المؤلف: يوسف الشويري

ترجمة: فكتور سحّاب

مراجعة: محمود حداد(**)

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

سنة النشر: 2019

عدد الصفحات: 271

 

هذا كتاب مثير للاهتمام كتبه مؤرخ عربي عن المؤرخين العرب الذين يكتبون عن الدولة القومية، أو بالأحرى الوطنية. يبدأ يوسف الشويري كتابه بالقول: «إن الفكر العربي الحديث لم يعثر بعد على مؤرخه» (ص 23) ثم يتابع ليظهر من زاويته الخاصة كيف أنَّ «المفكرين العرب في العموم منشغلون بتاريخهم الوطني» (ص 26)؛ أي يركزون بحوثهم ودراساتهم على ماضي دولهم الوطنية ويزودوننا بتلخيص لتطور الدراسات المتعلقة بالمنطقة وبالإسلام خلال نصف القرن الماضي. كان هذا الكتاب قد نُشر أولاً بالإنكليزية[1] في 1989، ثم أعيد نشره في طبعة مزيدة ومنقحة في 2003، وتأتي الآن ترجمته الممتازة بقلم فكتور سحاب إلى العربية والمرحب بها والتي تأخرت – برأينا – أكثر مما يجب، وبخاصة أن التطورات التي يمر بها المشرق العربي منذ عشر سنوات تعطينا فكرة عن هشاشة حدود الدول القائمة وصحة مقولة المؤلف الرئيسية كما سنرى.

يحدد المؤلف مرحلتين في تطور التأريخ العربي الحديث: مرحلة أولى من 1820 إلى 1920 ومرحلة ثانية من 1920 إلى 1980. كانت المرحلة الأولى مرحلة الرواد والهواة الذين كانوا يكتبون تحت تأثير الأفكار العربية التقليدية والأوروبية على السواء. لهذا فلقد استقوا الأطر النظرية من المفكرين الأوروبيين مثل لوك وفولتير ومونتيسكيو إلى جانب نظرية ابن خلدون الشهيرة. ما ميز هذه المرحلة والتاريخ الذي كتبه روادها مثل رفاعة الطهطاوي وسليم البستاني والياس مطر وجرجي يني وخير الدين التونسي هو بداية الوعي بوجود كيان جغرافي محدد تحكمه دولة شبه غربية. كان هذا نهجاً مختلفاً عن نهج المؤرخين المسلمين في القرون الوسطى الذين اعتمدوا على تسجيل الأحداث زمنياً من الطبري إلى المقريزي، والذين كانوا مهتمين عادة بالتاريخ الإسلامي بغض النظر عن الحدود الجغرافية. ما هو مثير في هذا القسم من الكتاب هو الأساليب المختلفة التي اتبعها المؤرخون المنتمون إلى تقاليد مختلفة لتأريخ التغييرات التي حصلت. فبينما اعتبر المؤرخ المصري الجبرتي (1753 – 1825) الذي كان عالماً أزهرياً منتمياً إلى المدرسة القديمة، محمد علي باشا، مؤسس الدولة المصرية الحديثة، قليل الإيمان بسبب تخليه عن أحكام الشريعة، فإن الطهطاوي (1801 – 1873) الذي كان أيضاً عالماً أزهرياً وإنما زائراً لأوروبا التي وقع تحت تأثيرها، اعتبر محمد علي حاكماً مثالياً وأصبح الناطق الأيديولوجي باسم نظامه.

إذا انتقلنا إلى حركة التأريخ في سورية الجغرافية خلال الفترة نفسها، فإن يوسف الشويري ينظر إلى فترة الحكم المصري لها في ثلاثينيات القرن التاسع عشر على أنها الفترة التي وحّدت هذه المنطقة سياسياً واقتصادياً؛ إنما تحت النفوذ الغربي. أما الخطوات التحديثية العثمانية اللاحقة التي تعرف بـ «التنظيمات» والتي أدخلت قوانين علمانية نسبياً، فإنها سمحت بكتابة التاريخ بصورة متوافقة مع الوطنية السورية. بيد أنَّ تطور الوعي المحلي/الجغرافي في هذه المرحلة لم يؤدِّ إلى التخلص من الإطار القومي الأكبر للهوية السياسية العثمانية. لهذا فإنَّ الوطنية المحلية لم تحاول أن تفصل نفسها عن الدولة العثمانية، بل جددت الالتصاق بها. ولكي يعطي دليـلاً على النتيجة هذه التي توصل إليها، يناقش المؤلف التاريخ الذي كتبه الياس مطر (1857 – 1910) وجرجي يني (1856 – 1941). وقد ركز هذان المؤرخان على الوعي الوطني السوري والتزما بالهوية العثمانية في نفس الوقت. إلا أنَّ الأول كان مهتماً أيضاً برواية الماضي العربي من زاوية علمانية وتخفيف التركيز على الهوية الإسلامية، أما الأخير فكان أكثر تعاطفاً مع الإسلام على الرغم من تفضيله النظر إلى سورية باعتبارها، ضمنياً، ملجأً للمسيحيين في الشرق العربي. ولربما كان جرجي يني، في تصوره هذا، يتبع النموذج الذي وضعه المؤرخ الفرنسي جول دافيد (Jules David) في وصفه للموارنة في جبل لبنان، إلا أنَّ يني وسّع هذا النموذج لتطبيقه على كل السوريين العرب وعلى سورية الجغرافية ككل. (وبرأي هذا القارئ، فإن بطرس البستاني، كمثقف لا كمؤرخ اتبّع – كما يقدم الياس شويري من معلومات عنه – خط جرجي يني شبه العلماني في نظرته إلى تاريخ سورية الإسلامي، وقد يكون هذا ما جعل المصلح الإسلامي الدمشقي المشهور الشيخ طاهر الجزائري يهاجمه مواربة في أكثر من مناسبة. إلا أن هذا بحاجة إلى دراسة خاصة. لكن من الضروري الإشارة إلى أن البستاني كان شديد التركيز على «الوطن السوري» وشديد الفخر باللغة العربية وآدابها كما ظهر في محاضرة له بعنوان: «خطبة في آداب العرب» في 1859).

ومع أنَّ شويري لا يناقش أعمال المؤرخين السوريين المسلمين فإنه من غير المحتمل أن يكونوا قد نظروا إلى سورية بنفس الطريقة التي نظر بها إليها مطر ويني. غير أنه من الممكن أن يكونوا قد طوّروا وعياً وطنياً محلياً شدد على الهوية العثمانية بنفس الشدة التي شددوا فيها على الهويتين العربية والإسلامية كما كان الأمر مع الشيخ طاهر الجزائري. وقد حصل هنا مثل هذا النوع من التطور في شمال أفريقيا وبخاصة في تونس في كتابات الوزير المتأورب ونصف العلماني خير الدين التونسي (1823 – 1889) وغيره؛ فقد كان الهجوم الفرنسي على الثقافة والمجتمع العربيين في المغرب قد أنتج ردة فعل مغايرة من النخبة الدينية، ولا سيَّما في أمكنة مثل الجزائر والمغرب حيث كان الهجوم الفرنسي على أشدِّه. ولربما كان التعبير الأكمل والأفضل عن ذلك قد جاء فيما بعد في الثلاثينيات من خلال الشعار التالي الذي أطلقته رابطة العلماء الجزائريين: «الإسلام ديني، العربية لغتي، الجزائر وطني».

تمثلت المرحلة الثانية من تطور التأريخ العربي الحديث بالمؤرخين المحترفين. وعلى الرغم من أنهم تدربوا على التقنيات الحديثة لكتابة التاريخ، فإن مؤرخي مرحلة 1920 – 1980 وظفوا أنفسهم كمديري إضفاء الشرعية على الدول – الأمة العربية التي ولدت بعد نهاية الدولة العثمانية وموت مفهوم «العثمانية» في نهاية الحرب العالمية الأولى. وكانت الدولة – الأمة الجديدة قد اقتُطعت إما بواسطة قوة غربية أو ولدت تحت نظرها وسطوتها.

يتابع شويري أن هذا النوع من المؤرخين جعل هدفه البعيد الدفاع عن السيادة الترابية للكيان السياسي الجديد وزعم امتلاكه للأجوبة والحلول لتخلف مجتمعه. ومن المثير للاهتمام أن المؤلف يشير إلى أن الضابط العسكري والمثقف في الوطن العربي يشتركان في عدد من الصفات أهمها الأخذ ببعض الأفكار الغربية والتوق الشديد لإصلاح المجتمع والتنظيم والابتعاد عن مجتمعاتهم التقليدية. (ويتساءل المرء عما إذا كانت العلاقة التي يصفها المؤلف بين المثقف العربي الحديث والسلطة مختلفة عن العلاقة بين المثقف الغربي والسلطة في بلاده؛ أو على وجه أدق إذا لم يكن هناك مجموعة تحابي السلطة ومجموعة تعادي السلطة وتنتقدها في الحالتين). ويدرس المؤلف ثلاث حالات تسمح له بالوصول إلى استنتاجاته: المؤرخ المصري شفيق غربال، والمؤرخ اللبناني كمال الصليبي، والمؤرخ المغربي عبد الله العروي.

أما غربال فهو متهم ليس فقط بإضفاء الشرعية على الدولة – الأمة المصرية، ولكن أيضاً على حكم محمد علي باشا وسلالته إلى حد إخفاء الأدلة التي لا تظهر منافسي الباشا بأسوأ صورة. وبالنسبة إلى المؤلف، فإن كمال الصليبي وعبد الله العروي يذهبان في طريقين مختلفين ليقدما نفسيهما كمؤدلجي السلطات الحاكمة في بلديهما. وهو ينتقد كمال الصليبي لكتابة التاريخ كسياسة وعبد الله العروي لكتابة التاريخ كثقافة.

لا شك في أن نقطة القوة عند المؤلف أنه يرفض أن يقبل حكمة المؤرخين العرب الذين يستخدمون إطار الدولة – الأمة. فهو يحاكم الحكام بشجاعة ويتساءل عن دوافعهم والنتائج التي توصلوا إليها. إلا أنَّ حججه يمكن أن تكون صحيحة إلى الحد الذي تسمح به إثباتاته. فدراسته عن ثلاث حالات، على الرغم من أهميتها، لا تسمح له بالتعميم بأن «المفكرين العرب في العموم منشغلون بتاريخهم الوطني» (ص 23) وحول المناطق العربية التي لم يشملها بدراسته. والواقع أننا لا نجد في ما يتعلق بسورية الجغرافية، باستثناء الحالة اللبنانية، مؤرخاً سورياً حديثاً يلتزم بفكره الدولة – الأمة السورية ضمن حدودها الحالية المعترف بها دولياً. وهناك عدد من المؤرخين البارزين مثل عبد الكريم رافق وعبد اللطيف طيباوي، وكذلك المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني، الذين لا تتوافق كتاباتهم مع الإطار الذي استخدمه شويري. ولم يتم تقديم أي مؤرخ سوري جدّي، مثـلاً، كناطق أيديولوجي باسم الدولة – الأمة السورية بنفس الطريقة التي كان فيها شفيق غربال ناطقاً أيديولوجياً باسم الدولة المصرية. إلا أنه من الممكن القول، على مستوى أعلى، إن غياب أي مفكر للدولة – الأمة السورية لا يعارض نظرية المؤلف. وهذا عائد إلى أن الدولة السورية المعاصرة ذاتها لم تدفع إلى الأمام صراحة بأيديولوجيا الدولة – الأمة السورية، بل بأيديولوجيا القومية العربية. ومن المهم الإشارة إلى أنه على الرغم من أن المؤلف يذكر بصورة عابرة فشل أيديولوجيا سورية الجغرافية التي أطلقها أنطوان سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي في 1932، إلا أنه لا يتوسع في ذكر أسباب ومعاني هذا الفشل. ولعله كان من المفيد أن يتوقف قليـلاً عند ما كتبه لبيب زويا يمق حول الأيديولوجيا المضمرة لهذا الحزب في كتاب صدر أولاً بالإنكليزية في 1966 وقد ترجمه شويري بنفسه إلى العربية[2]. ثم إن المؤلف لا يقترح على المؤرخين العرب منهجاً معيناً بديـلاً للمنهج الذي ينتقده. فهل هو يفضل تاريخ المدن أو تاريخ المناطق المتصلة اقتصادياً واجتماعياً والعابرة لحدود الدول (مثل اعتبار شمال سورية وشمال العراق منطقة اقتصادية – اجتماعية واحدة) التي أقيمت بعد الحرب العالمية الأولى أو أي صيغة أخرى؟

إن عدم نزوع أغلبية المؤرخين السوريين إلى التركيز على الدفاع عن الوحدة الترابية لسورية يجعلنا نتساءل عما إذا كانت الثقافة العربية هي التي تعرضت للهجوم الأقسى من الغرب وليس الهجوم الاستيطاني إلا في الحالة الفلسطينية. هل كانوا ينظرون إلى التهجم على ثقافتهم العربية بالطريقة نفسها التي نظر إليها الجزائريون إلى تهجم فرنسا على عقيدتهم الدينية؟ لهذا فإن استنتاجات المؤلف صحيحة على الأقل جزئياً فهو يقول مثـلاً: «كانت القومية العربية مفهوماً غريباً لدى كل من الطهطاوي والبستاني، إضافة إلى عبده، وأديب إسحق، وشبلي الشميل، وفرح أنطون، والكواكبي، ومصطفى كامل. كان هؤلاء المفكرون بعيدين عن القومية العربية» (ص 27).

لا شك في أن هذه الملاحظة صحيحة في ما يتعلق بالقومية العربية السياسية، إلا أن ذلك غير صحيح إطلاقاً في ما يتعلق بالقومية العربية الثقافية، (أو ما أفضل وصفه بـ «العروبة») وبخاصة في حالتَي محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي. فكلاهما نشط في الحركة الإسلامية التحديثية التي ركزت على الإسلام العربي واللغة العربية في نفس الوقت الذي دعا فيه إلى الأخذ بالعلوم الحديثة. وكان من الممكن للمؤلف أن يفيد من أحد المقالات التي تتحدث عن الموضوع في كتاب المؤرخ الأميركي إرنست دون، من العثمانية إلى العروبة الذي لا يظهر في ثبت مصادره[3]‏. ونضيف أن الملاحظة تنطبق على بطرس البستاني وفرح أنطون ومصطفى كامل وكلهم كان يشدد على أهمية اللغة العربية.

على الرغم من أوجه القصور القليلة هذه، فإن كتاب علم التاريخ العربي الحديث يظل نقداً مرحّباً به لعمل بعض المؤرخين العرب واتجاهاتهم. فمثل هذا النقد الذي يرسم خطاً فاصـلاً بين المؤرخ والداعية الأيديولوجي كان منتظراً منذ وقت غير قصير.

 

احصلوا على نسختكم من الكتاب  علم التاريخ العربي الحديث: الخطاب التاريخي والدولة الأمة

المصادر:

(*) نُشرت هذه المراجعة في مجلة المستقبل العربي العدد 490 في كانون الأول/ ديسمبر 2019.

(**) محمود حداد: أستاذ التاريخ في جامعة البلمند – لبنان.

البريد الإلكتروني:   mahmoud.haddad@balamand.edu.lb

[1] Youssef Choueiri, Arab History and the Nation-State: A Study in Modern Arab Historiography 1820‑1980 (London: Routledge, 1989), 2003.

[2] لبيب زويا، الحزب القومي الاجتماعي (تحليل ونقد)، ترجمة جوزيف شويري (بيروت: دار ابن خلدون، [1973]).

[3] C. Ernest Dawn, From Ottomanism to Arabism: Essays on the Origin of Arab Nationalism (Urbana: University of Illinois Press, 1973).


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز