لا نبالغ إذا قلنا إنّ المقاومة في ساحة الضفَّة الغربية قد عانت الأمرَّين منذ تولِّي محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، إذ إن «التنسيق الأمني» كان إلى حدٍّ بعيدٍ قد حرم المقاومة «البيئة الحاضنة» التي طالما تمتعت بها في تلك الساحة.

ولعلّ من أبرز الأسباب التي مكَّنت الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، من خلخلة «البيئة الحاضنة» للمقاومة في الضفَّة الغربية بتلك الفاعلية، كان الوهم الذي خلقه مسار «أوسلو» لدى شريحة واسعة في الشارع الفلسطيني، ولا سيَّما بين أبناء حركة «فتح» وعناصر أجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية، إذ باتت تلك الشريحة مقتنعةً بإمكان استرجاع شيءٍ من الحقوق الفلسطينية المسلوبة عن طريق المفاوضات، فصارت عناصر الأمن الفلسطيني، تقمع المقاومين من أبناء جلدتهم، وتسهر على حماية أمن المستوطنات وقطعان المستوطنين، معتقدة أنها تخدم بذلك «المشروع الوطني الفلسطيني».

من هنا برز الحديث عن أن الضفَّة الغربية قد مرَّت بسنوات «موت سريري» من ناحية الفعل المقاوم، وعن أن الاحتلال في الضفَّة الغربية قد تحوَّل إلى احتلال «خمس نجوم»، إذ لم يعد الاحتلال يتحمل أي أعباء من جرَّاء استمرار احتلاله مع وجود السلطة الفلسطينية، سواءٌ أكان ذلك على صعيد التكلفة البشرية للاحتلال، أو على صعيد تكلفته المادية.

إلا أنّ الضفَّة الغربية قد بدأت تستعيد حيويتها منذ حين، وكانت البداية مع عمليات الطعن والدَّهس الفردية ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه، ومن ثم تطورت أعمال المقاومة لتضم هجماتٍ بالأسلحة النارية، حتى أصابت بعض تلك الهجمات المسلَّحة أراضي 1948، ناهيك بهبَّات الأقصى المتكررة، على نسق «هبَّة كاميرات الأقصى» ومثيلاتها.

أما ما ميَّز عام الضفَّة الغربية الراهن، فقد كان ولادة حالة التشكيلات المقاوِمة شبه المنظَّمة، فجاءت البداية مع مجموعة «كتيبة جنين»، التي سرعان ما انتقلت عدواها إلى البلدة القديمة في نابلس، وذلك مع ولادة مجموعة «كتيبة نابلس»، لتتحول تلك الأخيرة إلى مجموعة «عرين الأسود» عقب انضمام مجموعات مقاوِمة أخرى إليها، لتغدو مجموعة «عرين الأسود» بعد ذلك الحالة المقاوِمة الأبرز في الضفَّة الغربية إلى حينه.

ويمكن تفسير الحالة الثورية المتجددة في الضفَّة الغربية، وتبدل المزاج العام فيها، كنتيجةٍ لتظافر أمرين أساسيين: الأول كان التراجع الملموس لفاعلية أجهزة «التنسيق الأمني» في قمع الحالة المقاوِمة المتصاعدة في الضفَّة الغربية، ويعزو البعض ذلك التراجع إلى تبدُّل المزاج العام عند أكثرية الشريحة الفلسطينية التي اقتنعت يومًا ما بجدوى مسار «أوسلو»؛ فعقب وصول مسار «أوسلو» إلى طريقٍ مسدودٍ، وبعد اختبار عواقبه الكارثية، على مدى العقود الثلاثة الماضية، على عموم «المشروع الوطني الفلسطيني»، تبدَّدت أوهام «السلام» عند أغلبية الفلسطينيين ممن خدعوا يومًا به، بما في ذلك أعدادٌ لا يستهان بها من أفراد السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية نفسها.

أما الأمر الثاني، الذي ساهم أساسًا في تبدُّل المزاج الشعبي الفلسطيني في الضفَّة الغربية، فقد كان التقاط عموم الشعب الفلسطيني، بحسِّه الفطري، اللحظةَ التاريخية، وحقيقة اختلال موازين القوى التي حكمت الصراع العربي – «الإسرائيلي» لعقودٍ خلت، إذ إن الحروب التي خاضها العدو «الإسرائيلي» ضد حركات المقاومة الفلسطينية، وكذا الإقليمية، منذ عام 2006، قد أظهرت تعاظم قدرات حركات المقاومة عمومًا، وتراجع قدرة «الكيان المؤقت» في المقابل، ناهيك بالحروب التي كان يفترض أن يشنها «الكيان المؤقت»، إذا ما كانت موازين القوى لم تختل بالفعل لغير مصلحته، فما كان لهذا الكيان العدواني ليسمح مثلًا بتعاظم قوة المقاومة في جنوب لبنان، لتصل إلى ما وصلت إليه من اقتدارٍ، من دون شنّ حربٍ حاسمةٍ للقضاء عليها، كما كان سابقًا يواجه حركات التحرر العربي والدول العربية المناهضة له.

حتى إن «حزب الله» كان قد تمكن مؤخرًا من إرغام «الكيان المؤقت» على الرضوخ لمطالب الدولة اللبنانية في غاز شرق المتوسط، بمجرَّد التلويح بإمكان فتح جبهة جنوب لبنان.

ولعلّ معركة «سيف القدس» 2021، كان لها الأثر الأكبر في تبدُّل المزاج العام الفلسطيني، فالأداء المميَّز لفصائل المقاومة الفلسطينية في تلك المعركة، قد أعطى لخيار المقاومة دفعةً لا يستهان بها، وظهر ذلك جليًا في تفاعل عموم الشعب الفلسطيني معها، في الداخل وفي أراضي 1948 وفي الشتات.

وعليه، نجد أن ما أفضى إلى مسار تجدُّد الحالة الثورية في الضفَّة الغربية، كان تضافر مجموعة ظروف موضوعية في الداخل الفلسطيني، وأخرى في الإقليم، والمرجَّح أن يستمر هذا المسار ويتطور، إذ إن إعادة عقارب الساعة في الضفَّة الغربية إلى الوراء، يلزمه إبطال مفاعيل تلك الظروف الموضوعية التي أفضت إليه في المقام الأول، وهذا ما لا مؤشرات عليه، وذلك ضمن المدى المنظور للأوضاع الفلسطينية والإقليمية، وكذلك تلك الدولية المستجدة.

ويعد الدور الذي تؤديه في هذا المسار مجموعات المقاومة شبه المنظَّمة دورًا محوريًا، إذ إنَّها تحفِّز «البيئة الحاضنة» في الضفَّة الغربية من حولها، وتربك بصورة كبيرة عمل أجهزة «التنسيق الأمني»، إضافة إلى أنَّها تمثِّل نواة استقطاب للمقاومين الجدد، وتمثِّل أيضًا مثالًا يحتذى به، يمكن استنساخه في مناطق جديدة في الضفَّة الغربية، على غرار استنساخ مجموعة «عرين الأسود» لتجربة مجموعة «كتيبة جنين».

ولعل مجموعة «عرين الأسود»، كانت الأقدر من بين المجموعات الأخرى، على إرباك عمَل أجهزة «التنسيق الأمني»، إذ إن أكثرية عناصرها، مع كونهم ينحدرون من خلفيات فصائلية فلسطينية متعدِّدة، هم من أبناء حركة «فتح». لذلك قد نجحت مجموعة «عرين الأسود» في استثارة الروح الوطنية لدى قطاعات واسعة في حركة «فتح»، في حين كانت على الأرجح ستستدعي نقمة «فتح القبيلة»، لو كانت أغلبية عناصرها تنحدر من فصيل فلسطيني آخر منافس.

لكن في كل الأحوال، تظل هذه المجموعات المقاوِمة في الضفَّة الغربية على تعدُّدها، تمثِّل «حالةً مقاوِمةً»، وذلك ضمن مسار مستمر، لكن تلزمه خطوات إضافية كي تكتمل فاعليته، ليصير مؤثرًا إلى الدرجة التي يمكنه معها من تحقيق إنجازات ملموسة، على طريق تحرير كامل الأرض الفلسطينية من نهرها إلى بحرها.

ويكفي في هذه المرحلة، أن تبقي هذه المجموعات المقاوِمة على حالة الاشتباك مع الاحتلال متَّقدًا، بحيث تكون ملهمةً للجيل الفلسطيني الصاعد، على اختلاف انتماءاته الفصائلية، المتحمس إلى مقارعة الاحتلال، وأن تكون هذه المجموعات المقاوِمة نواةً تكبر وتقوى مع مرور الزمن، وهو ما سيفضي حتمًا إلى توسع هذه «الحالة المقاوِمة»، لتصل إلى مدنٍ أخرى في الضفَّة الغربية، الأمر الذي سيفاقم من ضعف القبضة الأمنية لأجهزة «التنسيق الأمني»، ويعمِّق من عزلتها داخل المجتمع الفلسطيني.

وحينها، تغدو الأرض ممهدةً أمام قوى المقاومة في فلسطين، وكذا الإقليم، لتدعم تشكيلات المقاومة الناشئة في ساحة الضفَّة الغربية، بما يقتضيه الأمر لتحقيق نقلةٍ أخرى على مسار إزالة «الكيان المؤقت»، ولا يعد فرض الانسحاب على الاحتلال من الضفَّة الغربية، وتفكيك المستوطنات، من دون قيد أو شرط، بالأمر غير الواقعي في هذه الحقبة، وذلك ضمن موازين القوى المستجدة، فإجبار الاحتلال على الانسحاب سابقًا تحت ضربات المقاومة، من دون قيدٍ أو شرطٍ، من جنوب لبنان، وبعدها من قطاع غزَّة، بات تكراره في الضفَّة الغربية في متناول اليد.