ما زالت القدرة على تقديم قراءة مابعدية للسابع من تشرين الأول/أكتوبر أمرًا صعب المنال، إذ إن تبعات الحدث غير متبلورة وغير واضحة؛ مع ذلك يمكن حسبان السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حدثًا تاريخيًا مؤسسًا لعالم جديد يمكن تسميته «عالم ما بعد السابع من أكتوبر» وما يمثله من إحداث هزة كاملة شعرنا بها جميعًا وجدانيًا مواطنين وباحثين في المنطقة العربية وفي العالم. معرفيًا، كمتخصصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية في المنطقة العربية، عملت حرب الإبادة الحالية على تعاظم الهوة بين العالم المهيمن والعوالم الأخرى، وبخاصة في منطقتنا التي ندفع ثمنها بدمنا. أدى انحياز الدول المهيمنة في العالم وأجهزتها الأيديولوجية والإعلامية لمصلحة السردية الاستعمارية «الإسرائيلية» إلى صدمة إعادة الاكتشاف لسقوط المنظومات الأخلاقوية والإنسانوية بوصفها مؤشرات دلالية على تهافت سرديات «حقوق الإنسان» و«القوانين الدّولية» و«المواثيق الإنسانية» و«الجماعة الدولية». وفتحت التساؤلات عن الممارسات الديمقراطية وادعاءاتها الفوقية الغربية التي أضحت تُختزل بالحق في التعبير وفي تنظيم الانتخابات، وفي حالة ما بعد السابع من أكتوبر بضمورها إلى الحد الأدنى منها، أي الحق في التظاهر ضد الحرب على غزة؛ في حين أن السياسات الناظمة في هذه النظم «الديمقراطية» لا تكترث لآراء ملايين السكان المتظاهرين ضد الحرب. نحن إذًا، بحق، في قلب أزمة مجتمعات ما بعد الديمقراطية (كوين كرواتش) بمعنى السماح للناس بالتظاهر وحرية التعبير مقابل مصادرة آرائهم وعدم الاكتراث لها؛ والسماح لفئة صغيرة متنفذة بتحديد السياسات والمواقف. يجري هذا بالتوازي مع عودة المكارثية الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتصاعد علنية الخطابات العنصرية المعادية للعرب والمسلمين في أوروبا. تتقاطع هذه التبدلات مع انحياز المسيطرين في هذه الدول لمصلحة «دولة الاستعمار» المتجلية في الفضاءات العابرة للمجتمعات ذات النزعات المعولمة الحديثة المتصلة بعالم الصورة؛ كوسائل للتعبير والتواصل الاجتماعي المعبّر عنها عبر مواقف وتصريحات لنجوم عالم كرة القدم، والصحافة، وعارضات الأزياء، والماركات التجارية… إلخ، التي تبعتها تصدعات في المواقف بين الجماعات المهيمنة داخل الأحزاب السياسية في فرنسا وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، وأثر ذلك في ولادة الدعوات إلى مقاطعة شركات تجارية معولمة مثل ماكدونالد وستاربكس وزارا… إلخ.
منذ ولادة المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين يقف العالم عاجزًا عن صد الانحياز لمصلحته بحكم انحياز الشرائح المهيمنة في الدول المهيمنة لمصلحة الأخير، في حين أن جديد اليوم هو إعادة إنتاج هذه الممارسات المؤسسة التي قام عليها المشروع الصهيوني من مجازر وتطهير عرقي وطرد ممنهج للسكان، وجرائم تطهير حضري، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب موثقة بالبيّنات، وجرائم مصادرة الحقوق الطبيعية بالحياة كمنع الغذاء والمياه، ولكن ما تغيَّر هو حدوث هذه الأفعال عبر شاشات التلفزة المباشرة كتجسيد لمجتمع الفرجة والمشاهدة على نحو كوني.
أبرزت حرب الإبادة الجماعية الحالية استفحال عمليات التغوُّل لأجهزة الدولة والسلطات على المجتمعات العربية وسلب إرادة الشعوب وحقوقها في رفض المواقف الرسمية لأنظمتها؛ في سيرورة مكملة للعمليات المستمرة تاريخيًا لسلب الحقوق في مجمل الحيوات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سواء في قضاياهم المحلية، أو في سلب الحقوق بالاحتجاج على مستوى الحراكات المطلبية تجاه سياسات اجتماعية واقتصادية كما في حالات الاحتجاج السياسي ومن ضمنها الانحياز إلى القضية الفلسطينية. باستثناء التظاهرات هنا وهناك وحملات المقاطعة، والمشاركة في الإضرابات التضامنية في بعض البلدان ما زال الاحتجاج على حرب الإبادة الحالية في الشارع العربي خجولًا إن لم نقل غائبًا.
نزع السياق الاستعماري عن الحدث وتشويهه
منذ بداية حرب الإبادة الجماعية وحتى اللحظة، تم بث خطابات عنصرية تستحضر المقولات الخطابية الاستعمارية القديمة (الفلسطينيين حيوانات بشرية، غزة كأرض للتوحش، نحن لدينا مهمة تحضيرية، نحن نخوض حربكم)، وفق ثنائيات التوحش مقابل التحضر، والعالم الحر المتنور مقابل العالم الظلامي… إلخ، وشيطنة الفلسطينيين ونزع إنسانيتهم، بل تمت المطالبة علانية بضرورة تهجيرهم طوعًا وقسرًا، والمطالبة بقصفهم بالقنابل النووية؛ وضرورة العمل على محو ثقافة الفلسطينيين الدموية واستبدالها بثقافة «تسامحية». المفزع أن هذه الخطابات والممارسات التي كانت ولا تزال تمثل مجالًا للتفكيك والتمحيص والدراسة النقدية من جانب المدارس النقدية الغربية في أوروبا وأمريكا الشمالية في سياقات تاريخية استعمارية سابقة لا يلتفت إليها في السياق الحالي؛ ويتم التعامل معها وكأنها تصريحات عابرة تصدر من بعض «القادة المتشددين» في «دولة إسرائيل» لا بوصفها استمرارية للذهنية الاستعمارية التي أدارت المستعمرات في أصقاع الأرض في القرنين الماضيين التي أسيل الكثير من الحبر حولها. يتم استبعاد هذه المدلولات الخطابية الاستعمارية عبر عملية تشويه معرفية منظمة، تستجلب مقاربات الصراع بين طرفين وضرورات الحياد الإكسيولوجي والموضوعية وتستثني مقاربات النظر إلى «إسرائيل» كبينة استعمارية خلقت نظامًا استعماريًا استيطانيًا إحلاليًا رغم استخدامها الكثير من الأساليب التي تذكرنا بفظاعات الأزمان الاستعمارية السابقة والمزج بين الاستعمار التقليدي وممارسات تمييزية عنصرية أبارتايدية، وكأن الممارسات والتصورات ذات الطابع الاستعماري ما زالت مسيطرة على التمثلات والخطابات المهيمنة في المجتمعات الغربية.
حتى بعض الذين اتخذوا موقفًا نقديًا تجاه الحرب على العراق في الماضي، لم يفعلوا مثله إزاء حرب الإبادة الحالية، إذ تم اتخاذ المواقف عبر عملية طغيان للتحليل الحدثي المنزوع السياق، أي التعامل مع الحدث بوصفه حدثًا غير مرتبط بالسياق الاستعماري، والعمل على تجريم التحليلات القليلة التي تركز على الحدث بوصفه حدثًا مرتبطًا بسيرورة وصيرورة لممارسات ممنهجة ومنظمة للنظام الاستعماري «الإسرائيلي» وأيديولوجيته وأدواته وجيشه وممارسته للظلم التاريخي: مصادرة الأرض وتهجير الفلسطينيين وطردهم، وقتلهم وارتكابهم المجازر في قطاع غزة (مجازر رفح وخان يونس وطرد السكان في لواء غزة مثلما هي الحال في بقية فلسطين كلها). نحن أمام سقوط مدوٍّ للمنظومة الأخلاقوية للمعرفية الانتقائية القائمة على ازدواجية المنطلقات المعرفية للمدارس الأكثر نقدية التي خبرناها منذ أكثر من خمسين عامًا، وظهور قصورها على نحو غير مسبوق منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر. من نافلة القول، ثمة ديمومة للخطابات المعرفية القائمة على أثننة المجتمعات التي تتغذى من منهجيات ومقاربات فوقية ومن طغيان المركزيات الثقافية واحتكار المنطق الضحووي لمصلحة فرادة الحالة الاستعمارية «الإسرائيلية» وربطها بمصوغات العقدة التاريخية الأوروبية ووضعها في مقاربة متعالية على التاريخ لبعض الباحثين الأوروبيين.
تفتح الحرب الحالية مساءلة جديدة قديمة لما أنتجه رواد المعرفة «النقدية» الغربية، التي تظهر المواقف الملتبسة لمفكرين وبحاثة كبار طالما استشهدنا بهم في عُدَدِنا المفاهيمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية في منطقتنا العربية. تظهر التصريحات لهابرماس صاحب النظرية «التواصلية النقدية» أن موقعتيه كباحث ألماني غربي يناقض نفسه وأفكاره ويُهبط من إرث مدرسة فرانكفورت النقدية، استكمالًا لغياب شغفه بنضالات الشعوب تجاه أشكال الاستغلال الاقتصادي والإخضاع الاستعماري. يذكرنا هذا بمواقف جون بول سارتر الذي اتخذ موقفًا معاديًا للاستعمار الفرنسي في الجزائر، عبر أعماله التقديمية لكتاب فرانز فانون المعذبون في الأرض وتنظيره للعنف الثوري وكتابه عارنا في الجزائر، مقابل موقفه المتناقض من الاستعمار الصهيوني، كما لو كان هذا الأخير مغايرًا للاستعمار الفرنسي في الجزائر. مشابهًا لمواقف «الفيلسوف» لوفيناس وجاك دريدا عن الوضع الاستعماري «الإسرائيلي» بوصفه حالة صراع بين طرفين تتطلب تعايشًا، ومساواةً بين المستعمِر والمستعمَر. ونجد موقفًا مماثلًا لسلافوي جيجك وتأكيده حق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها من دون قيد أو شرط مع أهمية «الاستماع» إلى الطرف الفلسطيني، وتطابقًا مع موقف المفكر الجنوب الأفريقي دايفيد بيناتار الرافض لـ«لوم الضحية» أي رفضه تحميل «إسرائيل» مسؤولية هجمات حماس. كذلك تظهر النقاشات العامة في الدول المهيمنة استجلاب مفهمة «الحرب العادلة» التي تنسجم مع الاستخدام الحالي لمقولة «حرب الدفاع عن النفس» «لإسرائيل»، على الرغم من الفتوى الفقهية القانونية التي لا تعطي حق الدفاع عن النفس لدولة احتلال. تساوي هذه المواقف لمنتجي المعرفة الغربية بين الضحية والجلاد، وتظهر لنا جليًا ضمور المقاربات الإنسانوية التي تُختزل في مقارباتها على الغرب وحده. وكأن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر حدثٌ منعزلٌ عن السياق الاستعماري عبر خلق عمليات الإزاحة في المعنى والدلالة وفقًا لتراتبيات المواقف المعرفية والأخلاقية بحسب جنسية الضحية وعرقه. تبين هذه المواقف الملتبسة هشاشة وجدوى هذه المقاربات النظرية، وتفتح التساؤلات المشروعة عن منطلقات «مدارس ما بعد الحداثة» وما «بعد الاستعمار» وتشمل حتى القراءات النقدية في تأريخ الاستعمار التي تحاول استثناء دولة «إسرائيل» كبنية استعمارية، ومجتمعها بوصفه مجتمعًا استعماريًا استيطانيًا إحلاليًا؛ وكأن تيارات ما بعد الاستعمار، ودراسات الاستعمار هدفها تحليل الاستعمار أو تهذيبه أو ترشيده أو التعايش معه، لا مقاومته.
يمكننا النظر إلى ما سبق كاستمرارية لحضور هيمنة المعرفة الاستعمارية، وللإبادة المعرفية التي لا تنظر إلى المعرفة التي يصدرها المضطَهَدون، تمامًا كما حدث سابقًا تجاه العراق وأفغانستان والصومال حين تم بث الخطابات الكاذبة عنها بوصفها مجتمعات انقسامية غير متجانسة ومجرد مكونات اجتماعية طائفية وإثنية وعرقية متناحرة ومنقسمة. تعمل هذه المقاربات على عدم تصنيف جرائم «إسرائيل» كجرائم «إبادة عرقية» وتقوم بتكرار تعبيراتها عن «ديمقراطية إسرائيل»، وقبولها لفكرة «يهودية الدولة» وعدم التطرق بالتحليل والنقد إليها بوصفها ممارسات عنصرية مؤسسة فيها. تدفع هذه المقاربات التمييزية الانتقائية أفراد الجماعة العلمية العربية أكثر من أي وقت مضى إلى التفكير في الحاجة الملحة إلى تخليق منظومة معرفية إبستيمية ومنهجية جديدة وخلق معيارية معرفية جديدة تنبع من حاجاتنا ومن مقارباتنا في المنطقة العربية وفي الجنوب العالمي، وتعيد الاعتبار إلى الأطر التحليلية للوضع الاستعماري الفلسطيني وتقطع مع كل المقاربات الوهمية عن فكرة حل «الصراع» بوصفه حلًا بين طرفَي صراع.
تأتينا بارقة الأمل وسط هذه القتامة من ولادة بوادر تبدلات كونية تتمثل بتحرر مجموعات كبيرة من الأجيال الشابة من سيطرة السرديات الرسمية التي تسيطر عليها الجماعات الضاغطة في عوالم الإعلام والمال والسياسة. وتوسع استخدامات الوسائط الافتراضية الجديدة المنفلتة منها لتعيد الاعتبار للاصطفافات الضميرية والأخلاقية الإنسانية تجاه القضايا العادلة في هذا العالم؛ وتؤدي دورًا بديلًا من الدوران الدائري المغلق للمعلومات المقيدة والمضبوطة؛ التي أضحت في إثرها الحرب على قطاع غزة أهم مادة تواصلية على مستوى الكون.
كتب ذات صلة:
المصادر:
نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 539 في كانون الثاني/ يناير 2024.
أباهر السقا: عضو المجلس الاستشاري لمجلة «المستقبل العربي»، ورئيس تحرير مجلة «إضافات».
أباهر السقا
كُلف الدكتور أباهر السقا برئاسة تحرير مجلة إضافات - المجلة العربية لعلم الاجتماع، التي تصدر بالتعاون بين الجمعية العربية لعلم الاجتماع ومركز دراسات الوحدة العربية. وهي مجلة أكاديمية فصلية محكمة. السقا هو أستاذ مشارك في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت في فلسطين، حائز شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة نانت - فرنسا. خريج المدرسة العليا لإدارة التنظيمات الاجتماعية، سانت تيتيان - فرنسا. عمل محاضرًا في جامعة نانت - فرنسا خلال المدة 1998-2006، وأستاذًا زائرًا في عدد من الجامعات والمعاهد الفرنسية والبلجيكية خلال المدة 2009-2023. له عدد من الدّراسات والمقالات العلميّة في مجالات التعبيرات الاجتماعية الفنية، والحركات الاجتماعية، والهوية، الذاكرة، والوطنيات، والدراسات الحضرية، والسياسات الاجتماعية، والعلوم الاجتماعية وتأريخها، والتاريخ الاجتماعي. له عدة كتب ودراسات بالعربية والفرنسية والإنكليزية. وهو نائب رئيس مجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، ورئيس الجمعية الفلسطينية لعلم الاجتماع وعلم الإنسان، وعضو في الجمعية العالمية لعلم الاجتماع، والجمعية الدولية لعلماء الاجتماع الناطقين بالفرنسية، فضلًا عن عضويته في مؤسسات عالمية بحثية أخرى.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.