مقدمة:

أصبحت ليبيا – عندما استقلت في نهاية عام 1951 – الدولة العربية الثامنة. أُعْلن الاستقلال بناء على قرار من الأمم المتحدة ضمن برنامج معالجة حالة البلدان التي كانت مستعمرة من قبل دول المحور قبل الحرب العالمية الثانية. وكبلد لا يمتلك ثروات طبيعية معروفة، لم يثر الإعلان عن استقلالها حينذاك اهتماماً عالمياً. تغير هذا الوضع حين تبين أن البلاد ترقد على مخزون ضخم من النفط والغاز. ومع ذلك، ظلت بعيدة مما كان يجري في المنطقة من نشاط سياسي تمحور حول حركات التحرر، والقومية العربية، والوحدة العربية.

تغير هذا الوضع في اليوم الأول من شهر أيلول/سبتمبر 1969 عندما تسلّم السلطة حفنة من صغار ضباط الجيش بقيادة معمر محمد بومنيار القذافي. بدا واضحاً، منذ الساعات الأولى، أن الانقلاب سيُدخل ليبيا ضمن النشاط السياسي العربي. وبعد رحيل عبد الناصر، رأى القذافي أنه أحق بقيادة ما عُرف بالمشروع الناصري.

ومنذ ذلك التاريخ، دخلت البلاد في صدامات مع دول الجوار، وما يُعرف بالدول العظمى أيضاً. نجح القذافي في أن يكون، باستمرار، في قلب الأخبار العالمية بما دخل فيها من أنشطة ومشاريع تخالف النمط السائد في العلاقات الدولية. وقد تسببت هذه السياسة في تصنيف ليبيا كدولة مارقة، وراعية للإرهاب، ومصدر رئيس لزعزعة الأمن ليس في محيطها العربي والأفريقي فقط، بل في العالم أيضاً.

لم يتوقع بعض المراقبين أن تستمر سيطرة القذافي على البلد كثيراً، وخصوصاً أن المحاولات بدأت في الشهور الأولى من تاريخ الانقلاب. لكن القذافي، وعلى العكس من ذلك، استمر في الحكم بحيث حصد ألقاباً أصبح يفاخر بها: أقدم الحكام العرب، ثم أقدم حكام أفريقيا. لا يعني هذا أن جميع الليبيين كانوا راضين عن إدارته، وسعداء بوجوده، أو أن جميعهم صدّق مقولاته: ليبيا هي النعيم الأرضي، وهي البلد الوحيد الحر في العالم، وكذلك الديمقراطية المطبقة في ليبيا هي الديمقراطية الحقيقية الوحيدة في العالم، ومع ذلك ليس فيها مكان للرأي الآخر، ولا تسمح بوجود معارضة معلنة، وعلى من يجاهر بمعارضته النظام إما مواجهة السجن، وإما العيش بعيداً من الوطن. وعلى الرغم من ارتفاع دخل الدولة من بيع النفط الخام، جرب الليبيون الذين عاشوا في الداخل شظف الحياة، وخصوصاً بعد فرض سياسة الاشتراكية المبنية على تأميم جميع أنواع الأنشطة الاقتصادية. كما تعوّدوا الوقوف في طوابير طويلة، للحصول على أبسط متطلبات الحياة اليومية. وبسبب سياسة القذافي المتهورة، عومل الليبيون في أغلب بلدان العالم كما لو أنهم يحملون فيروساً خبيثاً، وحرموا السفر إلى الخارج عبر الجو مدة من الزمن. ومع ذلك، وجدت فئة متميزة عاشت في مستوى حياة أرفع، انتمى أعضاؤها إلى الدوائر المقربة من القذافي.

اضطر القذافي إلى تغيير بعض سياساته؛ فهادن الغرب، وألغى النظام الاشتراكي، وانْضمَّ إلى مسلسل التوريث العربي بعد أن تبين أن بإمكانه وضع حجر الأساس لبناء أسرة حاكمة. ونظراً إلى خبرة الابن المرشح لتولي منصب أبيه بالثقافة الغربية، فقد بدأ العمل على وضع برنامج (ليبيا الغد) لإحداث إصلاحات تستجيب لبعض طموحات الجيل الجديد، وتُدخل بعض التحسينات على الصورة القاتمة التي ارتبطت بالنظام الليبي. أحاط سيف الإسلام نفسه بكفاءات ليبية متميزة في الاقتصاد والتخطيط والقانون والسياسة، وتقرّب من الشباب ضمن لقاءات جماهيرية، ثم دَخَل في حوار مع أعضاء الجماعات الإسلامية بمن فيهم الموجودون داخل السجون. وبَدَا المشهد، عشية انطلاق انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011 وكأن الأمور جميعها تحت السيطرة، وتسير في الاتجاه المرسوم مسبقاً. لذلك جاء التحرك الشعبي على نطاق واسع كحدث فاجأ الجميع؛ النظام، والشعب، والمراقبين في الداخل وفي الخارج. كان الموعد متفقاً عليه من قبل شباب الفيسبوك للتظاهر إحياءً لذكرى أليمة، كما كانت المطالب متواضعة لا تتجاوز الإصلاحات التي كان النظام يخطط لمعظمها. وتوقع الجميع أن المظاهرة ستكون مقتصرة على مدينتي بنغازي وطرابلس، وأن لا يتجاوز حجم المتظاهرين بضعة مئات من الشباب. وأكد هذا التوقع أن ما حدث في تونس تجاوز الجارة لتظهر تداعياته في مصر واليمن والبحرين.

حدث ما لم يكن متوقعاً، وخرج الليبيون في حراك شعبي واسع شاركت فيه جميع فئات الشعب، وعمت البلاد من أقصاها إلى أقصاها، ورفعت شعارات بدت غريبة على الشارع الليبي تضمنت: الحرية والديمقراطية وبناء الدولة المدنية، وحتى: الشعب يريد إسقاط النظام. لم يقبل النظام بحراك من هذا النوع، واعتبره كفراً يعاقَب مرتكبه بأقسى أنواع العقاب. وحدثت حرب أهلية دامت زهاء الثمانية أشهر، تدخلت فيها دول عربية وغير عربية بما في ذلك حلف الناتو. قتل الآلاف، وجرح أضعافهم، وهجر مئات الآلاف، وهرب آخرون إلى دول الجوار، وحتى إلى بلدان أبعد من ذلك. وأخيراً انتهت الحرب بين كتائب النظام الأمنية وما عرف بميليشيات ثورة 17 شباط/فبراير. وتوقع السكان، وكذلك المراقبون في الخارج بمن فيهم رؤساء الحكومات الغربية، الذين بادر بعضهم إلى زيارة بنغازي لمشاركة الليبيين فرحتهم في احتفالات النصر، بأن السلام سيعم، وستنطلق أعمال البناء والتعمير.

جرت الاحتفالات في المدن وفي القرى، وبدت صور البهجة والفرحة العارمة في الساحات وفي الشوارع التي ازدانت بالأعلام؛ علم الاستقلال الذي غيبه القذافي منذ اليوم الأول للانقلاب. لكن الفرحة لم تدم طويلاً، إذ دبت الخلافات بين حلفاء الأمس، وبرزت تناقضات بين الفصائل المختلفة تشير إلى تداعيات لا تصب في اتجاه بناء الدولة المدنية. ومع ذلك، فقد نجح المجلس الوطني في تنفيذ المراحل الأولى من خريطة طريق وضعها بهدف بناء الدولة المدنية.

إنّ المظهر الذي سبب أرقاً لمن حاول إدارة الشأن العام هو رفض الميليشيات المسلحة التخلي عن أسلحتها ونفوذها، وتحولت بذلك إلى سلطة عليا. وعندما تحول أصدقاء الأمس إلى قوى متصارعة، ظهرت على السطح صورة تختلف عن التي سادت أثناء الحرب الأهلية. اشتدت حدة التنازع على السلطة، وحاول كل فريق الحصول على أكبر قدر من الغنائم التي اتخذت أوجهاً متعددة: أسلحة، وأموالاً ومباني، وحقائب وزارية ومراكز عالية في الكادر الحكومي، وعلاقات مع الدول الأخرى. وغابت قيم كانت موجودة أثناء الحرب مثل: الإيثار، والتعاون، والكرم، والاحترام، والرحمة، والإحسان، وحلت محلها قيم تعارضها؛ فكثرت الصدامات المسلحة، وأعمال السلب والنهب، والاختطاف والتعذيب والقتل والتخريب، وسادت حال من الفوضى العارمة: أين ذهبت تلك الشعارات التي رُفعت أثناء الانتفاضة؟ لماذا فشل الليبيون في ترجمتها إلى أفعال وأنماط سلوك؟ ما هي الأخطاء التي ارتكبت مِن قبل مَن أوكلت إليهم مهمة بناء الدولة الجديدة: المجلس الوطني الانتقالي المؤقت، والحكومات المتعاقبة؟ وهل ساهم التدخل الخارجي بنصيب في هذه النتيجة؟ وإلى متى ستظل الميليشيات تتصرف خارج سلطة مركزية؟ وهل سيتمكن الليبيون من الاتفاق على مستقبل واحد، أم أن التقسيم هو المشهد المرشح للاستمرار؟ هذه عينة من الأسئلة التي ستحاول هذه الورقة الاجابة عنها.

أولاً: ليبيا أثناء حكم القذافي: بَدْوَنة الدولة

لا شك في أن سكنى البادية نمط من أنماط الاستقرار البشري له خصائصه وظروفه. وهو نمط عرفته مختلف المجتمعات البشرية خلال مراحل من تاريخها. وكان البدو، باستمرار، أحد أهم مكونات ليبيا السكانية. ومع أن سكنى المدينة هو نمط الاستقرار السائد الآن، إلا أن نسبة كبيرة من الليبيين لا يزالون يحملون بعض خصائص حياة البادية أو الريف. وتنعكس هذه في مظاهر سلوكية كثيرة؛ لن نستعرضها، بل سنسلط الضوء على صفة واحدة وهي المرتبطة بالتنقل وتغيير المكان. لا تسبب هذه الصفة مشكلة للفرد الذي يعيش في الصحراء سواء على مستوى تغيير المكان؛ فالصحراء فضاء مفتوح ومتسع، أو على مستوى السلوك؛ فالأنماط السلوكية المتاحة محدودة. والعلاقات مع الآخر هي الأخرى محدودة إذا ما قورنت بتلك التي يتيحها فضاء المدينة.

أمضى القذافي جزءاً من طفولته في البادية، فتأثرت شخصيته بخصائص وصفات تلك البيئة. وعندما انتقل إلى الإقامة في المدينة ليكمل تعليمه، وينتسب إلى الكلية العسكرية، تمسك ببعض تلك الصفات التي ظهرت واضحة بعد أن نجح في انقلابه العسكري، إذ رفع شعار «انتصرت الخيمة على القصر»، وحافظ على أن تكون له خيمة باستمرار. أصر على نصب خيمته بجوار المنزل الحديث، وأن تكون الخيمة منصوبة في أي موقع يريد أن يمضي فيه بعض الوقت. كما أصر على اصطحابها في رحلاته الخارجية غير مبالٍ بالمتاعب التي يتسبب فيها هذا السلوك لآخرين. ويفترض أن الذي يتجه إلى الإقامة في المدينة أن يترك نمط الإقامة القديم وراءه. لكن القذاقي اصطحب خيمته، كما أخذ معها ما يتصل بها من طرائق تفكير وأنماط سلوك.

ذكرنا أن خصائص الثقافة البدوية تتطلب فراغاً مفتوحاً، بينما الفراغ الذي توفره المدينة للفرد محدود. فخاصية التنقل بحرية، في فراغ البادية الواسع، لا تتعارض وموجودات الصحراء. لكن عندما يحمل الفرد هذه الخاصية معه إلى المدينة، ستقود تصرفاته إلى أشياء تتعارض وطبيعة حياة الاستقرار الحضري. ستظهر صفة التغيير في مختلف المناسبات والمواقف. وعليه إذا ما دعت الظروف ليغيِّر طبيعة إقامته، فانتقل إلى الإقامة في المدينة، ستظهر خاصية التغيير في مجالات كثيرة كتغيير طبيعة العمل، وعدم الالتزام بالقواعد التي تتطلبها حياة الاستقرار. وعليه إذا تولى تسيير إدارة مكتب أو مؤسسة سيعمل في اتجاه كثرة المقترحات المؤدية إلى التغيير في التعليمات الإدارية والقواعد وحتى القوانين. وهو أمر يهدد استمرارية المؤسسة، التي هي عصب النظام في المجتمع الحديث. ثم إنه أمر يهدد استمرارية مأسسة العلاقات الاجتماعية التي تتصدر خصائص المجتمع الحديث. فمن شروط استمرار الحياة في المجتمع الحديث أن تمر المهام والعلاقات ومختلف أشكال التفاعل الاجتماعي عبر مؤسسات لها قواعد وقوانين وترتيبات، يلتزم بها جميع من لهم علاقة بكل مؤسسة خلال مرحلة زمنية أو تاريخية معينة. وبالطبع يزداد الأمر تعقيداً إذا تولى من أراد الاحتفاظ بنمط البدونة تسيير شؤون دولة، وكان في نفس الوقت دكتاتوراً، لا يقبل الاعتراض على آرائه، لا بل حتى مناقشتها، وهذا هو الذي حدث في حالة المجتمع الليبي.

كان سلوك القذافي، خلال طوال حكمه، مثالاً جيداً لحالة البدونة هذه. ظهر هذا بوضوح بعد خطاب زوارة عندما قرر إلغاء القوانين، وإلغاء الإدارة التقليدية واستبدالها بلجان شعبية تتولى تسيير الأمور من دون علامات واضحة. اتخذ ذلك القرار من دون أن يستشير أحداً، حتى زملاءه أعضاء «مجلس قيادة الثورة». ودخلت البلاد، منذ ذلك التاريخ، في فوضى إدارية وفوضى سياسية. عندما قام بانقلابه، كانت ليبيا مقسمة إدارياً إلى 10 محافظات يتبعها عدد من البلديات. استمر هذا الوضع حتى سنة 1975 عندما أجري تعديل على النظام الإداري ألغي بموجبه نظام المحافظات، وانقسمت ليبيا إلى 46 بلدية، وبعد خمس سنوات تقلصت إلى 25، ثم بعد ست سنوات انخفضت إلى 13 بلدية، وبعد أربع سنوات إلى 7 بلديات فقط. ثم اقترح نظاماً جديداً سماه الشعبيات التي تعرضت هي الأخرى، من حيث العدد، للتمدد والتقلص. واستمرت سياسة التغيير الإداري من دون التفكير في حالة الفوضى التي تسببت فيها هذه السياسة. الشيء نفسه حدث في السياسة الخارجية؛ فمن إلغاء النظام الدولي للتبادل الدبلوماسي، الذي أربك العلاقات مع بقية دول العالم، إلى برنامج الاتحاد مع دول أخرى، الذي بدأ بالبلدان العربية، ثم تمدد بحيث شمل القارة الأفريقية بأكملها، وهو برنامج لم ينجح إلا في فتح أبواب واسعة أمام تبديد الثروة.

ثانياً: انتفاضة 17 شباط/فبراير: الأسباب، المسيرة، والتداعيات

أكدت الكتابات التي أرّخت لانتفاضة 17 شباط/فبراير أن الشباب هم الذين أخذوا بزمام المبادرة، وخصوصاً تلك الفئة النشطة في مجال وسائل الاتصال الاجتماعي‏[1]. إلا أنه لا بد من التأكيد أن الدعم المبكر الذي جاء من رجال القضاء والمحامين المعتصمين في مدينة بنغازي، ساهم في توسيع مجال المشاركة، بحيث انْضمَّت أعداد من المثقفين والأكاديميين والإعلاميين، وأعطي هذا التحرك الشبابي بُعد أعمق.

كان أمراً متوقعاً أن يكون رد فعل النظام عنيفاً في بلد لا يعرف إلا تظاهرات التأييد للقذافي وثورته. ثم إن انطلاق نشاط «الربيع العربي» قبل الموعد الذي اتفق عليه شباب شبكات التواصل الاجتماعي، ساهم في رفع سقف المطالب، ليصبح: «الشعب يريد تغيير النظام» انسجاماً مع المطالب التي رفعت في كل من تونس ومصر‏[2].

لم يتوقع القذافي، الذي حكم البلاد بيد من حديد، أن يأتي اليوم الذي يسمع فيه مثل هذه الصرخة في الشارع الليبي. لذلك، وفي غياب الجيش، أمر كتائبه الأمنية بالتعامل بقوة لمنع طلائع المتظاهرين في المدينة التي شهدت انطلاق الانتفاضة. وبدلاً من أن تقضي القوة المفرطة على بداية التحرك الشعبي، انتشرت التظاهرات الغاضبة، لتعم المدن وقرى البلاد من أقصاها إلى أقصاها. وانْضمَّ إلى الشباب، الذي لم يكن مسلحاً، آخرون من الناقمين على النظام من مختلف شرائح الشعب بمن فيهم الشرطة وبقايا رجال الجيش. بدا المشهد خلال الأسبوع الأول من الانتفاضة، التي أطلق عليها أصحابها ثورة 17 شباط/فبراير، وكأن ليبيا في طريقها إلى اللحاق بحالتي تونس ومصر، وخصوصاً أن مظاهر النظام كمؤسسات أحرقت، وأشخاص إما هربوا، وإما انسحبوا، وإما انْضمّوا إلى المتظاهرين، وظهر ما يعرف بالمدن المحررة. لكن القذافي أصر على سحق المنتفضين؛ فأمر كتائبه الأمنية باستخدام جميع أشكال القوة، مما أدى الى ارتكاب أفعال تتعارض مع أبسط حقوق الإنسان. نجح شباب التواصل الاجتماعي، وبمساندة قناة «الجزيرة»، التي سارعت إلى نقل طواقمها من ميدان التحرير بالقاهرة إلى ساحة الحرية في بنغازي، في نشر صور الفظائع التي ارتكبتها الكتائب الأمنية، مما أثار موجة عارمة من الغضب على المستويين الإقليمي والعالمي، قادت في النهاية إلى تدخل القوات الدولية تحت مظلة حماية المدنيين. اقتصر دور التدخل العسكري الدولي على توجيه الضربات الجوية، وتولت الميليشيات المسلحة المحلية مهمة الحرب على الأرض.

رفع شباب الانتفاضة، ذكوراً وإناثاً، ومن انْضمّ إليهم من كبار السن، الشعارات التي أشير إليها آنفاً. انتشرت تلك الشعارات بين جميع المنتفضين بغض النظر عن أماكن تواجدهم. لكن، وقبل أن يمر وقت طويل بعد سقوط النظام، تبخرت هذه الشعارات، لتحل محلها أفعال تعبر عن الولاء القبلي، وتعيد إلى الأذهان عداوات أكل عليها الدهر وشرب، ومستبدِلة قيم الديمقراطية التي تحترم الاختلاف بأخرى تتعصب للرأي الذي تؤمن به فرقة معينة بحكم انتمائها إلى جماعة إسلامية متطرفة، أو لأيديولوجيا بعينها، معلنة، بكل وضوح، أن لا مكان لصاحب الرأي المخالف الذي عليه أن يفر بجلده، أو يواجه الموت المنفذ بعدة وسائل من بينها الذبح على طريقة ذبح الخراف.

وضع «المجلس الوطني الانتقالي» الموقت خريطة طريق، عنوانها بناء الدولة المدنية الديمقراطية، تنجز ضمن مراحل، تبدأ بتنصيب حكومة انتقالية يكون من مهامها وضع قوانين ضرورية، تشمل قانوناً لتنظيم الأحزاب السياسية، وآخر للمجتمع المدني، وثالثاً خاصاً بتنظيم انتخاب مجلس تشريعي يسمى: «المؤتمر الوطني العام»، يبدأ مهامه باختيار حكومة موقتة، وقانون لاختيار لجنة لصياغة دستور؛ وهو أمر افتقدته ليبيا منذ اليوم الأول من انقلاب ما أصبح يعرف بثورة الفاتح من سبتمبر. أنجزت الخطوات الأولى من خريطة الطريق، وتألفت الحكومة الانتقالية ثم الحكومة المؤقتة. تضمنت الحكومتان حقيبتي الدفاع والداخلية، ويفترض أن تكون المهمة الأولى للذين سيشغلون هذه الحقائب بناء الجيش والشرطة. ولكن الجميع فشل في إنجاز هذه المهمة، لأن الميليشيات وقفت ضد تحقيقها، وخصوصاً أن بعض من حصل على حقيبة وزارية، حصل عليها ليس لتمايزه وخبرته في مجال عمله، ولكن لقيادته ميليشيا قوية. وهكذا فرضت الميليشيات سيطرتها على المشهد الليبي، وانحصر نشاط الحكومة، وكذلك «المؤتمر الوطني العام» في تنفيذ رغبات زعماء الميليشيات التي كانت في بعض الأحيان متناقضة، ومتعارضة مع قواعد المنطق والعقل، ودخلت البلاد في حال من الفوضى العارمة، مما شجع بعض المراقبين على وصف ليبيا بالدولة الفاشلة‏[3]، تمهيداً للوصول إلى حالة اللادولة.

ثالثاً: ليبيا بعد القذافي: حالة الفوضى العارمة

مر على رحيل القذافي من المشهد الليبي أربع سنوات، ومع ذلك لم تتخلص البلاد من حال الفوضى العارمة. وهي حال ناقضت توقعات المشاركين في الحراك الشعبي، كما خيبت تنبؤات من تحمس ووصف ذلك الحراك في بداياته بالربيع العربي. ما الذي حدث؟ وكيف سارت الرياح بما لا تشتهي السفن؟ لا بد من أن أخطاء كثيرة حدثت قام بها من تسبب في إطاحة نظام القذافي، ومن تولى إدارة البلاد إذّاك. فهل يمكن التعرف إلى هذه الأخطاء أو، على الأقل، إلى بعض أهمها؟ ومن تسبب فيها؟

1 – المساهمون في حملة إطاحة القذافي

يمكن تصنيف الذين ساهموا في العمل لإسقاط القذافي إلى صنفين رئيسين، ليبيين وغير ليبيين. وكل صنف يمكن في ما بعد تصنيفه بناء على أكثر من مؤشر. في هذا الجزء، سيتم تسليط الضوء على الليبيين الذين سيصنَّفون – في البداية أيضاً – إلى صنفين، مقيمين في ليبيا، وآخرين يعيشون في الخارج. كما يمكن التمييز بين فرق وجماعات مختلفة داخل كل صنف.

ينتمي ليبيّو الداخل، الذين قاموا بدور في إسقاط القذافي، إلى فئات أهمها شباب الفيسبوك، وطلبة، ومثقفون، ورجال قانون وقضاء، وصحافيون ورجال إعلام، وعسكريون من منتسبي الجيش والشرطة، وعمال، وعاطلون من العمل. وينتمي ليبيّو الخارج إلى فئات أهمها شباب الفيسبوك وطلبة ومثقفون ومهنيون.

ذكرنا، في مكان سابق، أن شباب الفيسبوك كان لهم سبق الإعداد لانتفاضة 17 شباط/فبراير. فالشباب الذين بادروا، في هذا المجال، هم المتواجدون في الخارج؛ إنّ الذي أنشأ موقعاً في الفيسبوك، ويحمل عنوان 17 شباط/فبراير، كان يعيش في سويسرا. لكن التواصل مع هذا الموقع، شارك فيه شباب الخارج والداخل. وعندما بدأت التظاهرات كانت، أولاً، في الداخل، ثم التحق بها شباب الخارج في مسيرات نظموها في المدن التي كانوا يعيشون فيها. وبعد أن تمكن المنتفضون في الداخل من فرض سيطرتهم على بعض المدن، وسموها محررة، التحق بهم من كان في الخارج؛ فنسبة من العائدين التحقت بالميليشيات العسكرية التابعة لما سمي ثورة 17 شباط/فبراير، أو أنشأوا ميليشيات جديدة، والنسبة الكبيرة من العائدين من الخارج من مهنيين ومعارضين ورجال دين، فضّلت المشاركة في الأنشطة الاحتفالية التي كانت تجري في الساحات، وخصوصاً ساحة الحرية في مدينة بنغازي. وهي عبارة عن معرض كبير للرسوم الجدارية، عبر بها أصحابها عن بعض آرائهم وتصوراتهم وانتقاداتهم بكل حرية. وبها، أيضاً صور الذين استشهدوا في الحرب، وصور بعض شهداء الحرب ضد الإيطاليين. وبها خيام عبارة عن معارض للكتب أو الصناعات التقليدية، أو معلومات حول فئات أو جماعات بعينها، وأكشاك لبيع الأطعمة والمشروبات. وفي الساحة شاشة عرض كبيرة لمتابعة أخبار الفضائيات، ومنبر للخطابة متاح لكل من أراد أن يدلي برأي أو بيانات أو معلومات. يتوافد على الساحة جميع فئات الشعب من دون تمييز بين كبار وصغار، أو بين رجال ونساء، ومن كل أطراف البلاد في مهرجان شعبي كبير. كما أنها الساحة التي رحب فيها سكان بنغازي بكبار الزوار. إذ توافد على مدينة بنغازي، منذ بداية الانتفاضة، صحافيون ورجال سياسة ونشطاء في المجتمع المدني، واستقبلت في تاريخ لاحق رؤساء حكومات ووزراء وبرلمانيون. وقد كانت طيلة أيام الحرب مكاناً للتظاهرات وإلقاء الخطب والاحتفالات ليـلاً ونهاراً؛ فكانت ساحة للبهجة والفرح ولقاء الأصدقاء. وقد حرص عدد من رجال المعارضة أو العاملين في الخارج على التواجد في الساحة، وإلقاء الخطب كنوع من الحملات الانتخابية، لتولي مناصب في حكومات ما بعد القذافي، أو الترشح لانتخابات المؤتمر الوطني.

لم تستمر مهرجانات الفرح في ساحة الحرية، بعد ما سمي يوم التحرير، إلا لشهور محدودة؛ إذ أدت الانقسامات التي ظهرت بين الميليشيات، فور قتل القذافي، إلى صدامات مسلحة، وأعمال هدم وتخريب، لم تسلم منها الساحة ولا مبنى المحكمة المطل عليها، وكانت رمزاً للثورة، إذ استهدفت بعبوات ناسفة أكثر من مرة، فدمرت أجزاء مهمة منها‏[4]. واتخذت أعمال التخريب وجوهاً مختلفة؛ فمثلاً تعرض موقع الفيسبوك الذي حمل عنوان ثورة 17 شباط/فبراير للاختراق، واستقبل هاتف صاحبه أكثر من تهديد فاضطر إلى إقفاله، وحتى إلى مغادرة البلاد. كما غادر البلاد عدد كبير من الذين تقدموا الحراك الاجتماعي؛ بينهم أعضاء «المجلس الانتقالي» وأعضاء «المؤتمر الوطني»، ووزراء في الحكومتين الانتقالية والمؤقتة ورجال إعلام ومثقفون. فكيف ولماذا أصبحت ثورة 17 شباط/فبراير ورموزها هدفاً للتخريب وللإقصاء؟ من هي القوة التي يهمها تغيير تاريخ الثورة، وإعادة كتابته؟ وهي أفعال تعيد إلى الأذهان ما فعله القذافي في محاولته طمس تاريخ ليبيا الذي سبق تاريخ ما عرف بثورة الفاتح من أيلول/سبتمبر 1969. بعبارة أخرى، تمكنت فئة معينة من الفئات الكثيرة التي شاركت في عملية إطاحة القذافي من السيطرة على المشهد السياسي في مدينة بنغازي، وقررت إقصاء بقية الفئات.

2 – من أداء المجلس الوطني الانتقالي

ليس الهدف هو تقييم أداء المجلس خلال توليه إدارة الصراع مع القذافي، وإنما سنهتم ببعض القرارات التي أدت إلى تداعيات، ساهمت في انتشار حالة الفوضى العارمة. لا شك في أن «المجلس الانتقالي» نجح في الحصول على ثقة أغلبية الليبيين الذين انضموا إلى النشاط المتعلق بتغيير النظام، كما نجح في الحصول على دعم عربي ودولي بحيث اعترف به كممثل شرعي لنظام حكم جديد في ليبيا. كذلك لا يمكن التشكيك في وطنية أعضائه، ولا في اجتهادهم لتولي المهمة الصعبة في ظروف تحيط بها المخاطر من كل جانب. ويُحسب للمجلس أنه وُفّق في إصدار قرارات كثيرة كان لها الأثر المهم في توجيه دفة النشاط خلال الحرب التي دارت قبل سقوط نظام القذافي. لكن لا يمنع هذا من إبداء الرأي حول بعض القرارات التي قد تكون فرضتها الظروف الحرجة التي كانت تحيط بالنشاط الحربي، وساهمت تالياً، في تطور حالة الفوضى التي ما زالت تسيطر على المشهد العام في البلد، ويمكن رصد بعضها في ما يلي:

أ – ضعف المهنية والتخبط في الأداء

الكيفية التي تكوّن بها المجلس لها دورٌ كبير في بعض مظاهر التخبط في الأداء؛ إذ جاءت بطريقة عفوية وبناء على القرار الفردي للشخص. وهو قرار يعكس درجة عالية من الشجاعة لعدم وضوح الرؤية خلال الأسابيع الأولى. لذلك لم يعلن المجلس عن قائمة أعضائه، واكتفى بعدد محدود ظهر بوضوح في وسائل الإعلام. وضع المجلس لنفسه نظاماً أساسياً ولائحة داخلية، كما تم توزيع عدد من المهام على الأعضاء البارزين إعلامياً. لكن هذا لم يمنع من أن بعض الأعضاء فضل نوعاً من الاستقلال في الحركة، وخصوصاً في مجال الاتصال بالمسؤولين في أقطار عربية وغير عربية، وفي الظهور في وسائل الإعلام. يمكن النظر إلى هذا الأسلوب خلال الأيام الأولى من باب ما يسمى محلياً «الرغاطة»‏[5]. فالذين تسابقوا إلى العمل، وخصوصاً في الخارج، لتأييد الحراك الشعبي في الداخل، كان لهم العذر في طلب الدعم من أي جهة. لكن بعد أن قام المجلس بتوزيع المهام على بعض أعضائه، وتعيين مجلس تنفيذي يقوم بمهام مجلس وزراء، أصبحت حرية الاتصالات بالخارج تصب في باب الفوضى وليس في صالح مسيرة الانتفاضة. وقد لاحظت بعض الدول هذه الرغبة عند أعضاء المجلس، وعند الذين تولوا مسؤوليات إدارة الأزمة في مدنهم، فوجهت الدعوة إلى الكثيرين لزيارة عواصمها. وثمّة معلومات عن أن مبالغ مالية قدمت للمدعوين على أساس مصروف جيب، ولكنها رشى، ويتوقع أن ينفذ هؤلاء أوامر صاحب الدعوة وصاحب الرشوة. صرح رئيس المجلس بهذا بكل وضوح عندما قال: «لم يذهب أي شخص إلى قطر، إلا وقاموا بإعطائه مبلغاً من المال، منهم من سلمه للدولة ومنهم من أخذه لنفسه»‏[6].

وقد تجلت الرغبة في استقلالية الحركة في التهافت على الظهور في الفضائيات والإدلاء بتصريحات مع أن للمجلس ناطقاً رسمياً. وقد أدى هذا إلى ظهور إشارات متعارضة حول بعض القضايا المهمة؛ فمثـلاً انتهت القمة الأفريقية السابعة عشرة في 3/7/2011 بمقترحات لحل الأزمة الليبية قدمت لطرفي النزاع. قبل القذافي بالمقترحات بينما عبر المجلس، من طريق عدد من أعضائه، بردود فعل متناقضة ومتعارضة. مما عكس حالة من التخبط، التي أدى بها المجلس بعض مهامه. وقد برزت عدم المهنية في ما سمي خطاب التحرير الذي ألقاه رئيس المجلس، الذي يفترض أن يكون بمثابة الإعلان الرسمي عن بداية الدولة الجديدة. لم يكن مكتوباً ولا متفقاً عليه من قبل أعضاء المجلس. الذي حدث أنه ارتجل الكلمة، فوردت فيه الأفكار كما اتفق. فظهر في هذا الشأن مقلداً القذافي، كما شدّد على أسلوب التقليد من طريق إصدار أحكام فورية كقوله: «أي قانون مخالف للشريعة الإسلامية هو موقوف فوراً ومنها القانون الذي يحد من تعدد الزوجات». وقد حظيت هذه العبارة بكمٍّ كبير من التعليقات التي اتجه أغلبها نحو توجيه النقد للرئيس: فهل مشكلة ليبيا، في ذلك اليوم، هي الحد من تعدد الزوجات؟ ثم قال أيضا: «وها نحن نعلن اليوم أن هناك ترقية استثنائية لكل العسكريين والمدنيين الذين شاركوا في القتال ضد القذافي»‏[7]. هل ناقش المجلس مثل هذه الأمور واتخذ بشأنها قرارات؟ وفي هذه الحالة تعلن بالوسائل الرسمية، أي أن الرئيس ظهر – مرة ثانية – مقلداً أسلوب القذافي في إدارة الدولة؛ حيث يصبح ما كان يقوله في خطاب جماهيري قانوناً نافذاً حتى ولو تعارض مع قوانين أخرى.

 

ب – عدم وضع ضوابط لمراقبة أداء الميليشيات

لم يكن بالإمكان تنظيم بدء عمل الميليشيات، بما فيها بداية تكوّن كل واحدة، وأسلوب القيام بمهامها. لقد كان هذا النشاط عفوياً وبناء على اجتهادات فردية. ومع أن المدن حاولت تنظيم عمل الميليشيات المنتسبة إليها، إلا أن قادة الميليشيات احتفظوا لأنفسهم بكمّ كبير من حرية التصرف. لم يلتفت المسؤولون إلى الجوانب السلبية التي قد تنتج من استمرار هذا الوضع، حيث تركز الاهتمام – أثناء المعارك مع الكتائب الأمنية – على النشاط الحربي، على الرغم من حدوث أفعال أكدت مقدار الخطر الذي يمكن أن يحدث من جرّاء هذه الحرية. ولعل الطريقة التي قتل بها من كان يتولى رئيس جيش التحرير الوطني للثوار في 28/7/2011 ومرافقوه، واحدة من أهم عثرات هذه الحرية. وقد فشل المجلس في بيان تفاصيل ما أحاط بهذه العملية، مما تسبب في الكثير من اللغط، وتوجيه التهم نحو كل اتجاه، ولم يسلم في هذا الشأن رئيس «المجلس الانتقالي» نفسه.

كان واضحاً، منذ الأيام الأولى، أن بعض من شارك في الحرب ضد القذافي كانت له أجنداته الخاصة، حيث أعلن عنها بصراحة. الشعارات التي رفعها الثوار كان من بينها بناء الدولة المدنية والتحول الديمقراطي. لكن بعض الجماعات ذات التوجهات الدينية المتطرفة، التي لا تؤمن بهذه الشعارات، أعلنت أنها تهدف إلى بعث دولة الخلافة الإسلامية من جديد. ظهر هذا الإعلان في مدينة درنة خلال الأسبوع الثاني من عمر الثورة. وبعد شهرين كان اسم أمير إمارة درنة الإسلامية معروفاً ومتداولاً على مواقع التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، لم ينتبه المجلس للخطر الذي يكمن وراء هذا الإعلان.

ج – التسرع في تعيين مسؤولين من دون مراعاة الكفاءة والأهلية

عين أحد رجال الدين في شباط/فبراير 2012 ليكون مفتياً، بناء على قانون اعترض على شرعيته بعض رجال الدين‏[8]. نشط المفتي في إصدار فتاوى كثيرة تتعلق بما يجري على الأرض من صدام مسلح ونشاط سياسي، لم يراعِ حالة الانقسام التي عليها البلاد، ولم يقدر خطورتها على اللحمة الوطنية. وبحكم مركزه، كان بإمكانه المساهمة في توعية الناس لخطر الانقسام. وبدلاً من هذا، أصدر فتاوى منحازة، رحب بها الطرف الذي انحازت نحوه، وألّبت عليه أطرافاً أخرى. أثارت بعض فتاويه ردود أفعال غاضبة، وفتحت الباب أمام التشكيك في حرفيته كمفتٍ، حيث انحاز بكل وضوح لجماعة «الإخوان المسلمين». أصدر فتوى قبيل انتخابات «المؤتمر الوطني» طالب المنتخبين ألا يصوتوا لتحالف القوى الوطنية. وكمؤشر على فقدان المفتي المصداقية بين أفراد الشعب، فاز التحالف في الانتخابات بنسبة مئوية عالية. وأفتى – في مناسبة أخرى – بحرمة التظاهر في بنغازي، عندما قرر عدد من نشطاء المجتمع المدني تنظيم تظاهرة بعنوان «بنغازي لن تموت»؛ إذ أراد السكان التعبير عن رفضهم مسلسل الاغتيالات الذي اجتاح المدينة، وليطالبوا بحل الميليشيات وتفعيل الجيش والشرطة.

تعرض المفتي لكمٍّ كبير من النقد وحتى الهجوم المجرح من قبل كتاب يقيمون في أماكن آمنة، بحيث يستطيعون التعبير عن الرأي بحرية. كما أثارت بعض فتاويه علماء الأزهر وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية بمصر. فمثلاً أفتى بأن من ينضم إلى اللواء خليفة حفتر، ويموت معه، يخشى أن يموت ميتة جاهلية، وكل من يقاتله ويموت فهو شهيد في سبيل الله. وأضاف : «نقول للناس الذين يقاتلون مع حفتر إنكم بغاة خارجون على طاعة ولي الأمر الواجبة طاعته شرعاً وخارجين على الشرعية، وأنكم تقاتلون الناس ظلماً، وعلى الناس جميعاً أن يقاتلوكم بأمر الله سبحانه وتعالى لأنكم بغاة، والله تعالى يقول «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله». واختتم قائلاً: «يجب على الناس جميعاً أن يقاوموه ولا يغتروا بمسألة مكافحة الإرهاب، لأن المراد بمكافحته هو مكافحة الإسلام، فهؤلاء لا يريدون الإسلام، بل يريدون أن ينقضوا على الإسلام».

الشرعية، عند المفتي، هي الحكومة المقيمة في طرابلس، التي لم يعترف بها المجتمع الدولي. أما حكومة البرلمان، المعترف بها دولياً والتي اعتمدت حفتر كقائد للجيش، فاعتبرها غير شرعية. ولكي يتأهل للقيام بدور مفتي ليبيا كان عليه أن يوازن بين الفريقين، ويحاول أن يصلح بينهما، لا أن ينحاز إلى طرف ويعطيه من عنده صكوك الغفران لدخول الجنة. أليس هذا هو الأسلوب الذي تتبعه الجماعات التكفيرية وعلى رأسها داعش؟

ظهرت دعوات من مختلف فئات الشعب بعزل المفتي، من بينها مطالبة اللجنة الوطنية الليبية لحقوق الإنسان، وقد بررت قرارها بأنه: «جاء بعد رصد اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان لدعوات صريحه للمُفتي العام للديار الليبية، بالتحريض على ممارسة وإثارة العنف وتصعيده وتحريض على القتل وتعذيب وتمييز وانتهاك حقوق الإنسان من قبل الغرياني عبر وسائل الإعلام، والتي تنذر بحدوث حرب أهلية وتؤثر سلباً على الأمن والسلم الاجتماعي للمجتمع الليبي». بل طالبت بإحالته إلى التحقيق من قبل مكتب النائب العام‏[9]. كما انضم رئيس «المجلس الوطني»، الذي كان وراء تعيين الرجل في وظيفته، إلى المطالبين بعزله عندما قال: «فقد المفتي شرطاً من شروط الأهلية، وهي ثقة الليبيين به، بحسب ما نص عليه قانون تعيين منصب المفتي، لذلك يجب إعفاؤه من منصبه»‏[10]. استجاب مجلس النواب إلى هذه النداءات وأعفى المفتي في 9/11/2014، ولكن في ضوء وجود حكومتين ومجلسين تشريعيين، لا يزال المفتي نشطاً لأنه يقيم في مدينة طرابلس التي لا سلطة لمجلس النواب عليها.

د – التباطؤ في تفعيل القضاء والنيابة

تعرض الكثير من مراكز الشرطة للتخريب ممن قاموا بالانتفاضة باعتبارها من رموز السلطة التي تمارس القمع، إلى جانب أماكن تتوافر فيها الأسلحة التي ستستخدم في الدفاع، إذا ما تعرضوا للهجوم. لكن المحاكم، وما يتعلق بها من مكونات، لم تستهدف. كما تمكن عدد كبير من المساجين العاديين من الهرب. ونظراً إلى عدم توقف النشاط الخاص بتكوين الميليشيات، نجح بعضهم في تكوين ميليشيات تحت غطاء ثوار 17 شباط/فبراير. تخصصت هذه الميليشيات – في ما بعد – بأعمال السطو والخطف، بهدف المطالبة بفدية. وكذلك القتل.

لم تستدعَ الشرطة – فور انتهاء الصدام المسلح – لتولي مهمة حفظ الأمن، بل أوكل «المجلس الانتقالي» هذه المهمة للميليشيات. وهذه غير مؤهلة للقيام بهذه المهمة، فتصرفت كل واحدة منها بما تبين لها أنه الطريق السليم للتعامل مع المخالفين للقوانين. احتلت الميليشيات أماكن عامة وخاصة، وجعلتها مقاراً تزاول فيها هذه المهام الجديدة، بما في ذلك حجرات للتوقيف والتحقيق والسجن. وارتكب بعضهم جرائم يعاقب عليها القانون مثل الاستيلاء على أملاك المواطنين وخصوصاً السيارات، وأعمال التعذيب بما فيها الوحشي الذي أفضى بكثيرين إلى الموت. كما قامت بعض المدن بتنظيم هذا الجانب بطريقتها الخاصة، بحيث أصبح لها قضاء ونيابة ومحامون. وتُجري المحاكمات فتصدر الأحكام ثم تنفذ. ولا تخضع هذه الأنشطة لسلطة مركزية، وإن كان العاملون – في الأغلب – من الموظفين المتواجدين في المدينة ويتبعون النظام السابق.

جرت محاولات تنظيم جهاز الشرطة، وإعادة العمل بجهازي النيابة والقضاء، وجعل العمل في هذه الأجهزة مركزياً بحيث يتبع وزارة الداخلية ووزارة العدل. لم يرُق هذا الأمر لرجال الميليشيات القوية، فاستمرت في التدخل في مجال حفظ الأمن، مما جعل بسط القانون بالوسائل العادية أمراً مستحيلاً. بل إن بعض الميليشيات أصرت على إزالة جميع معالم السلطة الأمنية؛ فقامت بتفجير مبانٍ سليمة لمراكز شرطة ونيابة ومحاكم‏[11].

هـ – من أداء الحكومات المتعاقبة

تمكّن «المجلس الانتقالي» الموقت من تشكيل حكومة انتقالية حُددت مدتها بسنة، وأوكلت إليها مهام تسيير شؤون الدولة، وإجراء انتخابات لتشكيل هيئة تشريعية تحل محل المجلس، وقد تم هذا. ضمت الحكومة وزيراً للدفاع ووزيراً للداخلية ولم يتمكن كلاهما من تنظيم جيش متماسك، ولا جهاز داخلية يمكنه حفظ الأمن الداخلي، واستمرت الميليشيات المسلحة هي القوة الفعلية على الأرض. ولم تجد السلطتان بُدًّا من الاستجابة لمختلف الأوامر التي تتقدم بها الميليشيات، إضافةً إلى استرضائها بالمال الذي كان متوافراً. وقد ساهم هذا الإجراء في فتح باب الفساد على مصراعيه؛ فقائد الميليشيا يقدم قائمة بأسماء أعضاء ميليشياه التي غالباً ما تضم أسماء وهمية ليستلم المكافآت الشهرية. وهكذا أصبح بعض قادة الميليشيات من أصحاب الثروات. النسق نفسه اتّبعه المسؤولون في قطاعات أخرى، لعل أهمها القطاع الذي تولى علاج الجرحى خارج البلاد، وهو ملف أصبح في ما بعد من أضخم ملفات الفساد‏[12].

عرفت البلاد بعد ذلك حكومة جديدة باسم الحكومة الموقتة، أُجريت خلال مدتها انتخابات لاختيار أعضاء البرلمان، وهو الجهاز التشريعي الذي يفترض أنه سيحل محل الجهاز السابق «المؤتمر الوطني». وقد حدثت انقسامات بين أعضائه تتعلق بمكان انعقاده. يفترض أن مدينة بنغازي هي التي ستكون مكان البرلمان، ولكن نظراً إلى الحرب الدائرة في وسط المدينة، فضلت الأغلبية الانتقال إلى مدينة طبرق في أقصى الشرق الليبي كونها مدينة آمنة. اعترض فريق على هذا القرار، وسمي في ما بعد الفريق المقاطع جلسات البرلمان. وتبين أن أعضاءه من ممثلي التيار الإسلامي الذي لم يحصل على الأغلبية التي كان يتمناها. تسبب هذا الوضع في ارتفاع حدة الفوضى، وهروب رئيس الوزراء، وتولي وزير الدفاع الرئاسة موقتاً، وحرب شعواء مدمرة جرت في طرابلس ودامت 42 يوماً انتهت بهروب الحكومة المؤقتة إلى الجزء الشرقي من البلاد. أعطت الميليشيات التي انتصرت في حرب طرابلس الأمر إلى أعضاء «المؤتمر الوطني» المنتهية ولايته باستئناف العمل، وتعيين حكومة في مدينة طرابلس. استجاب بعض أعضائه واستأنفوا عقد الجلسات لانتخاب حكومة يكون مركزها مدينة طرابلس، سميت حكومة الوفاق الوطني وتغيرت رئاستها ثلاث مرات خلال عام واحد، والسبب الرئيس هو تدخل الميليشيات.

لم تتمكن جميع الحكومات المتعاقبة من معالجة جوانب الضعف في أداء المجلس الوطني، التي أشير إليها آنفاً، واستمر تحكم الميليشيات المسلحة في المسرح السياسي. كما سمح بعضهم لنفسه بارتكاب ما يعادل جرائم حرب، ومع ذلك لم تستطع السلطة التنفيذية أن تحرك ساكناً. ارتكبت هذه الأفعال خلال جميع المراحل التي مرت بها البلاد منذ انطلاق الانتفاضة، ولا يوجد ما يشير إلى أنها ستتوقف في المستقبل القريب. حصل بعضها على اهتمام كبير في وسائل الإعلام المحلية والدولية؛ منها على سبيل المثال لا الحصر، التهجير القسري لسكان المدينة، الذين أُجبروا على ترك منازلهم وأمتعتهم لينجوا بأرواحهم. وتوجد اليوم في الجزء الغربي من البلاد أربع مدن صغيرة خالية من السكان؛ ثلاث منها في الجبل الغربي، والرابعة إلى الشرق من مدينة مصراته، وهي بنيت بالوسائل والمواد الحديثة؛ فيها عمارات سكنية ومبانٍ من طابقين، وأخرى أرضية. وتتوافر فيها مؤسسات الخدمات العامة، كالمدارس والمستوصفات والمتاجر والورش. يشاهد المتجول في هذه المدن، أن جميع الأبواب إما خلعت من أماكنها وإما فُتحت وبقيت مشرعة. وهكذا تحولت مدنٌ كانت يوماً عامرة بالحياة إلى مدن أشباح‏[13].

وشهدت البلاد أيضاً، عمليات الاختطاف والتعذيب ثم إلقاء الضحية على قارعة الطريق، وعدد كبير من هذه الحالات موثق. شملت ضحايا هذا النوع من الجرائم عسكريين سابقين، ورجال أمن، وقضاة، ودبلوماسيين. وأيضاً، ذلك الشاب الذي اشتُهر خلال الأيام الأولى للانتفاضة بأنه أول من رفع الصوت عالياً بشعار: «الشعب يريد إسقاط النظام». وقد اختطف في مدينة بنغازي، وبعد يومين عثر على جثته، وعليها آثار التعذيب، في ضاحية خارج المدينة. وكما حدث في كل حالة، فالمتهم بارتكاب هذه الجريمة «مجهولون»‏[14].

و – التدخل الخارجي : ليبيا كمسرح لتجاذبات إقليمية ودولية

فور اندلاع الانتفاضة، أصبح ما يجري في ليبيا محط اهتمام الدول العربية والعالمية. واللافت للانتباه أن تصريحات بعض رؤساء الدول حوله بدأت في وقت مبكر؛ منذ اليوم الثاني للانتفاضة، تعاقبت التصريحات والمواقف الرسمية بحيث انْضَمّت إلى جانب الدول الكبرى خلال الأسبوع الأول دول عربية وأفريقية، وأخرى بعيدة جغرافياً مثل أستراليا وعدد من دول أمريكا اللاتينية.

وبعد التصريحات الأولية التي شارك فيها رؤساء دول ووزراء خارجية ومندوبون في هيئة الأمم، بدأ التحضير للتدخل الرسمي. كانت البداية اجتماعاً للجامعة العربية، على مستوى المندوبين، تقرر فيه: تعليق مشاركة ليبيا في اجتماعات الجامعة العربية، وفي المنظمات والأجهزة التابعة لها، إلى حين استجابة النظام لمطالب حددها المجلس أهمها: الوقف الفوري لاستخدام العنف ضد المتظاهرين. وفي 12/3/2011 علقت الجامعة عضوية ليبيا واعترفت بـ «المجلس الوطني» كممثل شرعي لليبيين، وطالبت المجتمع الدولي بالتدخل لحماية المواطنين. وبعد يومين فقط، قدم الاقتراح إلى مجلس الأمن، وفي اليوم السابع عشر من الشهر نفسه صدر القرار الرقم 1973، الذي فتح الطريق أمام استخدام جميع السبل، بما فيها القوة العسكرية، لمساعدة الثورة الليبية. وبدا واضحاً أن الدول التي تبنت فكرة مساعدة الثورة الليبية، تُحركها أهداف ومصالح خاصة، ولم تكن الأهداف المعلنة المتمثلة بحماية المدنيين من بطش الدكتاتور وحدها المحرك للاهتمام. كما تبين، منذ الأيام الأولى لتدخل دول خارجية في الشأن الليبي، أن أهداف تلك الدول ليست واحدة، مما يعني أن البلاد أصبحت ضحية صراع إقليمي – دولي، يعمل على تأجيج الخلافات الداخلية، بدلاً من المساعدة في تخفيفها.

اهتمت كل دولة بالتدخل في الشأن الليبي،لأنّها كانت ترغب في الحصول على نفوذ أكبر مما حصلت عليه في السابق. مساحة البلد كبيرة، وعدد سكانه صغير، ومخزونه المعروف من ثروات النفط والغاز، ضخم مقارنةً ببقية البلدان المنتجة هذه الثروة. وكانت لكل بلد خطته؛ فتوجهت أنظار بعضهم مباشرة نحو المكاسب الاقتصادية، بينما اهتم بعضهم الآخر بشكل النظام السياسي الذي سيخلف نظام العقيد، بهدف أن تصبح ليبيا تابعة لتلك الدول. تنافست الدول لحصول شركاتها على نسبة أكبر من عقود النفط والغاز، لذلك تواجد في الفندق الذي أقام فيه أعضاء «المجلس الوطني الانتقالي» – إلى جانب سياسيين وعسكريين – رجال أعمال لهم علاقة بالشركات العالمية للطاقة والتشييد والبناء، وتركزت أنشطتهم اليومية في التواجد في بهو الفندق، ومحاولة بناء علاقات مع المتنفذين الليبيين الجدد، والدخول في مباحثات حول تنفيذ مهام اقتصادية بعد انتهاء الانتفاضة.

اهتم بعض الكتّاب والباحثين بمتابعة مظاهر التنافس بين بعض البلدان لضمان التبعية السياسية للنظام السياسي الليبي الجديد. يذكر هؤلاء دولاً تتقدمها قطر والإمارات وتركيا، ثم مصر والجزائر، إلى جانب عدد من الدول الغربية كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا. وبرزت قطر منذ الأيام الأولى كداعم رئيس للمنتفضين، ومن دون حدود، وفي مختلف المجالات السياسة والاقتصادية والعسكرية. لكن توضح كتابات وتصريحات الذين كانوا في قلب الحدث، مثل محمود جبريل وعبد الرحمن شلقم، أن قطر كان لها مشروع، وكانت منحازة لدعم فصيل الإسلام السياسي الذي يطلق عليه بعضهم الإسلام المعتدل‏[15].

لم تحظَ الشعارات التي رفعها شباب الانتفاضة، للمطالبة بالعدل والمساواة وتوطين حقوق الإنسان وبناء الدولة المدنية ونشر الديمقراطية قيماً وممارسة، بالتقدير. لذلك، لم تعطِ الدول التي شاركت في الحرب إلى جانب المنتفضين، عناية كافية إلى ترتيب الأوضاع بعد انتهاء الصدام المسلح. فانسحبت فجأة، واعتبرت أن مهمتها انتهت بموت القذافي. وتركت الساحة عبارة عن ركام؛ ركام على الأرض يمثله حطام المباني والأسلحة، وركام إداري بعد اختفاء الأجهزة الإدارية للدولة، مما أدى في النهاية إلى أن تنزلق البلاد نحو حالة من الفوضى المدمرة وغير الخلاقة. وبدت الميليشيات التي ترفع شعارات دينية وتعلن عن أفكار متطرفة، أكبر المستفيدين من حال الفوضى، فتمكنت من فرض سيطرتها في البداية على مدينة واحدة، وتتمدد في ما بعد لتصل إلى جميع أطراف البلاد. ولم تخفِ الدول التي انحازت إلى أحد أطراف النزاع الداخلي موقفها، فواصلت دعمها المعنوي والإعلامي والمادي وتوريد السلاح رغم الحظر الذي فرضه المجتمع الدولي من خلال قرار مجلس الأمن رقم 1970 في 26/2/2011. تقدر كميات السلاح المنتشر في ليبيا، بفعل توزيعه من قبل نظام القذافي، أو من طريق استيلاء الثوار عليه، بعشرات الملايين بين ثقيل ومتوسط وخفيف. ومع ذلك، لم يتوقف النشاط الخاص باستيراد السلاح، ولا تزال دول عربية وأخرى غير عربية، تتعاون مع الميليشيات في هذا الشأن‏[16].

إنّ الدول التي سارعت إلى تأييد التدخل العسكري في ليبيا، وشاركت فيه، بررت موقفها حينذاك بحماية المدنيين من بطش دكتاتور متعجرف. حدث هذا على الرغم من أن القذافي ابتعد من سياساته المعادية للغرب الذي رحب به وقبل به شريكاً في مجالات متعددة. لا بل كان من بين رؤساء هذه الدول مَن كان على علاقة خاصة وحميمية بالقذافي. هل حركت، فعـلاً مشاهد المآسي – الذي استطاع شباب شبكات التواصل الاجتماعي، وبعض الفضائيات تسريبها إلى خارج ليبيا – ضمائر هؤلاء الزعماء، فضربوا عرض الحائط بالعلاقات الشخصية في سبيل الوقوف وراء هدف نبيل؟ لكن لماذا لم يتدخل هؤلاء من قبل لإنقاذ الضحايا عندما ارتكب النظام مجازر محلية، وتحدى العالم فأرسل فريقاً لاغتيال معارضيه في شوارع أهم عواصمه؟ ثم هل عادت الضمائر – بعد رحيل القذافي – إلى نومها؟ فالقتل وفظاعة التعذيب والخطف والتدمير، الذي حدث خلال السنتين الأخيرتين، فاق ما يقابله من تلك التي حدثت في بداية الانتفاضة. كل الذي فعله بعض هؤلاء الزعماء هو الاستمرار في ترديد الاستنكارات التي اتخذت شكل أسطوانة مشروخة. ألا يؤدي هذا إلى إثارة سؤال حول الأهداف والأجندات غير المعلنة؟ فهل سبب التدخل هو إبعاد القذافي من السلطة والقضاء على مشروعه التوريثي؟ أم أن بعض المتدخلين لهم مصلحة خاصة في استمرار الصراع بين الأطراف الليبية المتناحرة؟

أما بالنسبة إلى الدول الغربية، فيبدو الأمر وكأن بعضها يؤيد فكرة استمرار الصراع والتدمير على الأرض، بهدف التخلص من أكبر عدد من المحاربين، الذين قد يشكلون خطراً على أمن أوروبا والولايات المتحدة، ولفتح مجالات أوسع للشركات الغربية التي ستتولى إعادة بناء البنية التحتية. فعلاقة السياسة بالاقتصاد علاقة قوية عند نسبة كبيرة من رجال السياسة الغربيين. ثم يوجد مشهد التقسيم؛ وهو، كما يبدو، سياسة موجهة نحو المنطقة العربية كلّها. فمع رعاية الأمم المتحدة الحوار الليبي – الذي يبدو في مظهره يهدف إلى الخروج بحكومة توافق – فإن علاقات الزعماء الغربيين بالأطراف التي تعرقل هذه المسيرة لم تتوقف، وإن دأب هؤلاء، بين الحين والآخر، على إصدار تصريحات تلوح بفرض عقوبات على القيادات المعرقلة الحوار. ولتكرار هذه التصريحات وعدم ربطها بأفعال، أصبحت مجالاً للضحك والاستهزاء والتندر بين المتابعين الشأن الليبي، داخلها وخارجها.

رابعاً: تأملات حول المستقبل: رؤية لمشروعٍ توحيدي وإصلاحي

لم يتوقع الذين قاموا بالانتفاضة، أو الذين أيدوها من بعيد، أن حال الفوضى التي عليها البلاد الآن، هي النتيجة التي سيصل إليها الوضع بعد أربع سنوات من رحيل القذافي. فهم، وخصوصاً الشباب المتحمس والمتفائل، تصوروا أن الديمقراطية وقيام الدولة المدنية وتوطين حقوق الإنسان، أهداف ستحقق فور غياب القذافي عن المسرح السياسي الليبي. لم يتمكن هؤلاء، وخصوصاً أثناء تزاحم وتسارع الأحداث خلال الحرب التي طالت، ودافع فيها القذافي مستميتاً للمحافظة على مبدأ «نحكمكم أو نقتلكم»، أن يروا ما كان يجري وراء الكواليس من قبل بعض قادة الميليشيات التي شاركت في الحرب على الأرض، ولم يتوقعوا أن يكون لرؤساء الدول، الذين شاركت قواتهم الجوية في الحرب، أو قدموا المساعدات الإنسانية واعتنوا بالجرحى، غير حسن النوايا ومد يد العون، ليتمكن شعب مغلوب على أمره من التخلص من دكتاتور جثم على أنفاسه مدة تجاوزت الأربعة عقود. كما لم يكونوا على علم بترتيبات السياسة الأمريكية تجاه مع ما يشار إليه بالإسلام المعتدل، وعلاقة هذه الترتيبات بالحرب التي تشنها الولايات المتحدة وآخرون على الإرهاب.

لم يقبل معظم قادة الميليشيات بفكرة العودة إلى سابق أعمالهم، أو الانضمام إلى القوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية، وخصوصاً أن أطرافاً في «المجلس الوطني» شجعت بقاء الميليشيات بدعوى المحافظة على الأمن. لذلك لم تجد دعوات بعض من تولى تسيير الأمور في الحكومتين الانتقالية والموقتة إلى حل الميليشيات ودمجها في الجيش والشرطة، آذاناً صاغية. إنّ الأغلبية العظمى من الذين تولوا قيادة الميليشيات لم تكن لهم خبرة عسكرية؛ كانوا من بين أفراد الشعب المدنيين، لذلك لم يكن مستغرباً أن يزهو بعضهم باللقب العسكري الذي حصلوا عليه من دون الانتساب إلى كلية عسكرية، أو الخضوع لامتحانات ترقية ليتدرج ضمن سلسلة الرتب العسكرية. كما زوده المركز الجديد بعناصر قوة مادية ومعنوية، فتمسك بما حصل عليه. كان لآخرين أهداف أبعد من هذه؛ فقادة بعض الجماعات الإسلامية كانوا يرغبون الاحتفاظ بمراكزهم لتمكين جماعاتهم من التمركز في المواقع الحكومية المهمة. وهؤلاء هم جماعات الإسلام السياسي المعتدل المدعوم من الغرب. ثم هناك الجماعات الإسلامية المرتبطة بالفكر التكفيري، ويعلنون – بكل وضوح – أن الدولة المدنية دولة كافرة، ويعملون لقيام الدولة الإسلامية أي دولة الخلافة. وهؤلاء ليسوا جماعة واحدة، وإن تبنوا الهدف نفسه؛ فمنهم أنصار الشريعة، ومجلس شورى شباب درنة، وجماعة تحكيم الدين، والقاعدة، وداعش. إلى جانب أسباب تمسك قادة الميليشيات بمراكزهم، التي وردت آنفاً، يذكر رئيس وزراء «المجلس الانتقالي» معارضة قطر حل الميليشيات وجمع السلاح‏[17]. وكذلك الدور الذي كانت تؤدّيه قطر في دعم الانتفاضة. لا بد من أن هذا الموقف القطري كان قد وصل إلى القادة الذين عارضوا قرار حل الميليشيات، وخصوصاً أن المسؤولين القطريين، الذين تولوا مهمة التنسيق مع المنتفضين الليبيين، كانوا يتصلون مباشرة بمختلف الأطراف من دون الحاجة إلى التنسيق مع «المجلس الوطني الانتقالي»، ولا عبر أجهزة الحكومة خلال مرحلة الحكومات المتعاقبة ذات التسميات المتعددة. ولا بد من التأكيد أن قطر ليست وحدها التي كان لها اتصالات مباشرة مع الأطراف الليبية، وإنما دول أخرى قامت بالدور نفسه، ولها رجالها المحليون، ولها تأثيرها في ماجريات الأحداث على الأرض. وتشمل القائمة دولاً عربية وإقليمية والدول العظمى. فهل يمكن في هذا البحر متلاطم الأمواج من تدخلات أجنبية، وأجندات داخلية، وولاءات عائلية وعشائرية وقبلية، اقتراح خطة طريق لتوحيد الصف الليبي ضمن دولة عصرية تهتم بتحقيق العدل والمساواة، وتعمل على نشر قيم الديمقراطية، وتضع خططاً لتنمية اجتماعية واقتصادية؟ بالطبع اقتراح تصور يعكس التمنيات الطيبة، أو نموذجاً مثالياً، أمر ممكن وسهل، لكن ما تحتاج إليه ليبيا هو تصور واقعي يمكن تنفيذه فعـلاً بعيداً من التمنيات. وفي هذه الحال، لا بد أولاً، من توافر حد أدنى من مؤشرات الاستقرار التي يمكن أن ترتكز على ما يلي:

1 – وصول مشروع الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة منذ 29/9/2014 إلى حكومة توافق مبنية على الكفاءة وليس على سلطة الميليشيات والمساومات الجهوية.

2 – استمرار رعاية الأمم المتحدة مشروع حكومة التوافق، وتقديم الدعم اللوجستي الذي يمكِّنها من مزاولة أعمالها في مدينة ليبية قد لا تكون طرابلس.

3 – اتفاق الميليشيات التي تؤيد قيام حكومة مدنية، وكذلك الحوار، وتقبل بنتائج صندوق الانتخابات، على خطة طريق توضح الكيفية التي ستزاول بها أنشطتها.

4 – استصدار قرار من مجلس الأمن ينهي تدخل الحكومات الأجنبية في الشأن الليبي، ويتضمن بياناً واضحاً بشأن العقوبات التي ستطبق على الحكومة التي تخالف القرار.

5 – استصدار قرار من مجلس الأمن يحدد بوضوح الأفعال التي تعتبر معرقلة عمل حكومة التوافق، وتحديد العقوبات التي ستصدر ضد مرتكب تلك الأفعال، وبيان آلية توضح الخطوات التي تتخذ لتطبيقها.

وفي حال توافر الشروط السابقة، عندئذ، يجب أن تتضمن حكومة التوافق وزارة تختص بالمصالحة الوطنية وتنفيذ العدالة الانتقالية، وتكون وزارة سيادية، وتخصص لها أكبر الميزانيات، إذ ستتولى هذه الوزارة مسؤولية إعادة بناء لحمة وطنية مزقتها الحروب والنزاعات السياسية والتجاذبات القبلية. ويفترض أن ينقسم جهاز الإدارة إلى قسمين؛ قسم إداري وقسم فني. يراعى في موظفي الجهاز الإداري التعليم والخبرة، ويوجه منذ البداية لتسهيل عمل الجهاز الفني الذي يتألف من خبراء في مجال العلوم الاجتماعية، وخصوصاً المتخصصين في علوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة والاقتصاد والإدارة والقانون والتاريخ، إلى جانب فريق من رجال الدين الذين يحملون أفكاراً معتدلة. ويُقسم الجهاز الفني إلى فرق عمل يوكل إليها إعداد تقارير مبنية على أنشطة بحثية، تتضمن خطط عمل في مختلف المجالات التي لها علاقة بإعادة بناء اللحمة الوطنية، منها :

1 – تنظيم العلاقة بين الشأنين الديني والمدني، بما يضمن إغلاق أبواب التسلّط على الآخر باسم الدين أو باسم أيديولوجيا معينة.

2 – تنظيم العلاقة بالسلاح بحيث تنحصر حيازته في الأجهزة الرسمية، وإعادة تأهيل أعضاء الميليشيات.

3 – معالجة قوانين الإقصاء التي وجدت قبل 17 شباط/فبراير، والتي سُنّت بعد هذا التاريخ.

4 – معالجة المظالم التي وقعت أثناء حكم القذافي، والتي وقعت بعد 17 شباط/فبراير على مستوى الأفراد، ومستوى الجماعات الكبيرة.

5 – معالجة مشكلة مركزية الإدارة، والاهتمام بتوزيع المسؤوليات بين جميع أجزاء البلاد.

6 – تنظيم معايير الأداء والمراقبة لضمان حسن القيام بالواجبات والتمتع بحقوق المواطنة، وتأكيد تطبيق مبدأ الشفافية على مختلف المستويات.

7 – وضع معايير لتنظيم أنشطة المجتمع المدني بما يضمن دعمه مشروع التحول الديمقراطي، واعتماده على الموارد المحلية المالية والبشرية، وسد مصادر الاختراقات الأجنبية.

8 – وضع معايير للنشاط الحزبي تراعي الأهداف، وعدد المنتسبين وكيفية الأداء، بحيث تتفادى الفوضى السائدة الآن.

9 – وضع برامج لنشر ثقافة الديمقراطية، ومعالجة عوامل التقوقع المبني على القبلية أو الخلفية الإثنية، وعوامل الإقصاء الاجتماعي.

وفي الختام، وفي ضوء التطورات التي حدثت خلال خمس سنوات من عمر الانتفاضة الليبية، يمكن إثارة عدد آخر من الأسئلة تختلف من التي اعتمدت عليها الصفحات السابقة مثل: هل ما تزال الظروف تسمح بالعودة إلى كيان سياسي اسمه ليبيا؟ أم أن المشهد الأقرب إلى الواقعية هو مشهد التقسيم؟ وهو مشهد يبدو أنه يتوافق من ناحية، مع ما يُخطط له للمنطقة العربية، ومن ناحية أخرى يلقى هوى عند بعض القيادات الجديدة، التي ترغب المحافظة على المكاسب التي حصلت عليها بعض المدن والكيانات من دون التفكير في وطن. وفي حال التقسيم، هل سيجري على حدود الولايات تماماً كما كان، حين كان النظام السياسي فدرالياً؟ أم أن 17 شباط/فبراير وتداعياتها أحدثت تغييرات مهمة على مستوى التحالفات القبلية والتوزيعات الإثنية، ستفرض تصوراً جديداً؟ فعلى مستوى التحالفات القبلية يبدو أن تحالفات جديدة قد تطورت بسبب الانحياز الأيديولوجي على حساب التاريخ. أما التغيير على مستوى الخلفيات الإثنية، فقد أصبح الجنوب الليبي من حيث خصائص السكان مختلفة عمّا كانت عليه الحال قبل انطلاق الانتفاضة. أصبحت الحدود الجنوبية – منذ انتفاضة 17 شباط/فبراير – مفتوحة، وتحت سيطرة الميليشيات التي تخصص بعضها في أعمال التهريب على مختلف أنواعه، ما دفع إلى قيام حركة انتقال واسعة لسكان أفريقيا جنوب الصحراء، باتجاه الشمال، غيّر في نسب التوزيع الإثني للسكان. وقد يقود هذا الوضع؛ إما إلى انسلاخ أجزاء من ليبيا وانضمامها إلى الدول جنوب الصحراء، وإمّا إلى التفكير في كيانات جديدة تتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي. ثم، وعلى الجانب الآخر، ماذا عن موقع الطاقة مما يجري من تجاذبات؟ وهل ستكون عامل توحيد، بالنظر إلى الرغبة الشديدة لدى الغرب للحفاظ على مصالحه الحيوية؟ وفي هذه الحال، هل يمكن أن يتم هذا من دون تدخل عسكري؟ وهل يمكن أن يحدث تدخل بلا وفاق دولي؟

وأخيراً، أصبحت البلاد مصدر قلق للفضاء الأوروبي بخاصة، بسبب النمو السرطاني لكل من الهجرة غير الشرعية وداعش؛ فالهجرة غير الشرعية ومصدرها ليبيا، أعادت إلى الأذهان تهديد القذافي الذي قال فيه: «بإمكاني أن أجعل أوروبا سوداء». أما داعش، فقد أصبحت قوة لا بد من أخذها في الحسبان عند التفكير في مستقبل ليبيا. وبناء على المعطيات المحلية والعربية، فإن المستقبل يحمل مزيداً من القوة لداعش وليس العكس. وإذا ما بذلت محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة، آخذة في الحسبان الظروف الحالية، سيبدو أن المشهد الأكثر احتمالاً لن يكون في اتجاه إعادة كيان سياسي اسمه ليبيا، ولا أن يبقى «الربيع العربي» وصفاً مناسباً للحراك الاجتماعي الذي بدأ في السابع عشر من شباط/فبراير 2011.

 

اطلعوا على تفاصيل الحلقة النقاشية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية عبر تطبيق زوم حول الأزمة الليبية: الحرب، التدخل الأجنبي، وآفاق السلام

قد يهمكم أيضاً  تحديات المصالحة الوطنية في ليبيا بعد 2011

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الأزمة_الليبية #الحرب_في_ليبيا #الانتفاضة_الليبية #التدخلات_الأجنبية_في_ليبيا #الثورة_الليبية #الميليشيات_الليبية