أسهم عالم الاجتماع والروائي والناقد العربي حليم بركات منذ ستينيات القرن الماضي في كتابة أبحاث ودراسات ومؤلفات لها موقعها في الحياة العلمية الاجتماعية ومجالات الإبداع الأدبي. ومنذ بداياته، تظهر أعماله في مجال علم الاجتماع مدى ارتباطه في الحراك القومي التحرّري لصورة مبكرة، إذ وضع أمامنا عشرات المؤلفات والأبحاث والأعمال الروائية والنقدية التي تشرِّح وتنقد وتحلل المشكلات الاجتماعية العربية في المشرق والمغرب العربي من خلال البحث والاستطلاع والمعاينة. وقد تميّزت كتابات حليم بركات بمعالجات عميقة شملت آثار الدين والبنى الاجتماعية والسياسية التقليدية في المجتمع العربي، وكذلك آثار الهيمنة الغربية في المجتمع والثقافة ودور النخب والإبداع الأدبي. وحينما نقرأ حليم بركات الناقد والمحلّل والمبدع، فإننا نقبض على الملامح الأساسية للمشكلات التي يئن تحتها المجتمع العربي. وعلى صعيد أدبه الروائي وأدب معظم الروائيين العرب الكبار منذ ستينيات القرن الماضي، نتلمّس في دراساته النقدية ربطاً محكماً بين النصّ الأدبي وعلم اجتماع الأدب، وإبرازاً منهجياً لقضايا المجتمع العربي في الرواية العربية.

ولعمق وغنى كتابات حليم بركات في حقل علم الاجتماع والرواية، وعلم اجتماع الأدب، أجرت المستقبل العربي الحوار الآتي معه:

 مرَّ الروائي وعالم الاجتماع حليم بركات بثلاث غربات كبيرة: الأولى كانت حين غادرت بلدتك «الكفرون» في سورية إلى بيروت، والثانية حين غادرت بيروت إلى الولايات المتحدة، والثالثة تجسّدت في استقرارك وعيشك في أمريكا لمدة طويلة. الغربات الثلاث كانت وراءها أسباب، فهل تلقي الضوء عليها؟

بمعنى آخر، ما الذي دفعك إلى الاغتراب؟

بركات : غربتي الأولى هي رحيلي القسري عن قريتي الكفرون إلى بيروت، ومن أسبابها وفاة والدي وأنا دون الثامنة من عمري. حينذاك رحلت بنا أمي إلى بيروت بحثاً عن عمل، ولاعتقادها بإمكان تأمين الدراسة لنا في مدارس لبنان. كانت والدتي امرأة أميّة، لكنها كانت تعي أن المنقذ لنا كثلاثة أطفال هو تحصيل العلم. وعشنا في بيروت من عام 1943 إلى عام 1961، غادرت بعدها إلى أمريكا لمتابعة تحصيلي الأكاديمي. وقد عدت إلى لبنان وانضممت إلى هيئة التدريس في الجامعة الأميركية في بيروت كأستاذ في مادة علم الاجتماع. إلا أنني وجدت نفسي من جديد في أمريكا بسب عدم ترقيتي في الجامعة الأميركية في بيروت، وأظن أن سبب ذلك كان اهتمامي بالقضية الفلسطينية، حيث أجريت حينذاك أبحاثاً في مخيّمات اللاجئين في الأردن، وكتبت كتابي حول أزمة اللاجئين بعنوان: نهر بلا جسور . ومن قبيل الصدف أن دعتني جامعة هارفرد في أمريكا إلى الانضمام إليها كأستاذ زائر. ومنذ ذلك الحين، وجدت نفسي منفياً في الولايات المتحدة، بينما كانت رغبتي الأولى العودة إلى سورية، حيث جذوري واهتماماتي بالقضية القومية والوطنية.

 

 هل تعتقد أن الاغتراب القسري للمثقف العربي كان تخلياً تاريخياً عن حقه الطبيعي بالعيش الحرّ، أو تخلياً عن مشروع بناء الدولة وتحقيق الأهداف الكبرى للفرد والجماعة؟

بركات : لا، طبعاً، لأن وجودي في المنفى الأمريكي زاد من وعيي وتمسّكي بالقضايا العربية، وخاصة قضية الاندماج الاجتماعي والسياسي. اغترابي كان سبباً في ازدياد وعيي بالغربة والمنفى، إذ وجدت هناك علاقة عميقة بين الغربة والإبداع، خاصة في حالة تصميم على الاهتمام بالوطن العربي. في المرحلة الأولى سبق أن نشرت سنة 1961 روايتي الثانية ستة أيام التي تصوّرت فيها وقوع حرب بين إسرائيل والعرب، ولتكثيفها قلت إنها تمّت في ستة أيام. وعندما قامت الحرب الحقيقية عام 1967 كتبت رواية أخرى بعنوان: عودة الطائر إلى البحر التي تروي الحقائق التي حصلت في تلك الحرب. وكُثُر هم النقاد الذين اعتبروا ستة أيام نوعاً من النبوءة، لكني رفضت مثل هذا التوصيف، وفضلّت تعبير: الوعي بالواقع العربي الرزين والهشّ تجاه أعدائه.

 

 أعود لأذكر جانباً مهماً من حالة الاغتراب، وهو أنه حينما يغترب المثقف، فإنه يتخلّى عن حق الاختيار، ويهرب من ذاته ويعيش حالة من الزيف، ويصبح واحداً كالآخرين إلى حدّ بعيد . في هذا الإطار، هل أصبحت في أمريكا واحداً كالآخرين، أم أنك بقيت حليم بركات في قلب الحراك القومي والوطني؟

بركات : في أمريكا ازداد وعيي بأهمية القضايا العربية ككل من المغرب الأقصى إلى المشرق العربي. وقد أدركت أن أمريكا تمكّنت من أن تصبح دولة قوية بسبب اتساعها، فازداد اهتمامي ليس بأمريكا، بل بالمغرب والجزيرة العربية ومصر طبعاً. سافرت للتعرف إلى الأقطار العربية، كالعراق والخليج واليمن والجزيرة العربية، كما تعمّق اهتمامي بمصر والمغرب، وأصبح الوطن العربي محور اهتماماتي الأدبية، وتوسّعتُ في حقل علم الاجتماع. وفي هذا السياق، نشرتُ المجتمع العربي المعاصر عام 1984، و المجتمع العربي في القرن العشرين عام 2000، وكذلك الهوية: أزمة الحداثة والوعي التقليدي . وهذا يعني في قسم كبير منه أن غربتي كثفت من اهتماماتي بالمجتمع العربي وقضاياه ككل.

 

 هناك مستويات عدة للاغتراب، ومنها: اغتراب العمال والكفاءات العلمية، واغتراب رجال الفكر والثقافة والأدب. والتاريخ العربي الحديث والمعاصر عرف هذه الظاهرة بوضوح. وتشير بعض الأرقام إلى وجود مئات آلاف الكفاءات العربية في أوروبا وأمريكا. وهذا يعني أن المجتمعات العربية تطرد كفاءاتها ومواهبها!

بركات : الاغتراب في الثقافة العربية يعود إلى علاقات في مختلف المؤسسات العربية، خاصة على صعيد علاقة الفرد بالعائلة، والسلطة السياسية التي تحيله إلى إنسان عاجز في مجتمعه. وقد أدركت أن الهجرة ليست تخلياً عن الوطن، بل هي تعمّق بالاهتمام بقضاياه الأساسية. وقد بدأت النهضة العربية بالهجرة العربية. والمثال على ذلك هجران جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة الذين بدأوا في رحلة الأدب العربي الحديث. ويمكن القول إن طرد الوطن العربي كفاءاته ومواهبه ظاهرة عامة، وربما كان أفضل المثقفين قد اضطر إلى الهجرة لتحقيق أمانيه الخاصة والعامة. وبالطبع، فإن المغترب بحاجة دائمة إلى العودة إلى الوطن ليظلّ على اتصال بالأحداث العامة التي هي محور إنجازاته. والمؤلم في الموضوع كله أن المؤسسات التي يلجأ إليها في المهجر تقدِّر إنجازاته أكثر من مؤسسات بلده.

 

 هناك شريحة واسعة من الذين هاجروا أو هجِّروا من النخب العربية بسبب الضغط السياسي.

بركات : حين نتكلم على الاغتراب السياسي لا بد من التركيز على العلاقات بين الدولة والمجتمع. فالدولة تمكّنت من الهيمنة على المجتمع بسحق أو تعطيل المجتمع المدني في البلدان العربي كافة. ومن خلال هذا الواقع، نكتشف كيف تأصل الاغتراب السياسي، إذ هو تعمّق وأصبح طاغياً حين أصبح الشعب نفسه خادماً للدولة بدل أن تكون الدولة خادمة للشعب، وإلى حدّ جعل المواطنين بحاجة إلى من يحميهم من النظام الحاكم، بل يبدو وكأن الدولة أصبحت بحاجة إلى مواطنين تحكمهم، على عكس ما هو مفترض. لقد أصبحت بيروقراطية الدولة تتوقّع أن تفكّر بالنيابة عن المواطن بدلاً من أن يفكر المواطن في كيفية تسيير الدولة. الفاعل أصبح موضوع فعل، وموضوع الفعل أصبح فاعلاً. لم يعد العربي يفكّر في أن الدولة هي دولته، بل يراها سيفاً مسلّطاً فوق عنقه. ونلاحظ أنه يشار إلى الشعب بصيغة المفرد، فيما يشار إلى الحاكم بصيغة الجمع. ومن هنا، فإن الجانب الرئيسي في النظام السياسي العربي هو طابع الأبوة، وهكذا تسود العلاقات العمودية التسلطية والفوقية.

 

 الاستنتاج الطبيعي في ضوء كلامك هو أن هناك غربة السلطة عن الشعب، وغربة الشعب عن السلطة!

بركات : صحيح. كلامك صحيح. الأنظمة العربية مغرِّبة، تحيل أفراد الشعب إلى كائنات عاجزة. فالشعب مغلوب على أمره، مُستلب من حقوقه وممتلكاته المادية والمعنوية، ومنجزاته ومؤسساته، ومهدّد في صميم حياته وكيانه.

 

 ما تقوله توصيف قد يصيب إلى حدّ بعيد، لكنك لم تشر إلى دور الأحزاب والنخب وبعض الأنظمة التي ادعت وصلاً بـ«ليلى».

بركات : لقد عقد الشعب الكثير من الآمال على الأنظمة والحركات والنخب في المجالات كافة، فإذا بها تستأثر بالسلطة، وتشمخ عليه، وتستولي على مقدراته، وتتركه معرضاً للأحداث والتحديات التاريخية حتى في عالمه الداخلي وفي صميم كرامته. ونتيجة ذلك، لا يبدو أن للطبقات والأسر الحاكمة أهدافاً للأمة، فهي مشغولة بنفسها واستمراريتها هي وشرعيتها ومصالحها الضيّقة، وغير معنية بشؤونها.

 

 يعتقد البعض أن الدول الأجنبية الكبيرة ساهمت وتساهم بعمق في تكوين هذا الواقع وتشكيل الصورة التي حدّدتَ ملامحها.

بركات : عجز المجتمع نفسه عن السيطرة على موارده ومصيره ليس بسبب تحكّم القوى الداخلية فحسب، بل الخارجية أيضاً. ولقد تمكّنت القوى الخارجية من تجريد الأمة من مناعتها وتعطيل قدراتها وتفكيك عوامل وحدتها بخلق كيانات مفتعلة وهزيلة، بل متنازعة في ما بينها. وتكوّنت بمرور الزمن هويات صغيرة اخترعت لنفسها رموزاً وشعارات وادعاءات فارغة. وليس غريباً في هذه الحالة أن يصاب الوطن بالعجز، وأن تنشأ فجوات عميقة تفصل بين الشعب والدولة، والعامل وربّ العمل، والغني والفقير، والطالب والأستاذ، والحاكم والمحكوم، والرجل والمرأة، والقوي والضعيف، فتسود بالتالي ثقافة مغرَّبة ومغرِّبة تعزّز الاستيلاء على الروح والعقل.

 

هل من علاقة بين الدين ومنظومة قيمه من جهة، والاغتراب الاجتماعي من جهة ثانية بالمعنى السوسيولوجي البحت؟

بركات : هناك اغتراب عن الدين وفي الدين. الاغتراب عن الدين هو الابتعاد عن المؤسسة الدينية. أما الاغتراب في الدين فهو تشديد على قيم الصبر والطاعة والاقتناع بالأمر الواقع، خصوصاً من قبل الفقراء والفئات الاجتماعية الدنيا. فهذه الفئات تجد في الدين ما يمكّنها من القبول والاقتناع بالأمر الواقع.

 

 يقول المفكّر المصري الراحل زكي نجيب محمود إن نظرة العربي إلى العلاقة بين الأرض والسماء هي في صميمها: «إن السماء قد أمرت، وعلى الأرض أن تطيع، وإن الخالق قد خطّط وخطّ، وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب». هل تعلِّق على هذا النصّ وأثره في الفكر الاجتماعي والسياسي الراهن في معظم البلدان العربية والإسلامية؟

بركات : تمكنت بعض الأنظمة السياسية والطبقات الحاكمة من أن تستخدم الإسلام كأداة فعّالة في تثبيت شرعيتها. ولقد تأسست في عدد من البلدان العربية أسر حاكمة على أساس تحالف قبلي ـ ديني متين. وهذا يتجلّى وتجلّى في كثير من الأنظمة. في مثل هذه الأنظمة تمّت الوصاية على المؤسسات الدينية، كما تمّت الاستعانة بعلماء الدين الذين يبرّرون سياسة الأسر الحاكمة، وتالياً بث الثقافة الدينية التي تدعو إلى طاعة أولي الأمر، ونصرة السلطان، وترك السياسة لأصحابها. ومن المهم أن أشير إلى أن الإسلام يحمل في طيّاته ومنظومته دعوة صريحة إلى حلّ مشكلة الفقر. ويقول النبي ((?)): «كاد الفقر أن يكون كفراً»، ويقول أيضاً: «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمئة عام». كذلك أودّ التوقف عند نقطة مهمة، وهي أن استخدام الدين من قبل الدولة يؤدي بالضرورة إلى استعماله من قبل القوى المعارضة، وأضيف أنه ما إن تترسّخ الأديان وتصبح مرتبطة بالسلطة السائدة في المجتمع حتى تسود الطقوسية في العبادة، وتفقد القدرة على التمييز بين الوسائل والغايات، والجوهري والتفصيلي.

 

 تحدثت عن استعمال الدين من قبل الأنظمة، فهل لك أن تتحدث عن استعمال الدين كأداة تحريض ضد السائد من الفقر وانسداد الأفق الاجتماعي والسياسي؟

بركات : استعمال الدين كأداة تحريض لا يمكن فصله عن السياق التاريخي والاجتماعي، وعن مصالح وحاجات ومواقع الطبقة الوسطى التي تزدهر فيها الحركات الإسلامية، كما في الحركات الشعبية المكافحة للتغلّب على الأزمات الحادة. وليس صدفة أن الجماعات الدينية تعمل في الأوساط الشعبية، وتستمد الكثير من الدعم من شرائح التجار الصغار والمتوسطي الحال والحرفيين والطلبة المهدّدين بالبطالة والمهنيين الذين لم تستقر أحوالهم الاقتصادية. وأودّ الإشارة، هنا، إلى أن الفئات الشعبية العاجزة والفقيرة قد تستخدم الدين كأداة مصالحة مع واقعها الصعب والقاسي. ويحدث هذا الأمر حين تكون الفئات الشعبية العاجزة والفقيرة منشغلة بأمور تدبير معيشتها، فلا يكون أمامها في ظلّ هذه الأوضاع سوى خيارين: الأول أن تلجأ إلى العنف العبثي، و الثاني الاستسلام عندما لا تتوفر لها إمكانيات تأسيس حركات تغيير.

 

 هل كتب على المثقف العربي العضوي الانسحاب من بيئة إلى أخرى أو العزلة؟ ولماذا فشل الذين رفضوا الانسحاب في «ثورتهم» وتمردهم على الواقع، خصوصاً خلال فترة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؟ وهل للعولمة والأنظمة السلطانية وللاقتصاد الريعي الذي نما بصورة مذهلة، علاقة بذلك؟

بركات : بمجابهة القضايا العامة يصبح الكاتب عاجزاً، خاصة مع تحول العالم إلى قرية صغيرة، كما تقول العولمة (Globalization) ، ويصبح المثقف العربي مضطراً إلى مواجهة لا المؤسسات الداخلية فحسب، بل المؤسسات الخارجية التي تهدف إلى السيطرة والهيمنة على الموارد العربية. وأشير، هنا، إلى أن الهيمنة الأمريكية والغربية عموماً على الموارد العربية تحققت بعد حقبة الاستعمارين الفرنسي والبريطاني. ولقد ورثت الولايات المتحدة أوروبا الاستعمارية وتجاوزتها في محاولة للاستيلاء على النفط.

 

 كيف استفادت الطبقات الغنية والعائلات التقليدية الحاكمة والمهيمنة من الدين في تثبيت شرعيتها؟

بركات : لقد لجأت الفئات المذكورة ـ لما لجأ الاستعمار في مراحله كافة ـ إلى تشجيع الفكر السلفي الغيبي الرجعي المغرق في متاهات الماضي كبديل يواجه التفكير الديني الإصلاحي. وبذلك اتبعوا منهج السلاطين السابقين الذين ادّعوا خلافة الله على الأرض، ما حوّل الدين إلى عقيدة رسمية، فكان أن أفتى الفقهاء بطاعة الحاكم حتى ولو كان ظالماً تجنّباً للفتنة. فتحول الدين في يديها إلى سلاح نظري وسيف مسلط على رقاب الناس. ولقد تم استعمال الدين أيضاً في التخفيف من الاحتجاج والشكوى في محاولة لتأمين الانسجام مع الأوضاع القائمة مهما كانت قاسية مجحفة. وأضيف هنا أن العائلات التقليدية الحاكمة في عدد من البلدان العربية عزّزت الولاء الطائفي تماماً، كما عزّزت الولاء القبلي أو العرقي، أو كل هذه الولاءات مجتمعة، للبقاء في الحكم حتى على حساب تجزئة المجتمع. وكثيراً ما تمّ ترتيب الطوائف في لبنان وغيره ترتيباً هرمياً يجعل التمييز بينها أمراً شرعياً. وهذا ما جعل التمييز بين الصراع الاجتماعي والطبقي والنزاع الطائفي أمراً صعباً.

 

 يعتقد كثيرون أن الطبقة الوسطى، وهي الحلقة الوسيطة بين الطبقتين العليا والدنيا، قد تلاشت ثقافياً ومادياً إلى حدّ أن المجتمع العربي صار مجتمعين مختلفين، وأن التوازن المطلوب فُقد بصورة شبه تامة. ما تعليقك السوسيولوجي على هذه النقطة؟

بركات : هناك طبقة وسطى مقرّبة من الدولة وتعمل في ظلّها، وطبقة وسطى مهاجرة، كالمثقفين الجامعيين مثلاً، وطبقة سفلى عاجزة بسبب تراكم مشكلاتها التي لم تُحلّ حتى الآن. ولكن لا شك في أن هناك في المجتمع العربي طبقة تملك الوعي وتشارك في العمل الحزبي والحركات الاجتماعية الضاغطة. وتلجأ هذه الحركات والأحزاب إلى العمل الخفي، كما يلجأ بعضها إلى العمل والمجابهة العلنية. ولذلك تظهر الحدّة في الصراع السياسي، كما نراه، خاصة في لبنان، حيث هناك مجال مفتوح لهذه الحركات لكي تمارس نشاطاتها.

 

 هل هناك وسيلة لإعادة التوازن بكل أبعاده بين الطبقة العليا والطبقة الدنيا؟

بركات : التوازن يقوم في ظلّ الديمقراطية التي تسمح بالمشاركة الفعلية للمواطن، ومعاملة الفرد لا كطائفة أو مذهب، بل كمواطن حرّ. وطالما أن لبنان، على سبيل المثال، على رغم سيره والتزامه نظام الطائفية السياسية، يدّعي الديمقراطية ومعاملة الأفراد بالتساوي، بصرف النظر عن انتماءاتهم، فإن الأمور ستبقى على حالها، ودون أن تتكّون قوة تغييريه فاعلة. وهذا ينطبق على كثير من البلدان العربية.

 

 هناك حالة مشاركة بين العشائرية والطائفية والمذهبية في عدد من الأقطار العربية. كيف تصف هذه الحالة؟

بركات : الحالة المذهبية هي المخرج والحل لأزمة الطبقات المهيمنة. ولهذا يظلّ الإنسان في معظم الأقطار العربية في حالة عجز وخيبة، وتالياً يظلّ أفق التغيير الصحيح موصداً. وإزاء هذا الواقع تبدو الصورة قاتمة. وهذا ما يستدعي من المفكّرين والنخب حراكاً مدنياً إصلاحياً يسدّد الأمور باتجاه الأفضل.

 

 يقول المفكّر والمؤرخ المصري الراحل جمال حمدان إنه لا فصل بين الطائفية والاستعمار، وهذا ما حدث على امتداد القرن العشرين. فماذا تقول أنت؟

بركات : لا استطيع اعتبار أن الأحزاب والحركات الطائفية والمذهبية متحالفة مع الهيمنة الغربية، بل إنني أرى بعضها في حالة صراع مع هذه الهيمنة، كما إن القوى الخارجية المهيمنة نفسها تسلك منهج محاربة هذه الحركات التي تعتبرها معادية لمصالحها. ومن جهة أخرى، نستطيع القول إن الغرب يشجع الحركات الدينية ويدعمها حين تؤدي دوراً سلبياً في تطور المجتمعات العربية.

 

 في ضوء كلامك، هل يمكن أن تقيم مقارنة سياسية بين الحالة المذهبية والطائفية في العراق وما يشبهها في لبنان؟

بركات : بعض الحركات الطائفية يرتبط بالهيمنة الغربية، وبعضها يرتبط بمصالحها الخاصة كجماعة مضطهدة. فالحركة الطائفية المهيمنة في العراق مرتبطة بالهيمنة الخارجية الأمريكية والأوروبية، في حين إن الحركة الطائفية الشيعية في لبنان تشكّل حالة مقاومة وطنية.

 

على رغم المسافة المفترضة بين الاغتراب الاجتماعي والسياسي الذي يعيشه المبدع العربي في الغرب، والاغتراب الثقافي، يولد نصّ عربي إبداعي في أمريكا وأوروبا. وحليم بركات الأديب والروائي رصد مسألة الغربة اللغوية إن في الغرب أو في النصوص الأدبية التي ولدت في بلدانها الأصلية العربية. في هذا الإطار، هل يمكن الكلام على علم اجتماع أدبي، وتالياً على علاقات بين الإبداع الأدبي والنفي أو الاغتراب وما شابه؟

بركات : معظم ما كتبته في مجال الرواية، وفي علم الاجتماع، كتبته باللغة العربية، ولكن هناك الكثير من المثقفين العرب لجأوا إلى الكتابة والتكلّم باللغة الأجنبية، حتى حينما يكونون ويقيمون في بلادهم. وهذا هو نوع المنفى الذي يجعلهم أقل تأثيراً في المجتمع العربي. إنهم يتكلمون مع الغرب بلغته، ويغتربون عن الشرق أو مجتمعاتهم العربية في آن واحد. لقد طرحت في كثير من كتاباتي قضية العلاقة بين الإبداع الأدبي والغربة، محاولاً الاستفادة من تجاربي واهتماماتي بنصوص الكتّاب والمفكّرين الآخرين، وخصوصاً أن المجتمع العربي يمرّ بظروف معقّدة تأتي في مقدمها هجرات فكرية عربية إلى أوروبا وأمريكا مؤسسة لنفسها في المجتمعات الجديدة مراكز وحركات وكتابات تذكّرنا بتلك الهجرات المشابهة في مطلع القرن الماضي.

 

 هل يمكن أن توضح أدبياً تجربة النفي الأدبي والفكري والثقافي بمعظم أبعادها؟

بركات : لقد اعتادت أدبيات المنفى أن تميّز بين النفي القسري والنفي الطوعي. في الحالة الأولى يطرد المنفي من بلده بقرار سياسي من قبل السلطة. أما في حالة النفي الطوعي، فقد ينعزل الكاتب داخل البلد نفسه أو يهاجر من الاضطهاد إلى بلد آخر يؤمّن له الحرية والعمل.

 

 في عدد لا يستهان به من الروايات والنصوص الأدبية العربية عموماً يحضر المنفى داخل البلد العربي نفسه، وهذا ما نجده في بعض الروايات العربية، مثل «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ، و»السفينة» لجبرا إبراهيم جبرا…

بركات : هذا صحيح، ثرثرة فوق النيل اختارت شخصياتها العزلة عن المجتمع، إنما من دون هجرة إلى خارج الوطن. إنها هجرة في الداخل وغربة عن الذات والوطن. وما ينطبق على محفوظ في روايته المذكورة ينطبق ولو بصورة ومعنى آخر على جبرا إبراهيم جبرا في «سفينته».

 شهد القرن العشرون موجات متتالية من الكتّاب العرب الذين هاجروا. موجة جبران والريحاني وأبو ماضي، ومن ثم موجة الطيب صالح وإدوارد سعيد وكاتب ياسين والطاهر بن جلّون وغالب طعمة فرحان وحليم بركات وغيرهم. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هناك أيضاً روائيين وكتاباً عاشوا المنفى والغربة كجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف وغيرهما. هل لهذه الموجات علاقة بنوعية الأدب الروائي العربي الذي تحضر صورته أمامنا الآن؟

بركات : لقد أدت هجرات أو منافي الأدباء المذكورين وغيرهم إلى تشكيل أدب روائي عربي متميّز يختلف عن الأدب الرمزي والمجازي الذي تجنّب الرقابة والاضطهاد في الوطن. ولهذا نجد أن هناك من يقولون لكتّاب المهاجر إنه بإمكانهم أن يخدموا قضية الأدب العربي والقضايا العربية بشكل عام لكونهم في الخارج، ولبعدهم عن تأثير السلطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المسلّحة بمختلف وسائل الترغيب والترهيب لفرض الامتثال والخضوع.

 

 في هذا السياق أين تضع رواية حليم بركات «طائر الحوم»؟

بركات : إذا كان يجوز لي أن أتكلم على تجربتي الشخصية، أقول بشيء من التردّد إن صلتي ومعرفتي بالمجتمع العربي وإحساسي بالانتماء إليه تعمّقت بعد هجرتي، فأصبحتُ أنظر إليه ككل، وليس كمجموعة من الدول الصغيرة المهزومة، وأصبح ولائي إليه ككل. في روايتي طائر الحوم ، وهي سيرة ذاتية حاولت أن أعبّـر عن تجربة المنفى في مختلف أبعادها. فقد وجدت في المنفى شجرة الوطن تزرع جذورها عميقاً في داخلي، فأتنقّل على أجنحة المخيّلة بين الكهولة والطفولة، وبين مدينة أمريكية هي واشنطن، وقرية سورية هي الكفرون. كل ذلك في مناخ نفسي تأملي ومتوتّر. وعلى صعيد آخر أودّ القول إنه كلما ابتعد الروائي أو الأديب عن وطنه جغرافياً ازداد ارتباطه به.

 

 ماذا تعني الذاكرة العربية قضايا ووعياً تاريخياً بالهوية ومصالح عربية في كتابات النخب العربية باللغة الأجنبية والتي تعيش في الغرب؟

بركات : إنها على عكس الكتابة باللغة العربية، حيث هي عميقة وتفصيلية. فالكتابة باللغتين الفرنسية أو الإنكليزية تكون نوعاً من الاغتراب والاقتلاع من الجذور الأولى. ونتيجة لذلك قد تُستخدم الكتابة بالأجنبية من قبل الغرب لمصلحته الخاصة المتناقضة مع المصالح العربية. وهذا لا ينطبق على كتّاب ومفكرين كثيرين أمثال إدوارد سعيد.

 

 هل يمكن توضيح ذلك بصورة أعمق، وخصوصاً انطلاقاً من منهج علم اجتماع الأدب؟

بركات : على رغم أن الروائي الطاهر بين جلّون، على سبيل المثال، كتب بالفرنسية، فإن معظم ما كتبه في الرواية نبع من مخيّلة عربية، وليس من مخيلة فرنسية. ويقول بن جلّون في هذا الصدد ما معناه إن النصوص التي كتبها هي في النهاية نصوص مغربية، ولا يمكن تصنيفها بين النصوص الفرنسية. أما عبد الكبير الخطيبي فاعتبر الكتابة بالفرنسية نوعاً من النفي. هناك مفارقات بين النماذج والرموز ولا يصحّ وضعها في سلّة واحدة.

 

ما هي الفروقات على صعيد مضامين النصّ الروائي الذي كتب بالفرنسية وتلك التي كتبت باللغة العربية من الناحية السوسيولوجية؟

بركات : هناك فوارق كثيرة. فالمغرب العربي لم يختبر إلا حديثاً ما اختبره المشرق منذ أكثر من أربعة عقود من الزمن. ففي اللغة العربية حدثت معركة بين الجديد والقديم. أما في المغرب، فلم تحدث هذه المعركة داخل اللغة العربية حتى فترة الستينيات، إذ كان المحدثون يكتبون بالفرنسية والتقليديون يكتبون بالعربية. ولقد جعلت الروايات المغربية في اللغة الفرنسية بالنقد الاجتماعي متناولة مقدسات العائلة والدين، بينما ظلت بعض الروايات المغربية في اللغة العربية تعمل على ترسيخ هذه المقدّسات أو تتجنب تناولها كلياً.

 

 هناك من يعتقد أن جيلاً من الكتّاب المغاربة كتب بالعربية، ونقد كثيراً من الجوانب الاجتماعية والإنسانية في نصوصه.

بركات : هذا صحيح. لكنهم كانوا قلّة ضئيلة هؤلاء الذين أخذوا يكتبون في اللغة العربية منذ مطالع الستينيات، أمثال عبد الله العروي ومحمد برادة ومحمد زفزاف ومحمد شكري وغيرهم. فهؤلاء مارسوا النقد الاجتماعي والثقافي في اللغة العربية. ومن خلال تجاربهم الكتابية احتدمت المعركة بين القديم والحديث داخل اللغة العربية نفسها في المغرب، فبدأت تتزعزع بُنى الثقافة، بما فيها اللغة العربية نفسها.

 

 الناقدة والكاتبة العراقية فاطمة المحسن ترى أن هناك أدباً عراقياً بدأ يظهر في المنفى.

بركات : معظم أدب المنفى العراقي نتاج شعري. أما الأعمال الروائية فقليلة جداً.

 

 لقد كتبت روايات عدة. فهل تعتبرها جميعاً روايات انخرطت في الحراك السياسي الوطني والقومي والاجتماعي العربي، على رغم أنك عشت معظم حياتك في الولايات المتحدة؟

بركات : في روايتي ستة أيام ينشغل بطلها سهيل بقضايا مدينته «دير البحر» التي ترمز إلى فلسطين. ومشكلته كانت أنه كان جزءاً من حركة المقاومة، وإذا عدّت إلى روايتي عودة الطائر إلى البحر تجد أن بطلها أيضاً يودّ أن ينخرط في بلاده، وأن يصبح هو وبلاده شيئاً واحداً. وما ينطبق على الروايتين المذكورتين ينطبق بنسبة أو بأخرى على روايتيّ الرحيل بين السهم والوتر و إنانة والنهر ، لأنهما عالجتا قضايا إنسانية يرتبط بها إنساننا.

 

 إذا حاولنا من زاوية علم اجتماع الأدب قراءة الرواية العربية الحديثة والمعاصرة، فإننا نجد أن هناك أنواعاً متعدّدة في توجّهاتها الاجتماعية والسياسية. وفي هذا الإطار، تكمن الإشارة إلى روايات الثورة والتمرّد، كما إلى روايات القبول والاستكانة، وكأن التباين في المعالجات ارتبط بالظروف السياسية لكل شعب من الشعوب العربية من حيث تقاليده وقيمه، أو من حيث طبيعة الأنظمة السياسية السائدة. في هذا الصدد، كيف يقيّم حليم بركات، عالم الاجتماع والروائي، ولادة هذه الأنواع من الرواية العربية؟

بركات : يحتاج هذا السؤال إلى أبحاث معمّقة. وبشكل عام، يمكن تناول اتجاهات في الرواية العربية دون الحكم على قدرتها في تقديم النسيج الاجتماعي لأي قطر عربي. وبادئ ذي بدء، أقول إن الرواية ليست موضوعاً أو فكرة أو رسالة. فهي قبل كل شيء تجربة إنسانية وجودية حميمة تهزّ كيان الروائي وتحرّك فيه كل طاقاته الإبداعية والتأملية والتخيلية. كذلك أقول إن الرواية ليست التجربة الإنسانية بحدّ ذاتها ولذاتها، كما هي ليست الأسلوب الفني فحسب. إنها رواية العنصرين، أي الأسلوب والتجربة. وربما تكون روايتي الرحيل بين السهم والوتر حالة في هذا السياق.

 

 في سياق السؤال الذي طرحته عليك، هل هناك في الأدب الروائي العربي رواية خضوع ولا مواجهة، ورواية مجابهة وتمرّد فردي، ورواية انتفاضة تغييرية؟

بركات : في رأيي، هناك رواية خضوع عربية قدمت الإنسان العربي ككائن عاجز أمام طغيان السلطات الاجتماعية والسياسية. ومثل هذه الرواية يقدم الفرد فيها على أنه ما يزال معرضاً لمؤثرات الجماعات في حياته ومصيره، ولا يقوى على الخروج عن إرادتها حين تتعارض مع إرادته. وقد عُني الروائي الراحل نجيب محفوظ في معظم أعماله بإبراز موضوعات خضوع الأفراد. وأشير هنا إلى أن محفوظ قدم بصورة غير مباشرة حالة انفصام عند الفرد كاشفاً عن المعلن وغير المعلن. وبالطبع، فإن من الضروري الإشارة إلى أن الخطاب الثقافي المصري عموماً يحفل بالتساؤل حول نزعة الاستكانة والصبر وتحمّل الجور عند المغلوبين على أمرهم. قسم كبير من روايات نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس حافل بمعنى الاستكانة. وفي روايات زقاق المدق ، و السمان والخريف ، و حب تحت المطر ، و الحرافيش ، وغيرها أمثلة ساطعة على عمق عجز الإنسان واستعداده للانضواء «تحت راية المنتصر» إيثاراً للسلامة.

 

 إلامَ ترد حالة الخضوع في معظم المجتمعات العربية؟

بركات : إنها علاقات القوة والاستبداد، على رغم تظاهر أبطال الروايات بالحيادية والموضوعية والواقعية. والروائي العربي، وخصوصاً محفوظ، يلجأ إلى استعمال الأساطير والأحجيات والرموز لتمويه مواقف أبطاله. أما رواية اللامواجهة فقد نجدها عند عدد لا يستهان به من الروائيين العرب.

 

 ألا تعتقد أنك ركّزت كثيراً على رواية الخضوع في مصر أكثر من غيرها؟

بركات : لقد تناولت محفوظ كنموذج، ولم أتناول الرواية المصرية كلها.

 

 ماذا عن رواية المجابهة والتمرّد الفردي؟

بركات : تكوّنت هذه الرواية وتمظهرت في أعقاب التحوّلات التاريخية، خصوصاً نكبة فلسطين وقيام إسرائيل على أنقاض المجتمع الفلسطيني، وخيبات الأمل بعد نشوة الحصول على الاستقلال، وقيام الثورات في مصر والجزائر، وانبثاق الطبقة المتوسطة كقوة سياسية من خلال الانقلابات العسكرية واستمرار التبعية للغرب. وبسبب هذه التحوّلات في الواقع والوعي تقلّصت نزعات الخضوع، وبدأت تنتشر النزعة النقدية التمرّدية في الكتابات العربية.

 

 هل لكَ أن تعطي أمثلة روائية ترتبط بما ذكرت؟

بركات : هناك روايات رفضية تمرّدية عربية كثيرة بدأت مع صراخ في ليلٍ طويل لجبرا إبراهيم جبرا، و أنا أحيا لليلى بعلبكي، و الزيني بركات لجمال الغيطاني، و ستة أيام لحليم بركات وغيرها.

 

 ماذا أرادت رواية التمرد أن تقول؟

بركات : رواية التمرّد الفردي تصوّر الإنسان في حالة اغتراب عن المجتمع والمؤسسات والثقافة السائدة، وتنفر من الواقع بما فيه من حركات التغيير القائمة، كما ترفض علاقات القوة. ويمكن القول إن رواية التمرّد العربية عبّرت عن القلق الناتج من الحداثة في الحياة الإبداعية؛ فقد كانت جزءاً من حركة التنوير العربية التي تدعو إلى التحرّر على صعيد الرؤية والمفاهيم والمواقف وأساليب التعبير في طرحها مع التقاليد التي تتمسك بها الثقافة السائدة.

 

 تحدثت عن رواية الخضوع ورواية التمرّد الفردي، أليس هناك «رواية ثورية» في أدبنا الروائي الحديث والمعاصر؟

بركات : كثيرة هي الكتابات الروائية التي اتخذت منحى ثورياً. وأذكر في هذا السياق يوسف إدريس، وغسان كنفاني، وأميل حبيبي في مرحلته الأولى، ومحمد ديب، وكاتب ياسين، ورشيد بوجدرة، والطاهر وطّار. وأستطيع أن أذكر مثل هؤلاء جبران خليل جبران الذي صوّر في معظم أعماله الأدبية حالة الاختلال والصراع في مجتمعه…

 

 أيضاً، ومن زاوية علم اجتماع الأدب، هل يمكنك تحديد مصادر الرواية الثورية أو التغييرية التي احتلت صدارة الإنتاج الإبداعي العربي منذ الستينيات حتى الثمانينيات؟

بركات : هناك مصدران كبيران: يتمثل الأول في أعمال روائية تنطلق من منظور نقدي اجتماعي وإنساني وحدس فني إبداعي، ككتابات روائية ليوسف إدريس، وعبد الرحمن منيف، وصنع الله ابراهيم، ومحمد برادة، وبهاء طاهر، وإدوارد خرّاط، ورشيد بوجدرة.. أما الثاني فيتمثل في بعض أعمال غسان كنفاني، ولطيفة الزيات، والطاهر وطّار، ورضوى عاشور، وحنا مينة وغيرهم.

 

 تسود الآن في المجتمع العربي حالة من زعزعة المفاهيم تتجلّى في ازدواجية ذات طبيعة انفصامية مأساوية: من ناحية تمسك بالتقاليد ومنظومة القيم المتوازنة، ومن ناحية أخرى إقبال عشوائي واستهلاكي على اقتباس كل ما يأتي من الخارج. ويقول كثيرون إن هذه الحالة تؤدي بعمق إلى تخلّي العربي عن ذاته الإبداعية والنقدية وعن قدراته الكامنة.

بركات : النقطة الهدف تستقيم عربياً بالانتقال من مرحلة الانفعال والتقليد ومحاكاة الغير وتقليده إلى مرحلة الفعل في التاريخ. وأعني بالفعل تحويل جوانب الحياة كافة على أساس تفاعل العلم والفن والفلسفة بدلاً من تجزئة المعرفة الإنسانية. فواقع المجتمع العربي مغرِّب يحيل فئاته المحرومة إلى كائنات عاجزة لا تقوى على مواجهة تحديات العصر، وتالياً التغيير. فالشعوب العربية محاصرة، والمؤسسات الحاكمة سلبته حقوقه وحرياته. وكما تتعمّق الفجوات بين مقلّدي الماضي ومقلّدي الآخر المختلف، كذلك تتعمّق بين الأغنياء والفقراء. وليس هذا الأمر مستغرباً. فالطبقات والفئات الحاكمة مرتبطة بالغرب. وتبعيتها تترسخ وتتعمّق بقدر اندماجها في النظام الاقتصادي العالمي. وفي الوقت نفسه، فإن المجتمع العربي ما يزال موزّعاً بين القديم والحديث من دون أن يكون أي منهما حقاً. المجتمع العربي ليس هو بالقديم، وليس هو بالحديث، وليس نفسه بقدر ما هو غيره، بل يعيش بين بين في تأزّم دائم. هذا المجتمع يشهد صراعاً مريراً تتجاذبه قوى الوعي التقليدي وقوى الوعي الحداثي الزائف، وقوى المحافظة وقوى التقدم الشكلي، وقوى الجمود والذهول بإنتاج الغرب وسلعه.

 

أمام هذا التوصيف المرّ الذي يكاد يغلق الأفق، ماذا ترى على صعيد الحراك السياسي والفكري في اتجاه الحلّ؟

بركات : بداية، الحلّ يكون بإطلاق سراح المجتمع المدني من سجنه. فالأزمة في عمقها ناشئة عن هيمنة الدولة والحاكم على المجتمع، وتهميش الشعب والحدّ من مبادراته ومشاركته في عملية التغيير بحرمانه من الحقوق الأساسية. لا بد من دولة قوية تمثل المجتمع وإرادة الأمة. وهذا ما يقود إلى ضرورة إعلاء شأن المجتمع المدني والتحرر من العصبيات الطائفية وغير الطائفية، وإقامة المجتمع الديمقراطي التعدّدي، وإلى ترسيخ ثقافة احترام حق الاختلاف.

 

 هناك مئات وحتى آلاف الهيئات التي تعمل في إطار المجتمع المدني في الوطن العربي، لكن نتائج عملها محدودة.

بركات : المجتمع المدني غير متكوّن في هذه المرحلة. وحتى يقوم هذا المجتمع لا بد من تكون وعي شعبي ونشوء حركات تجاوزية. فعملية التغيير تبدأ حينما ينتقل الناس من الانشغال بذواتهم وشؤونهم اليومية إلى شعب يرفض واقعه المغرِّب ويلتزم مهمات الإصلاح والتغيير من خلال منظماته المستقلة، لا من خلال هيئات مدنية فرضتها أو أقامتها هذه السلطة أو تلك. وهذا يعني استقلال المؤسسات الثقافية، وإحداث ثورة في شتى مراحل التعليم، وتحرير الفرد العربي من منظومات القيم التقليدية، والعمل الرصين والمدروس على نشر الوعي العلمي، واستخدام العقل وقيمه، والانفتاح على الحضارات الأخرى والرأي الآخر، بالإضافة إلى التعامل مع النظام العالمي من موقع الاستقلالية، والاستفادة من الثورة العلمية الراهنة دون تجاهل الجوانب المظلمة من العولمة، وتنشيط الثقافة، ودور المرأة، وإطلاق حرية الفكر النقدي، وإعادة حبل السرة المقطوع بين المثقف والشعب، أي إخراج المثقف من عزلته.

 

 إنها عناوين برّاقة وضرورية لما يشبه ما تطرحه حركة إصلاحية تجاوزية!

بركات : عناوين، صحيح، لكن يمكن البدء منها.

 

المصادر:

(*) نُشر هذا الحوار في مجلة المستقبل العربي العدد 369 في تشرين الثاني/نوفمبر 2009.

(**) هاشم قاسم: صحافي لبناني.


هاشم قاسم

كاتب وصحفي من لبنان.

مقالات الكاتب
Avatar
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز

Privacy Preference Center