيات القرن العشرين قد دفعت بالفعاليات السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية الأوروبية في جانب كبير منها إلى النظر إلى هجرة المغاربة والأفارقة جنوب المتوسط بعين الريبة، كونها قد تجاوزت كلّ منطق للأسباب الأربعة الآتية: أولًا، أنّ معدّلات الهجرة غير القانونية إلى أوروبا تضاعفت على نحو لا يصدّق، وهي في ارتفاع مطّرد لا يتوقف. ثانيًا، أنّ معظم المهاجرين هم من المسلمين ومن ذوي التحصيل العلمي المتدني وممن يؤمنون في الأغلب الأعمّ بالدولة الدينية الثيوقراطية ويرفضون قيم الدولة الحديثة كالديمقراطية والمساواة والعلمنة والتعددية، بما يؤكّد وقوعهم خارج دائرة الاندماج. ثالثًا، حرص هؤلاء المهاجرين على إظهار الرموز الدينية في المجال العام (الشارع، المدرسة، المؤسسات…) بمشهد يميل إلى التحدّي والمبالغة أحيانًا. رابعًا، أنّ موجات الهجرة المتعاظمة القادمة من جنوب حوض المتوسط قد أنتجت مخاوف أمنية مباشرة بفعل ارتفاع نسق العمليات الإرهابية في الداخل الأوروبي من جانب فاعلين يعودون إلى الشمال الأفريقي في الغالب. ذلك أنّه منذ العشرية الأخيرة من القرن الماضي أصبحت المسألة الأمنية هي المسيطرة على قضية الهجرة، وهذا الجانب الأمني هو الذي جعل الهجرة في الأوساط الأوروبية قضية سياسية قبل أي شيء، وقد غطّى هذا التسييس المفرط على كلّ الجوانب الأخرى.

لقد حوّلت هذه المخاوف سؤال الهجرة المسلمة القادمة من بلدان المغرب العربي وأفارقة جنوب الصحراء إلى الواجهة وارتفعت أصوات كثيرة من منظّري اليمين تنادي بوجوب التصدي لهذا النوع من الهجرات لخطورته وأثره «التدميري» في القارة الأوروبية. وقد ارتبطت في أذهان مفكّري اليمين مسائل ثلاث متلازمة هي هجرة المسلمين والجانب الأمني وفقدان الهويّة. وقد عبّر هؤلاء عن مخاوف ذهبت إلى القول بأنّ الحضارة الأوروبية والأوروبيين أنفسهم مهدّدون بالانقراض تمامًا، وهو قول تحريضي ولكنّه يلقى كلّ يوم آذانًا صاغية داخل المجتمعات الأوروبية التي بدأت تميل إلى دعم التيارات اليمينية المتطرفة، وهو ما تترجمه النسب الآخذة في الارتفاع لشعبية أحزاب اليمين.

ومن أهمّ منظّري اليمين الجديد في أوروبا نجد الصحافي والباحث السياسي الفرنسي غيّوم فاي الذي بنى نظريته حول الهجرة ومستقبل أوروبا على مسألة أساسية تتمثّل بالخطر المحدق الذي يمثّله الوجود الإسلامي في الداخل الأوروبي. ويتشارك غيوم فاي هذا الخوف مع كثير من المفكّرين الغربيين في خشيتهم أن تتراجع القيم المدنية بما يُنذر بعودة متوقعة لأزمنة الاستبداد والدولة الشمولية. وقد بدت مظاهر تلك الخشية تظهر بوضوح من خلال الاختلال الديمغرافي المتسارع لمصلحة المهاجرين المسلمين.

يرى فاي أنّ ما يجري اليوم من هجرة هو عمل عدائي تجاه أوروبا غايته إنهاء أوروبا، أي العمل المبرمج على إعدام شعوب العرق الأبيض، وما ينتج منه بعد ذلك من اختفاءٍ للحضارة، بسبب انخفاض معدل المواليد، بما يعني شيخوخة السكان من جهة و«الغزو» من خلال الهجرة الجماعية غير المضبوطة، التي يُنظر إليها على أنها سياسة استبدال عرقي من جهة ثانية: أي أنّ معدل المواليد الكارثي للعرق الأبيض يتمّ الآن استبداله بمستوطنات عربية إسلامية ذات معدل مواليد مرتفع‏[22].

يقول فاي: «لم تعد الهجرة اليوم بمعناها الكلاسيكي وإنّما صارت احتلالًا نهائيًا لـتربتنا بالجماهير الغازية المتدفقة لأسباب اقتصادية ولكنها بالأساس لدوافع سياسية وعرقية»‏[23]. وهو يذهب إلى أكثر من هذا حين يتهم الأنظمة والمنظمات العربية والإسلامية بجعل الهجرة الاحتلالية أمرًا مبرمجًا فيقول: «الكثير من القادة العرب والمسلمين سواء في أوروبا أو خارجها، يعملون بتخطيط استراتيجي على احتلال أوروبا بصفة نهائية وإلى الأبد حتى إن البعض يتحدث عن «الجهاد» في أوروبا، ردًا على الحروب الصليبية والحقبة الاستعمارية وانتقامًا»‏[24]. ويرى فاي أن المسلمين على رغبة واعية وجموح لتفكيك أوروبا وإخضاعها للحكم الإسلامي ردّا على الحملات الصليبية والحقبة الاستعمارية‏[25]. ويؤكد فاي أنّ هذا المشروع سائر إلى التحقيق وسيصل إلى نقطة اللاعودة بفعل حالة الطمأنينة الكاذبة لأشباه المثقفين والسياسيين من اليمين واليسار على حدّ سواء. ولن يتبقى أمام الأوروبيين الأصليين سوى فرضيتين: إمّا الاختفاء من على وجه الأرض وإما استعادة أوروبا من أيدي الغزاة. إنّ الهجرة الجماعية لشعوب الجنوب من المسلمين هي الأكثر خطورة وفق فاي، لأنها ستمحو كل المكتسبات الحداثية والحضارية التي تحققت مع الدولة الغربية الحديثة وبخاصة القيم المدنية. وستقع العودة على نحوٍ بربري إلى أزمنة استبدادية ثيوقراطية مرعبة. وهو ينتقد المواقف التي تقول إنّ القيم الحضارية التي تحققت مع الحداثة الغربية هي مكاسب ليس من الممكن التراجع عنها، واصفًا تلك المواقف بالزائفة، إذ لا شيء يمنع من العودة إلى الأزمنة القاسية والاستبدادية ما دام هناك من يتربّص بمستقبل الأوروبيين.

يعمد غيّوم فاي، في محاولة لبسط تفاصيل تصوّره، إلى المقارنة بين الاحتلال الأوروبي لأفريقيا والاحتلال الأفريقي لأوروبا، ملاحظًا أنّ الاحتلالين متقابلان تمامًا، فالاحتلال الأوروبي هو «احتلال من الأعلى» (Colonisation par le haut) أي أنّه بناء للحضارة وتأهيل لشعوب كانت تقبع خارج التاريخ، أمّا احتلال العالم الثالث لأوروبا فهو «احتلال من أسفل» (Colonisation par le bas) وهو تفكيك للحضارة وتدمير لها‏[26]. بل يذهب إلى تطرّف أبعد عندما يقول إنّ «الخطأ الأكبر الذي مارسناه في الحقبة الاستعمارية أنّنا منحنا دول الجنوب فضائل حضارتنا التي لم تستطع شعوبهم تبنّيها. فمن خلال تقديم تقنياتنا الطبيّة، قمنا بخفض معدل الوفيات فانفجرت ديمغرافيتهم على حسابنا»‏[27].

ولا يشير فاي إلى أنّ هذا «الاحتلال من الأسفل» هو نتيجة منطقية «للاحتلال من الأعلى» فحجم التفقير ونهب الثروات الطبيعة الذي مارسته دول الاحتلال الأوروبي على أفريقيا لا يمكن أن يقاس. يحاول فاي في طرحه أن يستند إلى معطيات علمية وإحصاءات لإثبات صدق ما بناه من تصوّرات، إذ إن جرائم العنف والسرقة والاغتصاب يتعلّق معظمها بمهاجرين أفارقة ومغاربة على وجه التحديد‏[28]. وهو يحذّر من أنّ هذا النوع من الجرائم يمكن أن يتحوّل إلى حرب أهلية عرقية في أوروبا، جاعلًا من الإسلام الديانة الأكبر خطرًا على الحضارة الغربية وعلى أوروبا، ففي كتابه فهم الإسلام[29] يرى تقابلًا تامًا بين قيم المجتمع الأوروبي وقيم الإسلام التي لا تتوافق جوهريًّا مع الديمقراطية التعددية والعلمانية والحرية. وأنّ لا فرق في الحقيقة بين الإسلام والإسلام السياسي وحركاته المتطرفة. وفي الفصل الثامن من كتابه احتلال أوروبا ينقد فاي البداهات الزائفة عن الإسلام والهجرة ويحدّد ذلك في 11 فكرة مغلوطة عنهما وفق تصوّره، مدعيًا أنّ كلّ ما يروج عن اسلام معتدل أو تنويري هو ضرب من الإيهام. من هذا المنطلق هو يرى أنّ المهاجرين المسلمين والعرب أبعد ما يكونون من الاندماج في المجتمع الغربي. ولا يعود غياب الاندماج هذا إلى الممارسات العنصرية التي يسلّطها الأوروبيون البيض على المغاربة والأفارقة وإنّما إلى بنية ثقافية أصلية تتوارثها الأُسر المهاجرة تعدّ الأوروبيين فئة مرفوضة وكافرة.

ويعود العجز عن الاندماج إلى فشل العرب والأفارقة في تقبّل الحداثة على مدى أجيال، إذ لم تغيّر المدرسة في أوروبا شيئًا من أفكارهم المعادية للقيم الحضارية الغربية.

ينظر غيّوم فاي إلى مسألة الهجرة المسلمة من زاوية لا تقيم وزنًا لرأي الآخر. فالمهاجرون المغاربة الذين نعتهم بكلّ صنوف البربرية قد لقوا في الأصل صنوفًا شتى من الضيم والميز والكراهية‏[30] على مدى عقود.

وهو يحاول أن يخفي عنصريّته العارية بمساحيق المصطلحات المنحوتة، ومن أهمّها ما يؤسسه من حلول انطلاقًا من استحداث مصطلح «المستقبلية الآثارية» (archéofuturisme) التي تعني الجمع بين القيم القديمة والتطور التقني، ذلك أنّ الحداثة وفق تصوّره قد صارت بلا فائدة وفاقدة لكل معنى وأثر، على أنّ القيم القديمة التي يعبّر عنها بلفظ عتيق (archaïque) لا تعني نكوصًا إلى الخلف ومعاداة للحداثة، ولكن أن يكون المرء «غير حديث» (non-moderne) وليس معاديًا للحداثة (anti-moderne)‏[31]. يقول فاي: «يجب أن يكون المستقبل «عتيقًا»، أي أنه ليس حديثًا ولا متخلفًا»‏[32]. وبمختصر اللفظ يرغب فاي في تجاوز الحداثة بقيمها الرخوة التي جعلت المهاجرين المسلمين يدخلون إلى أوروبا ويستغلون سماحة الحداثة ليغيروا الثقافة والديمغرافيا فيها، وهو لا حلّ عنده إلّا بالعودة إلى القيم التراثية التي تستعدي الآخر أو ترتّب العلاقة بالآخر على أساس «الصديق» أو «العدوّ» كما نظّر كارل شميت من قبل. مع أنّ شميت قد وجد نفسه بتنظيراته تلك مدافعًا عن النازية في بعض مراحلها. ونجد الأمر نفسه عند غيّوم فاي في دفاعه عن قومية العرق الأبيض، وبنائه نسقًا فكريًا كاملًا مثّل من خلاله تصوّرات اليمين الأوروبي الجديد بوضوح، لذلك عدّه البعض أكبر منظّر لهذا التيّار في أوروبا‏[33].

بعد تشخيص مستفيض لأمراض أوروبا وما يتهددها من مخاطر يفرد فاي الفصل الأخير من كتابه احتلال أوروبا للبحث عن أدواء ممكنة، لا تأتي في اعتقاده إلّا من الداخل الأوروبي ومن سكانه الأصليين عبر التحرير الداخليّ للقارّة (La Reconquête intérieure) على شاكلة التحرير الإسباني للأندلس في القرن الخامس عشر (Reconquista)‏[34].

وأمام استحالة تحقيق معدل صفر مهاجر إلى أوروبا فإنّ الحلّ الأنسب بحسب فاي هو التحكّم الصارم في تدفق المهاجرين‏[35] من جهة، والعمل التدريجي على إعادة المهاجرين المقيمين في أوروبا إلى أوطانهم الأصلية من جهة أخرى. وهو تصوّر وإن بدا يوتوبيا متطرفة فإنّ فاي يحاول جاهدًا أن يبني ذلك على تصوّر يريده أن يكون عمليًا وواقعيًا كي يلقى قبولًا لدى الأوساط الأوروبية.

والحقيقة أنّ غيّوم فاي لم يكن منظّرا مفردًا في السياق الأوروبي الرّاهن، وإنّما نقف على عدد متزايد من أنصار هذا التوجّه لا في أوروبا وحدها بل في أمريكا كذلك، ممّن ينفخون في أبواق الخطر الداهم من أمثال الأمريكي بروس باور (Bruce Bawer) والبلجيكي جون تيريارت (Jean Thiriart) والفرنسي جان كلود بارّو (Jean-Claude Barreau).

وتتصل أعمال هؤلاء المتشائمين، وإن اختلفت دروب مقارباتهم، بمسألة جامعة هي حسبان الهجرة بوجه عام، وهجرة المسلمين بوجه خاص، إلى البلدان الغربية خطرًا محدقًا. لذلك كانت الأسئلة المتعلّقة بمستقبل الحضارة الغربية ومستقبل دولها وعلاقة ذلك بموجات الهجرة الجديدة مثار جدل في أروقة الجامعات وفي مراكز البحث الأكاديمي.

والحقيقة أنّ اليمين الفكري وإن كان يحظى بتأييد شعبي متزايد فهو يواجه مناهضة من جانب أوساط فكرية مختلفة في أوروبا ممّن يعدّون أفكار اليمين أشدّ خطرًا على أوروبا ومستقبلها من المهاجرين. بل يذهب بعضهم إلى نقض كامل لكلّ البناء الفكري الذي اختطه اليمين، ومن أبرز هؤلاء المفكّر الفرنسي آلان دو بينوا الذي يردّ على غيّوم فاي وكلّ دعاة الهويّة بقوله إنّ «الهوية ليست جوهرًا أبديًا ثابتًا، بل مادة سردية تسمح لنا بالبقاء على طبيعتنا أثناء تبدّلها الدائم»‏[36].

وهو يدين مبدأ التفكير بالهوية، إذ يصبح ادعاء الهوية ذريعة لإضفاء الشرعية على الجهل أو إقصاء الآخرين أو قمعهم درءًا للخوف الذي يثيره اختلاف الآخرين، ذلك أنّ التمييز بين «نحن» و«الآخرين»، الذي هو أساس كل هوية جماعية، يُطرح بأسلوب عدائي ينفي كلّ مشترك. بهذا المنطق يعني الدفاع عن هوية المرء بالضرورة تجاهُل الآخرين أو احتقارهم. فالأوروبي، على سبيل المثال، قد يخون هويته وفق تصوّرهم إذا أحبّ الشعر العربي أو المسرح الياباني أو الموسيقى الأفريقية![37].

يتم تثبيت الهويّات بهذا المنطق في نموذج مثالي خالد لا ينتج غير الاستعداء والعنصرية. وتتحوّل الهويّة إلى خطاب لا يحضّ إلا على الكراهية.

يعود بينوا إلى الماضي الإغريقي وإلى الحضارات القديمة ليؤصّل الهويّة ومفهومها مثبتًا أنّ الإنسان الأثيني القديم كان يملك أكثر من هويّة، من دون أن تكون هذه الهويّات متساوية‏[38]، ومن دون أن تكون سببًا من أسباب التنازع والكراهية.

رابعًا: على مشارف عصر رقمي جديد

إنّ الأمر المركزي في كلّ الجدل الدائر حول مسألة الهجرة والهويّة، والحقيقة التي يمكن قبولها بداهة هي أنّ العالم يتغيّر وأنّ مكتسبات الإنسانية من الديمقراطية والتعايش والمساواة والتعددية ليست أمرًا أبديًا دائمًا، وأنّ التاريخ البشري لا يسير بنهج خطّي إلى الأمام وإنّما يتقدّم ويتراجع، وأنّ تلك الحداثة يمكن أن تتنازل عنها جماعات بشرية ما إذا قدّرت أنّ خطرًا يمكن أن يهدّد وجودها أصلًا. طبعًا، لا يعني هذا الموقف تعاطفًا مع مواقف اليمين الأوروبي، بل على النقيض من ذلك، إذ إنّ النكوص إلى أزمنة ماضية تمجّد استعداء الآخر وتلوذ بهويّة جامدة هو أمر مرفوض تمامًا، وغير ممكن التحقق البتّة في مرحلة زمانية يشرف فيها الإنسان على انتقال جوهري إلى عصر رقمي معولم بلا هويّة تقليدية لا دينية ولا لغوية وبلا مجال جغرافي محدّد. وما التيارات المتعاظمة من الهجرة إلى أوروبا وغيرها من بقاع العالم إلّا دليلٌ على هذا التحوّل الجوهري في الحضارة البشرية. ولا شكّ أنّ هذا المنعطف كان في جانب منه اختيارًا من قبل الاقتصادات العالمية، ولكنّه كذلك تطوّر منطقي أنتجه العصر السيبراني. فموجات الهجرة غير المسبوقة كانت تعبيرًا عن ضعف الموارد في البلدان الدافعة للهجرة ولكنّها نتيجة أيضًا للتطور التقني والاتّصالي العظيم.

يتحرّك العالم اليوم صوب تنوع غير مسبوق ستتضاءل فيه الهويّات التقليدية إلى حدّ التلاشي، وسينشأ من رحم هذا التنوع المذهل مجتمع مجرّد من كلّ هويّة سوى هويّته البشرية المطلقة، وهذا إيذان بدخول عصر ما بعد الهويّة التقليدية وما بعد العِرقية.

قد تبدو هذه النبوءة تصورًا من جملة تصورات كثيرة محتملة، إلّا أنّ ما يعطيها الوجاهة هو ما يسود اليوم فلسفيًا من خطاب مؤذن بالنهايات (نهاية التاريخ، نهاية الأيديولوجيا، نهاية الدولة، نهاية المدرسة)، وخطاب النهايات هذا محكوم بلا شك بسؤال ما الذي سيحدث بعد هذه النهايات؟ أيّ مستقبل للحضارة البشرية ينتظرنا في المنعطف؟

إنّ ما يعزّز هذا الانتقال الجوهري في بُعده السوسيولوجي والسياسي ما يحدث من ثورة تقنية رقمية باتت تشرف على عصر الميتافيرس (Métaverse) وهو عصر جديد كلّيًا تنتقل فيه المهمات والأعمال والخدمات من العالم الواقعي إلى الافتراضي بما ينفي الهويّات التقليدية أو ينتفي معناها من تلقاء نفسها. أمّا اقتصاديًا فإنّ عُمْلة البيتكوين (Bitcoin) الرقمية، التي لا مركز لها ولا مكان ولا دولة، ستكون المحرّك الاقتصادي والاجتماعي الأول في منظور ليس ببعيد وفق توقعات كثيرة. وفي ظلّ هذا التصوّر لن يشمل التغيير في النظر إلى الهويّة القارة الأوروبية والعالم الغربي وحده وإنّما كلّ العالم، لأنّ مسارات الهجرة متبدّلة ومتغيّرة وأنّ الدول تنتقل من الوضع الدافع للهجرة إلى الجاذب لها إذا تغيّرت التوازنات الاقتصادية الدولية أو السياسات التي تحكمها. ولا شكّ كذلك أنّ المهاجرين المغاربة والأفارقة، ومعظمهم من المسلمين، سيغيّرون الوضع الديمغرافي في أوروبا ومن ثمّ السياسات الأوروبية لتواشج العنصرين وترابطهما. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ قسمًا من المهاجرين العرب والأفارقة بدأوا بالنفاذ إلى مواطن القرار في الدول الأوروبية، وهو ما يؤكد صراحة هذا التطوّر الكبير للديمغرافيا المسلمة في الفضاء الأوروبي.

خاتمة

لم يكن مهاجرو الشمال الأفريقي إلى أوروبا وهم يقطعون المتوسط بسبل شتى؛ طيرانًا أو إبحارًا، وبصيغ مختلفة عمّالًا أو لاجئين، لم يكونوا يعلمون أنّ وجودهم في أوروبا يمكن أن يثير قضايا ذات أهميّة بالغة تتعلّق بمصير الأوروبيين ومستقبلهم الحضاري والسياسي والديمغرافي وبمصيرهم هم أنفسهم في علاقتهم بالدولة في أوروبا وبالمستقبل السياسي لهذه القارّة. لقد استنهضت هذه الهجرات هويّات الأوروبيين في صورتها التقليدية وطرحت عندهم سؤال الهويّة من جديد وإن بأوجه متقادمة. ولكنّ تلك الهجرات عملت بالقدر نفسه على استنهاض هويّات القادمين إلى أوروبا وبخاصة من مهاجري جنوب المتوسط. ونشأت في الفضاء الأوروبي قضايا اجتماعية شديدة الصلة بالهجرة المسلمة مثل قضية الحجاب وإظهار الرموز الدينية الإسلامية في المجال العام. ونشأ من خلال ذلك جدل جعل أوروبا تتصارع مع ضرورات متناقضة، فهي من جهة تقع تحت سيطرة الرأي العام الذي تغلب عليه متلازمة الأمن وتحديات العمل والوظائف. ومن جهة أخرى في مواجهة عولمة الهجرة وتيّاراتها، إذ تواصل أوروبا وصف الهجرة بالمؤقتة، بينما أصبحت في الحقيقة مكوّنًا رئيسيًا لهويتها‏[39]. كما تواجه أوروبا تحديًا مزدوجًا يتمثل بارتفاع نسق الشيخوخة ونقص الأيدي العاملة في مختلف القطاعات، وهما حقيقتان أبرزهما تقرير الأمم المتحدة لعام 2000. ومن الأشكال الأخرى للضرورات المتناقضة، قبول الأوروبيين للعولمة وقيم الحداثة ومفهوم الإنسان الكوني من جهة. في المقابل نقف عند بروز خطاب الاستعداء والعنصرية وكراهية المهاجرين الذي لم يعد خطابًا إعلاميًا أو سلوكًا يُشاهد في الشوارع والمؤسسات الأوروبية فحسب، بل صار رصيدًا انتخابيًا وسلوكًا سياسيًا.

إنّ ما يمكن إدراكه من نتائج بعد كلّ هذا الجدل الدائر أنّ عودة الديني كان لها الأثر الكبير لا في إيقاظ الهويّات المختلفة فحسب، بل في التأثير في الديمغرافيات في العالم وفي أوروبا وفي السياسات. وإنّ تزامن التدفّقات الكبرى للهجرة على المجتمعات الغربية، وعلى أوروبا بوجه خاص، مع عودة الديني وتراجع الديمغرافيا الأوروبية، سيجعل من الوضع السكاني في تركيبته الحضارية والعِرقية والدينية مختلفًا عمّا كان عليه. وسيعجّل بروز وضع هويّاتي كوني جديد قد يُضعف من سطوة الهويّات التقليدية أو يضاعف سطوتها وفق ما تمنحه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العالم في قادم العقود من فرص لهذا المسار أو ذاك. ولا شكّ في أنّ مهاجري جنوب المتوسط إلى أوروبا وبالكثافة العددية التي هم عليها، سيساهمون على المدى الطويل في تغيير الهويّة الأوروبية التقليدية، ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: بأي وجه ستكون هذه المساهمة، وأيّ مواقف يمكن أن يتبنّاها المهاجرون إزاء الدولة والآخر؟.

كتب ذات صلة:

الهجرة وحقوق الإنسان : تكلفة الاقتصاد ورهانات السياسات الأمنية وتسييج الحدود

حلم الهجرة للثروة: الهجرة والعمالة المهاجرة في الخليج العربي

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 552 في شباط/فبراير 2025.

عبد الحميد العلاقي: باحث وجامعي تونسي.

[1] Gérard-François Dumont, Démographie politique: Les Lois de la géopolitique (Paris: Ellipse, 2007).

[2] انظر: François Héran, L’avenir démographique de l’Europe (Paris: European parliament, Institut national d’études démographiques, 2008), pp. 2-65.

[3] وهو وحش بحري أسطوري ورد ذكره في الكتب المقدسة، انظر: الكتاب المقدس، «سفر أيوب،» الأصحاح 41.

[4] انظر: توماس هوبز، اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حبيب وبشرى صعب؛ تقديم رضوان السيد (بيروت: دار الفارابي، 2011).

[5]   Claude Lefort, L’invention démocratique (Paris: Fayard, 1994), p. 172.

[6] ليس المقصود بضعف الدولة عجزها عن إنفاذ القوانين وإنما الوقوع أمام السلطة المتعاظمة لقيم الحداثة التي فتّتت الهويّات المعهودة.

[7] الثورة الوردية في جورجيا (2003) والثورة البرتقالية في أوكرانيا (2004) وسقوط بغداد (2004).

[8] Bruce Bawer, While Europe Slept: How Radical Islam is Destroying the West from Within (New York: Doubleday, 2006), p. 196.

[9] نشأت هذه الحكومة بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، واستمرّت من 1919 إلى 1933. ورغم عدالة دستورها وأهميته فإنّ الفوضى البرلمانية كانت السمة الغالبة عليها.

[10] انظر كتاب كارل شميت الذي يتناول هذه المسألة: Carl Schmitt, The Crisis of Parliamentary Democracy, translated by Ellen Kennedy (Cambridge, MA; London: The MIT Press, 1985).

[11]  Bawer, Ibid., p. 232.

[12] «The Future of World Religions: Population Growth Projections, 2010-2050,» Pew Research Center, 2 April 2015, <https://tinyurl.com/4jcft3up>.

[13] «ألمانيا: بين التنوع العقائدي والانتماء للكنيسة،» موقع دوتشه فيلا، 22 تموز/يوليو 2012، <https://tinyurl.com/3nxh3ck2>.

[14] موقع وزارة الخارجية الفرنسية: <https://tinyurl.com/4shbuvpd>.

[15] Gérard-François Dumont [et al.], L’avenir démographique des grandes religions (Paris: François-Xavier de Guibert, 2005), p. 188.

[16] استندت في هذا العنصر إلى الأرقام التي وفّرها مركز الإحصاء الأوروبي Eurostat.

[17] يمكن العودة ذكرًا لا حصرًا إلى كتاب: Thomas Deltombe, L’Islam imaginaire (Paris: Ed. La Découverte, 2007).

[18]  Pierre-André Taguieff, L’effacement de l’avenir (Paris: Galilée, 2000), p. 166.

[19]  Jean Thiriart, Un empire de 400 millions d’hommes, Bruxelles, (1964), Avatar, 2007.

[20] Jean Thiriart, La Grande Nation: L’Europe unitaire de Brest à Bucarest, Bruxelles, (1965) Ars Magna, 1990.

[21] كارل شميت، مفهوم السياسي، ترجمة سومر المير محمود (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2017)، ص 75 – 106.

[22]  Guillaume Faye, Pourquoi nous combattons (Paris: L’Æncre, 2010), p. 128.

[23] Guillaume Faye, La Colonisation de l’Europe: Discours vrai sur l’immigration et l’Islam (Paris: L’Æncre, 2000), p. 15.

[24]  Ibid., p 6.

[25]  Ibid., p. 6.

[26]  Ibid., p. 15.

[27]  Ibid., p. 16.

[28]  Ibid., p. 99.

[29]  Guillaume Faye, Comprendre l’islam (Paris: Tatamis, 2015).

[30] تتجلى هذه العذابات بوضوح في الشهادات التي نقلتها الصحفية الفرنسية يمينة بن قيقي في فيلمها الوثائقي «مذكرات المهاجرين» (Mémoires d’immigrés)، <https://www.youtube.com/watch?v=u-PHE99qzE8&t=908s&ab_channel=Mabarmad>.

[31]  Guillaume Faye, L’Archéofuturisme (Paris: L’Æncre, 1998), p. 168.

[32]  Ibid., p. 43.

[33] Stéphane François et Adrien Nonjon, «Guillaume Faye (1949-2019): At the Forefront of a New Theory of White Nationalism,» Journal of Illiberalism Studies, vol. 2, no. 1 (2022), p. 24.

[34] مصطلح وظّفه المؤرخون للحديث عن حروب الاسترداد التي شنّها المسيحيون الاسبان لطرد العرب من شبه الجزيرة الإيبرية (الأندلس).

[35]  Faye, La Colonisation de l’Europe: Discours vrai sur l’immigration et l’Islam, p. 203.

[36]  <https://www.alaindebenoist.com/textes/>.

[37] Alain de Benoist, Nous et les autres: Problématiques de l’identité (Paris: Krisis, 2006), p. 109.

[38]  Ibid., p. 11.

[39] Catherine Wihtol de Wenden, «L’Europe, un continent d’immigration malgré lui,» Études, tome 410, no. 3 (mars 2009), p. 319.


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز