المؤلف: نورمان ج. فنكلستين
ترجمة: أيمن ح. حداد
مراجعة: ياسمين قعيق
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت
سنة النشر: 2020
عدد الصفحات: 464
ما زال شلّالُ الدّم في غزّة العزلاء هادرًا في أرجاء المعمورة على مدى أشهر متوالية، وصدى آلام جراحها ما زال يُنشج على مرّ سنيّ أجيال، ودويّ صواريخ الحرب الوحشية يكوي الإنسانية. ولا مفاجأة في أنّ بعض الآذان أصابها الصمم، وعيون أُعمي عليها، وقلوب غشاها السواد بالرغم من أنين غزّة الطاغي.. وسيبقى طاغيًا على مسامع أجيال مقبلة.
سيقضُّ دم غزّة من خيام المشرّدين مضاجع ما تبقّى من رمقٍ في التاريخ والجغرافيا وفي أحلام المُهيمنين.. وبعض وجدان. فإنّ ما جرى ويجري في قطاع غزّة سيُمثّل مفصلًا رئيسيًا في عملية التحوّل التاريخي لا يمكن تجاوزه.
حرب الإبادة الجماعية على غزّة إنّما هي حربٌ تُشنّ على الإنسانية برعاية الغرب العنصري وزعامة التوحّش الإمبريالي، الولايات المتحدة الأمريكية، وأداتها آلة الفتك الصهيونية ومن يُحالفها من أعراب «مُحبّة» هنا وأغراب «مُسالمة» هناك. وما صفاقة الإنكارات لحقّ الإنسان في غزّة إلا مواءمةٌ واضحة لسادّية تُمارسها القوة الغاشمة الإسرائيلية بحق غزّة وشعبها.
ولأصحاب الذاكرة الملتوية، إنّ «طوفان الأقصى»، ما طفا لو أنّ أنهارًا من الدماء ما سُفكت، ومعالم حياة ما طُمست، وأحياء ما قُطعت أوصالها وما نُسفت، ومقابر ما نُبشت. وإنّ «طوفان الأقصى»، ما طفا لو أنّ الإنسان في غزّة ما فُتك به وما نُكّل به وكرامته ما امتُهنت، على امتداد المذابح الإسرائيلية الدورية الكثيرة التي أمعنت في استهداف شعب غزّة المُثخن بالجراح على مدى سنوات ناهزت الثماني عشرة. أُثخن بفعل حصار بحرّي وبرّي أطبقته القوّات النازيّة على القطاع كعقاب مُجرمٍ لصٍّ لصاحب حقٍ أراد الدفاع عن حقّه، فأنزل عقابًا جماعيًا بالعائلة لأنّ أفرادها رفضوا الخنوع. شعبٌ ما استسلم يومًا، وأعجز كل حيل الحرب وأدواتها الفتّاكة، وكل سفّاحيهم. وليست مصادفة أن أعرب إسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، يومًا عن يأسه من غزّة متحسّرًا: «آهٍ لو أنّها تغرق في البحر»!
ولأصحاب الذاكرة الملتوية أيضًا، ولأدعياء «حقوق الإنسان» ومزاعم «المحبّة والسلام»، إنّ الحصار الإسرائيلي الجائر، كان ينهش في غزّة وأهلها ويفتك بهم على مرأى العالم. وهو حصارٌ يتنافى مع المواثيق الدولية ويُعدّ خرقًا جسيمًا للقانون الدولي بإقرار المنظمات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان. وكان من المفترض أن يكون قطاع غزّة غير قابل العيش فيه منذ عام 2020 بحسب تقارير أممية «مرموقة».
ما بين الموت البطيء والقتال، اختارت غزّة القتال، وهو حقّ لها. أمّا النظام الدولي، فقد عرّته حرب الإبادة الجماعية في غزّة وكشفت نفاق صانعي القرار في مؤسساته، وأثبت قانونه (القانون الدولي) أنّ معاييره ليست مزدوجة، فحسب، بل إنّها غبّ الطلب، وفي أحسن الأحوال، هو قانون مخزٍ وصفيق. فبأيّ حقّ تُجرّم المقاومة في غزّة الخاضعة للاحتلال؟! ومن ثم، تُحرم غزّة حقّها المتأصّل وفقًا لميثاق الأمم المتحدة في الدفاع المسلّح عن النفس، والحقّ الذي يُقرّه القانون الدولي، نفسه، عمليًا بالمقاومة المسلّحة ضمن كفاح من أجل تقرير المصير!!. وتُمنح أعتى قوّة عسكرية غاشمة الحقّ بالدفاع عن نفسها!!
غزّة: بحثٌ في استشهادها، وهو كتاب للباحث والأستاذ الجامعي الأمريكي اليهودي، نورمان فنكلستين، حول ما ارتُكب بحق غزّة، لا عن غزّة. ينصبّ التركيز فيه على سياسات استشهاد غزّة، ولا سيما الضربة الساحقة ضدّ سكان غزّة المتمثّلة بالحصار الطويل الأمد والمصمّم لتثبيط التنمية وجعل غزّة مكانًا غير صالح للعيش فيه. وإذ يلتمس الباحث فنكلستين من قارئ الكتاب سلفًا أن يتحلّى بطول الأناة نظرًا إلى القراءة التي تتطلّب صبرًا بلا حدود، تلتمس هذه القراءة المتواضعة الرجاء نفسه، علّها تحفظ بعضًا من حقّ غزّة وما جرى عليها خلال اعتداءات إسرائيلية دورية.
يمتدّ الكتاب على مساحة 464 صفحة، ويتوزّع على أربعة أقسام إلى جانب تمهيد وخاتمة (أحداث تدمير سكان أمريكا الأصليين بموجب سياسة حكومية واعية ومقصودة)، وملحق (مقارنة في ما بين الوضع القانوني لاحتلال نظام جنوب أفريقيا العنصري لدولة ناميبيا، وبين الوضع القانوني للاحتلال الإسرائيلي)، فضلًا عن المراجع والفهرس.
يتمحور موضوع الكتاب الأساسي حول «التقارير المعنيّة بحقوق الإنسان في غزّة»، الهائلة العدد، التي «التزمت بمعايير الدقّة، وسجّلت سيرة البؤس والمعاناة.. والقسوة والتعسّف الإجرامي». ولكن مصير هذه التقارير، كمصير التقارير الاقتصادية التي استعرضها فنكلستين، هو التجاهل فيما عدا كادر ضيّق من المتخصّصين، ففي «نهاية المطاف خضعت أوساط حقوق الإنسان نفسها لإسرائيل» وسطوتها. يُشرّح فنكلستين، هذا «الخضوع» وهذه «الخيانة» تشريحًا دقيقًا، وهي تمثّل دليلًا مخزيًا على انتهازية إسرائيل وجُبن دول الغرب، وفق تعبيره.
يُقدّم الكتاب توثيقًا دقيقًا لـ«ما ارتُكب بحقّ غزّة»، من خلال تناول العمليات العسكرية التي نفّذها جيش الاحتلال في غزّة ما بين عامي 2008 و2014. ويرصد دوافع تلك العمليات والآثار المترتبة عليها عبر تحليل مجموعة الأدلّة المتاحة.
أولًا: عملية الرصاص المصبوب
يسرد الكتاب في قسمه الأول وقائع متداخلة لكفاح الشعب الفلسطيني عمومًا، وفي غزَة خصوصًا، وما حلّ بها من مذابح متتالية وحصار خانق. ويتناول عملية «الرصاص المصبوب» وتبعاتها، إضافة إلى تقديم سردٍ وافٍ لما ورد في تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية حول العملية، والحجج التي أقامها المدافعون عن «إسرائيل» وتفنيد لها.
1 – دفاع عن النفس
لا يمكن اختزال المسار الذي أوصل القطاع إلى الوبال المستطير الذي عليه غزّة اليوم، فهو زاخرٌ بفظائع مهولة. لكن بعض أبرز محطاته تعود إلى حرب عام 1967، حيث أعادت «إسرائيل» احتلال قطاع غزّة ( إلى جانب الضفة الغربية) وظلّت القوّة المحتلة. وبعد مدة وجيزة، من تسلّم آريئيل شارون، القيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي من ذلك العام، شرع في حملة لسحق المقاومة في غزّة. أظهر الغزّيون مقاومةً وبأسًا شديدين. وبينما واصلت غزّة ثورتها، أعرب رابين عن يأسه متحسّرًا بالقول «آهٍ لو أنّ غزّة تغرق في البحر».
خلال المدة ما بين عام 1967، عندما بدأ الاحتلال، وعام 2005، عندما أعاد رئيس الوزراء شارون سحب جنوده من داخل غزّة إلى محيطها، فرضت «إسرائيل» على غزّة نظامًا استغلاليًا فريدًا تمثّل بـ«تثبيط التنمية». وزعمت السلطات الإسرائيلية لاحقًا أنها ما عادت القوّة المحتلة في غزّة، ولكن منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية رفضت الزعم، فإسرائيل تحتفظ بسيطرة شبه تامة على القطاع وبطرائق جمّة.
اتّسمت الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزّة بدرجة خاصة من الحقد، وباتت كل دورة للفصول تُنذر بعدوان إسرائيلي جديد على غزّة يخلّف عشرات الضحايا ويُدمّر البُنية التحتية الهشّة: «قوس قزح» (2004)، «أيام الندم» (2004)، «أمطار الصيف» (2006)، «غيوم الخريف» (2006)، «الشتاء الساخن» (2008).
صوّت الفلسطينيون في عام 2006 لمصلحة حركة حماس في قطاع غزّة، في انتخابات عُدّت على نطاق واسع بأنّها «نزيهة ومنصفة تمامًا» (جيمي كارتر)؛ فشدّدت إسرائيل حصارها فورًا، و«توقّفت الأنشطة الاقتصادية في غزّة، وتحوّلت إلى سعي من أجل البقاء». حذت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حذو إسرائيل، إذ فرضا عقوبات مالية «مدمّرة» بهدف إفشال حماس وضعضعة مكانتها كهيئة حاكمة. في حين صرّح المقرّر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، آنذاك، بأنّها «المرة الأولى التي يُعامل بها شعب محتلّ هذه المعاملة. أُخضع الشعب الفلسطيني، لوجهٍ من وجوه العقوبات الدولية لعلّه الأشدّ قسوة في التاريخ الحديث».
عزّزت حماس في عام 2007 سيطرتها على القطاع بعد أن أحبطت محاولة انقلابية دبّرتها واشنطن بالتواطؤ مع إسرائيل وعناصر من الحرس القديم الفلسطيني. وفي حزيران/يونيو 2008، دخلت إسرائيل وحماس في اتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة مصرية، ولكن في تشرين الثاني/نوفمبر، نفّذت القوات الإسرائيلية غارة حدودية فتّاكة كانت فاتحة لاجتياح دموي على غزّة.
شنّت القوات الإسرائيلية عملية «الرصاص المصبوب» على قطاع غزّة، في 27 كانون الأول/ديسمبر 2008، بدأتها بحملة جويّة شعواء تبعها هجوم جوّي وبرّي، وقد منحتها إدارة الرئيس جورج بوش والكونغرس الأمريكي دعمًا تامًّا. أمّا خيار غزّة، فكان التصدّي والمقاومة. وفي 18 كانون الثاني/يناير 2009، أعلنت إسرائيل وقفًا أحاديًا لإطلاق النار، ومع ذلك، استمرّ حصار غزة، واشتدّ.
برّرت إسرائيل رسميًا العملية على أساس الدفاع عن النفس أمام صواريخ حماس، وهدفها تدمير «البُنية التحتية للإرهاب». غير أنّ ما تكشّف للعالم بعد الاجتياح من أهوالٍ وفظائع، وما كشفته منظمات حقوق الإنسان، وما وثّقته من انتهاكات وجرائم ارتُكبت بحق غزّة وأهلها يدحض الزعم الإسرائيلي.
2 – ردع العرب، ردع السلام
زعمت إسرائيل أنّ عزل غزّة عن العالم الخارجي ضروري لحماية نفسها من «إرهاب» حماس، أو، بمعنى آخر، حتى تُسلّم غزّة مصيرها لإسرائيل، فإنّ الحصار سيتواصل. زعمٌ وتبريرٌ إسرائيلي يُخضعه فنكلستين لتحليلٍ دقيق، فيُظهر على نحو مُحكم أن لا علاقة لها بـ«المخالفات» الفلسطينية، بل إنّها مزاعم نابعة من الحاجات الاستراتيجية الإسرائيلية: لإظهار «قوة ردع» من خلال تدمير غزّة بعد الإخفاقات الإسرائيلية تارة، أو لمنع التوصّل إلى تسوية سياسية طورًا، أو حتى الاثنين معًا.
خلال عملية «الرصاص المصبوب»، ركّزت التكهنات المبكرة على أنّ التنافس على أصوات الناخبين في انتخابات عام 2009، هو الذي دفع إلى شنّ حرب ضدّ غزّة، غير أنّ الوقائع التي يسردها فنكسلتين بالتفصيل، تبيّن أنّ المسألة تتعلّق بالحفاظ على قدرة «الردع» الذي يحتلّ مكانة كبيرة في المذهب الاستراتيجي الإسرائيلي.
ويشير فنكلستين، إلى أنّه بعد حرب عام 2006، كانت إسرائيل توّاقة للاشتباك مع حزب الله من جديد، بعد أن مُنيت بهزيمة كبرى، ولكنها لم تكن متأكّدة أنها ستخرج منتصرة من المعركة. وفي أواسط عام 2008، سعت إلى الضغط على الولايات المتحدة لشنّ هجوم مشترك ضدّ ايران، ظانّة أنّ الأمر سيؤدّي من ثم إلى تحطيم حزب الله، وتحييد منافسيها الأساسيين في فرض الهيمنة الإقليمية.
مثّلت غزّة، عند هذا الحدّ، المكان الذي قد تستعيد فيه إسرائيل قدرتها على الردع. ورغم أنّ إسرائيل صاغت «عقيدة الضاحية»، عبر إشهار «القوّة غير المتناسبة» لإيقاع الضرر وإنزال العقاب إلى درجة تتطلّب عمليات طويلة ومُكلفة لإعادة الإعمار، وفي ذهنها جميع أعدائها، إلّا أنّها استفردت بغزّة كلُقمةٍ سائغة. وقد تخلّى كبار المسؤولين الإسرائيليين، خلال العملية، عن التظاهر بأنّ هدفها هو إيقاف صواريخ حماس، وبدأ التركيز على أنّ العدو الفعلي هو ذاكرة عام 2006، لتُعلن وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي لفيني بعد الحرب أنّها «فخورة» بقراراتها أثناء اجتياح غزّة، وأنّها «ستكرّر» كل واحد منها لأنّها كانت «تنشد استعادة الردع الإسرائيلي، وقد استعادت إسرائيل فعلًا قدرتها على الردع»، وفق قولها.
ففي 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2008، وفي الوقت الذي كانت أنظار الأمريكيين مسمّرة على نتائج الانتخابات التاريخية (حين انتُخب باراك أوباما رئيسًا)، كان أن أنهت إسرائيل وقف إطلاق النار مع حماس بأن قتلت مقاتلين فلسطينيين، بذريعة أنها أطلقت النار استباقًا لغارة وشيكة من حماس. وما بين «الموت جوعًا أو القتال»، اختارت حماس أن تقاوم.
3 – التلفيق والمراوغة
ضجّت التغطية الإعلامية الدولية بمشاهد الجرائم وصور الفظائع التي توالت من غزّة، ووجدت إسرائيل نفسها مضّطرة إلى التعامل لا مع التغطية الإعلامية المناوئة فقط أثناء عملية الرصاص المصبوب، ولكن مع فيض تقارير حقوق الإنسان أيضًا التي صدرت بعد الحرب والتي شجبت الاجتياح. يتوقّف فنكلستين عند أبرز تلك التقارير ويُفنّد مزاعهما. ومن جملة ما تناوله الباحث في هذا الفصل بالتفصيل لائحة من «التلفيق والمراوغة» التي لجأت إليها إسرائيل، حيث أصدرت عام 2009 إيجازًا «واقعيًا وقانونيًا» للدفاع عن نفسها، بعنوان «العملية في غزة». زعم الإيجاز أن تقارير حقوق الإنسان الناقدة لم تكن في «أغلب الحالات» إلّا «تسرّعًا في إطلاق الأحكام»، صدرت «خلال ساعات أو أيام أو أسابيع» بعد العملية. وفي الواقع، صدرت التقارير في معظمها بعد أشهر من العملية. كما زعم الإيجاز أنّ القوات الإسرائيلية «قامت بإجراءات شاملة للوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي»، وأطلقت النيران فقط «على الأهداف العسكرية والمشروعة»، كما أنّها سعت «لتوفير مساعدات إنسانية ويسّرت وصولها». أمّا الواقع على الأرض فكان مختلفًا تمامًا، يسرد فنكلستين وقائعه بالتفصيل.
4 – دروع بشرية
كان نطاق المذبحة مفزعًا بحيث يصعب إخفاؤه على أي حملة دعائية مهما كان حجمها، رغم أنّ سلطات الاحتلال فرضت «القيود الأكثر تشدّدًا على الصحافة في تاريخ الحروب المعاصرة». وسعت إلى التملّص من مسؤوليتها عن الخسائر في الأرواح، فزعمت أنّ الكثير من المدنيين الغزّيين قُتلوا لأنّ حماس استخدمتهم «دروعًا بشرية»، كذريعة لإخفاء ما حدث أثناء الاجتياح. إلا أنّ التحقيقات التي أجرتها منظمات حقوق الإنسان، والتي شارك فنكلستين القارئ عملية تمحيص مطالعاتها، لم توجّه مثل هذه الاتهامات.
ومّما جاء في تقرير لمنظمة العفو الدولية، على سبيل المثال: «على العكس من المزاعم المتكررة للمسؤولين الإسرائيليين بشأن استخدام «الدروع البشرية»، فإنّ المنظّمة لم تجد دليلًا على أنّ مقاتلي حماس أو غيرهم من المقاتلين الفلسطينيين وجّهوا حركة المدنيين لحماية الأهداف العسكرية من الهجمات. كما لم تجد المنظمة دليلًا على أنّ حماس أو غيرها من الجماعات الفلسطينية قد أرغمت السكان على البقاء في المباني التي استخدمها مقاتلوها أو حولها، ولا على منع المقاتلين للسكان من مغادرة المباني أو المناطق التي سيستخدمها المقاتلون.
ويتوقّف الباحث فنكلستين عند الدعاية الإسرائيلية، ويُفنّد عناصرها التي واجهت انتكاسة كبيرة عندما نشرت المنظمة الإسرائيلية «كسر الصمت» تقريرًا كبيرًا جمعت فيه شهادات من الجنود تُدين الجيش.
ثانيًا: تقرير غولدستون
يتناول القسم الثاني بالتحليل تقرير الأمم المتحدة حول عملية «الرصاص المصبوب»، الذي عُرف بتقرير غولدستون، ويعرض تفاصيل حملة الترهيب والتشهير التي تعرّض لها القاضي والتي أدّت إلى تراجعه في نهاية المطاف عن النتائج التي توصلّت إليها اللجنة التي ترأسها.
في البداية، تلقّت الدعاية الإسرائيلية لطمة كبرى، حين كلّف مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة في نيسان/أبريل 2009، بإجراء تحقيق في انتهاكات حقوق الانسان أثناء عملية الرصاص المصبوب. وقاد التحقيق ريتشارد غولدستون، وهو قاضٍ سابق في المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا، ومدعٍ عام سابق في المحاكم الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا وبرواندا.
1 – صهيوني يقول الحقيقة
في أيلول/سبتمبر 2009، صدر تقرير بعثة غولدستون الأممية. وتبيّن أنّه إدانة شديدة لا لعملية الرصاص المصبوب فقط، وإنّما للاحتلال الإسرائيلي المستمر أيضًا. وضجّت إسرائيل بتعبيرات الصدمة والغضب، لا لأنّ غولدستون هو حقوقي ذائع الصيت فحسب، وإنّما لأنّه صهيوني ملتزم أيضًا بحسب وصفه نفسه.
استعرض فنكلستين مضامين تقرير غولدستون بمسؤولية عالية وفنّد استنتاجاته بدقّة. ونظرًا إلى أهمية ما جاء في التقرير من خلاصات خطيرة، نشير إلى أبرزها، فهي بمنزلة مضبطة اتهام حقيقية لما ترتكبه إسرائيل بحقّ غزّة وأهلها عند كل حين. وجد تقرير غولدستون أنّ عملية الرصاص المصبوب استندت إلى عقيدة عسكرية «تنظر إلى التدمير غير المتناسب و إلى إحداث أقصى قدر من الخلل في حياة مصير من الناس على أنّه وسيلة مشروعة لتحقيق أهداف ليست عسكرية فقط بل سياسية أيضًا، وأنّها كانت «مصمّمة كي تُفضي حتمًا.. إلى عواقب وخيمة على السكان غير المحاربين في غزّة»».
واستنتج التقرير أنّ عملية الرصاص المصبوب مثّل «هجومًا غير متناسب بشكل متعمّد قصد به معاقبة السكان المدنيين وإذلالهم وترويعهم وامتهان كرامتهم، وتقويض قدرتهم الاقتصادية المحلية على العمل وعلى سدّ حاجاتهم بأنفسهم معًا تقويضًا جذريًا، ولتعميق الشعور المتزايد لديهم باستمرار الاعتماد على الغير وبالضعف». في المقابل، أشاد التقرير بـ«صمود الشعب وشعوره بالعزّة» في غزّة «في ظلّ الظروف العصيبة التي يمرّ بها».
وفي معرض الأحكام القانونية، وجد تقرير غولدستون أنّ إسرائيل ارتكبت انتهاكات متعددة للقانون العرفي الدولي ولقوانين المعاهدات الدولية، وعرض قائمة طويلة من جرائم الحرب التي ارتكبتها، مُحمّلًا النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية المسؤولية الأساسية عن الإجرام بحقّ غزّة.
ويلفت الباحث فنكلستين، إلى أنّ غولدستون لم يُقيّد نفسه بعملية الرصاص المصبوب حصرًا، بل توسّع وارتقى إلى إدانة شاملة ومتكاملة لمعاملة إسرائيل للفلسطينيين أثناء سنوات الاحتلال الطويلة. واقترح مساءلة إسرائيل عن انتهاكاتها للقانون الدولي، ولاتفاقيات جنيف لعام 1949، فضلًا عن إجراء تحقيقات وإلقاء القبض على مرتكبي الانتهاكات ومقاضاتهم وفقًا لمعايير العدالة المعترف بها دوليًا.
صنّف نتنياهو «تهديد غولدستون» بأنّه أحد التحديات الاستراتيجية الرئيسية التي تواجه إسرائيل. وسرعان ما واجه التقرير على مرّ أشهر سيلًا جارفًا من الهجمات الشرسة، حتى بات من الصعب العثور على التقرير الفعلي على شبكة الإنترنت. وعملت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، مع اللوبي الإسرائيلي، للحؤول دون حدوث أي مداولات بشأن التقرير في المحافل الدولية.
2 – الشاهد الرئيسي يتراجع
في 1 نيسان/أبريل 2011، فجّر القاضي غولدستون مفاجأة مدوّية، إذ نشر مقالًا في صحيفة واشنطن بوست تخلّى فيه فعليًا عن التقرير، وفي الوقت نفسه أسدل الستار على مسيرته المهنية.
يتلخّص تراجع غولدستون، وفق ما يوضح فنكلستين، بأنّ إسرائيل لم ترتكب جرائم حرب أثناء عملية الرصاص المصبوب، وأنّ المدنيين لم يُستهدفوا بصفة متعمّدة كسياسة مقصودة من جانب القوات الإسرائيلية، وأنّ إسرائيل قادرة تمامًا لوحدها على التحقيق في انتهاكات القانون الدولي التي وقعت.
اهتزّت إسرائيل طربًا، واستغلّت إدارة أوباما مناسبة تراجع غولدستون كي تُعيد التأكيد أنّ إسرائيل لم «تمارس أيّ جرائم حرب» أثناء عملية الرصاص المصبوب، في حين دعا مجلس الشيوخ الأمريكي بالإجماع الأمم المتحدة إلى أن تسحب تقرير غولدستون.
ثالثًا: مافي مرمرة
يتناول الكتاب، في القسم الثالث، الهجوم الإسرائيلي على قافلة سفن المساعدات الإنسانية التي كانت متوجّهة إلى قطاع غزّة، ويتوقّف عند تبعات الهجوم السياسية والقانونية.
1 – جريمة قتل في عرض البحر
في 31 أيار/مايو 2010، تعرّضت قافلة سُفن إنسانية كانت متوجّهة إلى غزّة، على متنها 700 راكب، وعشرة آلاف طن من الإمدادات والمساعدات إلى سكّان غزّة، لهجوم إسرائيلي في المياه الدولية في قبالة غزة، راح ضحيته 9 من المسافرين على متن السفينة الرئيسية «مافي مرمرة»، قتلوا بالرصاص، خمسة منهم إصاباتهم كانت في الرأس.
يستفيض الباحث فنكلستين في مناقشة الحصار البحري والبّري المفروضين على قطاع غزّة وتداعياته الكارثية على سكّان القطاع، ويبحث في مدى قانونية الحصار في القانون الدولي الذي يمتاز، بدوره، بازدواجية المعايير عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل.
غير أن إسرائيل، منذ اللحظة الأولى للهجوم على قافلة السفن، كثّفت حملتها في العلاقات العامة، بغية تحويل الجنود المهاجمين إلى ضحايا الهجوم، والترويج بأنّهم لم يلجأوا إلى الأساليب العدائية إلّا «كملجأ أخير» في «دفاع عن نفس». بينما خلصت بعثة تقصّي الحقائق الأممية في الهجوم، التي يغوص فنكلستين في تشريح تقريرها، إلى أنّ «سلوك الجيش الإسرائيلي والموظفين الآخرين تجاه ركاب قافلة السفن، لم يكن غير متناسب مع الحادث فحسب، بل أظهر أيضًا مستويات من العنف غير الضروري وغير المعقول كلية وأظهر مستوى غير مقبول من الوحشية. وخلص إلى أنّه لا يمكن تبرير مثل هذا السلوك أو التغاضي عنه على أسس أمنية أو غيرها من الأسس.
2 – التلفيق لتبييض صفحة إسرائيل
يكرّس فنكلستين قسمًا طويلًا لأفظع حلقات الهجوم على سفينة مافي مرمرة، والذي يمثّل عرضًا بشعًا للوحشية والجُبن، وما تبعه من تلفيقات للتعظية على الجريمة، تحت ضغط من الولايات المتحدة وإسرائيل.
ففي حزيران/يونيو 2010، ألّفت إسرائيل «لجنة عامة مستقلة» للتحقيق في «الحادثة البحرية، ترأسها القاضي السابق في المحكمة الإسرائيلية العليا جاكوب توركيل. وفي كانون الثاني/يناير 2011 صدر التقرير وقد برّأ إسرائيل من المذبحة، ومن المسؤولية القانونية عن العنف والقتل، ووجّه المسؤولية بدلًا من ذلك إلى كادر من الركاب الذي يُزعم أنهم خُطّطوا وتسلّحوا مسبقًا لقتل الإسرائيليين. وتوصّل التقرير إلى أنّ الاستخدام الفتّاك للقوة من جانب جنود القوات الخاصة الإسرائيلي كان دفاعًا مبرّرًا عن النفس.
ورغم إقرار التقرير بأنّ منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية، إضافة إلى قضاة ومتخصّصين قانونيين إسرائيليين بارزين، كانوا استنتجوا أنّ غزّة ظلّت تحت الاحتلال بعد «الانفصال» عام 2005، وجد الباحث فنكلستين أنّ التقرير أيّد قانونية الحصار الإسرائيلي على غزّة استنادًا إلى حجّتين منفصلتين: لم يعانِ سكان غزّة المدنيّون، وأيّ ضرر «جانبي» و«متناسب» هو ناشئ عن الحصار الذي يستهدف القدرات العسكرية لحماس. وزعم التقرير أنّ إسرائيل لم تتعمّد التسبّب بالجوع، وطالما أنّ ذلك ليس سياسة متعمّدة، فإنّ إسرائيل «غير مسؤولة قانونيًا».
3 – التلفيق الثاني لتبييض صفحة إسرائيل
من جملة من ساهم في تلفيق الأكاذيب وتزوير الوقائع، كان مجلس الأمن الدولي الذي لم يجد أي رادع «أخلاقي» على أقل تقدير عن تبييض صفحة إسرائيل، وأصدر وبكل صفاقة تقريرًا «حياديًا» و«شفافًا» قدّم لإسرائيل صكّ براءة فيه.
في تموز/يوليو 2011، صدر التقرير الأممي، بناء على طلب رئيس المجلس في حزيران/يونيو 2010. ووجد التقرير أنّه لا يمكن تبرير قيام إسرائيل بقتل الركاب التسعة على متن سفينة مافي مرمرة، لكنّه صادق على الزعم الإسرائيلي بأنّ الحصار البحري على غزّة يمثّل «إجراءً أمنيًا شرعيًا».. وتنفيذه يمتثل لمتطلبات القانون الدولي. لم يكتفِ التقرير الأممي بإضفاء الشرعية على الحصار الإسرائيلي غير القانوني واللاأخلاقي واللاإنساني، بل ذهب إلى شجب ما وصفه «التصرّف الخطير والمستهتر» لركاب قافلة السفن، إذ سعوا إلى كسر الحصار. ونادى التقرير بوجوب ترك مسألة الاعتناء بمصير شعب غزّة ومستقبلهم للدول وليس للمواطنين العاديين، ويجب حصر الأمر بالدول.
رابعًا: عملية الجرف الصامد
يتناول القسم الرابع والأخير من الكتاب، عمليتي «عمود السحاب» و«الجرف الصامد»، ويُقدّم في الأخيرة، عرضًا مفصّلًا للفظائع الإسرائيلية، ووقائع خيانة منظمات حقوق الإنسان لشعب فلسطين عقب هذه الجريمة.
1 – قوّةٌ ماحقةٌ تُلجم
شنّت القوات الإسرائيلية في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، عملية «عمود السحاب» بدأتها باغتيال القائد العسكري لحركة حماس، أحمد الجعبري، واستمرّت 8 أيام فقط. وحيث إنّ العملية كانت أقل تدميرًا ممّا وقع أثناء «الرصاص المصبوب» (2008 – 2009)، رُوّج أنّ إسرائيل أجادت تجنيب الخسائر بين المدنيين.
في الواقع، قرار إسرائيل كبح قوّتها العنيفة في عام 2012، يرجع إلى مجموعة من الظروف السياسية، يُفصّلها الباحث فنكلستين ويسرد حيثياتها. فقد أعلنت تركيا ومصر بوضوح تام أنهما لن تقفا مكتوفتي الأيدي إذا شنّ الجيش الإسرائيلي عملية شبيهة بعملية الرصاص المصبوب ووضعتا خطًا أحمر في حال شُنّ هجوم برّي. وكانت آفاق صدور تقرير «غولدستون مضاعف» جديد مخيفة على إسرائيل. كما كانت غزة تعجّ بالصحافيين الأجانب، وكان في وسعهم دخول غزّة بحرّية عبر مصر، بينما عزلت إسرائيل غزّة قبل عملية الرصاص المصبوب عن العالم الخارجي.
أمّا وقد اجتيحت غزّة، عزم نتنياهو على إنهاء العملية بأسرع ما يمكن، بسبب المقاومة الضروس التي واجهت القوات الإسرائيلية. ومن أجل ذلك استدعيت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس على عجل لإنقاذ إسرائيل. وأنهيت العملية بوقف متبادل لإطلاق النار، وليس وقفًا لإطلاق النار من طرف واحد من جانب حماس حسبما طالب نتنياهو.
2 -من حقّ إسرائيل أن تُدافع
عن نفسها!
أطلق الجيش الإسرائيلي في 8 تموز/يوليو 2014 عملية الجرف الصامد، واستمرّت حتى 26 آب/أغسطس (51 يومًا)، متسبّبة بالقدر الأكبر من الدمار منذ بدء الاحتلال في عام 1967. تعود جذور عملية الجرف الصامد إلى أسباب حانقة من جهة إسرائيل، يتطرّق فنكلستين إليها بصورة مفصّلة. ففي نهاية نيسان/أبريل 2014، ألّفت حركتا حماس وفتح «حكومة توافق»، ورحّبت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بها. فانفجر نتيناهو حانقًا وسعى تلقائيًا إلى تخريبها، إذ إن آفاق «الوحدة الفلسطينية» تمثّل خطًا أحمر لنتنياهو وللقادة الإسرائيليين عمومًا. وتزامن ذلك مع تعاظم سخط نتنياهو أمام تجاهل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتحذيراته بأنّ إيران تنوي إيقاع «هولوكوست ثانية» بإسرائيل، وبدلًا من ذلك دخلا في محادثات دبلوماسية مع طهران لإبرام إتفاق في شأن برنامج للأسلحة النووية الإيراني المزعوم.
ومع تراجع الربيع العربي إلى شتاء عربي، تعزّزت عزيمة نتنياهو بسبب المشهد السياسي الإقليمي الجديد، ورأى أنّه بات في وسعه أخيرًا أن يصفّي الحساب مع حماس، وفي الوقت نفسه أن يتذوّق طعم الانتقام من الإذلال الذي واجهه في عملية عمود السحاب 2012.
«الثالوث» الذي خرجت به وسائل الإعلام من العملية «صواريخ حماس»، و«أنفاق الإرهاب»، و«القبة الحديدية». يلفت الباحث إلى أنّه يمثّل دعائم شاملة لحملة الدعاية الإسرائيلية، بغية تبرير الهجوم «العصابي» و«الجنوني» الإسرائيلي على السكان والبنية التحتية المدنية في غزّة.
ويشير فنكلستين في معرض قراءته للعملية، إلى أنّه على الرغم من القتل والدمار الذي أوقعته إسرائيل في غزّة، أعطى البيت الأبيض ضوءًا أخضر للاستمرار بالعملية وكان الممكّن الرئيسي لها، على قاعدة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». وعندما قصفت الطائرات الإسرائيلية مدنيين لجأوا إلى مدارس الأمم المتحدة، ردّ «المجتمع الدولي» بشعور من الصدمة. وحين أعربت الولايات المتحدة عن «فزعها» من القصف «المُخزي» الذي شنّه الجيش الإسرائيلي بقرب ملجأ للأمم المتحدة، فهم نتنياهو أنّ الأوان قد حان لإنهاء العملية.
3 – منظمة العفو الدولية
رغم أنّ عملية الجرف الصامد 2014، كانت الأكثر تدميرًا من سابقاتها، إلّا أنها أثارت استجابة خافتة من منظمات حقوق الإنسان. أمّا المنظمة التي خرجت عن هذا النطاق، فكانت «العفو الدولية»، التي يتحوّل فنكلستين إلى إجراء تحليل شامل للتحقيقات التي أجرتها. فقد نشرت «العفو الدولية» سلسلة من التقارير، ويستنتج فنكلستين أنّها «بدلًا من أن تلتزم الصمت حيال الجرائم الإسرائيلية أثناء الجرف الصامد، اقتداءً بالمسار الذي اختطته منظمة هيومان رايتس ووتش، فقد عملت على تبرئة إسرائيل من الجرائم»، وخصوصًا في تقريرها الذي تضمّن إدانة شاملة لحماس ولجميع فصائل المقاومة في غزّة، حمل عنوان «غير مشروعة ومميتة: هجمات الفصائل الفلسطينية المسلّحة بالصواريخ وقذائف الهاون أثناء نزاع غزّة/إسرائيل في عام 2014».
والتزامًا من المنظمة بتظاهرها بتحقيق «التوازن»، يُلفت فنكلستين، قدّمت انطباعًا بأنّ إسرائيل وحماس مذنبتان بالقدر نفسه بانتهاك قوانين الحرب، مشيرة إلى «تحمّل المدنيين من الجانبين وطأة حرب ثالثة متكاملة الأركان في أقل من ست سنوات». وردّد تقرير «غير مشروعة ومميتة»، أصداء الدعاية الإسرائيلية، بشأن ترسانة صواريخ حماس ونظام أنفاقها، وأنّ الجنود الإسرائيليين تمكّنوا مرات كثيرة من منع متسلّلين من حماس من استهداف المجتمعات المحلية المدنية. لكنّ التقرير، وفق ما يؤكّد الباحث، تجاهل الأدلّة الصادرة عن مصادر إسرائيلية بأنّ مقاتلي حماس الذين خرجوا من الأنفاق استهدفوا الجنود الإسرائيليين لا المدنيين.
وبعد أن أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تقريرًا حول عملية الجرف الصامد، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا آخر خاصًا بها، بعنوان «الجمعة السوداء: مذبحة في رفح أثناء نزاع إسرائيل/غزة عام 2014». وأقصى إدانة خرجت بها في الخاتمة القانونية الشاملة للتقرير هي أنه «بقدر ما يمكننا القول إنّ بعض الانتهاكات التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في رفح.. «قد تكون» نُفّذت في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي على السكان المدنيين، تطبيقًا لسياسة حكومية، فـ«قد تشكّل» أيضًا جريمة ضدّ الإنسانية».
ويخلص فنكلستين إلى القول بأنّ منظمة العفو الدولية أصدرت، على نحوٍ مخزٍ لها، تلفيقًا قانونيًا لتبييض صفحة إسرائيل، وعكس تقريرها تخلّيًا واضحًا عن اختصاص المنظمة المهني ومثّل خيانة لشعب غزّة.
4 – مجلس حقوق الإنسان
عيّن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في آب/أغسطس 2014، لجنة تقصّي حقائق «للتحقيق في الانتهاكات المزعومة للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان» أثناء عملية الجرف الصامد 2014. وصدر التقرير في حزيران/يونيو 2015. طبّق التقرير، وفق مقاربة أجراها الباحث، طريقة عمل تقارير منظمة العفو الدولية التبريرية نفسها بحذافيرها حول عملية الجرف الصامد. وكانت النتيجة أنّ التقرير الأممي عرض صورة مضلّلة ومشوّهة تمامًا في شأن ما حدث في غزّة، وإن كان قد دعا إسرائيل إلى رفع الحصار عن قطاع غزّة «فورًا ومن دون شروط».
ففي حين ألمح التقرير إلى أنّ عملية الجرف الصامد كانت «عملية عسكرية مشروعة ولكن شابتها تصرّفات مُفرطة متفرّقة»، وصف فنكلستين الهجوم بـ«حملة ترهيب مصمّمة لكسر إرادة غزّة على المقاومة، أو على الأقل التخفيف من حدّتها».
وفي حين أقرّ التقرير بأنّ «الأنفاق استُخدمت لشنّ هجمات ضدّ مواقع الجيش الإسرائيلي في مناطق ضمن الخط الأخضر فقط، وهي أهداف عسكرية مشروعة»، خلص إلى أنّ «الخوف الذي خلقته هذه الأنفاق يصل إلى مستوى الانتهاك لقوانين الحرب».
في الحصيلة، يُشدّد فنكلستين على أنّ الاستراتيجيات اللغوية المبتكرة التي استخدمها تقرير الأمم المتحدة لإضفاء التعادل على انتهاكات حماس وانتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، عجزت تمامًا عن جسر الفجوة الهائلة ما بين الدمار الذي أوقعه كل طرف بالآخر. غير أنّ الأمم المتحدة أصدرت وثيقة ممهورة بختم مجلس حقوق الإنسان تفتقر بشدّة إلى الشجاعة والنزاهة، بحسب تعبير فنكلستين.
في الختام، إنّ ما حلّ بغزّة، وما زال، هو كارثة إنسانيّة من صنع بشر. وإذ تتبدّى الكارثة بكل امتدادها الزمني وشدّتها، فإنّها لا تتبدّى وسط ضباب الحرب أو ضمن غموض النأي، وإنّما تتكشّف، وفق ما يؤكّد الباحث الأمريكي اليهودي نورمان فنكلستين، جهارًا نهارًا، وبتواطؤ من كثيرين، لا من خلال ما يقومون به فقط، بل من خلال ما يمتنعون عن القيام به بوجه خاص أيضًا، وهذا يجعل ما يجري جريمة أكثر قبحًا وفداحة.
تفضلوا بالضغط على الرابط للحصول على الكتاب:
المصادر:
نُشرت هذه المراجعة في مجلة المستقبل العربي العدد 550 في كانون الأول/ديسمبر 2024.
ياسمين قعيق: باحثة سياسية لبنانية.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.