مذ وقعت جريمة الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣ دخل النظام العربي في نفق مظلم حفرته تداعيات هذه الجريمة التي تمثلت بسياسات أمريكية متعمدة لتفكيك مؤسسات الدولة ونسيج المجتمع في العراق بإثارة نعرات طائفية وعرقية كان العراق قادراً قبل الغزو على أن يبقى في مأمن منها. ومثلت هذه التداعيات بيئة حاضنة مثلى لتفاقم الإرهاب وتكريس النفوذ الخارجي إقليمياً وعالمياً، وسرعان ما تجاوزت عدوى التفكيك حدود العراق لتضرب أجزاءً عديدة أخرى من الوطن العربي. وعلى الرغم من الأمل في أن تفضي انتفاضات ما عُرف في حينه بالربيع العربي إلى نقلة نوعية تُقيل النظام العربي من عثرته، فإن مآل الانتفاضات الشعبية العربية، سواء بسبب تشرذم القوى الثورية، أو بسبب أصابع التدخل الخارجي، بل والعربي للأسف، قد تكفّل بتعميق أزمة النظام العربي؛ فكانت المعاناة من صراعات داخلية هددت كيان الدولة الوطنية العربية، وتفاقم غير مسبوق للإرهاب المتأسلم الذي أقام لنفسه دولة على الأرض العربية دامت ما يزيد على ثلاث سنوات، وتفاقم غير مسبوق كذلك للاختراق الخارجي الذي لم يقتصر على القوى العالمية وإنما امتد إلى القوى الإقليمية حتى بات المصير العربي يتحدد أساساً بإرادات غير عربية.
لقد أدت التطورات السابقة إلى خلق مناخ غير مُواتٍ لأي عمل عربي جاد يتصدى للتحديات التي ترتبت على تلك التطورات؛ وإذا كنا قد ألفنا تعثر العمل العربي على المستوى الرسمي، فإن هذا المناخ قد أصاب، للأسف، النماذج العروبية الجادة على الصعيد غير الرسمي، سواء في مجال الحركة السياسية أو في العمل الثقافي الفكري. ولم تكن مصادفة أن تتعرض ثلاثة رموز بارزة لهذا العمل، وهي مركز دراسات الوحدة العربية، ومعهد البحوث والدراسات العربية، وصحيفة السفير، لمصاعب قاسية في آن واحد، سواء تمثلت بأزمات تمويلية، كما في حالتَي المركز وصحيفة السفير، أو بانقلاب على رسالة المعهد من الجهة التي يتبعها.
وللأمانة فقد مرت سنون لم يتمكن المركز فيها من ابتداع وتنفيذ السياسات الملائمة لمواجهة الأوضاع الجديدة، أو التقدير المناسب للتحديات، غير أن يقظة وإدراك مجلس أمنائه ولجنته التنفيذية وجهازه الإداري للأمر قد مكنته في النهاية من أن يتخذ الإجراءات التصحيحية المطلوبة من أجل التغلب على المصاعب ومواجهة التحديات. وفي هذا السياق لا يمكن إنكار فضل نفر من أبناء الأمة وقفوا إلى جانب المركز في محنته، ولا بد من أن يأتي اليوم للحديث عمّا قدّموه من دعم مخلص إلى المركز ساعد من دون شك على التصدي لمن تصوروا يوماً أن المحنة يمكن أن تؤدي إلى التفريط في الرسالة أو الانسحاب من الساحة.
وها هو مركز دراسات الوحدة العربية يقف اليوم شامخاً كما كان عند انطلاقته الأولى، بفضل نخبة من أبناء هذه الأمة العظيمة آلت على نفسها أن تحمل الأهداف النبيلة لمشروعها النهضوي. ويعتز المركز كثيراً بأنه استطاع رغم الصعوبات الهائلة، والضغوط، والحملات المغرضة، أن يواصل – بكل النجاح – حضوره في الساحة الفكرية والأكاديمية والثقافية العربية؛ مواصلاً جهوده في نشر الإصدارات الجادة التي تعبّر عن هموم الأمة وقضاياها العادلة وتطلعاتها المشروعة، وأن يكون ملتقى لأبناء هذه الأمة من المثقفين والمفكرين والأكاديميين الملتزمين بقضاياها، واستمر في تنظيم الملتقيات الفكرية الرصينة والمشاركة في معارض الكتب العربية كافة.
كما يعتز المركز بصفة خاصة بأنه تمكن، رغم ما بدا من استحالة لذلك، من أن يحافظ على مجلته الإنكليزية Contemporary Arab Affairs صوتاً عربياً لمخاطبة العالم الخارجي، وذلك بالتعاقد مع دار نشر جامعة كاليفورنيا على إصدارها بشروط تضمن استقلاليتها، ولم يكن مثل هذا الإنجاز ممكناً من دون أن تكون هناك ثقة تامة في مكانة المركز العلمية وكفاءة جهازه الإداري.
كما لا بدّ من التنويه هنا بمجلة المستقبل العربي هذه، التي تحتفل مع هذا العدد بعبورها إلى عامها الحادي والأربعين، من دون أي انقطاع أو تأخّر عن الصدور الشهري على مدى العقود الأربعة الماضية.
ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى أن المركز حاز قصب السبق دون الكثير من المؤسسات المماثلة، في خوض غمار النشر والتسويق الإلكترونيين بكل الوسائل المتاحة وعبر مختلف المنصّات، وقد تكاملت حلقات هذا العمل بإطلاق منصّة خاصة بإصدارات المركز على بوابة معرفة، كما كان المركز سباقاً إلى التعاقد مع أمازون لتسويق إصداراته التي أضحت متاحة للقراء في أول مشروع لأمازون في البلدان العربية أولاً، ثم في العالم كله لاحقاً. يحدث هذا كله في الوقت الذي تتواصل حملة تشويه ضارية تستهدف المركز وتشكك في قدرته على مواصلة رسالته. وتثق أسرة المركز في أنها ليست بحاجة إلى الرد على من هم وراء تلك الحملات التي لن تعدو كونها ترّهات يكفي واقع الحال وعمل المركز الراسخ لتأكيد تفاهتها وبما يُغني المركز عن مجرد التفكير بالتصدي لها.
يواصل المركز مسيرته من دون تردد أو انكفاء، على الرغم من المؤشرات شديدة السلبية في واقعنا العربي، ونؤكد لكل من آمن بهذه الأمة وأهدافها العظيمة أننا لن نفرط في رسالتنا، ولن نستسلم لدعاة الإحباط، وأن القوى الحية في هذه الأمة قد تمكنت بالفعل من الصمود، بل وتحقيق إنجازات تدعو إلى لأمل في المستقبل؛ وسوف يبقى مركز دراسات الوحدة العربية سنداً لهذه القوى ودرعاً فكريةً حاضنة لها.
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 471 في أيار 2018.
(**) أحمد يوسف أحمد: رئيس اللجنة التنفيذية لمركز دراسات الوحدة العربية.
أحمد يوسف أحمد
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية في مركز دراسات الوحدة العربية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.