المؤلف: محمد فايق

مراجعة: منى سكرية

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

سنة النشر: 2023

عدد الصفحات: 352

 

سبعة عشر فصلًا تضمنها كتاب مذكرات محمد فايق، وانتثرت تحتها عناوين فرعية تفصيلية تضيء مسيرته، إضافة إلى المقدمة والمراجع والفهرس، وتقديم بقلم أحمد سيد أحمد (أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية لمركز دراسات الوحدة العربية) ذكر فيها: أن «السيد محمد فايق واحد من القلائل في التاريخ المصري الذين تنوّع عطاؤهم ما بين الكفاح المسلح وطنيًا وأفريقيًا، والعمل الإعلامي والدبلوماسي والسياسي في مصر على أعلى مستوى، والحركة الحقوقية من أجل حقوق الإنسان. وذلك كله من دون أن تشوب سيرته الذاتية شائبة واحدة. فقد عاش حياته مهتديًا بمنظومة أخلاقية رفيعة لم يحد عنها يومًا. سوف تكون هذه المذكرات بالغة الأهمية على مرحلة اضطلع فيها صاحبها بأدوار تاريخية».

وفي المقدمة قال فايق: هذه سيرة ذاتية لحياتي وَلِما قمت به من أعمال وتكليفات، وشهادتي على الأحداث التي شاركت فيها. وهي ليست تقويمًا أو ترويجًا لحقبة بعينها، وإنما هي ذكرياتي أكتبها من أجل المستقبل فالماضي بنجاحاته وسقطاته يضيء الطريق إلى المستقبل».

أما عن النشأة فيقول إنه «في مدينة المنصورة ومدارسها تعرفت على الوطنية وتشرّبتُ بها»، و«بعد حصولي على الشهادة التوجيهية بمجموع عالٍ جدًا، قدّمتُ أوراقي إلى كلية الطب في جامعة القاهرة وقُبلت بالطبع»، لكن «والدي استنكر ذلك بحجة أن أخي طبيب أيضًا.. ثم تقدّمت إلى الكلية الحربية ونجحت وأصبحت طالبًا فيها في عام 1946. في الكلية الحربية وجدت أن الدراسة ممتعة جدًا، و«من واقع الدراسات العسكرية سواء التاريخ العسكري أم علم التكتيك أم الاستراتيجيات، تعلّمنا أن معظم التهديدات العسكرية لمصر تأتي من الشرق وذلك منذ عهد الفراعنة». ولم تكن صعوبة الكلية الحربية في العلوم، وإنما «في تحويل الطالب من شخصية مدنية إلى شخصية عسكرية». وكانت الأسماء كلها تركية بما فيها الرتب العسكرية ومنها أمباشة، شاويش، يوز باشي، و«هذه الأسماء تغيّرت عندما قامت الوحدة مع سورية (1958-1961) لتوحيد المصطلحات حيث كانت سورية قد نبذت الأسماء التركية كلها واستبدلتها بأسماء عربية».

وبعد تخرجي في مدرسة المدفعية، عُينت في الآلاي الأول م/ط الذي كان مجهّزًا بأحدث المعدات للدفاع الجوي في ذلك الوقت، وهناك «التقيت بالملازم طيار محمد حسني مبارك الذي كنت زاملته في الكلية الحربية وقامت بيننا صداقة». كان «حسني مبارك في هذه المرحلة الذي عرفته فيها ضابطًا مجتهدًا منضبطًا، وربما أكثر مما ينبغي في بعض الأحيان. ولم يكن له اهتمام يُذكر بالسياسة في ذلك الوقت».. أما عن أول لقاء مع جمال عبد الناصر «فكان عام 1951 في مدرسة الشؤون العسكرية حيث كنت طالبًا أدرس للتأهل للترقي إلى رتبة اليوز باشي (نقيب) وكان جمال عبد الناصر مُدرّسًا في هذه المدرسة في علم التحركات العسكرية».

وعن تصدع العرش وانهيار الملكية يقول إنه «عندما تولّى الملك فاروق عرش البلاد في عام 1936 كان يتمتع بشعبية واسعة ولم يكن قد بلغ السن القانونية بعد، وهو ما استدعى وضعه تحت الوصاية، ولكن بعد عدة شهور ظهرت فتوى بأن عمر الملك المسلم إنما يُحسب بالسنة الهجرية، وبذلك اختصرت مدة الوصاية». لكن «للأسف لم يحافظ فاروق على هذه الشعبية، فلم يكن مؤهلًا للحكم على الإطلاق». وقد «تعلّق الملك الصغير برغبة جامحة في أن يبايعه الشعب الذي غمره بهذا الحب كله ليكون خليفة وإمامًا للمسلمين، ووجد من يؤيده ومن يدفعه بهذا الاتجاه وتصدّر هؤلاء الإخوان المسلمون وبايعوه منذ اللحظة الأولى خليفة وأميرًا للمؤمنين».. في ذلك الوقت كانت الحكومة مؤلفة من حزب الوفد أي حزب الأغلبية برئاسة النحاس باشا «الذي عمل على أن يُتوّج الملك تحت قبة البرلمان الذي يمثل الشعب أي مصدر السلطات». وقد «استغلت بريطانيا هذا الخلاف بين الملك وحزب الأغلبية أسوأ استغلال»، فلم «تكن المملكة المتحدة حريصة على قيام نظام ديمقراطي حقيقي في مصر بل كانت تعلن أن الديمقراطية نظام أوروبي لا يصلح للمشرق».. كان «حكم الملك فاروق انتكاسة حقيقية للنهضة التي شهدتها مصر عقب ثورة عام 1919».

أولًا: ثورة يوليو

في هذا الفصل ندخل في مرحلة جديدة من مسيرة فايق وتتعلق بقيام ثورة 23 يوليو. يقول: كنتُ في إجازة صيفية في تموز/يوليو 1952، وحضرت إلى القاهرة في 22 منه، وفي اليوم التالي ذهبت إلى وحدتي في منشية البكري، لأجد تعليمات خاصة بحصار قصر القبة، حيث حدث ذلك من دون أي مقاومة أو اشتباكات.. بعد ذلك، «صدر قرار بتعييني في الاستخبارات الحربية التي أصبح رئيسها البكباشي زكريا محي الدين عضو مجلس قيادة الثورة، ووجدت نفسي أوافق على الانضمام إلى هذا الجهاز (الاستخبارات الحربية) الذي ساهم في بناء الثورة ومسيرتها. وكُلّفتُ في البداية بالعمل في فرع إسرائيل، ثم نقلوني إلى الاستخبارات العامة».

أضاف: كانت مهمة زكريا محي الدين تأمين الثورة داخليًا وخارجيًا عندما تكلّف رئاسة هذا الجهاز. كما كُلّف هذا الجهاز بمقاومة الوجود العسكري البريطاني في منطقة قنال السويس وتهديده، وكان قوامه 83 ألف جندي بريطاني، على أن يكون ذلك في إطار مقاومة شعبية، فقد كان أحد أهم أهداف ثورة 23 يوليو «إجلاء قوات الاحتلال البريطانية».. كانت «المقاومة ورقة مهمة في يد الرئيس جمال عبد الناصر الناصر وهو عضو في الوفد المصري، استُخدمت في الضغط على الجانب البريطاني». ولم تكن المقاومة في السلاح فحسب بل بالإعلام أيضًا، و«صحّت مقولة أن المقاوم يشد أزر المفاوض». وفي 19 تشرين الأول/ اكتوبر 1954 تم توقيع اتفاقية الجلاء، وتوقفت العمليات بعد أن نفذ الانجليز ما تم الاتفاق عليه.

يؤكد فايق «أن تأميم قنال السويس لم يكن مجرد انتقال ملكية شركة أو مرفق إلى ملكية الدولة، كما لم يكن ذلك مجرد اتفاق اقتصادي لتحصل مصر على عائدات القناة فحسب، لكنها كانت عملية ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بحركة التحرر الوطني واستقلال مصر التي قامت ثورة تموز/ يوليو 1952 من أجله».. لذلك، «كنّا في جهاز الاستخبارات العامة نتابع تطورات أزمة السويس ساعة بساعة، ونعدّ يوميًا تقدير موقف في ضوء ما يصلنا من معلومات تُقدّم إلى الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت هذه التقارير تشمل مدى استعداد القوات البريطانية في قواعدها في مالطا وقبرص في كل يوم، وكان ذلك بمساعدة رجال الرئيس مكاريوس رئيس قبرص». وفي 29 تشرين الأول/أكتوبر 1956 شنت القوات الاسرائيلية هجومًا على شبه جزيرة سيناء. لقد أدى فشل العدوان الثلاثي (إسرائيل وفرنسا وبريطانيا) على مصر إلى فتح الطريق إلى القارة الأفريقية و«أصبحت القاهرة كعبة التحرر». تلا ذلك، خطوة التفاوض في شأن السودان وتقرير مصيرها من الاحتلال البريطاني والعلاقات مع مصر، وهنا يسرد فايق تفاصيل هذا التفاوض «وعدم رغبة جزء كبير من الشعب السوداني لا يشاركنا أحلام الوحدة»، في حين شهدت «العلاقات المصرية – الإثيوبية في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي نزولًا وصعودًا»، و«في نهاية الستينيات أصبحت علاقة صداقة وتعاون حقيقي».. لقد «أصبحت القاهرة قاعدة التحرر في أفريقيا، وبلغ عدد اللغات الأفريقية التي توجهها القاهرة إلى شعوب أفريقيا 25 لغة تصدر كلها باسم صوت أفريقيا من القاهرة، وكانت مصر أول دولة في العالم تخاطب الشعوب الأفريقية بلغاتها الأصلية، والتي وصلت إلى أكثر من 700 لغة في القارة، إضافة إلى لهجات صوتية لا ترتقي لتكون لغة».

ثانيًا: وزيرًا مع جمال عبد الناصر

في أيلول/سبتمبر 1966 عُيّنت وزيرًا للإرشاد القومي، «وفي أول يوم أذهب فيه إلى مبنى التلفزيون كان أول من استقبلته في مكتبي الفنانة فيروز اللبنانية التي كانت قد وصلت إلى القاهرة بناء على دعوة عبد القادر حاتم عندما كان مسؤولًا في الإعلام وأصبحت ضيفتي. وفيروز ليست مجرد فنانة تجيد الغناء لكن لها مكانة خاصة في الأمة العربية جعلتها أيقونة هذه الأمة». كما كنت «أول وزير مصري يزور سورية بعد الانفصال». وفي بداية عام 1967 «تصاعدت الحملة الإعلامية المُعادية متهمة الجيش المصري بأنه يحتمي بقوات الأمم المتحدة، وأن عبد الناصر يقف متفرجًا على مرور السفن الإسرائيلية في المياه الإقليمية لمصر»، وكانت الأمم المتحدة قد وضعت قوات لها على الحدود المصرية – الفلسطينية بناء على طلب مصر وبعد العدوان الثلاثي. ولم «يشعر المصريون طول هذه الحقبة بهذه الترتيبات التي ترتب عنها مرور السفن الإسرائيلية إلى خليج العقبة، إلا بعد حملة التشهير الإعلامية من الإذاعات العربية المعادية».

يضيف: «كان لهذه الحملة تأثير في بعض قيادات الجيش وفي مقدمهم المشير عبد الحكيم عامر الذي تحمس لإنهاء مهمة قوات الأمم المتحدة، واقترح على عبد الناصر سحبها» و«عمل الدور الأمريكي على تأزيم الموقف»، وأصبح عبد الناصر في «موقف بالغ الصعوبة وبالغ الخطورة»، كما كان «من الصعب على عبد الناصر سحب هذا الطلب بعد أن هللّ له الإعلام العربي والمصري وعدّوه ردًا شجاعًا على الحشود السورية ودحض الاتهامات كلها التي كان يرددها الإعلام المناهض». وتوقف فايق عند الحقبة التي سبقت حرب الـ67، وألمح إلى «ثقة القيادة العسكرية الزائدة بالنفس بالرغم من أدائها المتواضع في صد العدوان الثلاثي وفي حرب الـ67». وعشية تلك الحرب استشعر عبد الناصر نشوبها، فكان إعلان التعبئة العامة في الجيش، وبدأت التحركات العسكرية الكبيرة متجهة إلى سيناء، ولكن «يبدو أن الفكرة كانت الردع بالحشد». وعقد عبد الناصر مؤتمرًا صحافيًا لهذه الغاية، وتباحث مع القيادة العسكرية، وتبيّن «بوضوح مدى الاختلاف بين رؤية القيادة العسكرية ورؤية القيادة السياسية». ويعلن: «أنني أعتقد أننا جميعًا مسؤولون عن ما حدث في حرب 67».

وتابع: حلّت الهزيمة سريعًا، وأعلن عبد الناصر خطاب التنحي. «ولم تمضِ دقائق معدودة حتى وجدت تظاهرة على باب مكتبي، أما ما كان يحدث في القاهرة فكان فوق أي تصور فكانت شوارع القاهرة تموج بطوفان من البشر. بدأت الاتصالات تنهال عليّ ثم كانت المشكلة الأكبر في اتصال المشير عبد الحكيم عامر الذي كان في حالة غضب شديد وكنت مصممًا على أن لا أذيع له أي شيء. وخوفًا من أن يقتحم المشير الإذاعة بقوى عسكرية، طلبت من الفريق فوزي حماية عسكرية».. كان عبد الناصر في موقف يصعب جدًا أن يرفض العودة وتحمّل المسؤولية، و«لكن الجزء الصعيدي في عبد الناصر ما زال عقبة، فكيف يَعِد الناس بشيء ويخلفه في اليوم التالي».

ثالثًا: حرب الاستنزاف

كانت حرب الاستنزاف حربًا عبقرية – كما يصفها فايق – ولم يكن ذلك يعني استبعاد الحلول السلمية كما قال عبد الناصر، وشدّد على أن «إسرائيل لن تقبل ذلك إلا بقوة السلاح. فلم ينتظر عبد الناصر إلى أن يكتمل إعداد الجيش ثم يحارب، لكنه بدأها فورًا بعد توقف القتال عقب الحرب العسكرية عام 67 واسترداد عبد الناصر كامل سلطاته كقائد أعلى للقوات المسلحة، إذ «نجحت القوات المصرية خلال هذه الحرب في بناء حائط الصواريخ المصري الذي كان أحد الأسباب الأساسية في نجاح عملية العبور واقتحام خط بارليف (حرب 73)».. ولا ينسى فايق التوقف عند النجاح الذي حققته وكالة أنباء الشرق الأوسط التي أشرف على إطلاقها وتعزيز دورها وصدقيتها، وهو أدى إلى إغلاق وكالة الأنباء العربية في الشرق الأوسط المنافسة والممولة من لندن. كان عبد الناصر يهتم كثيرًا بالصحافة اللبنانية ويقرأها جيدًا كما يذكر فايق.

رابعًا: رحيل عبد الناصر
وتنصيب السادات رئيسًا

تحت هذا العنوان يكشف فايق الخداع الذي مارسه السادات بُعيد رحيل الرئيس عبد الناصر، وصولًا إلى تنصيبه رئيسًا للجمهورية، والانقلاب على كل ما وعد به من استمرارية على نهج عبد الناصر. بدايةً يشير فايق إلى «ما كنت أعرفه عن حقيقة مرض الرئيس جمال عبد النصر ومدى خطورته»، لكن «وفاته ورحيله عنا في هذا الوقت تحديدًا كان مفاجئًا وصدمة عنيفة لم يكن استيعابها سهلًا»، وبرحيله أصبحت المهمة العاجلة وأولى الأولويات أمامنا جميعًا هي انتقال السلطة إلى رئيس جديد. لم يكن اختيار الرئيس الجديد أمرًا صعبًا، فكان أنور السادات مُستوفيًا كل ما يؤهله لهذا المنصب، فهو النائب الوحيد لرئيس الجمهورية، كما كان الأقدم بين أعضاء مجلس الثورة الباقين الذين استمروا في ملازمة جمال عبد الناصر، و«كان قد أكد مرارًا التزامه الكامل بخط عبد الناصر إلى حد المبالغة». وبعد إتمام الإجراءات كلها الخاصة بتولي رئاسة الجمهورية «بدأ السادات سلسلة من الإجراءات والقرارات اتخذها منفردًا ومن دون استشارة الحكومة أو موافقتها أو حتى استشارة زملائه في اللجنة التنفيذية»، ومنها مبادرة السادات لفتح قناة السويس وإشكالية الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية وليبيا «التي فاجأنا بها»، هذا إضافة إلى سلسلة الاتصالات التي كان يجريها وحده مع المسؤولين الأمريكيين، وكان «بعض هذه الاتصالات يتم بمساعدة الاستخبارات الأمريكية الموجودة في السفارة الإسبانية بعد قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة».

من هذا التحوُّل الذي بدأه السادات، استكمل عمليته الإنقلابية، فنفّذ حملة اعتقالات بحق المجموعة المحيطة بالرئيس عبد الناصر، أو ما عُرف بأحداث 15 أيار/مايو 1971. (يذكر فايق أن السادات أبلغ قبل اعتقاله هذه المجموعة لكل من الأمريكيين والرئيس حافظ الأسد). فيروي بالتسلسل كيفية حصول أحداث ذاك اليوم، بالإشارة إلى ما أخبره به وزير الداخلية شعراوي جمعة بأن مكتب السادات أبلغه بالإقالة من منصبه تحت مسمى استقالة، فكان أن «عَمَدنا نحن المجموعة إلى تقديم استقالاتنا»، وعندما كنت في منزل شعراوي جمعة وصل أشرف مروان وقال إنه كان موجودًا في مجلس السادات عندما أذيعت اخبار الاستقالات، وإن السادات قال إنه سيعلن أن هذه الاستقالات جاءت بعد زيارة روجرز، وأن هذه المجموعة لا تريد علاقة مع أمريكا، وهنا تدخل هيكل قائلًا إن مثل هذا الإعلان سيجعل الشارع متعاطفًا مع هذه المجموعة، والأفضل أن نجعل من الديمقراطية هي نقطة الخلاف.

وإذ ينفي فايق قطعيًا بوجود «أي تآمر من هذه المجموعة» فإنه يؤكد أن «السادات هو من خطّط ودبّر لهذا اليوم كما اعترف بعد ذلك في حديث أدلى به إلى موسى صبري». كما يبيّن فايق بالأدلة أن وقائع التحقيقات التي انتهى إليها النائب العام لم تكن مُرْضية للرئيس السادات»، فتمّ «نقل القضية من النيابة العامة إلى مدع عام اشتراكي وتكليفه بالقضية الذي اجتهد بتوصيف جديد لجريمة الاستقالات التي قام بها الوزراء، وأنها تهدف إلى إحداث انهيار دستوري يطيح الحكم، وبالتالي يمكن توجيه تهمة الخيانة العظمى إلى هذه المجموعة». صدرت الأحكام، ونُقلنا جميعًا إلى السجن الحربي و«كان الحُكُم عليّ بالسجن 10 سنوات في سجون السادات». وعن هذه السنوات، أجاد فايق في توصيفه ليوميات السجن، والعلاقات التي تحكم بين نزلائه، ومع نفسه، «وكيف أتجنب ما يطلق عليها بصمة السجن»، و«عدم اليأس من الحياة»، و«إيجاد نوع من فلسفة مقاومة السجن، وزيادة القدرة على تحمّله».. لذلك، «كانت القراءة أهم شيء في حياة السجن»، وهكذا «تم إعداد كتاب عبد الناصر والثورة الأفريقية، وأمكن إخراجه على دفعات وطُبع ونُشر في بيروت، كما ظهر على شكل حلقات في ثلاث صحف عربية: السفير (بيروت)، والخليج (الشارقة)، وجريدة الاتحاد الاشتراكي (المغرب)»، و«ذلك كله وأنا ما زلت في السجن». إضافة إلى القراءاة والكتابة، ينقل لنا بعض روايات تخفف من وقع حياة السجن، كلجوئه إلى «صناعة الخبز»، وأعمال النجارة، والفلاحة لإنشاء حديقة صغيرة، وكيفية إخفاء جهاز الراديو، والقلم ..

وبتاريخ 15 أيار/مايو 1981 انتهت مدة سجني، «وبذلك أكون قد قضيتها بالكامل»، مع التذكير هنا برفض فايق للاعتذار مقابل خروجه من السجن بعد مرور خمس سنوات لقناعته ببراءته وظلم الأحكام التي صدرت بحقه وحق زملائه.. بعد خروجه من السجن «كان عليَّ أن أفكّر في عمل أستطيع أن أعيش منه»، فكانت «فكرة تأسيس دار نشر» واخترت لها اسم «دار المستقبل العربي للنشر والتوزيع»، ولكن «يبدو أن «إنشاء دار نشر أغضب السادات»، فكان اعتقالي الثاني بعد خروجي من السجن بثلاثة أشهر، واعتقال آخرين من قيادات حزب التجمع، والناصري، والجماعات الإسلامية، وأيضًا محمد حسنين هيكل، «وكان لقائي معه في السجن هو أول لقاء لنا بعد أحداث أيار/مايو 1971 التي وقف فيها هيكل مع السادات. كان اللقاء وديًّا جدًا، وقال هيكل في بداية اللقاء «عندما رحل عبد الناصر أخطأنا جميعًا». لم أجادله في هذه العبارة».

في هذه الحقبة، يشير فايق إلى تدهور شعبية السادات التي بلغت قمتها بعد حرب تشرين الأول/اكتوبر 1973، وإلى عودته من زيارته الأخيرة إلى واشنطن «وهو مقتنع بأن الأمريكيين قد تخلوا عنه تمامًا، وهذا ما قاله للسيدة جيهان». وفي السجن «حدث اغتيال الرئيس السادات، ونحن لا ندري»، وبعد ثلاثة أشهر في السجن «وجدنا أنفسنا ندخل قصر العروبة التابع لرئاسة الجمهورية، وما هي إلّا دقائق معدودة حتى دخل علينا الرئيس حسني مبارك». وبعد انتهاء اللقاء «أبلغنا أننا أصبحنا طلقاء».

في الانتقال إلى العهد الجديد، يذكر فايق الزيارات/ المهمات التي كلّفه الرئيس مبارك القيام بها وخاصة إلى رؤساء دول عربية ومن بينهم الرئيس حافظ الأسد وياسر عرفات (لقد أبلغ فايق كاتبة هذه السطور وكنت في صحيفة السفير وأتابع الشأن الفلسطيني عن البنود التي عمل عرفات على تعديلها في ميثاق م.ت.ف بما يسمح له الدخول إلى مؤتمر مدريد. ونُشرت على الصفحة الأولى من الجريدة العام 1989)، إلى جانب مزاولة العمل في دار النشر التي أسسها، وتأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ودوره في المجلس القومي لحقوق الإنسان.

خلاصة

ثمة ملاحظة شخصية وتتعلق بالصورة الهادئة الدبلوماسية لشخصية محمد فايق يفترضها من يعرفه بأنها تتناقض مع مهمات دخل فيها ونجح، ألا وهي ميدان الاستخبارات! ما يُثبت أن العمل الاستخباري/الأمني يحتاج إلى مهارة عقلية وليست «بالعضلات».

– ربما لا يستطيع فايق تسجيل كل ما حصل في ستة عقود من انخراطه في العمل السياسي والعام، وفي أهم وأخطر مراحل مرّت بها الأمة العربية، وعلى الصعيد العالمي، ولكن، يمكنني الإشارة إلى غياب تقييمه الشخصي والمزيد من الكشف عن وقائع ما تزال تشغل البال، ومنها: استمرار المشير عبد الحكيم عامر في منصبه بعد «نصف محاولة الانقلاب العسكري على عبد الناصر عام 1962» كما أخبرهم عبد الناصر شخصيًا، أو في تفسيره لسبب نفوذ عامر في مؤسسة الجيش، وتحليل شخصيته بما يشفي الغليل.. ومثله استمرار السادات/اللغز… وهل تكفي إشارة فايق إلى «الجزء الصعيدي من شخصية عبد الناصر» كي تفهم؟!

– ثمة ملاحظة تستوجب التوقف عندها، وهو المرور السريع، وبرؤوس أقلام عند قضايا مهمة، فاكتفى بذكرها كأحداث جرت، مع أن لتقييمه وشهادته حدًّا فاصلًا لو فعل!

– لا يعني ذلك غياب تسجيل ملاحظاته الجريئة، ومنها الاعتراف بخطأ سحب القوات الدولية قبيل حرب الـ 67، و«مخاوفه» من المشير عامر في إثر الهزيمة من أن يقدم على احتلال الإذاعة!!، ومنها أيضًا إشارته إلى دور هيكل في اعتقال تعسفي لرفاق عبد الناصر (حادثة 15 أيار)، مع تغييبه عنّا كقرّاء دور أشرف مروان كجاسوس؟!

– لم يكشف فايق الكثير مما يعلم، مما يدلل على شخصيته «الفائقة» الدبلوماسية/الاستخباراتية!.

– يبقى أن هذه المذكرات تغني في الكثير من جوانب الحياة السياسية في مصر، واكبها فايق بدءًا من عهد الملك فاروق، وصولًا إلى يوم رحيله.