أكثر من عشرة أشهر على الإبادة الجماعية والتطهير العرقي للفلسطينيين. أكثر من عشرة أشهر وآلة الموت الصهيونية ترتكب مجزرة ثم مجزرة ثم مجزرة، وتطارد الأرواح البريئة، من غزة مرورًا بكل فلسطين، إلى لبنان واليمن وكل بقعة تقاوم هذا الكيان. ومع مرور الوقت والصمت العربي لا تخترقه سوى التنهيدات أو بعض الدمع. هنا ازدحمت الأسئلة وهي ليست في مجملها جديدة أو غير منطقية، بل إنها أكثر وضوحًا اليوم من أي وقت مضى، وبدا أن الحاجة ملحّة إلى الوقوف عندها، بل وتفكيك السؤال الملحّ «ماذا حدث للعرب؟» في استعارة من أستاذنا جلال أمين حين كتب وبحث في «ماذا حدث للمصريين؟» في محاولة لوضع صورة أكثر وضوحًا لتفسير ما جرى من تحوُّلات وتغييرات على المجتمع المصري بعيدًا من الإجابات التقليدية المباشرة والواضحة كما شرح هو بالتفصيل في كتابه. وهنا محاولة لفهم «ماذا حدث للعرب؟» في ما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية والاحتلال الصهيوني. وقد يبدو من الصعب في مقالة سريعة أن أتناول رد الفعل العربي أو انعدام أي تحرك عربي على المستوى الرسمي والشعبي؛ لذلك سأحاول هنا الوقوف عند رد الفعل الخليجي، وبخاصة الشارع الخليجي وهو يتابع المجازر بصورة يومية والقتل المتعمد والرسائل الصهيونية المليئة بالحقد والتحقير لا للفلسطيني وحسب بل للعربي ككل.

في كل يوم تستمر فيه الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في فلسطين يقف كثيرون منا عند الأسئلة الخانقة وهي كثيرة. ويتساءل بعض العرب، من المغرب إلى اليمن، عن كل هذا الصمت العربي أمام المذابح اليومية المسجلة والمنقولة مباشرة على وسائل التواصل، أو حتى على بعض المحطات العربية التي بقيت تحاول أن تكون الأقرب إلى صوت الشعوب ووجدانها، في حين يُكثِر بعض الغاضبين من تسجيل رسائلهم وبثها بالصوت والصورة معبِّرين عن حنقهم وغضبهم على حكوماتهم ومواقفها، ويقوم بعض الغزيين من رجال ونساء وأطفال، وبعض اللبنانيين في الجنوب، بنشر الرسائل المصورة للمجازر المستمرة موجِّهين غضبهم وطارحين السؤال القديم الجديد «أين أنتم يا عرب؟» وأحيانًا يرفقونها بـ «أين أنتم يا مسلمون؟؟».

أما في الخليج فلا يمكن أيَّ خليجي إلا أن يقارن كيف كان الموقف الخليجي الشعبي تجاه فلسطين وكل القضايا العربية وكيف تحوَّل إلى ما يشبه اللامبالاة أو حتى التواطؤ مع المحتل أحيانًا أو الصمت حيال الجرائم أحيانًا أخرى. هنا، مهم أن يتم الفصل بين الموقف الخليجي الرسمي الذي لا يبعد من التعبير عن استيائه من الحرب على الفلسطينيين أو مناشدة المنظمات الدولية والدول الكبرى للقيام بدورها على استحياء وخجل، أو في معظم الأوقات التزام الصمت. فالشارع الخليجي لا يعبّر عنه الموقف الرسمي، بل إنه في كثير من المناسبات عبّر عن استيائه من حكوماته، وبخاصةٍ تلك التي سبقت الجميع في الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية وتبادل التمثيل الدبلوماسي مع الكيان الصهيوني.

ويبدو الموقف أصعب جدًا حين يقارن المواطن الخليجي الوضعَ الآن بما كان عليه قبل عقد أو أكثر حين كانت جوازات السفر الخليجية تحمل إشارة واضحة وتنبه إلى عواقب من يزور الكيان من مواطنيها. بل إن مكاتب مقاطعة إسرائيل التي نسيها الكثيرون، حتى الجامعة العربية التي يفترض أن تكون الراعية لها، كانت منتشرة في كل الدول الخليجية وتقوم بواجبها في منع «تسلل» البضائع الإسرائيلية أو حتى تلك التي تدعم الكيان، حتى ولو كانت منتوجات لدول أخرى. وكانت المناهج الدراسية تشير بكل وضوح إلى تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي والخرائط في كتب الجغرافيا تحمل اسم فلسطين. وكان ما يحدث في فلسطين يجد صدى سريعًا لدى الشارع الخليجي، وذلك قبل وسائل التواصل الاجتماعي، ناقلة الصورة والخبر على نحو مباشر.

إن جذور علاقة دول الخليج وشعوبه بفلسطين هي أقدم من تاريخ تأسيس الكيان الاستيطاني، بل تعود إلى مطلع القرن العشرين. على سبيل المثال، استقبلت البحرين أول دفعة من الفلسطينيين عقب الحرب العالمية الأولى لتطوير النظام التعليمي فيها. واستمرت العلاقة في صورة تصاعدية، وبخاصةٍ بعد اكتشاف النفط في الخليج وتوجه الكثير من الفلسطينيين إلى العمل في مجالات التعليم والإدارة العامة والتجارة وغيرها، كما تذكر روزماري سعيد زحلان في كتابها فلسطين ودول الخليج: العلاقات الفعلية.

ولا ينسى الخليجيون أنهم خرجوا إلى الشوارع معبرين عن مشاعرهم الغاضبه تجاه العدوان الإسرائيلي المستمر والمتكرر منذ ما قبل قيام الكيان الإسرائيلي. كما استمروا في التعبير عن هذا التضامن والدعم حتى بعدما منعت التظاهرات والتجمعات والاعتصامات في بعض الدول الخليجية أو في معظمها في السنوات الأخيرة، كان الخليجيون سباقين للتعبير عن تضامنهم ووقوفهم مع الشعب الفلسطيني عبر الرسائل والندوات والمقالات الصحافية والبرامج التلفزيونية وإرسال المساعدات والدعم. إذًا، ماذا حدث للخليج؟ بل ماذا حدث للخليجيين؟ هذا سؤال يطرحه كثير من الخليجيين لا العرب الذين عبّروا كثيرًا عن إحباطهم أو غضبهم تجاه حكومات الخليج مدركين أن جزءًا كبيرًا من الشارع الخليجي لا يزال مع فلسطين وشعبها ومع قضاياه العربية ولم ينفصل عنها.

إلا أن ما كشفه طوفان الأقصى لم يكن مفاجئًا لبعض الباحثين والدارسين للخليج والتحولات التي طرأت عليه خلال العقدين المنصرمين على وجه التحديد؛ فقد شهدت بلدان الخليج حراكًا اجتماعيًا وتحولات جذرية لم تنل حصتها الكافية من البحث والتحليل من جانب الأكاديميين والمختصين. ويبدو التوجه العام في بعض الدراسات هو في البحث عن آثار الطفرة النفطية أو الاقتصاد الريعي فقط. إلا أن في ذلك، رغم أهميته، نقصًا لفهم ما حصل للخليج والخليجيين.

لقد شهدت المجتمعات الخليجية تغيرات واضحة، وفي كثير من الأحيان جوهرية، مثلت تحديًا لهويتها العربية بل ربما مثلت تحولات أكثر من ذلك؛ فقد ظهرت قيم ومفاهيم وممارسات جديدة جدًا، حتى برز الاغتراب في داخل المجتمع وضمن الفئة أو العائلة الواحدة، سواء في التحول إلى اللغة الإنكليزية أو الاعتماد على اللهجات المحلية المحرّفة في كثير من الأحيان، أو في ضعف روح الانتماء إلى الوطن والتحول إلى وطنية أو وطنيات زائفة أو شكلية، مثل الارتباط بالفرد الحاكم والولاء له فقط. كما أن خصخصة التعليم والاعتماد الكلي للمواطنين على مدارس ومناهج لا تنمي الروح الوطنية، ولا تعزز الانتماء ولا حتى الارتباط الإنساني، بل مثلت منعطفًا في تركيبة الإنسان الخليجي.

ساهم التحوُّل في المناهج التعليمية والثقافة بوجه عام في التأثير في الوعي العام لدى المواطن في الخليج عبر مناهج «مستوردة» بمعظمها أو حتى محلية، تبعد كثيرًا من الثقافة الوطنية وتنمية المعرفة وحب الوطن بثقافته أو ثقافاته المتنوعة. وأدى كل ذلك، ضمن غيره من الأسباب، إلى خلق شريحة من المواطنين تنظر بدونية إلى الثقافة المحلية والعربية وبإعجاب مفرط بالخارج وبخاصة الأمريكي والأوروبي ضمن ثقافة استهلاك شرسة. وقد انعكس كل ذلك بالطبع على انتشار الهبوط في مستوى الثقافة والاهتمامات الفنية والثقافية والمعرفية والتحول إلى الحاجات الحسية والغرائزية والمظاهرية، وبخاصة لدى الشباب في مجتمع خليجي يعدّ في مجمله مجتمعًا فتيًا وشابًّا. وفي مقابل ذلك هناك فئة أخرى، وبخاصةٍ بين الشباب، انغمست في اللاعقلانية والتفكير الديني الشديد التعصب والطائفي، من دون تعمُّق أو معرفة بالدين، وعبر رجال دين في معظمهم تحركهم أجهزة الدولة وبخاصة الأمنية منها.

أدت مجمل هذه السياسات الاقتصادية والسياسية والتعليمية والثقافية إلى خلق جيل جديد بعيد جدًا، في مجمله، من قضاياه ومنغمس في يومياته المعيشية أو الاستهلاكية أو الحسية أو الترفيهية الهابطة. كما أنه لا يُخفى على أحد أن التغييرات في المناهج التعليمية والتحولات لم تأتِ بصورة عشوائية، بل ثبت أن هناك كثيرًا من المؤسسات و«الخبراء» الأجانب الذين كان لهم دور كبير في تحويل المناهج بعيدًا من الانتماء الوطني أو الانتماء إلى قضايا الأمة أو القضايا الإنسانية والتسطيح والتركيز على الفرد وتقدمه الاقتصادي أو الطبقي في مجتمعه. وهو، أي المواطن الخليجي، في كل ذلك ينظر إلى «قشور» الغرب كمثال لا إلى التقدم العلمي والتكنولوجي والثقافي. فليس مستغربًا أن المجتمعات الخليجية بكاملها غير منتجة. حتى النفط الذي يستخرجونه فهم في الكثير من الأحيان لا يقومون بتصنيعه وتحويله إلى مواد قد تساهم في الإنتاج العام والاقتصاد الكلي. كل هذه العوامل مجتمعة مع السياسات العامة التي اتبعتها الحكومات للابتعاد من أي من القضايا التي قد تثير التساؤلات والمطالب الداخلية، مثل الحق في المشاركة في صنع القرار، والشفافية في القرارات السياسية والاقتصادية التي أضرت بفئات كثيرة حين تحولت بمجملها إلى مستهلكة بدلًا من الاهتمام بالإنتاج على مختلف مستوياته. ربما تفيد نظرة سريعة إلى الحراك الاجتماعي الذي ساد هذه المجتمعات في فهم التحولات في سلوكيات وأخلاقيات الفرد أو المواطن الخليجي؛ فقد شهدت هذه المجتمعات صعودًا اجتماعيًا لشرائح وسقوطًا اجتماعيًا لشرائح أخرى كانت تؤدي دورًا مهمًا في بنية هذه المجتمعات وتركيبتها وأخلاقياتها وانتماءاتها. والمجتمعات الخليجية، كما في معظم بلدان العالم، تقلصت فيها الطبقة المتوسطه حيث تحولت فئة قليلة إلى مستويات من الثراء والبذخ وتوسعت شريحة ما دون المتوسطة إلى الفقيرة لتصبح هي الأغلبية العامة.

باختصار، إن كل هذه العوامل مجتمعة وضعت الأساس لتقبُّل كثير من الخليجيين، لا كل الخليجيين، مسألة أن القضية الفلسطينية هي خاصة بالفلسطينيين أو أنها ليست قضيتهم الأساسية أو همهم اليومي. بل صدَّق البعض كثيرًا من الأكاذيب والسرديات الصهيونية التي قدمت إلى الخليجي من جانب كثير من الأسماء اللامعة مِن مَن يسمَّون مثقفين وباحثين وكتابًا وإعلاميين ومقدمي برامج. مثال على تلك السردية، أن الخليج قد قدم الكثير إلى الفلسطينيين على صورة أموال ومساعدات ولكنهم لم يستخدموها لمصلحة شعبهم؛ أو أنهم، أي الفلسطينيين، هم من باع الأرض للصهاينة، أو أن بعضهم استفاد وبنى ثروة من أموال الخليج ومعوناته… إلخ. فهناك روايات كثيرة يحاول البعض عبرها ومنها النفاذ إلى تبريرات لحجم الصمت الخليجي الشعبي، لا الرسمي فقط؛ فلم تشهد بلدان الخليج اعتصامات وتظاهرات إلا في الكويت والبحرين وعُمان وهذه البلدان الثلاثة لا تزال تتميز بكتل شعبية مساندة لفلسطين والفلسطينيين وحقهم في أرضهم ووطنهم. على سبيل المثال شهدت مقاطعة البضائع الصهيونية حملة قوية جدًا في كل من البلدان الثلاثة المذكورة سالفًا إلى جانب شرائح من البلدان الخليجية العربية الأخرى بالطبع. ولكنها، وبحسب ما نشر على نحو واسع، بقيت ضعيفة أو حتى حوربت في بعض البلدان الخليجية. هناك أيضًا موقف رسمي معادٍ للموقف الشعبي الضعيف أصلًا، تجاه حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني. ففي حين يقف كثير من المواطنين الخليجيين معترضين على هذه الإبادة معبّرين عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني بـ «أضعف الإيمان»، وهو المقاطعة ورفع العلم الفلسطيني أو ارتداء الكوفية أو الاعتصام والمسيرة، إذا ما سُمح لهم بذلك، والمطالبة بطرد السفراء في الدول التي وقّعت معاهدات مشتركة مع الكيان الصهيوني، تقوم حكومات بعض الدول بمعاقبة كل من يتجرأ ويعبّر عن مثل هذه المواقف أو يندِّد بالموقف الرسمي الخليجي أو العربي. فعامل الخوف من الاعتقال أو المطاردة في الوظائف والأعمال مثّل عاملًا مهمًّا ورئيسًا في مثل هذا الصمت الخليجي الشعبي، ولكنه ليس سببًا كافيًا لتفسير كل هذه السلبية، حتى من كثير ممن يتألمون عند مشاهدة صور الأجساد المقطَّعة لأطفال فلسطين ونسائها ورجالها. كما أن كل هذه العوامل لا تفسر أنه حتى الخليجي المعبّر عن موقفه وألمه ووجعه مما يحدث من إبادة جماعية في فلسطين، لم يستغنِ عن بعض تفاصيل أنماط الاستهلاك التي اعتادها من استهلاك مفرط أو سفريات مكوكية فصلية، أو المجاهرة بحفلات زواج وأعياد ميلاد، وحتى للعائدين من الحج بصورة مستفزة أمام أطفال يفترسهم الجوع، إن لم تصطدهم صواريخ الصهاينة وأتباعهم ومموليهم وأصدقائهم وحلفائهم حتى العرب منهم.

كل هذه الصور تبدو في مظهرها سلبية جدًا لتحولات الموقف الخليجي الشعبي من مؤيد ومناصر للقضية الفلسطينية، إلى موقف يبدو في مجمله ضعيفًا ومنحسرًا وبعيدًا من ذاك الواقع، وبخاصةٍ أن الأصوات ارتفعت في عواصم ومدن غير عربية ولا إسلامية وشملت كثيرًا من الجامعات العريقة. بل إن اللافت للنظر أن طوفان الأقصى فتح النقاش واسعًا حول النظام العالمي السياسي منه والاقتصادي، وفتح الباب واسعًا أيضًا للهيمنة على مفاصل الحياة في معظم بلدان العالم. لذلك، يبدو أنه على الرغم من كل هذا الصمت الخليجي فإن هناك حراكًا قد يبدو ضعيفًا الآن، خائفًا أو متوجسًا، ولكنه، وهذا أمل كثير من الخليجيين العاملين المهتمين والعاملين في الشأن العام والحرصاء على مستقبل أوطانهم وشعوبهم ومنطقتهم، ما يلبث أن يتوسع ويتحرك ويرفع المطالب بمزيد من المشاركة والشفافية التي تساهم حتمًا في تصحيح الخلل الذي تراكم على مر العقدين الماضيين أو أكثر قليلًا. فكثير من الخليجيين قد بدأوا في المطالبة بإنهاء الاتفاقيات والعلاقات مع الكيان الصهيوني وعدم توقيع اتفاقيات جديدة مع الدول التي لم توقع حتى الآن. وفي كل ذلك بداية لمراحل جديدة قد تبدو صعبة الآن، إن لم تكن مستحيلة، إلا أنها كما تحرير فلسطين وهزيمة المحتل الذي كان ضربًا من الخيال وتحوَّل بعد طوفان الأقصى إلى واقع رغم كل القتل والدمار والموت المتنقل.

كتب ذات صلة:

غزة: بحث في استشهادها

تصدير الثروة واغتراب الإنسان: تاريخ الخلل الإنتاجي في دول الخليج العربية

الاستدامة في الخليج

ما بعد النفط: تحديات البقاء في دول الخليج العربية