مقدمة:

عندما قررت بريطانيا التخلي عن مستعمراتها في شرق السويس، التي كانت الإمارات وقطر جزءاً منها، كانت الشكوك تراود الكثير من المراقبين حول إمكانيّة تحول هذه المشيخات إلى كيان واحد، وحتى في حال قيام هذا الكيان كانت المراهنات على أنه لن يتصف بالديمومة والاستمرارية، وعلى الرغم من أن أبناء المنطقة كانوا يتطلعون إلى اتحاد تساعي يضم كـلاً من البحرين وقطر إضافة إلى الإمارات السبع، إلا أن الإرث التاريخي للخلافات الحدودية مع الدول الإقليمية، ونفوذ القوى العالمية، لم يساعد إلا على ولادة اتحاد سباعي، مكون من أبوظبي ودبي والشارقة وعجمان ورأس الخيمة والفجيرة وأم القيوين، وذلك في عام 1971، في الوقت الذي أعلنت كل من قطر والبحرين استقلالهما قبل ذلك.

في هذا البحث، سنسلط الضوء على مدى ما حققته كل من دولتي الإمارات وقطر على الصعيدين التنموي والأمني منذ نشأتهما، وطبيعة التحديات التي تواجههما، وكيفية تعامل حكومتيهما مع الربيع العربي، ونختم حديثنا ببعض المرتكزات الإصلاحية للسنوات المقبلة. وفي اعتقادنا أن تحليلنا والاستنتاجات التي سنخرج بها يمكن اعتبارها ذات صلة ببقية البلدان العربية، وبخاصة النفطية منها، لأنها تعبِّر عن مأزق التنمية القطرية. ينقسم البحث إلى مقدمة وخمسة أجزاء وخاتمة. ففي الجزء الأول نتوقف عند الولادة المتعسرة لهذين الكيانين في بداية السبعينيات، وفي الجزء الثاني نتحدث عن هشاشة البيئة المؤسسية في الدولتين منذ نشأتهما، وفي الجزء الثالث نسلِّط الضوء على قيود وآثار التنمية القطرية في الدولتين، أما في الجزء الرابع، فنحاول تحليل تداعيات الربيع العربي عليهما، وفي الجزء الخامس والأخير نختم حديثنا باقتراح بعض مرتكزات الإصلاح في الدولتين في السنوات المقبلة.

أولاً: الولادة المتعسرة

جاءت ولادة دولة الإمارات العربية المتحدة في ظل متغيرات إقليمية وعالمية كان لها أثر في طبيعة المولود الجديد. فقد أعلنت الحكومة البريطانية في 4 كانون الثاني/يناير عام 1968 عزمها الانسحاب من منطقة شرق السويس التي كانت تسيطر عليها، بما فيها مشيخات الساحل المتصالح كما كان يطلق عليها حينئذ، على أن يتم الانسحاب ومعه تعهدات الحكومة البريطانية الدفاعية لهذه المشيخات مع حلول شهر آذار/مارس عام 1971. ولم يكن مستغرباً أن يقلق شيوخ الإمارات وقطر نتيجة لهذا القرار ويسعون من غير جدوى إلى الضغط على بريطانيا من أجل التراجع عنه، حتى لو تطلَّب ذلك تكفُّلهم بمصاريف القوات البريطانية في المنطقة نظراً إلى الانعكاسات السلبية لهذا القرار على أمن مشيخاتهم‏[1].

في البداية شجعت الحكومة البريطانية مشيخات الساحل بما في ذلك البحرين وقطر على تشكيل كيان يملأ جزءاً من الفراغ الذي سيتركه انسحاب القوات البريطانية من المنطقة، ولكن جهود الحكام لتأسيس اتحاد تساعي لم يتكلل بالنجاح لأسباب متعددة يتعلق بعضها بخلافاتهم التاريخية (الحدودية)، وبعضها ناتج من التأثر بالضغوط الإقليمية (من قبل إيران والسعودية)، لأن إيران كانت تطالب بالبحرين وجزيرة أبو موسى التابعة لإمارة الشارقة وجزيرتي طمب الكبرى والصغرى التابعتين لإمارة رأس الخيمة، بينما كانت السعودية في خلاف مع إمارة أبوظبي على ما عرف تاريخياً بـ«قضية البريمي»، كما أن البعض الآخر من هذه الخلافات كان يعود إلى التدخل البريطاني في مداولات ومشاورات هؤلاء الحكام بعضهم مع بعض واستخدام ورقة نفوذها معهم من أجل الحفاظ على مصالحها في المنطقة، ما أدى إلى الفشل في إقامة اتحاد تساعي كانت تمليه الضرورات الأمنية والتنموية لهذه المشيخات‏[2].

وبعد فشل الاتحاد التساعي استمرت الجهود من أجل تأسيس اتحاد من غير البحرين وقطر، أي اتحاد سباعي، إلا أن هذا الاتحاد لم تكن ولادته سهلة كذلك لثلاث عقبات ألقت بظلالها على مساره حتى يومنا هذا، مع تفاوتٍ في درجة أهمية كل عقبة، وهي الجزر الإماراتية التي احتلتها إيران ليلة انسحاب القوات البريطانية من المنطقة، وقضية واحة البريمي بين السعودية وأبوظبي، التي تم التوصل إلى اتفاق هش حولها عام 1974، والإرث الذي خلَّفته بريطانيا، وبخاصة المتعلق منه بقضايا التنمية والأمن. وقد تأكد للباحث من خلال تتبع الوثائق القديمة والحديثة لقضيتي الجزر مع إيران، وواحة البريمي مع الشقيقة السعودية، أن الصراع حولهما وما تبعه من حلول لم تحكمهما الحقوق التاريخية ولا المبادئ، وإنما كان نتيجة لتغيُّر موازين القوى بين الإمارات من جانب، وكل من إيران والسعودية من جانب آخر‏[3].

أما قطر فلم تواجه تحديات كبيرة في ما يتعلق بالحدود مقارنة بالإمارات، وإن كانت لا تختلف عنها في طبيعة الإرث الذي تركته بريطانيا؛ فبريطانيا، وعلى عكس ما فعلته في الهند وبقية المستعمرات مثـلاً من تأهيل لسكان المستعمرات للاستقلال، كان سلوكها في المشيخات يتصف بالشح والمركزية. فعلى الرغم من أنها مارست وصاية تامة على هذه المشيخات في ما يتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية، أو باستخدام الموارد، إلا أنها لم تكن حريصة على إقامة مشروعات تنموية، كالانفاق على التعليم والصحة والطرق، أو تطوير جهاز إداري كما فعلت في الهند، إلا بعد أن بادرت جامعة الدول العربية في ظل المد القومي العربي بإبداء الاستعداد لتقديم المساعدات التنموية بكل أشكالها. وهنا بادرت بريطانيا إلى تقديم بعض المساعدات من باب إبعاد هذه المشيخات من التقارب مع بقية البلدان العربية‏[4]. كما أنها لم تهتم بالأمن الداخلي بين المشيخات، وبينها وبين بقية الدول المجاورة لها، إلا عندما تم اكتشاف النفط، فأنشأت ما عُرف بـ «قوة ساحل عمان» في الإمارات لحماية شركات النفط وعمليات التنقيب عنه، وقد أصبحت هذه القوة لاحقاً نواة لجيش اتحاد الإمارات‏[5].

ثانياً: هشاشة المؤسسات

تشير أحدث الدراسات الإمبيريقية ودراسات الحالات، إلى أن المؤسسات تتفوق، من حيث أثرها الإيجابي في كل من الاستقرار والازدهار، على بقية محددات التنمية كالموارد البشرية والمادية والتجارة، وحتى تأثير الموارد والتجارة يكون ضئيـلاً في غياب المؤسسات النوعية بأشكالها في المجتمع‏[6]. غير أن مؤسسات اتحاد الإمارات وقطر اتصفت منذ البداية بالهشاشة والضعف، فهي قد ركزت القرار والثروة في أيدي الحكام وحدهم وهمشت دور المواطنين، ما انعكس سلباً على الأداء التنموي والأمني لهذين القطرين عبر السنوات الماضية، وسنذكر هنا بعض الأمثلة المتعلقة بإدارة الثروة وبالحقوق السياسية للمواطنين في دستورَي قطر والإمارات على سبيل المثال لا الحصر. ففي قطر التي استقلت عام 1970 وَضع «القانون الأساسي» كل السلطات التشريعية والتنفيذية وإدارة الثروة في يد الأمير، كما أن للأمير سلطة مطلقة تقريباً في زيادة أو تقليل نفوذه بمراسيم أميرية. أما المجلس الاستشاري فهو اسم على مسمى، أي أنه ليس له صلاحيات تشريعية أو رقابية، وكل ما يقوم به هو مناقشة الموضوعات التي يقدمها إليه الجهاز التنفيذي التابع للأمير‏[7].

أما الإمارات، فقد تبنت عند استقلالها عام 1971، الدستور الذي كان في الأصل دستوراً مقترحاً للاتحاد التساعي، الذي لم يرَ النور، دستوراً مؤقتاً للاتحاد السباعي، وظل يجدد ثم اعتمد دستوراً دائماً عام 1996، وهو دستور يعاني عدة إشكاليات. فالمادة 23 منه، التي تنص على إعطاء كل إمارة السيادة التامة على ثرواتها الطبيعية، أدت إلى ظهور نماذج تنموية على مستوى كل إمارة اتصفت بكثير من الهدر والفساد، كما أنها ساعدت على ظهور فجوة متزايدة في الدخل بين الإمارات الغنية والفقيرة‏[8].

أما الحقوق السياسية للمواطنين، فهي تكاد أن تكون معدومة في هذا الدستور، لأن المجلس الوطني الذي يفترض فيه أن يكون تعبيراً عن سيادة المجتمع، يختار أعضاءه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، الحكامُ أنفسهم، كما أنه مجلس ليست لديه صلاحيات تشريعية أو رقابية، وإنما هو مجلس يطلب منه الحكام، من طريق مجلس الوزراء، تقديم الاستشارات في موضوعات مختارة، وللحكام الأخذ بها أو رفضها‏[9].

وإذا كان هناك من يجد بعض العذر للآباء المؤسسين لتجاهلهم أو تقليلهم من أهمية أخذ إرادة المجتمع في الاعتبار عند كتابة هذه الدساتير، فليس هناك من عذر لإخفاق الجيل الثاني من القيادات السياسية في كل من الإمارات وقطر في تحقيق ذلك، لأن هذا النوع من الشرعية هو وحده قادر على تلبية طموحات الأجيال الصاعدة، وتفعيل دورها في مسيرة التنمية، وذلك بإيجاد مفهوم واحد للمواطنة يتساوى بموجبه جميع أبناء الدولة في الحقوق والواجبات‏[10]. بل إن سجل هذه القيادات الجديدة يشير إلى أنها حرصت على تهميش دور أبناء المجتمع، وعملت على مأسسة النظام الوراثي، وإضعاف البيئة المؤسسية، وعدم السماح بتطور مؤسسات المجتمع المدني، والإفراط في اللجوء إلى المؤسسات الأمنية، وبخاصة منذ بداية الربيع العربي مع تفاوت في الدرجة طبعاً، وهذه كلها سياسات حولت المجتمع إلى ما يشبه الجسد الذي تعطلت كل أطرافه إلا رأسه‏[11].

ثالثاً: قيود التنمية القطرية وآثارها

إن تجارب البلدان العربية خلال السنوات الأربعين الأخيرة، تؤكد من غير أدنى شك، أن التنمية الفعلية والمستدامة لا يمكن تحققها في إطار الدول القطرية الحالية مع تفاوتٍ طبعاً في درجة الإخفاق، ذلك أن التنمية المنشودة تتطلب توافر شروط نادراً ما تجتمع اليوم في دولة عربية واحدة، فالدول ذات الفوائض النفطية كبلدان الخليج العربي تفتقر إلى القوى العاملة وحجم السوق، والدول ذات الأراضي الخصبه كالسودان تفتقر إلى رؤوس الأموال والتقنية، والدول ذات الوفرة السكانية كمصر تحتاج إلى رؤوس الأموال لتدريب وتشغيل هذه المجاميع البشرية، وهكذا دواليك في بقية البلدان العربية، الأمر الذي يستدعي التفكير الجاد في إحياء التكامل الاقتصادي العربي كأحد مداخل التنمية في الوطن العربي خلال السنوات القادمة، وإن تفاوتت درجاته في البداية، ومهما كانت الصعوبات. فالإمارات وقطر مثـلاً لا تعانيان غياب البيئة المؤسسية اللازمة لتحقيق التنمية فقط، وإنما تفتقران كذلك إلى واحد من أهم محددات التنمية، أي العمالة التي تؤثر في الاقتصاد من حيث توفير القوى العاملة المدربة، وكذلك من حيث إيجاد سوق يمثل الطلب اللازم لتدوير عجلة الإنتاج. لذلك كان متوقعاً أن يؤدي تجاهل هذه القيود والمضي في تنفيذ المشروعات التنموية إلى إفراز نماذج تنموية مشوَّهة لا تحقق أهدافها المنشودة، وهذا ما حصل فعـلاً في هذين البلدين وغيرهما من بلدان مجلس التعاون الخليجي عندما وجدت هذه البلدان نفسها أمام فوائض نفطية فلكية منذ بداية السبعينيات ولم تسِر في درب التكامل.

سنحاول في الفقرات التالية التوقف عند أهم آثار هذا النموذج التنموي القطري الذي أخذت به كل من الإمارات العربية وقطر منذ بداية السبعينيات وهي: نمو من غير تنمية؛ اختلال التركيبة السكانية؛ تفاوت الدخل؛ الهدر والفساد؛ تآكل الأرصدة الأجنبية؛ ونختم حديثنا بمقارنة مختصرة بين النموذج السنغافوري والنماذج الخليجية.

1 – نمو من غير تنمية

هناك نمو اقتصادي تنتج منه تنمية ونمو لا تنتج منه تنمية. وهذا النوع الأخير هو الذي لا يزال يتصف به اقتصاد كل من الإمارات وقطر وغيرهما من دول المجلس، ولا يغيِّر من هذه الحقيقة ما ينعم به أبناء المنطقة من مستوى رفاه اقتصادي واجتماعي متقدم، أو حتى معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة أحياناً، لأن هذا الرفاه لا يزال يعتمد على مورد أسعاره متقلبة في المدى القريب، وهو ناضب على المدى البعيد، ما يعني أن هذا الرفاه متذبذب على المدى القصير، وسيتراجع بصورة حادة في حال نضوب النفط وعدم استبداله بمحركات أخرى تحفظ ديمومته، ويمكن تأمل تجارب الدول التي قارب النفط على النضوب فيها كالبحرين مثـلاً، وما نتج منه من تراجع في الدخل، وانعكاسات كل ذلك على استقرار المجتمع. فنموذج دبي الذي استنسخته بعد ذلك كل من أبو ظبي والبحرين وقطر هو نموذج نابع من خصوصية إمارة دبي، وقد مر بمرحلتين: الأولى منذ نشأة الإمارة عام 1833 وكان يرتكز على التجارة بسبب موقع الإمارة وانفتاحها وانخفاض الضرائب فيها، ثم أصبحت له محركات أخرى منذ اكتشاف النفط، منها السياحة والموانئ والتمويل والطيران والألومنيوم والخدمات اللوجيسيتة المختلفة، وقد كان هذا النموذج حتى بداية الألفية الثالثة نموذجاً ناجحاً في ظل معطيات إمارة دبي التاريخية، ولم يكن استنساخه على مستوى دول المنطقة ممكناً لعدم توافر كثير من شروط النجاح التي توافرت له في مدينة دبي، كما أنه من غير الممكن تكرار المشروعات الخدمية نفسها كالتجارة واللوجيستيك والنقل والموانئ وغيرها في منطقة جغرافية محدودة كمنطقة الخليج، لأن هذا يعني كثيراً من الهدر الناتج من ازدواجية المشروعات‏[12].

غير أن حتى هذا النموذج طرأت عليه تطورات منذ بداية الألفية الثالثة أهمها الاعتماد المفرط على القطاع العقاري كقطاع رائد، بدلاً من أن يكون قطاعاً تابعاً لبقية القطاعات، وقد كانت بداية هذا التوسع في السماح للأجانب في عام 2002 بتملك العقار، ومع هذا التملك تم السماح لهم بالحصول على إقامات طويلة المدى في الإمارات. هنا أخذ النموذج مساراً يصعب الدفاع عنه لأنه أصبح شبيهاً بالنموذج الاستيطاني الذي حصل في القارة الأمريكية عندما هاجر إليها الأوروبيون وهيمنوا على سكانها الأصليين، وإن كانت الهجرة إلى الخليج تتم بقرارات فوقية من دون استشارة الشعوب.

وعلى الرغم من الدعاية التي تروّجها بعض الدوائر الغربية لنموذج دبي، إلا أنه أصبح نموذجاً مشوَّهاً، إذا نظرنا إليه من منظور تنويع الهيكل الإنتاجي للدولة، وتوظيف القوى العاملة المواطنة، وكذلك من حيث أثره في هوية المجتمع. وسنتحدث هنا عن أثره في الهيكل الإنتاجي، ثم نتحدث لاحقاً عن انعكاساته على القوى العاملة المواطنة وهوية المجتمع بحسب ما تسمح به البيانات المتوافرة عن كل من الإمارات وقطر‏[13]. فلو تأملنا أهم المؤشرات المعتمدة في الأدبيات الاقتصادية لحصول تحول في الهيكل الإنتاجي للدولة النفطية، وهي نصيب النفط في الناتج المحلي، وفي الصادرات، وفي الإيرادات الحكومية، فإننا لن نجد ما يشير إلى نجاح النموذج التنموي الإماراتي وكذلك النموذج القطري.

بحسب آخر البيانات المتوافرة عن الدولتين، لا يزال النفط يشكل حوالى 32 بالمئة من الناتج المحلي في الإمارات و46 بالمئة من الناتج القطري‏[14]. وحتى هذه النسب التي تؤكد وحدها ريعية هذه الاقتصادات بحسب المفاهيم السائدة في الأدبيات الاقتصادية، إلا أنها لا تعبِّر عن الدور الفعلي للنفط في الاقتصادين المذكورين، وذلك لعدة أسباب، منها أن القطاع النفطي يزود القطاع الصناعي بالطاقة والمدخلات المدعمة، وهو مصدر الطاقة الكهربائية وتحلية ماء البحر، وتمثل إيراداته كذلك مصدر تمويل القطاع الحكومي. ومنها أن القطاع الخدمي الذي توسع في السنوات الأخيرة، وأصبح يمثل نسباً متزايدة في الناتج المحلي تصل إلى حوالى 44 بالمئة في الإمارات مثـلاً، هو قطاع يعتمد على النفط كمحرك له، سواء تعلق ذلك بالسياحة، أو الطيران، أو الموانئ أو الخدمات اللوجيستية، أو الخدمات التعليمية والصحية أو غيرها. أضف إلى ذلك، أن هذا القطاع الخدمي هو قطاع استهلاكي أكثر من كونه إنتاجياً، فهذه الدول مثـلاً تستهلك منتجات تقنية المعلومات كالكمبيوترات وبرامجها ولكنها لا تنتجها.

أما القطاع العقاري فهو معتمد كذلك على الفوائض النفطية، وقد أصبح في السنوات الأخيرة أقرب إلى الورم السرطاني، الذي كان سبباً لعدد من الفقاعات المالية وما يتبعها من ديون، إضافة إلى أنه يعمِّق درجة الخلل السكاني، لأنه يعتمد على العمالة الأجنبية لتشييده، وعلى السكان الأجانب لتشغيله، وبالتالي فإن النمو الناتج منه لا يحقق مكاسب تذكر لأغلبية المواطنين، وقد كان معدل النمو السنوي لهذا القطاع خلال السنوات 2003 – 2007 نحو 24.5 بالمئة في الإمارات و39.2 بالمئة في قطر‏[15].

وما ذكرناه سابقاً من إخفاق بلدان المنطقة في تنويع هياكلها الإنتاجية تؤكده تقارير صندوق النقد الدولي، التي تشير إلى أنه على الرغم من معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة التي حققتها كل من قطر والإمارات وبقية بلدان المنطقة منذ بداية الألفية الثالثة، إلا أن الإنتاجية بوجه عام لم ترتفع، كما أن إنتاجية العمل قد تراجعت خلال فترة الازدهار، وذلك لأن الأنشطة الاقتصادية تركزت في قطاعات تتصف بنمو منخفض في الإنتاجية كالسياحة والتشييد وتجارة المفرق. ولهذا السبب فإن النمو في هذه القطاعات الخدمية لم يستطع تغطية الواردات الخدمية، وهذا ما يفسر العجز في ميزان الخدمات لدولة الإمارات مثـلاً‏[16].

وحتى الخدمات التعليمية المتمثلة بفروع الجامعات الأجنبية هي إما تجارية كتلك التي في دبي، وإما دعائية كتلك التي في أبوظبي وقطر، لأنها تحصل على دعم حكومي باهظ ومساهمة المواطنين فيها منخفضة، إلا إذا كانت الغاية منها تخريج أجانب لإدارة هذه الدول، كما أن هذه المؤسسات لا تخضع للسياسات التعليمية لهذه الدول. ففي أبوظبي مثـلاً تغطي الحكومة تقريباً كل تكاليف فرع جامعة نيويورك، بما في ذلك البعثات التي تقدم إلى الطلبة الأجانب، وأغلبيتهم من الأمريكيين والصينيين والهنغاريين والروس، وهي تكاليف تقدر بمئات الملايين من الدولارات، في الوقت الذي تعاني جامعة الإمارات وغيرها من الجامعات الوطنية شحّاً في الموارد‏[17].

وفي قطر هناك «المدينة التعليمية» التي تحصل على دعم بالمليارات من الدولارات يقدرها البعض بأضعاف مضاعفة لما تحصل عليه جامعة قطر التي تمثل نسبة المواطنين فيها نحو 78 بالمئة، بينما لا تزيد نسبة القطريين في «المدينة التعليمية» على 25 بالمئة من إجمالي الطلبة‏[18]. وتكمن خطورة استمرار اعتماد الناتج غير النفطي الحالي بكل مكوناته على أسعار النفط وإيراداته، ليس فقط في أنه متركز في أنشطة ذات إنتاجية منخفضة، وعدم تحقيقه للتنويع المنشود في الهيكل الإنتاجي، وإنما كذلك لأن حتى هذا الناتج غير النفطي أو الخدمي مهدد بالتراجع في السنوات القادمة بسبب التوقعات ببقاء أسعار النفط منخفضة في أحسن الأحوال أو تراجعها في أسوَئها‏[19].

هذا في ما يتعلق بالمؤشر الأول المتعلق بنصيب النفط في النشاط الاقتصادي، أما المؤشر الآخر المهم في هذا السياق فهو نسبة الصادرات النفطية إلى إجمالي الصادرات، لأن تراجع هذه النسبة يدل على حصول درجة من التنويع في الهيكل الاقتصادي، وفي إيرادات الدولة، وفي بناء المهارات الوطنية، غير أن بيانات عام 2010 تشير إلى بقاء هذه النسب مرتفعة في الدولتين حيث إنها مثّلت نحو 69 بالمئة من صادرات الإمارات و91 بالمئة من صادرات قطر‏[20]. أما الجزء المتبقي من الصادرات فهو إما إعادة تصدير من موانئ الدولتين، أو منتجات صناعية لا تزيد نسبتها في الإمارات مثـلاً على 4 بالمئة من الصادرات، وهي منتجات المناطق الحرة التي تعتمد على العمالة الأجنبية‏[21].

كل المؤشرات السابقة للتنمية مهمة لأنها تقيِّم الأداء التنموي من زوايا الاقتصاد المختلفة، غير أن صفوة هذه المقاييس هي نصيب الإيرادات النفطية إلى إجمالي إيرادات الدولة، فكلما انخفض هذا المؤشر، كان ذلك دليـلاً على تراجع أهمية النفط في اقتصاد الدولة، وزيادة الاعتماد على مصادر أخرى للدخل، وبحسب هذا المؤشر فإن الإيرادات النفطية لا تزال تمثل 77 بالمئة و80 بالمئة من إجمالي الإيرادات في الإمارات وقطر على التوالي‏[22]. كما أن النسب المتبقية من الإيرادات التي تأتي من الجمارك والرسوم وأرباح الاستثمارات وغيرها، هي معتمدة بدورها على النشاط الاقتصادي الذي تولده الإيرادات النفطية‏[23].

باختصار، إن نتائج جهود تنويع الهياكل الإنتاجية في الإمارات وقطر خلال الحقب الماضية ما زالت ضعيفة، أو كما عبر عنها أحد الباحثين الغربيين بقوله: «ما زالت دول مجلس التعاون في وضع بيع موارد الطاقة في الأسواق العالمية، واستخدام عوائدها لاستيراد كل حاجاتها الحيوية تقريباً، وجزء كبير من العمالة. ومن هذا المنظور فإن استراتيجية تنويع الهياكل قد أخفقت إلى درجة كبيرة»‏[24].

2 – تشييد الحجر وتهميش البشر

ليس هناك أكثر إدانة للنموذج التنموي القُطري الذي أخذت به الإمارات وقطر وغيرهما من دول المنطقة، ودليـلاً على ضعف البيئة المؤسسية والرقابة المجتمعية على صانع القرار في هذه الدول، وغياب الرؤية التنموية السليمة لدى قياداتها السياسية، من الاختلال السكاني الذي وصلت إليه هذه الدول اليوم، والذي جعل المواطنين غرباء في بلدانهم. فمنذ بداية السبعينيات من القرن الماضي تراكمت لدى هذه الدول فوائض نفطية فلكية، وبدلاً من أن تتجه إلى التكامل الاقتصادي ببعديه الخليجي والعربي من أجل رفع كفاءة استغلال مواردها، وتحسين موقفها التفاوضي، وتوسيع نطاق السوق، وتنويع مصادر دخلها، اختارت حكوماتها مسارات تنموية قطرية كان لا بد من أن تعتمد بصورة متزايدة على العمالة الأجنبية.

وهكذا بدأت هذه الدول في بداية السبعينيات بتركيبة سكانية أغلبيتها من المواطنين، ثم انتقلت تدريجياً إلى تركيبة سكانية يشكل فيها المواطنون والعرب معاً نسبة لا بأس بها، ثم جاءت أحداث التسعينيات واحتلال العراق للكويت، وأدت تفاعلاتها إلى انحسار تدريجي لنسبة العمالة العربية، وفي الوقت نفسه لم تستطع العمالة المواطنة أن تؤدي دوراً متزايداً بسبب فشل النظم التعليمية، لأسباب بعضها سياسي يتعلق بتخوف هذه النظم من وعي سكانها وانعكاسات ذلك الوعي على تصحيح موازين القوى معها، وبخاصة في ما يتعلق بإدارة القرار والثروة، وبعضها الآخر اقتصادي مرتبط بحرص رجال الأعمال على الحفاظ على ريع مرتفع نتيجة لتوظيفهم للعمالة الآسيوية الرخيصة بدلاً من العمالة المواطنة أو العربية بوجه عام، ولا سيَّما أن أنشطتهم هي جميعها خدمية تتطلب مهارات منخفضة وإنتاجيتها منخفضة.

ها نحن اليوم نرى بعض مظاهر الحصاد المر لهذه السياسات في التركيبة السكانية لهذه الدول‏[25]. ففي الإمارات كان عدد سكان الدولة عند تأسيسها لا يزيد على 180 ألف نسمة أغلبهم من المواطنين، ثم أصبح هذا الرقم يزيد على 8 ملايين عام 2010، لا يزيد عدد المواطنين فيهم على 11 بالمئة، ولا تصل نسبتهم في إجمالي القوى العاملة إلى 8 بالمئة، ولا تزيد مساهمتهم في القطاع الخاص على 1 بالمئة، وهي نسب تزداد سوءاً مع مرور الوقت لأن درجة التشوُّه في النماذج التنموية تزداد سنة بعد أخرى‏[26].

ولو تذكرنا أن تقديرات وزيرة الاقتصاد الشيخة لبنى القاسمي للعام 2006 تشير إلى أن متوسط عدد أيام العمل في القطاع الخاص يعادل 275 يوماً بينما لا يزيد هذا العدد على 180 يوماً في القطاع العام الذي تتركز فيه العمالة المواطنة، لأدركنا ضآلة مساهمة العمالة المواطنة في اقتصاد الإمارات‏[27]. وفي قطر تراجعت نسبة القطريين إلى إجمالي سكان قطر من نحو 40.5 بالمئة عام 1970، إلى نحو 13 بالمئة عام 2011، ولم تزد مساهمة القطريين في إجمالي العمالة على 5.8 بالمئة عام 2010‏[28].

وفي بقية بلدان المجلس تشير أحدث أرقام لصندوق النقد الدولي إلى أنه من بين 5.4 مليون وظيفة تم توفيرها ما بين عامي 2000 و2010 في القطاع الخاص، كان نصيب العمالة الأجنبية منها حوالى 88 بالمئة‏[29].

غير أن المنعطف الذي سارت فيه هذه الحكومات منذ بداية الألفية الثالثة، هو تهميش متعمد للمواطنين وهويتهم وثقافتهم، وكأني بهذه الحكومات تقول لشعوبها: من أجل مصالحي المادية سأغرقكم في محيط من الأجانب حتى لا تفكروا إلا في البقاء. فقد أصدرت أغلب هذه الدول رؤى جديدة (رؤية 2021 في الإمارات ورؤية 2030 في قطر) هي أقرب إلى المعلبات التي أعدتها مكاتب استشارات عالمية لا هَمَّ لها إلا الأرباح، وهي بنكهة وصفات صندوق النقد الدولي التي أخفقت في بقية الدول النامية، كما أنها في جوهرها تقوم على استنزاف الموارد النفطية في طفرات عقارية، تواكبها سياسات الباب المفتوح لهجرة الأجانب وأسرهم والإقامة لفترات طويلة، وهو في الحقيقة نموذج استيطاني، ذلك في دول لا تزيد فيها العمالة المواطنة في المتوسط على 6 بالمئة من إجمالي العمالة، بحسب بيانات 2010 أي قبل تنفيذ هذه الرؤى‏[30]. ويكفي أن نستشهد هنا بمشروعين لإدراك ضخامة هذه المشاريع والغاية منها، فهناك مشروع «مدينة ريم» في أبوظبي الذي تقدر تكاليفه بنحو 40 مليار دولار ويتسع لنحو 280 ألف ساكن؛ وهناك مشروع «واترفرونت» في دبي الذي تقدر مساحته بثلاثة أضعاف مساحة واشنطن دي سي الأمريكية، ويمتد على مساحة قدرها 1.5 مليار قدم مربع، وقد أعَدَّ مخططه المهندس المعماري الهولندي ريم كولهاس صاحب فكرة «المدينة السائبة»، أي المدينة التي لا تاريخ لها، وهذا كما يبدو هو المصير الذي ينتظر بلدان الجزيرة العربية في مقبل السنوات، إذا استمرت هذه المشاريع العقارية‏[31].

وقد واكبت هذه الرؤى تشريعات تسمح للأجانب بتملك العقار كما ذكرنا سابقاً، ومع هذا التملك حق الإقامة طويلة الأمد مع أعضاء الأسرة، بل إن تملك العقار قد تم ربطه في البحرين بأحقية التصويت في الانتخابات البلدية، وتم العمل به في انتخابات عام 2010‏[32]. وقد بدأت هذه الخطط توضع موضع التنفيذ، وإن كانت الأزمة المالية الأخيرة، قد جاءت على شكل منحة، أدت إلى تأجيل بناء بعض هذه المجمعات العقارية الموجهه في معظمها للجوالي غير العربية؛ حيث إن إحصاءات المشترين في دبي لعام 2006 تشير إلى أن نصيب هؤلاء المشترين يصل إلى 72 بالمئة‏[33]. وهذه الخطوة بلا شك تشكل منعطفاً خطراً يحمل في طياته كثيراً من الأخطار التي قد تصل إلى حد فصل جزيرة العرب عن محيطها العربي والإسلامي، وتحويلها إلى منطقة متعددة الأعراق والثقافات وطمس هويتها، وهذا أمر جدير بالتأمل من قبل أبناء هذه المنطقة؛ فالمسألة لم تعد قضية تسرب أموال إلى الخارج، أو تَشوُّه محدود للثقافة، أو تنوع وتعدد الجرائم، وإنما أصبحت قضية وجود أو عدمه لأبناء المنطقة. ولا أستغرب إذا استمر هذا المسار التنموي أن يكون مصير أبناء هذه الدول شبيهاً بمصير السكان الأصليين، أو الهنود الحمر، في القارة الأمريكية نتيجة للهجرات الاستيطانية من أوروبا. فلهذا الاختلال السكاني الناتج من هذه الرؤى تكاليف اقتصادية وسياسية وأمنية وثقافية متعددة على أبناء المنطقة فصَّلنا فيها في مكان آخر‏[34].

3 – تفاوت الدخل

من الطبيعي، في ظل حكومات تحتكر القرار والثروة وفي غياب المساءلة، وكذلك في ظل الدساتير الحالية التي تترك لكل حاكم حرية التصرف في موارد الدولة، أن تكون هناك فجوة في الدخل داخل كل دولة وبين إمارات الدولة الواحدة كما في حالة الإمارات. وبما أن بيانات توزيع الدخل في كل إمارة من الإمارات وفي دولة قطر غير متوافرة، فإننا سنعتمد على البيانات الشحيحة لتوزيع الدخل بين الإمارات للتدليل على الآثار السلبية للنموذج التنموي الحالي في الإمارات وقطر. فبحسب هذه البيانات الصادرة من صندوق النقد الدولي حول دخل الفرد في الإمارات السبع خلال الفترة 2000 – 2007 فإن هناك فجوة دخل كبيرة بين الإمارات الغنية كأبوظبي وبعدها دبي وبقية الإمارات، وهي وللأسف فجوة في تزايد. ففي الوقت الذي كان فيه دخل الفرد في الإمارات ككل يساوي 86137 درهماً عام 2000، كان دخل الفرد في أبو ظبي يعادل نحو 143161 درهماً، في حين كان دخل الفرد في عجمان ينخفض إلى حوالى 26013، أي أن دخل الفرد في أبو ظبي كان يعادل تقريباً خمسة أضعاف ونصف الضعف دخل الفرد في عجمان‏[35].

وتشير البيانات نفسها إلى أن فجوة الدخل بين الإمارات الغنية والإمارات الفقيرة هي في اتساع، حيث أصبح دخل الفرد في أبو ظبي عام 2007 أكثر من ستة أضعاف دخل الفرد في عجمان، بعد أن كان يعادل خمسة أضعاف ونصف الضعف. وهذه النتائج يمكن التوصل إليها بمقارنة دخل الفرد في كل من دبي ثاني أغنى إمارة، وأم القيوين لعامي 2000 و2007‏[36].

هذا التفاوت المتزايد في الدخل يعود في اعتقادنا إلى أسباب كثيرة؛ منها تفاوت حجم موارد كل إمارة، ومنها إعطاء كل إمارة الحرية في الحفاظ على مواردها الطبيعية كما تنص المادة 23 من الدستور، ومنها كذلك تراجع دور المؤسسات الاتحادية. ونحن وإن كنا لا ننكر أن تفاوت الموارد بين الإمارات هو هبة من الخالق، ولكن ما نعترض عليه هو أن يتم تقنين هذا التفاوت من خلال دستور الدولة؛ وبخاصة المادة 23، التي تبقي القرارات المتعلقة بهذه الثروة لدى كل إمارة على انفراد، وهي بذلك تقلص موارد المؤسسات الاتحادية وقدرتها على إيجاد تنمية متوزانة تحقق العدالة الاجتماعية بين جميع أبناء الدولة. فهذه المادة وللأسف كانت سبباً في سلوك كل إمارة مساراً تنموياً مستقـلاً محركه التوسع العقاري الذي لم يحقق تنويعاً يذكر في اقتصاد الدولة في الوقت الذي أدى فيه إلى إغراق المجتمع في محيط من العمالة الوافدة وتهميش مستوى معيشة الإمارات الفقيرة.

كما أن هذه المادة كانت مبرراً للقيادات المتنفذة في كل إمارة لكي تحول الثروات العامة إلى أملاك شخصية، وفي ظل غياب الرقابة المجتمعية الذي ذكرناه خلال حديثنا عن البيئة المؤسسية الهشة، أدت هذه السيطرة المحلية على ثروات كل إمارة إلى كل أشكال الفساد، فقد شهدت السنوات الأخيرة عملية ردم للبحر في الإمارات وفي كثير من دول المجلس، وقد آلت ملكية هذه الأراضي إلى أهل النفوذ الذين حصلوا عليها مجاناً أو بأسعار زهيدة، ثم استخدموها لإيجاد مجمعات عقارية وبيعها أو تأجيرها لتحقيق مزيد من الثروة على حساب بقية شرائح المجتمع، التي لم يكن لها دور في تحديد ملكية هذه الأراضي، ولم يصلها شيء من المغنم الذي حققته القيادات السياسية ومن يدور في فلكها من هذا التعدي على الأملاك العامة‏[37].

إضافة إلى تفاوت موارد الإمارات وتركيز سلطة القرار حول الثروات الطبيعية في كل إمارة، تعود فجوة الدخل الحالية إلى تراجع دور المؤسسات الاتحادية مقارنة بالسنوات الأولى من عمر الاتحاد، فقد كان كل من الشيخ زايد والشيخ راشد – عليهما رحمة الله – أكثر فهماً وإحساساً بقضية عدالة توزيع الثروة داخل كل إمارة وبين الإمارات، وإن اختلفت وسائلهما في تحقيق ذلك‏[38]. لذلك كان دور المؤسسات الاتحادية التنموي في السنوات الأولى واضحاً في توفير البنية الاجتماعية، كالمدارس والجامعات والمستشفيات والتوظيف وتوفير المكافآت الاجتماعية والدعم بأشكاله، وهي كلها وسائل مباشرة وغير مباشرة للارتقاء بمستوى معيشة المواطن وتقليل فجوة الدخل المعيشية بين أبناء الوطن الواحد.

غير أن هذه الروح الاتحادية في الإمارات خفَّت منذ غياب الجيل المؤسس للدولة وظهور قيادات منغمسة في المصالح الشخصية ومتجهة إلى نماذج تنموية محلية مشوَّهة عمادها التوسع العقاري والمضاربات في الأسواق. ومع هذا التوجه الجديد تراجعت مساهمة إمارة أبو ظبي في الميزانية الاتحادية إلى 3 بالمئة من ناتجها، بينما تراجعت مساهمة إمارة دبي إلى أقل من 1 بالمئة من ناتجها‏[39].

ومع هذا التراجع في دور الإمارات الغنية في الموازنة الاتحادية، بدأ التراجع في توفير كثير من الخدمات كالصحة والتعليم والتوظيف ودعم الكهرباء والوقود، وكانت هناك بوادر تذمر من هذه التغيرات تم استيعابها بالجزرة والعصا معاً‏[40]. وقد يكون من أهم الانعكاسات السلبية لهذا التفاوت في الدخل بين الإمارات إضافة إلى التفاوت في نوعية الخدمات، هو تفاوت معدلات البطالة فيها، فبينما يبلغ معدل البطالة في الدولة ككل نحو 14 بالمئة بحسب البيانات المتوافرة، فإن هذه النسبة تصل إلى أكثر من 20 بالمئة في بعض الإمارات الشمالية كالفجيرة ورأس الخيمة‏[41].

وفي بداية آب/أغسطس عام 2015 قررت حكومة الإمارات رفع الدعم عن وقود السيارات الذي كانت تكلفته السنوية بحسب صندوق النقد الدولي تصل إلى 7 مليارات دولار‏[42]. وهناك كذلك توجه لدى الحكومة لفرض ضريبة على القيمة المضافة. ونحن وإن كنا لا نعترض على هذه السياسات (سواء سحب الدعم، أو فرض الضرائب) لأنها ستؤدي إلى ترشيد الاستهلاك، وتوليد إيرادات، وهي كذلك تمثل لبنات ضرورية في بناء نظام ضريبي تحتاج إليه الدولة؛ وبخاصة مع تراجع دور النفط، إلا أننا نعتقد أن كفاءة هذه الضرائب وعدالتها تتطلب أن تكون هناك شفافية تامة في الموازنات المحلية والاتحادية، ليطمئن المواطن إلى أن إيرادات الدولة ونفقاتها ليست عرضة للعبث والفساد بأشكاله، كما أنه لا بد من التأكد من أن هناك استثناءات للفئات الفقيرة في المجتمع من هذا العبء الضريبي حتى لا تتضرر معيشتها، بينما غيرها يهدر الثروة في وجوه ما أنزل الله بها من سلطان، وكلا المطلبين؛ أي العدالة والكفاءة في السياسات المالية، يصعب تحققهما في ظل حكومات غير مساءلة من جانب مواطنيها‏[43].

4 – الهدر والفساد

عندما يغيب مفهوم المواطَنة الواحدة في الدستور، وما يعنيه هذا المفهوم من تساوي أبناء المجتمع في الحقوق والواجبات، وضرورة عدم التمييز بينهم إلا على أساس الجدارة والإخلاص، فإنه من الصعب إدارة موارد المجتمع بكفاءة وعدالة تقود إلى تنمية فعلية، بل إنه من المتوقع في بيئة كهذه أن يتفشى الفساد بأشكاله، والهدر بدرجاته، وبخاصة مع وجود فوائض نفطية فلكية‏[44]. فاليوم وبعد مرور أكثر من أربعين عاماً على تأسيس هذه الدول، لا تزال الأسَر الحاكمة تقتطع مبالغ من الموارد العامة، وهذا الاقتطاع يظهر على شكل فجوة بين صادرات الدولة النفطية، وما يظهر منها في الموازنات العامة، وهو ما يمكن تسميته «مؤشر النهب»، ويقدره علي خليفة الكواري في عام 2007 بنحو 14.6 مليار دولار، أو 17.3 بالمئة من الصادرات النفطية في الإمارات، ونحو 20.5 مليار دولار، أو 50.4 بالمئة من قيمة الصادرات النفطية في قطر‏[45].

أما المظهر الثاني للفساد الناتج من غياب مفهوم المواطنة الواحدة فيتعلق بتقلد المناصب الذي لا يعتمد على الجدارة والإخلاص بقدر اعتماده على الانتماء إلى الأسرة الحاكمة أو الولاء لها، حتى ولو تضارب هذا الولاء مع ما تحتِّمه مصلحة الوطن‏[46].

والمظهر الثالث لهذا الفساد هو التداخل غير المقدس بين القطاع العام والقطاع الخاص، فتركز الإيرادات النفطية في خزينة الدولة يدفع القيادات السياسية في غياب الرقابة المجتمعية إلى أن تجعل من هذه الثروات آلية للإبقاء على الأوضاع الراهنة؛ فهي توزع المشروعات على الموالين من رجال الأعمال، كما توزع المناصب الرسمية على المؤيدين من المثقفين والإعلاميين وغيرهم، بل إن نسبة كبيرة من رجال السياسة أصبحوا رجال أعمال، ونسبة كبيرة من رجال الأعمال يتقلدون مناصب رسمية أو شبه رسمية، بينما خريجو الجامعات ينتظرون سنوات للحصول على وظائفهم. لذلك ليس مستغرباً أن يظل القطاع الخاص طفيلياً وغير منتج، وكل ما يقوم به هو دور السمسار الذي يروِّج المنتجات الأجنبية، وليس له دور في تنمية المجتمع من خلال التوظيف أو التدريب أو دفع الضرائب أو استنبات التقنية. وهذا واقع يختلف عن دور رجال الأعمال أيام اقتصاد اللؤلؤ الذي كان فيه دور التجار وشيوخ القبائل هو الدور الأهم، وكانت الأسر الحاكمة تعتمد على طبقة التجار وغيرهم من أبناء المجتمع، وترضخ لإجماعهم في كل الأمور، لأنها كانت معتمدة على هذه الشرائح، ليس فقط في إيراداتها، وإنما كذلك في أمنها وبقائها، ذلك قبل مجيء القواعد الأجنبية طبعاً‏[47].

أما المظهر الرابع لهدر الموارد في هذه البلدان فهو الإنفاق العسكري الذي لا يتم في إطار رؤية أمنية خليجية أو عربية واضحة لطبيعة الأخطار، وإنما هو نتيجة ضغوط الدول الكبرى ورغبة سماسرة السلاح المحليين بتعظيم نصيبهم من الريع النفطي. فأحدث البيانات تشير إلى أنه من بين أكثر عشر دول في العالم من حيث الإنفاق العسكري للفرد الواحد خلال الفترة 2000 – 2011، هناك خمسة بلدان خليجية هي على التوالي: الإمارات، والكويت، وقطر، وعمان، والسعودية‏[48]. فلو أن هذين البلدين وغيرهما من بلدان المجلس سلكت مسلكاً تكاملياً في رؤيتها الأمنية، لكان إنفاقها على التسلح أقل مما هو عليه الآن، ولكانت أكثر أمناً، ولوفرت موارد لتحقيق تنمية فعلية في المنطقة تعالج الفقر والبطالة وتقلل فرص العنف، وتحقق نتيجة لذلك الأمن بمفهومه الشامل.

أما المظهر الخامس والأخير من مظاهر الفساد في هذه البلدان فهو حجب المعلومات التفصيلية، وبخاصة حول المتغيرات المهمّة المتعلقة ببنود الإنفاق، والتركيبة السكانية، والاستثمارات الأجنبية وغيرها من البيانات، التي يعتبر توافرها شرطاً لتقييم أداء الحكومات، ومدى ما حققته أو أخفقت في تحقيقه. وإذا كان لهذا التكتّم على البيانات أسباب تاريخية في السابق، فإن ندرة هذه البيانات في السنوات الأخيرة تعود إلى قرارات سياسية تهدف إلى كتم الحقائق، وبخاصة المتعلقة منها بحجم السكان الأجانب في هذه الدول، والمتعلقة بإخفاق هذه الحكومات في توطين الوظائف، كما تشير إلى ذلك النسب المتزايدة للبطالة ولا سيَّما بين خريجي الجامعات‏[49]. كما أن نشر البيانات الأخرى وبخاصة المتعلقة منها بالكيفية التي تنفق بها أو «تنهب» بها ثروات المجتمع. بمعنى أدق، سيكشف حجم الفساد الذي تعانيه هذه الدول ودور النخب الحاكمة فيه‏[50].

5 – تآكل الأرصدة الأجنبية

من جانب آخر، تعتبر الفوائض النفطية المتراكمة للإمارات وقطر التي تدار من جانب الصناديق السيادية، وسيلة من وسائل تنويع الدخل، ولكنها في الوقت نفسه انعكاس لخلل في السياسات النفطية، حيث كان ولا يزال من الأفضل لهذه الدول أن لا تنتج نفطاً أكثر من طاقتها على استيعاب إيراداته، لأن بقاءه في باطن الأرض يحقق عائداً متزايداً من هذه الثروة، وبخاصة في ظل نضوب النفط في المناطق الأخرى من العالم، وحتى في ظل الاكتشافات من النفط غير التقليدي بأشكاله الذي يمثل في اعتقادنا ظاهرة وقتية لن يزيد عمرها على 25 عاماً على أكثر تقدير بسبب إشكالات المخزون والبيئة والتقنية التي يثيرها هذا النوع من النفط‏[51].

كما أن الفوائض النفطية المتراكمة هي نتيجة المدخل التنموي القطري الذي سلكته هذه الدول وغيرها من الدول النفطية، فلو أن هذه الفوائض استُثمرت في إطار رؤية تنموية عربية شاملة لكان عائدها كبيراً، سواء كان ذلك في الإنفاق على مشروعات البنية الأساسية بين البلدان العربية، أو بتوفير الخدمات الصحية والتعليمية التي ترفع إنتاجية الفرد العربي، أو عبر مشروعات عربية مشتركة في الزراعة والصناعة والسلاح وتقنية المعلومات أو غيرها من القطاعات.

لذلك، وفي ظل تحويل الثروة النفطية الناضبة إلى أصول مالية، ومع غياب الرؤية التنموية العربية الموحدة، تم توجيه هذه الأصول إلى أسواق المال الغربية، حيث بقيت هذه الثروة الورقية تحرك الاقتصادات الغربية، وتساعد على علاج أزماتها المالية، وتدار من قبل خبرائه، وتتصف بالسرية والكتمان، ولكنها لا تحقق أياً من أهداف التنمية المستدامة في المنطقة، كما أنها بقيت تتعرض لتقلبات الدولار والتضخم، وانخفاض العائد، وظلت هذه الاستثمارات كذلك مثاراً للشكوك والتخوف من جانب الأوساط الغربية لاعتبارات سياسية وأمنية، الأمر الذي جعلها عرضة لجميع السياسات، التي قد تتبناها تلك الحكومات كالتقييد والتجميد وحتى المصادرة؛ فقد هددت الولايات المتحدة بتجميد الثروات العربية بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001‏[52].

وقد تعرضت هذه الاستثمارات الورقية عبر السنوات الماضية لكثير من الخسائر، فبحسب بعض المصادر، فإن جهاز أبوظبي للاستثمار الذي يعتبر أكبر صندوق سيادي في العالم من حيث حجم الأصول، قد خسر نحو 40 بالمئة من أصوله خلال الأزمة المالية لعام 2008‏[53]. وحتى المبالغ الزهيدة التي استثمرتها هذه الصناديق السيادية في بعض البلدان العربية كانت نسبة 50 بالمئة منها في العقارات والسياحة، ولم تتجه إلى مشروعات التنمية الفعلية‏[54]. واليوم وبحسب بيانات عام 2012 ونتيجة للطفرة النفطية الأخيرة، فإن الأصول المالية المستثمرة من قبل الصناديق السيادية لدول مجلس التعاون الخليجي الست تقدر بنحو 1659 مليار دولار موزعة على النحو التالي: الإمارات 783 ملياراً، السعودية 478 ملياراً، الكويت 296 ملياراً، قطر 85 ملياراً، البحرين 9 مليارات، وعمان 8 مليارات، ولن يكون مصيرها مختلفاً عن مصير الأرصدة السابقة إذا استمر المسار التنموي الحالي‏[55].

6 – النموذج السنغافوري والنماذج الخليجية

يطيب للبعض أن يقارن بين نماذج التنمية الخليجية الحالية وبين النموذج السنغافوري، من غير أدنى تدبُّر للفوارق بين هذين النموذجين سواء في الآليات أو النتائج، وفي اعتقادنا أن هناك فوارق جوهرية بين النموذجين جديرة بالتأمل لتطوير النماذج الخليجية‏[56]. أولاً، إن النموذج السنغافوري تبناه حزب حاكم منتخب، وخاضع للمساءلة من جانب المجتمع، ويعمل في إطار مؤسسات قائمة وفاعلة، أما النماذج الخليجية فقد أقرتها قيادات سياسية ليست عليها رقابة مجتمعية، ولا تخضع لأي نوع من المساءلة، أي أن النماذج الخليجية هي تعبير عن رؤى ومصالح القيادات السياسية وحدها‏[57].

ثانياً، يقوم النموذج السنغافوري على اقتصاد معرفي يعتمد على المهارات ذات الإنتاجية العالية، وعلى استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، التي تم استثمارها في مشروعات طويلة المدى، وساعدت على قيام صناعات متنوعة؛ بينما النموذج الخليجي هو نموذج ريعي يعتمد على أموال مضاربة وفرتها الطفرات النفطية، وبالتالي فإن النمو الذي حققه النموذج السنغافوري كان أكثر استقراراً منذ نشأة الدولة، إذ ارتفع متوسط دخل الفرد في سنغافورة من نحو 400 دولار أمريكي عام 1959 إلى نحو 56286 دولاراً عام 2014، بينما ظل دخل الفرد في البلدان الخليجية متذبذباً مع التغيرات في أسعار النفط وإيراداته‏[58].

ثالثاً، يعتمد النموذج السنغافوري بالدرجة الأولى على تنمية قطاعات صناعية ذات إنتاجية مرتفعة وبأيدٍ عاملة مواطنة ومدرَّبة، أي أن التنمية السنغافورية تمت بتعليم المواطنين وتدريبهم على إنزال النموذج التنموي على أرض الواقع بالممارسة، ولم يتجاوز نصيب العمالة الأجنبية في هذا النموذج – في أسوأ الحالات – نسبة 32.8 بالمئة، بينما النماذج الخليجية هي أقرب إلى المشروعات الخدمية ذات الإنتاجية المنخفضة، التي يتم تنفيذها بأيدٍ أجنبية ذات مهارات منخفضة. لذلك استطاعت سنغافورة أن تحدث تحولاً ملموساً في نصيب الصادرات الصناعية والعمالة في القطاع الصناعي، إذ ارتفع نصيب الصادرات الصناعية فيها من 16.6 بالمئة من الناتج المحلي عام 1960 إلى 27.6 بالمئة عام 1992، وفي العام نفسه كان القطاع الصناعي يوظف نحو 27.5 بالمئة من العمالة، بينما لم تزد الصادرات الصناعية للنموذج الإماراتي على 4 بالمئة عام 2010، وهي أغلبها عبارة عن إعادة تصدير، وقد يكون هذا التحول الهيكلي في النموذج السنغافوري هو الذي حال دون تأثر سنغافورة بالأزمة المالية الأخيرة مقارنة بالإمارات‏[59].

رابعاً، منذ انفصال سنغافورة عن ماليزيا واستقلالها عام 1965، ظلت الهوية الصينية طاغية على التركيبة السكانية لسنغافورة؛ فبحسب بيانات 2012 تعادل نسبة الصينيين 74.2 بالمئة من السكان تتبعها الأقلية المالاوية بنسبة 13.3 بالمئة، ثم الأقلية الهندية بنسبة 9.25، ثم الأقليات الأخرى بنسبة 3.3 بالمئة. كما أن السنغافوريين بفئاتهم المختلفة ظلوا مهيمنين في وطنهم خلال تطبيقهم نموذجهم التنموي؛ فبحسب أرقام 2012، كان عدد سكان سنغافورة يعادل 5.31 مليون، منهم 3.82 مليون مقيمون، والبقية أي 1.49 غير مقيمين. أما المقيمون فمنهم 3.29 مليون مواطن و0.53 مليون مقيمون إقامة دائمة. هذا يعني أن المواطنين وحدهم يمثلون نحو 62 بالمئة من إجمالي سكان سنغافورة، كما أن حجمهم المطلق يزيد على إجمالي عدد المقيمين بصورة دائمة وغير المقيمين‏[60]. أي أن سنغافورة نجحت في تنويع هيكلها الإنتاجي بأيدٍ سنغافورية ولم تُحدث خلـلاً سكانياً، بينما أخفقت الحكومات الخليجية في كل هذه الأمور.

وأخيراً اتصف النموذج السنغافوري بالفصل التام بين المال العام والمال الخاص، مقارنة بالنماذج الخليجية كما أثبتت الأزمة المالية الأخيرة‏[61]. فعندما تولى لي كوان يو رئاسة الوزراء عام 1959 وكانت دول آسيا بما فيها سنغافورة تعاني شتى أنواع الفساد، لبس هو وأعضاء حزبه البنطلونات والقمصان البيض، ليؤكدوا لشعبهم نيتهم الالتزام بالنظافة والأمانة في سلوكهم العام والخاص، وقد ترجموا هذا الشعار إلى سياسات منها تحديد صلاحيات الموظفين في كل المراتب، حتى لا يُساء استغلال المسؤولية، وتبسيط المعاملات حتى لا تكون مدخـلاً إلى الفساد، ودعم موقف جهاز محاربة الفساد، وتركيز المساءلة على المناصب العليا بخاصة، وتضييق الثغرات القانونية التي تعيق إدانة الفاسدين، ورفع الغرامة القصوى للإدانة بالفساد من 10 آلاف دولار إلى 100 ألف دولار عام 1989، وعدم التردد في محاكمة كل مسؤول، بما في ذلك بعض أعضاء الحزب والوزراء، حتى لا يكون هناك أحد فوق القانون‏[62].

لذلك ليس مستغرباً أن تكون سنغافورة اليوم في صدارة دول العالم في عدد من مؤشرات التنمية؛ فبحسب أحد تقارير BBC تعد سنغافورة من بين أقل دول العالم فساداً؛ فهي في المرتبة الخامسة على قائمة الدول الأقل فساداً في العالم؛ وهي من بين أقل دول العالم في معدل الجريمة، وأكثر دول العالم سهولة في تأسيس الأعمال؛ وهي الدولة المتصدرة في صناعة المنصات البحرية للتنقيب عن النفط في دولة لا توجد في أرضها قطرة نفط؛ وهي الدولة التي تنفق 20 بالمئة من دخلها على التعليم، وأخيراً هي أقل دول العالم استعمالاً للمخدرات‏[63].

رابعاً: تداعيات الربيع العربي

لقد كشف الربيع العربي أن الحكومات العربية، مهما ادَّعت عكس ذلك، وتقنَّعت بالدِّين أو القومية أو الوطنية أو الليبرالية، هي في حقيقتها أقليات سواء كانت طائفية أو أسَرية أو عسكرية تحكم أكثرية، ولها أجندة تتمثل بالبقاء في السلطة والحفاظ على ما يأتي معها من نفوذ وإمكانات، أي أن السلطة بالنسبة إليها هي غنيمة، وقد أثبتت أحداث السنوات الأخيرة أن الخلاف بين هذه الأنظمة في هذه النزعة التسلطية هو خلاف في الدرجة، لا في النوع، سواء تعلق ذلك بالأنظمة الثورية أو بالأنظمة الوراثية، وسواء بتلك التي تدور في فلك دول كإيران وروسيا، أو تلك التي تدور في فلك الغرب، لأن كليهما ساعد على إضعاف الوطن العربي‏[64]. فالنتيجة التي يُجمع عليها أغلبية المراقبين هي أن الثورات المضادة التي تبنَّتها هذه الحكومات من أجل البقاء في السلطة هي التي دفعت أبناء هذه المنطقة إلى حافة اليأس من التغيير السلمي وكانت سبباً في انتشار العنف؛ وقد عبَّر المؤرخ الفرنسي جان بيير فيليو عن هذا المأزق عندما أطلق على آخر كتاب له حول الثورات المضادة عنواناً: من الدولة العميقة إلى الدولة الإسلامية‏[65].

لو تأملنا الجذور السياسية والاجتماعية لثورات الربيع العربي، لوجدنا أنها هي في الحقيقة رفض لهذا الاحتكار للسلطة؛ فهذه الحكومات، حرصت خلال السنوات الماضية أن تفرض على شعوبها علاقة تقوم على مصادرة الحريات السياسية، وما يرافقها من رقابة مجتمعية على أداء السلطة، مقابل تحقيق شيء من العدالة الاجتماعية متمثلة بتوفير الوظائف، وتقديم الدعم للمواد الأساسية، كالغذاء، والوقود، والصحة، والتعليم؛ وحتى هذا «العقد الاجتماعي المنقوص»، بدأت تتنصل منه في السنوات الأخيرة، مع تفاوت في الدرجة، بسبب إخفاقاتها التنموية وتفشّي الفساد بين قياداتها السياسية، وهدرها الأموال على الحروب التي أكلت الأخضر واليابس‏[66].

لقد أدى تراجع حجم ما تقدمه هذه الحكومات من خدمات لشعوبها إلى تذمر شعوب المنطقة وبدرجات متفاوتة، ما دفع بأغلبية هذه الحكومات إلى زيادة وتيرة استخدام عنف الدولة، ومع مرور الوقت أصبح اعتماد بعضها على العصا، وبخاصة الثورية منها، أكبر من اعتمادها على الجزرة، التي ظل حجمها في تناقص. ومع هذا الاستخدام المتزايد للعنف ضد المعارضين، بدأت هذه الحكومات تفقد فاعلية هذا السلاح، حيث بدأت الشعوب تكسر تدريجاً حاجز الخوف من السلطة، وفي ظل هذه المعطيات هبَّت رياح الربيع العربي لتعبر عن طموحات الشعوب العربية في الحرية والعدالة، وإن كانت مظاهره وتداعياته، قد تنوعت بسبب الفوراق الاقتصادية، والسكانية، ودور العامل الخارجي‏[67]. على سبيل المثال، كانت وتيرة التذمر الشعبي في البحرين وعمان والسعودية، أكبر منها في بقية دول المجلس التي كان فيها مستوى الرفاه أكبر، وكانت ليبيا مسرحاً للتدخل الأجنبي الغربي أكثر من سورية، لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة إلى أوروبا. كما أن الدول ذات الكثافة السكانية كمصر وتونس مثـلاً، كانت المطالب فيهما أكثر قوة منها في قطر أو الإمارات، حيث تهيمن القوى العاملة الأجنبية على السكان والعمالة. وفي البحرين التي يعتبر مستوى المعيشة فيها أفضل من الأردن، كان ربيعها أكثر عنفاً بسبب التحريض الطائفي الذي مارسته إيران بنزعتها التوسعية في المنطقة‏[68].

وفي هذا الجزء من الورقة سنحاول تقييم تداعيات الربيع العربي على كل من قطر والإمارات، وذلك من حيث حجم المطالب الشعبية وردِّ فعل الحكومتين على الصعيدين المحلي والخارجي، والأدوات التي استُخدمت، وأثر كل ذلك في استقرار وازدهار الوطن العربي.

1 – قطر

كان الشعب القطري أقل الشعوب العربية تأثراً بالثورات التي حصلت في دول الربيع العربي من حيث المطالبة بالتغيير، مع ثلاثة استثناءات هي:

أولاً، حالة الشاعر محمد نجيب النعيمي الملقب بـ «ابن الذيب» الذي نظم قصيدة عبَّر فيها عن مشاعره تجاه الأحداث الدائرة وانتقد فيها حكام الخليج ضمنياً في ما يتعلق بغياب العدالة، وسحب جنسيات مواطنيها، وإقامة القواعد الأجنبية، فحُكم عليه في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 بالسجن 15 عاماً‏[69].

ثانياً، كتاب حول الربيع العربي أصدرته ثلة من أبناء قطر وعلى رأسهم الباحث الخليجي علي خليفة الكواري وكان بعنوان الشعب يريد الإصلاح في قطر… أيضاً، نُشر في بيروت من قبل منتدى المعارف.

وثالثاً، كتاب آخر صدر باللغة الإنكليزية لأحد أبناء الأسرة الحاكمة في قطر وهو الشيخ محمد آل ثاني وكان وزيراً سابقاً للاقتصاد والتجارة، ويدعو فيه إلى إصلاحات تدريجية تجنباً للثورات‏[70].

وقد مُنع الكتاب الأول من التداول في قطر، وحتى محطة الجزيرة، التي تمثل في اعتقادنا ظاهرة إعلامية متطورة في وطننا العربي، والتي طالما رفعت شعارات مثل «الرأي والرأي الآخر» وأنها «منبر من لا منبر له»، لم تتحدث عن هذا الكتاب أو تحاور «النخبة» القطرية التي أصدرته، علماً أن الكتاب يشتمل كما يقول علي الكواري على مجموعة نقاشات «لقاء الاثنين» التي بدأ أولها في آذار/مارس 2011 وهو لقاء شهري لثلة من القطريين المهتمين بقضايا الإصلاح، وهو لقاء بدعوة خاصة وأحد إفرازات الربيع العربي بلا شك‏[71].

وعلى الرغم من أن قطر قد أصدرت دستوراً متطوراً بعض الشيء عام 2004، مقارنة بالدستور السابق، ويتضمن إنشاء مجلس استشاري منتخب جزئياً وإن كان خاضعاً إلى حد كبير لسيطرة الأمير، إلا أن العمل بهذا المجلس لم يتم حتى اليوم، ما يعني أن النظام السياسي القطري لا يزال يعمل بمجلس الشورى القديم، ولم يحدث أي إصلاح سياسي جاد لمواكبة الربيع العربي، في الوقت الذي أدّت حكومة قطر دوراً مهمّاً في الوقوف مع أحداث الربيع في بقية البلدان العربية ومساندة شعوبها في تطلعاتها إلى الحرية والعدالة، وهذا موقف فيه ازدواجية لا بد للحكومة القطرية الشابة من أن تردمها في السنوات القادمة لترفع صدقيتها لدى الشعب القطري وشعوب المنطقة بوجه عام‏[72].

أما آخر تقرير لمنظمة العفو الدولية (Amnesty International) فقد أكد أن «السلطات القطرية تقيِّد حرية التعبير، كما أن القضاء قد أخفق في توفير شروط المحاكمات العادلة»‏[73]. ويرى بعض الباحثين أن عدم تأثر قطر برياح الربيع العربي يعود إلى مزيج من الأسباب، منها الأمن النسبي الذي يوفره وجود القاعدة الأمريكية في العديد، ووفرة موارد النفط والغاز التي مكَّنت الحكومة القطرية من الإفراط في استخدام الجزرة واستيعاب أي تذمر أو مطالب إصلاحية، وانسجام مجتمعي يخلو من أي احتكاك طائفي يمكن أن تستثمرة بعض الدول الإقليمية كما حصل في البحرين مثـلاً، ودبلوماسية الوساطة في الأزمات المختلفة.

وأخيراً هناك من يرى كذلك أن القيادة القطرية قيادة لديها رؤية قائمة على الاهتمام بقضايا العرب والسير مع توجهات الشعوب العربية، واستخدام محطة الجزيرة كذراع لسياساتها الخارجية، وذلك بتغطية أهم أحداث الربيع العربي. وهذه كلها أمور ساعدت على تزايد نفوذ قطر في الساحتين العربية والعالمية لأنها أعطت قطر درجة من القوة الناعمة مقارنة بالقوة الخشنة لبعض الدول الأخرى‏[74].

2 – الإمارات

لم تحدث في الإمارات تظاهرات أو أعمال عنف من جانب شرائح المجتمع كما حصل في البحرين والسعودية وعمان. وكان أهم تفاعل بين أبناء الإمارات والربيع العربي هو قيام نخبة من أبناء الإمارات مكونة من 133 شخصاً بتقديم ما عرف بـ «عريضة مارس 2011» التي تمثلت بمطالبة رئيس الدولة بتطوير المجلس الوطني المعيَّن، ذي الدور الاستشاري، إلى مجلس منتخب له صلاحيات تشريعية ورقابية، وقد اتصفت هذه المطالبة بأسلوب حضاري وسلمي‏[75]. غير أن الحكومة لجأت إلى الحل الأمني بصورة مفرطة، وغير متوقعة، ولا تنسجم مع السياسات السابقة لمؤسس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، حيث تم تجريد بعض الناشطين من جنسياتهم، وتم اعتقال ومحاكمة بعضهم بصورة افتقدت الحد الأدنى من الحفاظ على حقوقهم، وصدرت بحقهم أحكام بالسجن تفاوتت ما بين 7 و15 سنة‏[76].

وقد أكدت منظمة العفو في تقريرها الأخير أن حكومة الإمارات «تقيد حرية التعبير والتجمع، وتقاضي المنتقدين لها مستخدمة قانون العقوبات، وقانون جرائم الإنترنت الصادر عام 2012، كما أن سجناء الرأي لا يزالون رهن الاعتقال بعد محاكمات غير عادلة، قبلت فيها المحكمة أدلة تم انتزاعها بالتعذيب وبمخالفات أخرى لحقوقهم»‏[77].

هذا على الصعيد الداخلي، أما خارجياً، فقد أنفقت حكومة الإمارات، وفي غياب أي مساءلة مجتمعية، وبالتعاون مع السعودية، مليارات الدولارات، في ما يمكن تسميته «مقامرة الثورات المضادة»، التي انطلقت من الحرص على حماية النظم الوراثية، ومن غير أدنى اعتبار لانعكاساتها على مستقبل الوطن العربي، حيث إنها فاقمت من ضعف نظامه الإقليمي، وحالت دون تحول الثورات العربية السلمية إلى دول شرعية ومؤسسية، تخطو خطى جادة نحو الاستقرار والازدهار‏[78]. كما أنها مكَّنت بعض الدول الإقليمية كإيران من الانقضاض على الوطن العربي، وتمزيقة باستخدام الورقة الطائفية، مثلما استخدم شاه إيران بالتعاون مع إسرائيل في السبعينيات، الورقة الإثنية، عندما حرَّض الأكراد ضد النظام العراقي، وأجبره على توقيع اتفاقية عام 1975 في الجزائر تنازل بموجبها عن جزء من شط العرب لإيران‏[79].

ولم يكن الاختناق الذي عاشته مصر بعد الثورة، بحاجة إلى انقلاب عسكري يعيد المجتمع إلى ما قبل ثورة 25 يناير، وإنما كان يحتاج إلى التمرس في ثقافة «التوافق» بين النخب المصرية حتى تدور عجلة التغيير بخطى حثيثة، وبالاعتراف بصناديق الاقتراع كآلية للتغيير والتنمية، وكان يحتاج إلى اقتناع الجيش بأن الشرعية الشعبية لثورة 25 يناير، أصبحت بديـلاً من شرعيته التي اتخذت طابعاً استبدادياً، وتلوثت بالمصالح الشخصية لبعض قياداته، التي طالما استغلت نفوذها لتحقيق مكاسب شخصية على حساب نهضة المجتمع‏[80].

وأخيراً كانت مصر ما بعد ثورة 25 يناير تحتاج إلى أموال الخليج، ولكن ليس لإجهاض عملية التغيير المنشودة، ووضع مصر على طريق مجهول، وإنما كانت تحتاج هذه الأموال لدعم الشرعية من أجل دوران حركة التغيير في أرض الكنانة، لأنها تمثل قاطرة التغيير في الوطن العربي بأكمله‏[81].

أما اليمن فقد أهملته دول المجلس وتجاهلته، ولم تقبل به عضواً في نادي الأغنياء الذي يمثله مجلس التعاون، وعندما ثار شبابه بصورة سلمية على نظام علي صالح، الذي مزج بين الوراثة والحكم العسكري، تدخلت حكومات دول المجلس بمبادرتها الخليجية لإنقاذه حماية لنفسها أولاً، ولكن صالح والحوثيين انقلبوا حتى على الشرعية التوافقية التي تلت ثورة شباط/فبراير 2011 في ظل المبادرة الخليجية. وها نحن اليوم، نرى أن إنقاذ صالح وإعطاءه الحصانة، الذي قامت به الحكومات الخليجية في سياق ثوراتها المضادة، كان سبباً في اختراق إيران لجزيرة العرب، واستنزاف مواردها البشرية والمادية، وإيجاد كارثة إنسانية، أصبح بموجبها نصف الشعب اليمني مهدداً بالمجاعة، وقد مهدت لتجزئة اليمن مرة أخرى، ولكن على أساس طائفي هذه المرة، علماً أن أسباب الصراع، هي سياسية بالدرجة الأولى، سواء بين شرائح المجتمع اليمني، أو بين الدول الإقليمية بعضها البعض، ولم يشهد اليمن صراعاً طائفياً في السابق، حيث عاش اليمنيون شوافعَ وزيوداً في حالة تآلف. وما لم تحسم هذه القضية سياسياً في اتجاه يمن موحد لا يفرض فيه مكوّن إراداته على الآخر، وجعله جزءاً من منظومة دول المجلس، فإن خيار التجزئة على أساس طائفي، وما يعنيه ذلك من انعكاسات أمنية وتنموية باهظة على المنطقة، أصبح غير مستبعد‏[82].

ونحن بدورنا نعتقد أن محاولة إجهاض ثورة الشباب اليمني من جانب الحكومات الخليجية، لا تختلف كثيراً، من حيث آثارها السلبية في استقرار ونهضة الوطن العربي، عن استقواء الحوثيين بإيران ليفرضوا إرادتهم بالقوة على بقية مكونات المجتمع اليمني، وهم بذلك علموا أو لم يعلموا، قد أصبحوا أداة خارجية لتجزئة اليمن على أسس طائفية، وهذا هو نوع من العدوان الداخلي، كما وصفه عبد الملك المخلافي‏[83]. بل نضيف على ذلك أن الحوثيين أصبحوا أشبه بحصان طروادة الذي حركته إيران وفتت به المجتمع اليمني من الداخل، لذلك فليس مستغرباً أن تدَّعي إيران أن ما حصل في اليمن قد مكَّنها من السيطرة على رابع عاصمة عربية بعد العراق ولبنان وسورية. وأخيراً لم يكن التدخل الخليجي في اليمن واضحاً في أهدافه ووسائله فنتج منه تكاليف بشرية مرتفعة بين اليمنيين وكذلك بين أبناء الإمارات والسعودية، وفي غياب هذا الموقف الخليجي الموحد تجاه اليمن ليس مستبعداً أن يتحول اليمن إلى ساحة للصراع بين الدول الخليجية نفسها بدلاً من أن يكون صراعاً في مواجهة إيران. وهذا يذكرنا بالصراع المصري – السعودي في اليمن في الستينيات.

خامساً: مرتكزات الإصلاح المنشود

انطلاقاً من التشخيص السابق لتجربتي قطر والإمارات العربية المتحدة سنتوقف عند عدد من المرتكزات الإصلاحية التي نعتقد أنها يمكن أن تساعد على تصحيح مسار هاتين الدولتين في السنوات المقبلة، ويمكننا اختصار الإصلاحات المنشودة تحت ثلاثة عناوين رئيسية هي : الحريات الأساسية والتنمية والأمن.

1 – الحريات

إن النظام الوراثي غير المقيد بضوابط كالنظم الخليجية هو صورة من صور النظم الاستبدادية، لأنه يحصر السلطة في أسرة واحدة من دون بقية أبناء البلد، وهو كذاك نظام غير مستقر، لأنه يفتقر إلى آلية منتظمة لتداول السلطة، حتى بين أبناء الأسرة الواحدة، ما يؤدي إلى استمرارية التنازع على السلطة بين أفراد الأسرة الحاكمة. وتزداد حدة هذا التنازع كلما كثر عدد الورثة وزادت الثروة، وهو ما ينتج منه في نهاية المطاف – ليس فقط إضعاف الكيان السياسي وتعطيل مسيرة المجتمع، وإنما كذلك – تَفشِّي الفساد بأشكاله ودرجاته.

وقد عاشت مجموعة من البلدان الأوروبية في ظل هذا النوع من الأنظمة سابقاً، وعانت ما عانته من الحروب والثورات، ولم تعرف للاستقرار أو الازدهار معنى، حتى أدركت بعض هذه الأسر، أنه لا خيار لها إذا أردات البقاء، إلا بتحولها إلى نظم وراثية مقيدة بإرادة المجتمع، بدلاً من أن تكون نظماً وراثية مطلقة. أما النظم التي لم تستوعب هذا الدرس، كما في حالة فرنسا، فقد اقتلعتها ثورات دموية. ولا يختلف سِجِل الأنظمة الوراثية الخليجية اليوم كثيراً من حيث الفساد والصراع على السلطة والفشل في تحقيق التنمية الذاتية عن سجل الدول الأوروبية قبل تحولها‏[84].

ونحن بدورنا نستبعد خيار استمرار الوضع الراهن، وبخاصة بعد أحداث الربيع العربي، فمن جانب أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي بين أبناء المنطقة بمنزلة المنابر السياسية التي ارتقت بوعي الأجيال، وبسقوف مطالبهم السياسية والاجتماعية؛ ومن جانب آخر فإن الوعود بمزيد من العطايا لا تنسجم مع تراجع أسعار النفط، وتوقعات صندوق النقد بظهور عجوز في موازنات هذه الدول في السنوات المقبلة، واستخدام القوة لم يعد رادعاً كما أثبتت تجارب أنظمة بن علي في تونس ومبارك في مصر والقذافي في ليبيا. كما أنه منزلق إلى مزيد من العنف في المنطقة على ما أثبتت تجارب سورية والعراق. ولم تعد مجدية الإصلاحات الشكلية واستخدام أوراق الإرهاب أو الطائفية أو غيرها، إضافة إلى أن الدعم الغربي لم يعد بمستواه السابق، وبخاصة بعد توقيع اتفاق المفاعل النووي مع إيران، والاعتراف لها بدور متنامٍ في إدارة المنطقة‏[85].

كما أننا نستبعد رحيل هذه الأنظمة كلياً واستبدالها بجمهوريات كما حصل في فرنسا مثـلاً، لأسباب كثيرة ليس هنا مكان التفصيل فيها، إلا إذا أصرَّت هذه الحكومات على المضيِّ في استخدام العنف ضد شعوبها ولم تتجه إلى الإصلاح التدريجي. وفي الذاكرة سوابق في زوال أنظمة ملكية عربية بدءاً من ليبيا مروراً بمصر وانتهاءً باليمن، وإن كان سقوط بعض الملكيات الحالية، في حال حصوله، سيكون بسبب تحركات شعبية في الدول التي فيها كتل بشرية كالسعودية وعمان والبحرين، أو من خلال هيمنة العمالة الأجنبية على المجتمع في الدول التي أسقطتها حكوماتها في بحر من العمالة الأجنبية كالإمارات وقطر، وإلى حد أقل الكويت‏[86].

ومع استبعاد بقاء الأوضاع الراهنة أو الرحيل الكامل، فإن هذا يترك لحكومات المنطقة خياراً وحيداً في مقبل السنوات، وهو خيار التحول السلمي إلى ملكيات دستورية، والتمهيد له بإصلاحات جذرية على المديين القريب والمتوسط مرتكزة على دستور شبيه بالدستور الكويتي إلى حد كبير. وفي سياق دولتَي قطر والإمارات فإن الخطوط العريضة لهذه الإصلاحات السياسية، هي إعادة كتابة دساتيرها بصورة تتناسب مع معطيات الفترة، وتؤسس لعملية انتقال تدريجية إلى ملكيات دستورية في فترة لا تتجاوز 15 – 20 عاماً، وتكون من بين أهم موادها جعل شعوبها مصدر السيادة والمالك الفعلي للثروة، لأن الدساتير الحالية بما في ذلك دستور قطر لعام 2004 لا تتضمن الحد الأدنى المطلوب لسيادة أبناء المجتمع على القرار والثروة، من خلال انتخابات حرة ونزيهة، ووجود برلمان منتخب يمارس التشريع والرقابة‏[87].

ويمكن تجاوز مخاوف انعاكاسات الانتخابات على المواطنين الأصليين مقابل المتجنسين بتقييد الحق في الانتخاب والترشيح بالمواطنين الذين وجدوا في الدولة قبل سنة محددة، مثـلاً عام 1930 كما في قطر أو سنة أخرى كما في الكويت، مع إمكانية تعديل هذا القيد مستقبـلاً‏[88]. وتنبثق من هذه المجالس المنتخبة حكومات تشكلها الكتلة ذات الأغلبية البرلمانية، وتكون خاضعة للمساءلة عن جميع سياساتها التنموية والأمنية، مع التشديد على استقلالية القضاء وحرية الصحافة ودور مؤسسات المجتمع المدني. أما ترجمة ملكية شعب الإمارات للثروة فهي تتطلب أن ينص الدستور على أن ملكية الثروة هي لشعب الإمارات وأن يوضع ما لا يقل عن 80 بالمئة من هذه الثروات الطبيعية لكل إمارة تحت سلطة المؤسسات الاتحادية الخاضعة لرقابة المجتمع والعودة إلى النموذج التنموي الاتحادي بدلاً من النماذج المحلية القائمة على الطفرات العقارية‏[89].

2 – التنمية

في اعتقادنا أن الأهداف التي تضمنتها الرؤى الاقتصادية لهذه الدول، والتي من أهمها تنويع الهياكل الإنتاجية وتعميق دور القطاع الخاص وتوطين العمالة فيه، لا يمكن تحقيقها عبر هذه الطفرات العقارية، وما يواكبها من تكاليف باهظة على المجتمع، وإنما من خلال العمل على ثلاثة محاور رئيسية تكمل بعضها بعضاً، محلياً وخليجياً وعربياً، مع تكامل دور القطاعين العام والخاص في تنفيذها؛ فالبيئة المؤسسية المعبرة عن إرادة المجتمع، التي رسمنا خطوطها العريضة سابقاً، لا بد من أن تنعكس بداية على ترشيد موارد المجتمع ومحاربة الفساد، وتقليل الازدواجية في المشروعات، والاعتماد المتزايد على القوى العاملة المواطنة.

على سبيل المثال يمكن أن تكون البداية في الإمارات بتقليص النفقات العسكرية، حتى ولو بنسبة ضئيلة في البداية حتى تتم معالجة قضية الأمن في إطار عربي، ثم بإزالة الإزدواجية الحالية في عدد المطارات الدولية وعدد شركات الطيران وغيرها، ووقف تمليك الأجانب للعقار. إضافة إلى هذا الترشيد لا بد من السعي من أجل تصحيح التركيبة السكانية في كل دولة من خلال الارتقاء بمستوى التعليم واللجوء إلى التجنيس الانتقائي، لا العشوائي الذي حصل في السابق؛ وترشيد استخدام العمالة الأجنبية وبخاصة غير العربية، وذلك بضبط الهجرة غير الشرعية، ورفع تكلفة هذه العمالة وكفاءة استخدامها بفرض ضريبة مقطوعة على كل عامل أجنبي سواء في القطاع المنزلي أو القطاع الخاص؛ وتوجيه إيراداتها إلى تدريب الطاقات المحلية والخليجية والعربية. ففي سنغافورة تصل هذه الضريبة إلى نحو 100 دولار في الشهر على العامل، وخصوصاً من ذوي المهارات المنخفضة. ومن المتوقع أن تواجه الضريبة معارضة من جانب كثر، ولكن لا بد منها كإحدى آليات التعامل مع التركيبة السكانية. وهناك كذلك سياسة فرض حصة متزايدة للموظفين المواطنين في القطاع الخاص مع مشاركة الدولة في جزء من تكاليف تأهيلهم، لأن التنمية المستدامة لا بد من أن تقوم على أكتاف أبناء الوطن‏[90]. فوجود عمالة مواطنة تتوافر لديها مهارات عالية، هو الذي سيساعد على تأسيس صناعات ذات إنتاجية عالية في القطاعين الخاص والعام، تكون قادرة على تصدير منتجات ذات إنتاجية مرتفعة إلى الخارج، بدلاً من الاستمرار في توجيه موارد هذه الدول إلى قطاعات منخفضة الإنتاجية كالتشييد والنقل، التي لا يمكن أن تستقطب العمالة المواطنة أو العربية نظراً إلى انخفاض إنتاجيتها وأجورها، وهيمنة العمالة الرخيصة عليها. وهذا للأسف ما تحرص عليه في الوقت الحاضر طبقة رجال الأعمال والسياسيين، التي تهتم بالربحية الآنية والسريعة، بدلاً من أخذ بعض المخاطرة والاتجاه إلى الصناعات الموجهة للتصدير، وتعميق دور المواطنين في النشاط الاقتصادي، وتوسيع حجم الطبقة الوسطى، أي باختصار بناء اقتصاد معرفي‏[91]. ولا شك في أن هذا المسار هو أفضل من التعلق بمشروعات دعائية كبرج خليفة في الإمارات واستضافة بطولة كأس العالم في قطر عام 2022، وهي مشروعات ذات تكاليف اقتصادية واجتماعية مرتفعة، بينما عائدها محدود وغير مؤكد بالنسبة إلى أغلبية أبناء المجتمع‏[92].

بعد ذلك يجب النظر إلى الصناعات التي يمكن أن تسهم في تنويع الهيكل الإنتاجي لهذه الدول والتي يمكن تنفيذها في إطار خليجي ومن أهمها صناعة تكرير النفط، والبتروكيميائيات، والصلب والأدوية، والحديد، والألومنيوم، وصناعة البلاستيك، والسيراميك، والزجاج، والإسمنت، والسيارات، وبناء السفن، ومعدات البناء، والإلكترونيات، والكابلات، ومعدات التنقيب عن النفط، والطيران، وغيرها من الصناعات التي يمكن أن تكون بمنزلة العمود الفقري لزيادة مساهمة القطاع الصناعي في كل من الإنتاج والتوظيف وتوطين التقنية في بلدان المجلس. ويمكن أن تكون بدايات هذه الصناعات من خلال مشاريع مشتركة تقوم بها بلدان المجلس ككتلة واحدة مع الشركات الأجنبية التي تحتكر إنتاج وبيع أغلب هذه المنتجات في الوقت الحاضر.

إن ما يحتِّم التعاون الخليجي في تنفيذ هذه الصناعات، هو أنها تستخدم طاقة كبيرة كمدخل إنتاجي، كما أن تكاليفها تقل بزيادة حجم الوحدة الإنتاجية، أي برفع طاقة الوحدة الإنتاجية منها، وبالتالي فلا بد من تنفيذها ضمن خطة خليجية تجعل فرص نجاحها وتطورها وتنافسيتها أكبر سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى العالمي. نذكر هنا أن التنمية المستدامة في الدول الصناعية ودول شرق آسيا لم تتحقق إلا من خلال تأسيس قطاعات صناعية متنوعة المنتجات وتستخدم تقنية متطورة كان لها دور في تشجيع البحث العلمي وتحفيز القطاعات الخدمية بأنواعها، في المقابل لا تزيد مساهمة دول المجلس مجتمعة في القيمة الصناعية المضافة في العالم على 1 بالمئة بحسب آخر البيانات المتوافرة‏[93]. وقد يكون أحد الأسباب هو عدم كفاية الإنفاق التعليمي في هذه الدول؛ فبحسب صندوق النقد الدولي كان متوسط ما أنفقته بلدان المجلس على التعليم خلال الفترة 2004 – 2013 لا يزيد على 3.9 بالمئة من الدخل القومي، مقارنة بنحو 4.6 بالمئة في بقية العالم، كما أن نوعية هذا التعليم كما تشير إلى ذلك نتائج طلبة هذه الدول في امتحانات الرياضيات والعلوم تعتبر منخفضة مقارنة بالمتوسط العالمي في امتحانات الرياضيات والعلوم‏[94].

إضافة إلى ترشيد استخدام الموارد محلياً وتعميق دور القطاع الصناعي خليجياً، هناك بعض المشروعات الاستراتيجية التي تحتاج إلى العمل في إطار الدائرة العربية، ومن أهم هذه المشروعات توفير الغذاء وصناعة السيارات والمعدات، وإقامة مشروعات الطاقة المتجددة، كالطاقة الشمسية والطاقة النووية، وصناعة السلاح، ولاعتبارات أمنية لا بد من أن تقوم هذه الصناعات الأخيرة منذ البداية بطاقات خليجية وعربية، وإلا سيكون مصيرها شبيهاً بمصير مفاعلات العراق وسورية، وهذه كلها مشروعات تحتاج إلى تكاتف عربي يجمع بين إيرادات النفط والعقول العربية والأراضي الخصبة والموقف التفاوضي للكتلة العربية، من أجل الحصول على التقانة من بقية بلدان العالم وتوفير الأسواق، سواء في الغرب أو في الشرق. وقد تكون الخطوة العملية الأولى في هذا الصدد العمل على تنفيذ اتفاقية منطقة التجارة العربية الكبرى التي وقعت عام 1998 وظلت متعثرة حتى الآن، ثم الانتقال بعد ذلك إلى مزيد من التكامل الاقتصادي العربي‏[95].

3 – الأمن

أثبتت التجارب السابقة أن الكيانات الخليجية لن تتمكن منفردة من تحقيق أمنها حتى لو أنفقت كل إيراداتها النفطية على التسلح؛ بل إن غياب رؤية عربية موحدة قد جعل هذه الدول تدور في فلك الدول الغربية والإقليمية على حساب أمنها واستقرارها. فالأمن الحقيقي بمفهومه الشامل يتكون من قوة الجبهة الداخلية، أي وجود حكومة تعبِّر عن إرادة شعبها وتحقق تنمية مستدامة، وهذه الخطوة تعتبر مقدمة ضرورية لا بد من توافرها في كل الحكومات العربية لتوفير شروط التعاون العربي لمواجهة الأخطار الإقليمية والدولية‏[96]. وهذا البعد الأخير للأمن أي حماية الأوطان، يمكن تحقيقه بعدة وسائل تكمل بعضها البعض. فلا بد أولاً من إيجاد جيش خليجي موحد وذلك بتطوير ما يعرف بـ «درع الجزيرة»، تكمله على المدى القصير والمتوسط قوة عربية مشتركة أقرب إلى قوة الانتشار السريع، تتكون من كل البلدان العربية أو عدة بلدان رئيسية، بما في ذلك دول المجلس، وتكون لديها مرونة الحركة في الوطن العربي، وإسنادها بكل العوامل اللوجيسيتة من مطارات وقواعد ومخازن للسلاح وغيرها‏[97]. وفي حال انتقال الوطن العربي إلى وضع أكثر استقراراً من الوضع الحالي، يمكن إحياء معاهدة الدفاع العربي المشترك التي وقعت في الخمسينيات وتعديل بنودها بما يتناسب مع المعطيات الجديدة في الوطن العربي التي نأمل أن تجعل فرص نجاحها أكبر مما كانت في السابق‏[98].

ولا شك في أن هذه الخطوات مجتمعة ستؤدي إلى تغيير تدريجي في موازين القوى بين البلدان الخليجية مجتمعة مؤيدة من البلدان العربية من جانب، وبين القوى الإقليمية كإسرائيل من جانب، وبينها وبين إيران من جوانب أخرى، وبخاصة في ظل تراجع رغبة الدول الغربية في الدفاع عن الدول الخليجية، وتقاربها المحتمل مع إيران بعد توقيع الاتفاق حول المفاعل النووي الإيراني. كما أن المدخل الأمني الجديد سيقلل تدريجياً من الحاجة إلى التحالف مع البلدان الكبرى، وهذا سيقلل من حجم النفقات العسكرية الحالية التي أملتها المواقف الضعيفة لدول المنطقة، وسيزيل تهمة الاستقواء بالأجنبي، وسيوفر كذلك كثيراً من الموارد التي يمكن توجيهها إلى مشروعات تنموية منتجة في المنطقة العربية‏[99].

خاتمة

حاولنا في الصفحات السابقة أن نقدم تقويماً مختصراً لتجربتي الإمارات العربية المتحدة وقطر منذ بداية السبعينيات، وبخاصة في ما يتعلق بالتنمية والأمن. وقد تبين لنا أن تجربة كل من الإمارات وقطر تجسد حجم الصعوبات التي تعترض الكيانات القطرية في الوطن العربي لتحقيق هدفي التنمية والاستقرار. ففي الإخفاق الأول يمكن القول إنه منذ السبعينيات دأبت كل من الدولتين على اتباع سياسات نفطية تحكمها الاعتبارات السياسية والضغوط الدولية أكثر من اعتبارات الطاقة الاستيعابية المحدودة، ما أدى إلى تراكم فوائض نفطية فلكية، تم تدوير جزء منها إلى أسواق المال العالمية لتتحول إلى ثروة ورقية تآكلت عبر السنوات من خلال تراجع قيمة الدولار، وزيادة معدلات التضخم، والأزمات المالية المتعاقبة، أما الجزء المتبقي من هذه الإيرادات فقد تم توجيهه إلى الإنفاق على البنية الأساسية والارتقاء بمستوى معيشة أبناء الدولة من خلال توفير الخدمات الأساسية، وكذلك ببناء بعض المشروعات الصناعية والخدمية، وقد أدت هذه الجهود مجتمعة إلى تحقيق مستوى مرتفع من الرفاه مقارنة بفترة ما قبل السبعينيات.

غير أن ديمومة هذا المستوى المعيشي ظلت مرتبطة بحجم إنتاج النفط وأسعاره، وما إن يتراجع أحد هذين المتغيرين حتى تبدأ المؤشرات الاقتصادية كالنمو والتوظيف والموازنة العامة والميزان التجاري في التراجع، ما يؤكد أن الهيكل الإنتاجي لهاتين الدولتين وغيرهما من دول المنطقة لا يزال يعتمد على النفط كمحرك، أي أن هناك إخفاقاً في تنويع مصادر الدخل. أما الإخفاق الثاني الذي لا يقل خطورة عن الأول فهو تهميش المواطنين في وطنهم، فمنذ بداية الألفية الثالثة أصبح القطاع العقاري هو محرك التنمية في الدولتين، وقد تمخض عن توسع هذا القطاع تشريعات جديدة سمحت للأجانب بتملك العقار، ومع هذا التملك حرية الإقامة لفترات طويلة، وقد نتج من هذه السياسات تدفق واسع للعمالة الأجنبية إلى دول المنطقة، وهو ما نجم عنه تهميش المواطنين كنسبة من السكان والقوى العاملة حتى أصبحوا من بين الأقليات في أوطانهم، كما أن سيادة هذه الدول على أراضيها ستبدأ في التراجع في ظل هيمنة الأجانب الذين أصبحت إقامتهم دائمة ومطالبهم الاقتصادية وغير الاقتصادية في تزايد.

وكما أن التنمية في كل من قطر والإمارات تتطلب تكامل الجهود الخليجية والعربية وتطوير المؤسسات اللازمة لذلك، فإن أمن هذه الدول وردع أطماع الدول الإقليمية، يتطلب كذلك توحيد الجهود العسكرية، سواء كان ذلك بتطوير درع الجزيرة، أو بإيجاد قوة عسكرية عربية، أو بإحياء اتفاقية الدفاع العربي المشترك، لأن ذلك يمثل ضرورة تحتمها الأحداث في المنطقة. فالإمارات مثـلاً لم تستطع أن تردع إيران التي احتلت جزرها الثلاث عام 1971، بل إن إيران استولت على كامل جزيرة أبو موسى عام 1992، وهي الجزيرة التي اضطر الحاكم السابق للشارقة تحت موازين قوى مختلة أن يتقاسمها مع إيران مع إعلان استقلال الدولة. وبهذه السيطرة الكاملة على الجزيرة ونقضها لاتفاقها مع الشارقة، تؤكد إيران نزعتها التوسعية في الوطن العربي، وبالتالي فلا قيمة للشعارات التي طالما سمعناها منها منذ قيام الثورة، ولا بد من الردع.

أما قطر فهي كالإمارات، ليست في مأمن من الأخطار الإيرانية كذلك، وبخاصة أنها تشترك مع إيران في حقول الغاز (حقل الشمال)، وليس مستبعداً أن تطمع إيران في التوسع هنا كذلك إما بافتعال خلافات حول هذا الحقل، كما حصل في حقل «الدرة» على الحدود الكويتية، وإما بمحاولة إثارة القلاقل الداخلية كما في حالة «خلية حزب الله» في الكويت وهي ليست المحاولة الأولى ولن تكون الأخيرة بالتأكيد، وهذا هو الإخفاق الثالث في النموذج الخليجي الحالي‏[100]. وما يؤكد عدم الثقة بين قطر وإيران هو ما أوردته تسريبات ويكيليكس من تصريحات للمسؤولين القطريين، ومن أهمها ما قاله الشيخ حمد بن خليفة، الأمير السابق، لجون كيري من أنه «على أساس خبرة ثلاثين عاماً من التعامل مع الإيرانيين فإنهم سيعطونك مئة كلمة ولا تثق إلا بكلمة واحدة منها»‏[101]. وكذلك البرقية السرية التي بعث بها رئيس الوزراء القطري السابق الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني والتي يشبّه فيها الخطر الإيراني بـ «إعصار كاترينا»، ويضيف قائلاً عن علاقة قطر بإيران: «يكذبون علينا ونكذب عليهم»‏[102]. هذا يعني أن قطر وبقية دول المجلس في أمسّ الحاجة إلى اتخاذ موقف موحَّد تجاه إيران في السنوات المقبلة بدلاً من السياسات المتضاربة التي تمارسها هذه الحكومات في الوقت الحاضر. ويبقى بعد ذلك السؤال الأهم وهو: هل تدرك كل من الحكومة القطرية وحكومة الإمارات التحديات التي تحدثنا عنها في هذه الورقة وتتعامل معها طبقاً للمقترحات التي طرحناها أم أنها تستمر في مسارها الحالي؟

في الحقيقة لست متفائلاً، لأن تاريخ هذه الحكومات يشير إلى أن قراراتها تحكمها أهواء الحكام ومصالحهم المحدودة بدلاً من مصالح مجتمعاتهم، كما أن غياب الكتلة البشرية التي يمكن أن تشكل قوة ضاغطة على هذه الحكومات ليست موجودة. أما العمالة الأجنبية فسيكون لها دور في هاتين الدولتين، وبخاصة الجيلان الثاني والثالث، وستتعدى طموحاتها المكاسب الاقتصادية إلى الحقوق بأشكالها، هذا إذا لم تتدارك هذه الدول الأمر بكيان خليجي موحد تكون فيه السيادة لأبناء المنطقة. باختصار، إن التغيير في هذه الدول سيتحدد بمواقف الحكومات التي تملك القرار والثروة، والعمالة الأجنبية التي تزداد هيمنتها في السكان والقوى العاملة، والمواطنين الذين يتضاءل دورهم يوماً بعد يوم، وكذلك بالمتغيرات الخارجية بأشكالها مثل حصول تغيرات جذرية في الدول ذات الكثافة السكانية كالسعودية وعمان، أو تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة.