لم يكن الإسلامويون في مصر، وعلى غرار بقية بلدان الربيع العربي، في طليعة الثورة‏[1]. تطلّب الأمر عدة أيام لينضم الإخوان المسلمون وأنصارهم إلى الحركة الثورية. أما الأغلبية العظمى من السلفيين فقد تأخروا لمدة أطول قبل الحشد للاحتجاج؛ فلم تسمح الدعوة السلفية؛ وهي التنظيم السلفي الأكثر تنظيماً في مصر، لأعضائها بالنزول إلى ميدان التحرير رسمياً إلا في الثامن من شباط/فبراير 2011. وسرعان ما يُغادر الإسلاميون ميدان التحرير من جديد بعد الإطاحة بمبارك مباشرة في الحادي عشر من شباط/فبراير من العام نفسه. وبتجدد التظاهرات بدءاً بشهر نيسان/أبريل 2011 ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة هذه المرة، كانت الحركات الشبابية اليسارية ذاتها، أو تلك التي ليس لها انتماء أيديولوجي، هي من تقود حركة الاحتجاج.

بدأ الحضور المتنامي لإسلامويين في هذه التظاهرات أمراً مستغرباً، ولا سيّما أن هؤلاء لم يكونوا منتمين إلى أيٍّ من التنظيمين الكبيرين في الحركة الإسلامية المصرية: الإخوان المسلمون والدعوة السلفية؛ فقد اختار كلاهما الانصياع لشروط المرحلة الانتقالية تحت الوصاية العسكرية. وفي حين لا تخضع الحركة الجديدة للتنظيم بالضرورة، إلا أنّ أعضاءها يجتمعون حول عدد من السمات المشتركة؛ فهم يدعون علناً إلى الثورة، ويعتبرون أنها لا يمكنها أن تقبل بوجود سلطة من الجنرالات الذين جرى تعيينهم أو ترقيتهم من قِبل النظام القديم. كما يتبنّون العمل الاحتجاجي في الشارع، ولا يثقون في النظام السياسي المؤسساتي، ومن يشاركون فيه، بمن فيهم الإسلامويون. وهم يدعون إلى السلفية؛ لكنها سلفية لا تقبل التسويات، ومستعدة لإقامة الشريعة فوراً. وعليه؛ يمكن توصيف هذه الحركة التي تمثل ظاهرة جديدة في حقل الإسلاموية المصرية، باستخدام مصطلح يُجليها بوضوح، وهو السلفية الثورية‏[2].

تحولت السلفية الثورية منذ ظهورها إلى فاعل مهم في الحياة السياسية المصرية، ونسعى من خلال هذه الدراسة إلى تفسير صعودها القوي. وسنوضح كيف استطاع السلفيون الثوريون الإفادة من خبرات نضالية ومن بنىً للتعبئة كانت موجودة قبل الثورة، وكيف ساعد دور القائد الكاريزمي الذي جسده الشيخ حازم أبو إسماعيل على توحيدها. وسنبيّن كيف نجح هؤلاء في بناء خطاب جاذب لكثيرين بالدعوة إلى قيمتين من أكثر القيم رواجاً في مصر ما بعد مبارك، وهما: الثورة والشريعة. وكيف استطاعوا الإفادة من سياق سياسي أصبح مُواتياً بفضل الصعوبات التي واجهتها الأحزاب الإسلامية المندمجة في النظام السياسي المؤسساتي، بحيث استطاعوا الظهور بمظهر القادرين على جمع مئات الألوف من الأنصار في شوارع القاهرة.

وإذا كانت السلفية الثورية تتعرض اليوم لما تتعرض له غالب الحركة الإسلامية في مصر من قمع، إلا إنها لا تزال قوة للتعبئة لا يُستهان بها، وهو ما سنحاول التطرق إليه في ختام هذه الدراسة من خلال ملاحظات عامة حول موقع السلفيين الثوريين في الحركة الاحتجاجية الجارية منذ الثالث من تموز/يوليو 2013.

أولاً: سلفية احتجاجية قائمة

إن بروز السلفية الثورية بعد ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011، لا يعني أنها ظهرت من العدم. في الواقع، عرف حقل الإسلاموية المصرية في مرحلة ما قبل الثورة تجمعاتٍ صغيرة تنتمي إلى الفكرة السلفية، لكنها لا تتبنى خيار المهادنة الذي تنادي به جماعات دعوية كالدعوة السلفية بالإسكندرية؛ وهي التنظيم السلفي الأكثر هيكلة في البلاد. من الناحية الأيديولوجية، يمكن وصف الكثير منهم بالسلفيين القطبيين، بحيث يمزجون بين مرجعية التراث السلفي التقليدي، وبين كتابات سيد قطب السياسية؛ وهو المنظر الثوري بامتياز في الإسلاموية المصرية.

ومن جهة الانتماء الحركي أو الشخصي، يدفع بعضهم بمرجعيةِ الشيخ رفاعي سرور الذي توفي عام 2012‏[3]؛ وهو شخصية كان لها عظيم الأثر في صفوف الحركة الإسلامية المصرية خلال سنوات السبعينيات وبعدها. بينما بعضهم الآخر، وهم من تلامذة شيوخٍ معاصرين يتمركزون في القاهرة، من أمثال الشيخ محمد عبد المقصود ونشأت أحمد وفوزي السعيد.

خلال عهد مبارك، اجتمع هؤلاء الشيوخ على سمة مشتركة هي نقدهم المباشر للنظام ووصفه بالكفر، لكنهم يختلفون في ذلك عن الجهاديين بابتعادهم عن الدعوة إلى العمل المسلح. هذا عَرّضهم، كما هي الحال مع تلاميذهم، لتضييقات أمنية مكثّفة، تمثلت في الاعتقالات في صفوفهم، إضافة إلى منعهم من العمل الدعوي.

على الرغم من ذلك، بدأت بعض هذه المجموعات بالانتظام بصورة غير رسمية؛ ففي القاهرة، ظهرت مجموعة من تلاميذ رفاعي سرور سمّت نفسها بعد الثورة «ائتلاف دعم المسلمين الجدد». وكانت من أوائل المجموعات السلفية التي لجأت إلى التظاهر في الشوارع بدءاً بعام 2010، فرغم إعلانها أنها ستركز أنشطتها في الدفاع عن الأقباط المتحولين إلى الإسلام، ممّن يتعرضون لمضايقات المجتمع المسيحي‏[4]، مثل القبطية كاميليا شحاتة التي أُعلن أنها تحوّلت إلى الإسلام، ثم حُبست في الكنيسة ضد إرادتها، إلا أن هذا جعل الائتلاف يتبنى خطاباً ينتقد النظام الحاكم لإقراره موقف الكنيسة، وعدم حماية حرية الاعتقاد للمواطنين. وفي المنصورة، تكوّنت إرهاصات المجموعة التي ستحمل بعد الثورة اسم «الجبهة السلفية».

إذاً، وقبل الثورة ذاتها، امتلك هذا التيار الإسلاموي الشبكاتِ والخبرةَ النضالية، لكن مواطن ضعفه كانت في تشتته؛ بحيث انعدم، أو كاد، التواصل بين المجموعات المختلفة التي تشكّله بسبب الانتشار الجغرافي وقمع الشرطة، لتعود وتتوحد هذه الحالة السلفية الثورية وتنجح في اكتساب الدعم والجماهيرية، بفضل ظهور شخصية كاريزمية غداة ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير، هو الشيخ حازم أبو إسماعيل الذي تمكّن من جذب الجماعات المختلفة، فتولدت عن ذلك دينامية انتشار غير مسبوقة.

ولد الشيخ حازم أبو إسماعيل عام 1961 وهو محام، والده الشيخ الأزهري صلاح أبو إسماعيل؛ الشخصية المهمة التي مثلت جماعة الإخوان المسلمين في البرلمان المصري خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات. انضم حازم إلى الجماعة، فكان مرشحها في الانتخابات البرلمانية خلال عامي 1995 و2005 من دون أن يحقق نجاحاً، لكنه تمكّن من الفوز في انتخابات نقابة المحامين عام 2005. في بداية الألفية الثالثة، تبنى الشيخ حازم خطاباً قرّبه من الحركة السلفية التي كانت شعبيتها في تنام وانتشار في تلك المرحلة، ليصبح بذلك إحدى الشخصيات الصاعدة في الجناح السلفي للجماعة قبل أن يغادر الإخوان تماماً. وهنا، اختلفت الرؤى في توقيت هذه المغادرة، بحيث يرجح الكثيرون أنه غادر الإخوان نهائياً، وبالتحديد بعد الثورة.

عُرف أبو إسماعيل بوصفه داعية على القنوات الفضائية السلفية، حيث ظهر مرتدياً العباءة والعمامة. وإذا كانت آراؤه ظلَّت منزوعة السياسة في الغالب؛ إلا أن ذلك لم يمنعه، في بعض الأحيان، من توجيه النقد لنظام مبارك علناً؛ ولا سيَّما خلال الحرب الإسرائيلية ضد غزة في شتاء 2008، وهو مما يفسر بقاءه شخصية هامشية في الحركة الإسلامية في نظر أمن الدولة.

حين بدأت الثورة عام 2011، وعلى منوال أعضاء المجموعات السلفية الصغيرة التي سبق ذكرها، كان حازم من أوائل السلفيين الذين التحقوا بميدان التحرير. وغداة سقوط مبارك، تمايز أبو إسماعيل بوصفه أحد الزعماء الإسلاميين الأوائل الذي حذروا الثوريين من خطر مصادرة العسكر للسلطة واستيلائهم عليها. وفي 24 أيار/مايو 2011، أعلن عن ترشحه للانتخابات الرئاسية المصرية مُستبقاً الإعلان عن تاريخ محدد لإجرائها‏[5].

ثانياً: خطاب لا يقبل التنازلات

مَنح الترشح للرئاسة للشيخ أبو إسماعيل دعاية معتبرة. فبدءاً بصيف عام 2011، اعتبرته مجموعات السلفية القطبية الصغيرة الموجودة قبل الثورة زعيماً طبيعياً لها، وشاركت في نشاط واضح في حملته الانتخابية. فقد صار حازم تجسيداً فعليّاً لهذه الحالة السلفية الجديدة عبر خطابٍ يركز على قضايا، صارت تشكل قاطرة الأفكار المهيمنة في الحركة، برغم استمرار بعض الاختلافات الأيديولوجية والاستراتيجية بين المجموعات المكونة لها.

أُولى هذه القضايا هي المطالبة بالتطبيق الفوري للشريعة كاملةً غير منقوصة. لكنها قضية كانت تتكرر باستمرار في خطاباته من دون أن يتم ترجمتها إلى برنامج سياسي واضح المعالم؛ وكأنَّ فكرة أنّ تطبيق الشريعة كحل لكل مشاكل مصر أمر بديهي! علاوة على ذلك، يمكن العثور على انشغال واضح في خطاب السلفيين الثوريين بأبناء الطبقات الشعبية الذين يُنظَر اليهم كـ «مستضعفين» يجب على الإسلام أن ينتصر لهم، وكذلك الثورة. هذا المنطق، دفع بعض مُثقفي الحركة السلفية الثورية إلى طرح مشروع إنشاء حزب صغير (لم يكتمل تأسيسه) في تشرين الأول/أكتوبر 2012، أسموه «حزب الشعب»، يتوجّه إلى العمال والفلاحين بخطاب وصفه بعض الملاحظين آنذاك، بالسلفية اليسارية (Shams El-Din, 2012).

وثانيتها، هي القومية الإسلامية، وهي قومية مصرية حيناً، وإسلامية حيناً آخر؛ بحيث يتم التلويح بها تجاه «القوى الخارجية»، وفي مقدمها الولايات المتحدة وإسرائيل. يعتبر حازم أبو إسماعيل، من الإسلاميين القلائل الذين يُعارضون علناً اتفاقيات كامب ديفيد التي تربط بين مصر والدولة العبرية منذ عام 1979 (مرسي، 2011). كما أشاد طويـلاً بأسامة بن لادن بعد وفاته في أيار/مايو 2011، بحيث اعتبره مجاهداً على خطى عبد الله عزام وأحمد ياسين‏[6].

أما ثالثتها، فهي الالتزام المعلن باستمرارية انتفاضة 25 كانون الثاني/يناير 2011، واعتبارها بداية المسيرة الثورية لا ذُروتها. بالفعل، وعلى غرار من يتسمّون بـ «شباب الثورة»، وعلى العكس من أغلبية الجماعات السياسية المنظمة، يعتبر أبو إسماعيل وأنصاره بأن الثورة لم تنته في 11 شباط/فبراير 2011، وإنها يجب عليها الاستمرار حتى القطيعة الكاملة مع النظام السابق‏[7]. وهذا يعني مواجهة السلطة التنفيذية الجديدة ممثلةً بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة والتنديد به، باعتباره من الفلول (بقايا عصر مبارك). لذلك سيكون السلفيون الثوريون في قلب التعبئة ضد المجلس العسكري خلال الأحداث الدامية التي عرفها شارع محمد محمود في تشرين الثاني/نوفمبر 2011‏[8]، وتلك التي حدثت في العباسية في أيار/مايو 2012‏[9]، والتي لم تكن أقل دموية. بفضل هذا الالتزام في المقام الأول، حظي أبو إسماعيل وأنصاره بصورة إيجابية لدى الشباب الثوري من غير الإسلاميين، ممن يتقاسم معهم كراهية المجلس العسكري‏[10].

لكن مصطلح الفلول بطابعه الاتهامي، والذي قُصد به رموز عهد حسني مبارك، وهو ما اتفقت فيه السلفية الثورية مع غالب الرافضين لممارسات المجلس العسكري، ستتوسع دائرته لاحقاً، بحيث يُصبح كل الليبراليين فلولاً؛ فالثوري الحقيقي في نظرهم هو الإسلامي، كان لهم غموض في الموقف من الليبراليين.

هنا، تشكل أحداث العباسية – التي سبق ذكرها – نقطة تحوّل لا يمكن فهمها إلا من خلال وضعها ضمن سياق ربيع العام 2012 حيث بلغ الاستقطاب السياسي بين الإسلاميين وغير الإسلاميين ذروته خلال الحملات الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتزايدت بين الجانبين حالة من عدم الثقة المتبادلة، ليجد السلفيون الثوريون الذين تصوّروا بأنهم يواصلون المسيرة الثورية ضد المجلس العسكري، أنفسهم بمفردهم تقريباً، ووجهاً لوجه أمام الجيش؛ إذ انضمت إليهم مجموعة صغيرة من نشطاء «حركة 6 أبريل» فقط؛ ليُقتل الكثيرون منهم، ويصلوا إلى استنتاج في النهاية، أنهم – أي «السلفيون الثوريون» – صاروا الآن الثوريين «الحقيقيين» وحدهم.

هكذا، سيبدأ السلفيون الثوريون بالسخرية، من دون تمييز وعلى حدٍّ سواء، من توفيق عكاشة، مالك قناة الفراعين، حين كان يُعرب علناً عن حنينه إلى عهد مبارك، ومن بلال فضل، الصحافي الليبرالي الذي انضم إلى الثورة منذ ساعاتها الأولى‏[11]. كما سيلوّحون بالتقارب الذي حصل بدءاً بشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012، في صفوف جبهة الإنقاذ الوطني بين شخصيات مرتبطة بالنظام القديم، مثل عمرو موسى، وبين شخصية عُرفت بعدائها الواضح لمبارك مثل البرادعي؛ باعتبار ذلك دليـلاً على عدم وجود اختلاف بين هؤلاء وأولئك. ولإثبات تطابقهم مع الثورة، لجأ السلفيون الثوريون إلى تبني رموزها. على هذا النحو، أنشأ ناشط قريب من الحركة السلفية الثورية عام 2012 صفحة على الإنترنت أسماها «كلنا خالد سعيد – الطبعة الإسلامية»‏[12] لمنافسة صفحة «كلنا خالد سعيد» ذات الانتماء الليبرالي، والتي أطلقت أول نداءات التظاهر في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011، تكريماً للشاب السكندري خالد سعيد الذي قتلته الشرطة في حزيران/يونيو 2010. وسرعان ما حصلت الصفحة على عشرات الألوف من المتابعين، لتصبح الأكثر تصفحاً داخل الحركة‏[13].

ثالثاً: ولادة حركة اجتماعية

لا تكمن قوة السلفية الثورية في قدرتها على تجسيدٍ قويٍّ لاستمرارية التيار السلفي القطبي الموجود فعلياً منذ مرحلة ما قبل الثورة فحسب. فقد استحث ظهور أبو إسماعيل انضمام آلاف الشباب الذين جذبتهم شخصيته الكاريزمية وخطابه الحاسم الذي لا يقبل التسويات؛ بعضهم جاؤوا من جماعة الإخوان المسلمين أو من التيار السلفي، لكن كثيرين منهم هم بلا انتماء أيديولوجي أو حزبي مُسبق. يمكن أن نجد بينهم أيضاً، كما سنرى لاحقاً، أفراداً من الألتراس؛ وهم مشجعو كرة القدم، الذين عُرفوا بعدائهم الجَذري لقوات الشرطة، وشاركوا بفاعلية في الثورة وما تلاها من أحداث. تصبح السلفية الثورية على هذا النحو حركة اجتماعية؛ أي حركة احتجاجية غير رسمية وغير متجانسة، تجمع أفراداً يرتبطون بعضهم ببعض، بفضل انتمائهم إلى هوية مشتركة، ومواجهتهم العدو نفسه.

تبنى الشباب الذين التحقوا بـ أبو إسماعيل منذئذ، مجموعة من التسميات التي اتسمّت في أغلبيتها باستلهام اسمه. من بين أكثرها أهمية: «لازم حازم»‏[14]و«أولاد أبو إسماعيل» و«حازمون»‏[15].

ويُلخص المقداد جمال الدين؛ مؤسس حركة «حازمون» في أيلول/سبتمبر 2011، دوافع هؤلاء النشطاء:

لم نحتج – أنا وصاحبي – أكثر من ساعة ونصف، هي زمن محاضرته التي كانت بعنوان «رسالة إلى شعب مصر العظيم»، للاقتناع بأن هذا الرجل سيكون له شأن عظيم، وأن الله قد ادّخره لمصر في تلك اللحظات الفاصلة من تاريخها… خرجت من محاضرته تلك إنساناً آخر؛ فلأول مرة يبكيني إنسان، وهو يتحدث عن العشوائيات وعن حال المرأة. لأول مرة، أرى من يجمع بين الرؤية والمشروع الحقيقي، والصدق والتقوى، والكاريزما الآسرة! خرجت من عنده، وأنا أشعر أنني في حلم جميل، أُوشك أن أفيق منه على واقع أليم.

قال لي صاحبي: «أنت تعلم أن الرجل لن يدعمه الإخوان، وأن فرصه قليلة جداً… فقلت له: بل ندعمه ونُناصره مهما كلفنا الأمر، فإن خسر، فقد أُعذرنا إلى الله».

ثم يشرح المقداد جمال الدين وجهة نظره باستفاضة: «ستنمو شعبية حازم أبو إسماعيل، وسيحتشد أقوام كثيرون من الناس حول رسالته لأنها هي الحق. سيختلف حازم أبو إسماعيل مع هذه القيادات التقليدية في كل المواقف. بداية من التحركات الرمزية في الشارع، وانتهاءً بأزمات مصر الكبرى، والمسائل الفيصلية فيها، مثل الدستور والرئيس بل حتى الشريعة. ولذا سيصبح هذا الرجل تياراً قائماً بذاته، وسيتحول أنصاره مع مرور الوقت من مجرد ناخبين إلى حَمَلة رسالة ومشروع. وبعد قليل، ستحدث خيانة تاريخية عظيمة من تلك التيارات، يعقبها زلزال شديد في الحركة الإسلامية، يؤدي إلى تفتيت الكيانات العجوزة «الإخوان والسلفية». وسيبحث المنشق عنها عن كيانات أخرى، تمثل رسالتهم، تلك التي امتازت وظهرت كرسالة مختلفة تماماً عن كل الذي على الساحة».

لذا كان القرار بتأسيس حركة «حازمون». وبالفعل اخترنا هذه التسمية – التي قد لا تكون الأكثر صواباً – ولكننا كنا نتعمد منها إظهار شأن الرجل «حازم»، وأنه قد صار له أتباع لا يأخذون التعليمات الحركية إلا منه. وسيكتب التاريخ يوم يموت حازم أن رسالته لم تمت… لأنه قد صار هناك حازمون»‏[16].

حظي أبو إسماعيل من جهة أخرى، بدعم غير مباشر من الحركة الجهادية. ولا يَعني هذا بالضرورة أن أعضاء هذه الأخيرة، انضمّوا إلى الجماعات المؤيدة للرجل؛ فالتياران يتمايزان عن بعضهما البعض في الغالب. لكن ما من شك في أن أبو إسماعيل هو أكثر من حظي باحترام الجهاديين من ضمن الشخصيات المصرية العامة في مرحلة ما بعد 25 كانون الثاني/يناير 2011. يبدو ذلك في ما قاله زعيم القاعدة أيمن الظواهري: «نحن نختلف مع الشيخ حازم لرغبته في فرض التغيير عبر الدساتير العلمانية التي تُنازع المَولى في التشريع والسلطة». ثم توجه مباشرة إلى «حازم وأنصاره» ليدعوهم إلى: «إطلاق حملة شعبية للدعوة، وللتحفيز على استكمال الثورة التي أُجهضت»‏[17].

رابعاً: سياق موات

يقدّم كل ما سبق فكرة عن حركة الدعم الهائلة التي تشكّلت حول ترشح أبو إسماعيل وحول شخصيته. كانت حملته ابتداءً من شتاء 2011 هي الأكثر إثارة للإعجاب، وشهدت لحظة تقديم ترشحه للجنة العليا للانتخابات في 30 آذار/مارس 2011 تظاهرة حقيقية لعشرات الألوف من مُناصريه على طول شارع صلاح سالم المؤدي إلى اللجنة (فؤاد، 2012)، واحتوى ملفه على أكثر من مئة وخمسين ألف توقيع جمعها أنصاره؛ وهو رقم تجاوز كثيراً الرقم القانوني المطلوب؛ بل وتجاوز الرقم الذي جمعه المرشحون الآخرون. وبدءاً بشهر آذار/مارس، توقعت استطلاعات الرأي حصوله على أكثر من عشرين بالمئة من الأصوات، ووضعه آخرون على رأس قائمة المترشحين الذين سيتصدرون الدور الأول.

تتكشف هنا، مرة أخرى، طبيعة الظاهرة التي يجسدها أبو إسماعيل؛ فهو يبدو الأكثر قدرة على الحشد، على الرغم من أنه لا يحظى بدعم أي حزب سياسي، بحيث يستغل مناصروه كل فرصة لاحتلال الشوارع، ويقفون بسرور ضد مؤسسات يترشح زعيمهم لرئاسة أعلى مؤسسة فيها. إنّ غموض هذا الترشح، كما يشير إلى ذلك ضمنياً نص المقداد جمال الدين التي أشرنا إليه آنفاً، هو ما يجعل أنصار أبي إسماعيل، يعتبرون هذه الحملة فرصة لفرض تواجدهم؛ إذ ليس السباق نحو الرئاسة هدفاً في حد ذاته، بقدر ما هو وسيلةٌ ممتازة لنشر خطاب السلفية الثورية.

وبعيداً من الشخصية الكاريزمية للشيخ أبو إسماعيل، ثم عوامل موضوعية لهذا القبول غير الاعتيادي الذي حظي به خطابه، ولا سيما في صفوف الحركة الإسلامية، فإن الأحداث التي جرت عام 2011 والأشهر الأولى من عام 2012 أثرت في شعبية أكبر جماعتين إسلاميتين في البلاد، وهما: الإخوان المسلمون، وحزب النور السلفي؛ الذراع السياسي لجماعة الدعوة السلفية الذي تأسس في حزيران/يونيو 2011، بحيث قبِل هؤلاء بقواعد اللعبة التي فُرضت عليهم ليضمنوا لهم مكاناً في المرحلة الانتقالية تحت الوصاية العسكرية؛ فوافقوا بخاصة، على العمل جنباً إلى جنب مع الجيش، مع الإبقاء في الوقت نفسه على كل المؤسسات الموروثة عن عهد مبارك. بل إن حزب النور السلفي الذي دخل المجال السياسي في صيف عام 2011، أعطى الانطباع بأنه قد يذهب بعيداً في مسار الاتفاق على حلول وسط؛ فأعلن عن التزامه بالإجراءات الديمقراطية، وبأنه لن يطبق الشريعة إلا بصفة تدريجية، وكرر أنه إذا نجح في الوصول إلى السلطة، فإنه لن يمنع (أو لن يمنع كلياً) الكحول وارتداء ملابس السباحة بالنسبة إلى النساء، كما قدّم نساء (حتى وإنْ كنّ منتقبات) على قوائمه في الانتخابات البرلمانية… كل شيء هنا يعاكس الرؤية الرائجة لدى السلفيين خلال مرحلة ما قبل الثورة. وعلى منوال الإخوان، بدا سلفيو حزب النور، كما لو أنهم تخلّوا عن هدف إقامة الدولة الإسلامية، أو على الأقل،كما لو أنهم أزاحوها إلى أجل غير مسمى.

مع دخول الإخوان والسلفيين البرلمان في كانون الثاني/يناير 2012، تَراجعت سُلطتهم قبل أن يُمارسوها فعلياً، على الرغم من أنهم كانوا في وضع الأغلبية المهيمنة؛ إذْ ظلت السلطة التنفيذية بين يدي المجلس الأعلى للقوات المسلحة. لكن وبالنسبة إلى كثيرين، كان تورط هؤلاء في الشؤون السياسية مُبرراً لاعتبارهم، منذ ذلك الحين، مسؤولين جزئياً عن تردّي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وفي مواجهة الإسلاميين «الحمائم» أولئك، بدا تصلّب السلفيين الثوريين في مكانه تماماً. وعندئذ، ظهر مثال أبو إسماعيل «غير القابل للفساد»، بوصفه الوحيد القادر على تجسيد الحلم الإسلامي، في ما يخص حديثه عن النظام السياسي الذي تخلى عنه الجميع، ورأوه مستحيل تحقيقه واقعاً.

يُفسر كل هذا سبب معارضة الأحزاب الإسلامية الرئيسة، بدءاً بالإخوان المسلمين وحزب النور، لأبو إسماعيل وقلقهم حيال حركة الدعم الهائلة التي أثارها ترشحه للرئاسة. ولا سيّما أن هذا الدعم لم يقتصر على أولئك الذين لا ينتمون إلى أي تنظيم، بل امتد أيضاً ليطال قواعدهم الخاصة وكوادرهم. ففي حين ظل عدد الذين تحولوا إلى أنصارٍ لأبو إسماعيل في صفوف الإخوان ضئيـلاً بسبب حالة الانضباط التنظيمي التي تسود الجماعة، بدا أن الأمر في صفوف حزب النور ينذر بالخطر؛ فحين كان أبو إسماعيل يجمع التوقيعات اللازمة لتقديم ترشحه، حصل على توقيعات بالدعم من عشرة نواب من الحزب، مخالفين بذلك موقف الحزب بعدم دعمه.‏[18] كذلك دعمه الكثير من الأعضاء في مستويات إدارية مختلفة بالحزب. يُضاف إلى ذلك، تحمّس شيوخ سلفيين كُثر لكاريزما الشيخ، حيث أعلنوا عن دعمهم لحملته الرئاسية‏[19]، أبرزهم من الصف الأول: أبو إسحاق الحويني والشيخ المصري الكويتي عبد الرحمن عبد الخالق؛ مؤسس الحركة السلفية في الكويت. وكلاهما لا ينتميان إلى تنظيم الدعوة السلفية بالمعنى الدقيق للكلمة لكن تأثيرهما فيها كبير. أيضاً، وجدنا تأييداً لترشح حازم من البداية من قبل أحد الأعضاء المؤسسين للدعوة، وهو الشيخ أحمد فريد.

كان التهديد حقيقياً‏[20]بالنسبة إلى قيادات حزب النور والدعوة السلفية؛ فأبو إسماعيل مستقلّ جداً عن سلطتهم، وتالياً، سيكون بعيداً من سيطرتهم إذا قرروا تأييده. كما أن الإصرار على الوقوف في وجهه، سيؤدي بالحزب إلى الانشطار. وذهب ياسر برهامي إلى حد وصفه بأنه «إخوانيّ» متخفّ للضرب على وتر التنافس الشديد بين الإخوان والسلفيين‏[21]. لكن مع ذلك، بدا أنْ لا شيء كان يؤثر في شعبية الرجل في صفوف القواعد السلفية. ثمّ وصل الأمر إلى منعطف حاسم على نحو المنعطفات التي شهدتها مصر منذ ثورة العام 2011؛ ففي 14 نيسان/أبريل 2012، أعلنت اللجنة العليا للانتخابات، بأن الرجل لا يحق له التنافس على منصب الرئاسة بسبب امتلاك والدته للجنسية الأمريكية، حين كانت تعيش في الولايات المتحدة؛ وهو ما يتعارض مع القانون الانتخابي الذي ينص على أَن لا يكون المرشح أو أحد والديه يمتلكون جنسية مزدوجة أو أجانب، وهو ما لم يكن سبباً مُقنعَاً لمتابعيه‏[22]. أعلن أبو إسماعيل رفضه الشديد لهذا التلاعب، لكن من دون فائدة؛ إذ تم استبعاده من السباق الرئاسي وسط ارتياح كبير من حزب النور السلفي ومن الإخوان، وكل الذين كانوا يخشون من انتصاره، سواء من داخل مصر أو خارجها. بعد ذلك، وفي صيف عام 2012، يتعلل بمشاكل صحية ليتجنب الظهور العلني. وهي الحادثة التي ساهمت في تشويه صورته، إلا لدى المقتنعين به وهم كثُر؛ بحيث بقي حتى ذلك الحين مثالاً للنزاهة.

خامساً: تجاوز حازم: المأسسة الصعبة للسلفية الثورية

بعد إقصاء حازم أبو إسماعيل من السباق الرئاسي، طُرح بإلحاح سؤال حول استمرارية الحركة التي تمحورت حول شخصيته. بالنسبة إلى قسم من مؤيديه، فالسلفية الثورية يجب عليها الآن أن تنساب داخل بنية مُنظمة؛ حزب سياسي في هذه الحال. في الواقع، أُثيرت هذه المسالة في البداية قبل أيام قليلة من إقصاء أبو إسماعيل، حيث دافع الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق عن هذه الفكرة موضحاً أنه: «ليكون هناك رئيس قوي، فيجب أن يدعمه حزب قوي ومنظم»‏[23]. وبعد يومين من خروج أبو إسماعيل من السباق الرئاسي، يُعلن عن التأسيس الوشيك لحزبٍ «يمثل أولئك الذين تبنّوا مشروعه»، وسيرأسه المثقف الإسلامي محمد عباس، وسيحمل اسم «حزب الأمة المصرية»‏[24]. في الأسابيع التالية، أُعلن عن خطوات أخرى تبشّر بولادة الحزب المذكور قريباً، لكن لم يحدث شيء من هذا، ليبقى «حزب الأمة المصرية» مجرد مشروع لم يكتمل. في نهاية العام 2012، أعلن عن إنشاء حزب آخر يمثل الخط السياسي لـ أبو إسماعيل، عرف هذه المرة بـ «حزب الراية»، وبخلاف السابق، سيرأس حازم أبو إسماعيل الحزب بنفسه.

وبالفعل، في آذار/مارس 2013، تمّ الإعلان المتزامن عن تأسيس الحزب وتشكيل تحالف انتخابي يدعى «تحالف الأمة»، يجمع حزب الراية وسبعة أحزاب سلفية صغيرة على خلاف مع «حزب النور» هي: (الوطن، الفضيلة، الإصلاح، العمل، الحزب الإسلامي، الشعب، وحزب التغيير). أُنشئت مكاتب لحزب الراية في عدة مدن مصرية وعُقدت اجتماعات تحضيرية، لكن الحزب لم يتمكن أبداً من التشكّل فعلياً، وكان لظروف السياق المحيط دور لا يمكن إنكاره؛ فقد أُعلن عن تأجيل الانتخابات التشريعية التي كان من المُزمع إجراؤها في شهر نيسان/أبريل، وتمت الإطاحة بمحمد مرسي؛ فكُبِحت كل أشكال الزخم الممكنة. ومع ذلك كله، توجد أسباب أكثر عمقاً للصعوبات التي تعوق انتقال هذه الحالة السلفية الثورية نحو الصيغة الحزبية.

المشكلة الأولى، هي افتقار الحركة إلى الكوادر التي تمتلك الخبرة الحزبية، والتي لا تملك تالياً، المهارات الإدارية المطلوبة. كان هذا، بحسب الشهادات التي جمعناها، أحد الأسباب الرئيسة لفشل حزب الأمة المصرية‏[25]. يضاف إلى ذلك مشكلة بنيوية؛ فالسلفية الثورية تقوم بخاصة على نفي النظام السياسي التقليدي لصالح منطق التغيير الجذري الذي يتم عبر الشارع، بحيث إن أي محاولة لمأسسة الحركة تحمل خطر الانتحار السياسي لأصحابها، وهذا ما يفسر عدم حماسة كثير من مؤيدي أبو إسماعيل، وحتى أبو إسماعيل ذاته، للدخول في لعبة سياسية لم يتوقفوا مراراً عن شجب مخاطرها. يضاف إلى هذا أيضاً، صعوبة الفصل بينه، كشخص مُنقذ، وبين الرغبة في بناء حركة أكبر منه تمثلها السلفية الثورية. ويوضح نص مقداد جمال الدين السابق الإشارة إليه، هذا الغموض المستمر؛ فخطاب السلفية الثورية يميل إلى تجاوز شخصية أبو إسماعيل، لكنه يظل في الواقع مرتبطاً بشخصه. الأهم من ذلك: كيف يمكن لحركة بلوغ منطق المؤسسة، وهي تعلن اتباعها لزعيم هو كل شيء ما عدا كونه رجل سياسة، ويفضل الدعوة في دروسه شبه اليومية على القنوات السلفية، على العمل النضالي بالمعنى الحرفي للكلمة؟

يختلف بعض النشطاء في النقاش حول فرص إنشاء حزب سياسي بحيث يفضلون أنماطاً أخرى من التنظيم. هذه هي حال بعض الشباب القادمين من حركة «حازمون»، والمقتنعون بأن السلفية الثورية بحاجة فعـلاً إلى الانتظام وتجاوز شخصية الوصي التي يمثلها أبو إسماعيل، لكنها يجب أن تبقى في المقام الأول حركة اجتماعية، بحيث لا تُخاطر بفقدان المعنى. نشأت حركات كثيرة بدءاً بصيف 2012 تقع ضمن هذا التوجه. وعلى عكس «حازمون» التي لم تكن سوى تيار بلا تنظيم ولا تسلسل هرمي حقيقي (فـ «حازمون» لم يكن لها متحدث رسمي، بل فقط أشخاص يتحدثون باسمها)، كان هؤلاء ينتظمون من حول زعماء وأنماط تعبئة واضحة المعالم وصور ورموز (شعارات، تسميات…). من بين هذه الجماعات هناك طلاب الشريعة‏[26] الذين كان أعضاؤها يتكفلون بالتنظيم وضمان الأمن خلال التظاهرات المؤيدة لـ أبو إسماعيل. لكن طلاب الشريعة لم تعرف الانتشار نفسه الذي عرفته جماعة أخرى، تحمل اسم « أحرار».

تأسست حركة «أحرار» في أيلول/سبتمبر 2012 على يد شباب من «حازمون» ‏[27]. اتخذت الحركة لنفسها منذ البدء مهمة جمع الأعضاء من كل الانتماءات؛ فهي تعرّف نفسها بوصفها: حركة شبابية تتسع لكل أنماط الشباب الذي جمعه حب «الحرية» بمعناها الشامل والكامل، حرية نفسه وحرية بلده وأرضه، تلك الحرية التي رآها متجسدة في منهج الإسلام الحقيقي والذي يجب أن يعتز ويفخر به كل مسلم.

وتكرر الحركة أن هدفها هو «تطبيق منهج الإسلام بكماله وشموله»، لكنها تقرّ أيضاً، على خطى السلفية الثورية الأولى، أنها حركة «مستقلة عن جميع الهيئات والأحزاب والجماعات الدينية والسياسية»، وأنها «ستنصر المظلوم بغض النظر عن انتمائه الديني أو السياسي أو الفكري»‏[28]. هذا الخطاب المنفتح في مظهره، سمح لها بالوصول إلى جمهور جديد انضم إلى الحركة، ولا سيّما قسم من الألتراس من مشجعي كرة القدم الذين تسيّسوا خلال الثورة، وكانوا في طليعة المواجهات ضد قوات الأمن والجيش في الشوارع. وهنا، يجسّد انضمام سيد علي الملقب بـ «سيد المشاغب»، «كابو» ألتراس نادي الزمالك «الوايت نايتس» حدثاً رمزياً بامتياز، لتنعكس ثقافة الألتراس على أداء حركة أحرار، حيث تصبح إحدى وسائطها المفضلة على وسائل التواصل، ليس البيانات الرسمية؛ بل أناشيد تغنّى بلا موسيقى (وهو ما يجعلها مقبولة لدى السلفيين الذين يحرمون الموسيقى)، تُشبه إيقاعاتها أغاني المشجعين. كما تستعمل «أحرار» على صفحتها على الإنترنت رموز الحركة العالمية «أنونيموس Anonymous»، ولا سيّما قناع V في فيلم «ڤي فور ڤانديتا V for Vendetta». وبهذا التقارب مع نوع من «ثقافة الشباب»، تمكنت «أحرار» من الحضور بقوة في الحرم الجامعي‏[29].

سادساً: السلفيون الثوريون تحت حكم مرسي

وضعت سنة رئاسة مرسي السلفيين الثوريين في موقف صعب؛ فقد استمروا في موقع المعارضة ولم يترددوا في انتقاد الرئيس، لكنهم كانوا يساندون المعسكر الإسلامي في كل مرة يدخل فيها في صراع مع الليبراليين والنظام القديم. مثال الاستفتاء على الدستور في كانون الأول/ديسمبر 2012 يعتبر رمزياً في هذا السياق؛ فأغلبية السلفيين التقليديين يرونه دستوراً علمانياً، والسلفيون الثوريون يرونه يدعم العسكر، لكنهم كانوا يتجنبون انتقاده علناً، لأنه لا يستجيب لتوقعاتهم، بل يدافعون عنه أحياناً خوفاً من انتصار المعسكر المقابل‏[30].

على المنوال نفسه، وبينما عارض أبو إسماعيل مرسي بشدة أحياناً خلال بداية العام 2013، ولا سيّما حين انتقد استعداده للاتفاق مع النظام القديم، كانت انتقاداته تتوقف كلما زاد احتمال تقدم تحالف الليبراليين والفلول، وهو التحالف الذي كان مسؤولاً في النهاية عن حشود 30 حزيران/يونيو 2013، التي حملت الجيش إلى السلطة في الثالث من تموز/يوليو 2013 تحت حكم الفريق عبد الفتاح السيسي؛ وزير الدفاع حينذاك. وبدءاً بشهر أيار/مايو 2013، حذر أبو إسماعيل من هذه الحشود التي وصفها بـ «الإجرامية»، والتي شجب طابعها المضاد للثورة. لذلك، وبينما نجح الليبراليون والفلول بشكلٍ نسبيّ في استخدام مُفردات الثورة، أُجبرت السلفية الثورية على العمل كقاعدة احتياطية للنظام القائم بالدفاع عن المسار المؤسسي، مما أفقدها زخمها الثوري.

كانت «أحرار» الحركة الوحيدة التي نجحت في التمايز، بحيث دعت علناً إلى رفض دستور كانون الأول/ديسمبر 2012، ومع اقتراب تاريخ الثلاثين من حزيران/يونيو 2013‏[31]، عارضت «تُجار الدم» من المعارضة و«تجار الدين» من معسكر مرسي، في أغنية نُشرت على الشبكة الإلكترونية، حملت عنوان «خانوا»، تنتهي كلماتها بشعار «الثورة مستمرة»‏[32]. وفي نيسان/أبريل 2013، تم اعتقال نشطاء كثر من «أحرار» في احتجاجات عنيفة في جامعة المنصورة، ولم تتردد الحركة في إلقاء اللوم على عاتق جماعة الإخوان المسلمين‏[33].

خلال مرحلة ما بعد 30 حزيران/يونيو 2013، كانت السلفية الثورية قد وصلت إلى مرحلة ضعف وتشتت، لكنها كانت لا تزال تمتلك قوة معتبرة على التعبئة. يكمن ضعف السلفيين الثوريين، باستثناء حركات الشباب ولا سيّما «أحرار»، في عدم قدرتهم على التحرك بشكل مستقل عن أبو إسماعيل؛ وهو ما أدركه نظام الثالث من حزيران/يونيو؛ فكان أول القرارات التي اتخذها النظام الجديد لتحييدهم هو الأمر، في فجر الخامس من تموز/يوليو 2013، باعتقال أبو إسماعيل، بعد اتهامه بتزوير الوثائق التي تثبت جنسية والدته، ليصير «أولاد أبو إسماعيل» كاليتامى حيث تفرقت بهم السبل؛ فانضم أغلبهم إلى الإخوان المسلمين في الحشد ضد الانقلاب العسكري. وآخرون اعتزلوا تدريجياً النشاط السياسي لغياب الرمز الذي يجمعهم، وغياب السياق السياسي الذي يمكنهم من تحقيق أي شيء.

حاول السلفيون الثوريون التمايز في البداية؛ فأقاموا اعتصامهم الخاص في ميدان النهضة أمام جامعة القاهرة، بينما كان المقر الرئيسي لاعتصام الإخوان المسلمين في ميدان رابعة العدوية بمدينة نصر. وفي مرحلة ما بعد مرسي، حين صار الإخوان المسلمون ثوريين في تصريحاتهم على الأقل، تلاشت الاختلافات في الخطاب بعض الشيء، فغدا التقارب الدائم بين الفريقين ممكناً. وبعد الفض العنيف للاعتصامين في 14 آب/أغسطس، سيقف إخوان وسلفيون ثوريون جنباً إلى جنب في التظاهرات المؤيدة لمحمد مرسي.

مرة أخرى، كانت الجماعة الوحيدة التي حافظت على تمايزها هي «أحرار»؛ فقد رفض نشطاء الحركة الانضمام إلى مؤيدي مرسي، وحاولوا الانتظام في «تيار ثالث» يعارض الإخوان والعسكر، ودعوا إلى التظاهر في ميدان سفنكس بالقاهرة. وسمح لهم ذلك في البداية، الاقتراب من تيار الوسط الإسلامي أنصار عبد المنعم أبو الفتوح، لكن سرعان ما انفصل الطرفان لاختلافاتهما، سواء في الأيدولوجية أو أسلوب عمل كل منهما. شاركت «أحرار» بفاعلية بعد صيف ذلك العام في الاحتجاجات التي عمَّت الجامعات المصرية، مثلما يتضح من عشرات الفيديوهات المنشورة على يوتيوب‏[34]. وبرغم الاعتقالات، ولا سيّما تلك التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة، والتي طالت أحمد عرفة؛ أحد مؤسسيها في تموز/يوليو 2013، استمرت الجماعة في حشد أنصارها حتى نهاية العام 2014. إلّا أنها ستعاود الاختفاء التدريجي، كأغلب الفاعلين من عموم التيار الإسلامي.

خاتمة: معضلات ما بعد 30 يونيو

إذاً، إحدى مفاجآت مرحلة ما بعد 30 حزيران/يونيو 2013، هي أن السلفية الثورية، وباستثناء حركة «أحرار»، لم تظهر كفاعل مستقل في حركة المعارضة. فأنصار أبو إسماعيل الذين حُرموا من زعيمهم الكاريزمي، وافتقدوا بنىً تعبوية خاصة بهم، تحوّلوا مباشرة نحو المعسكر المؤيد لمرسي. الجبهة السلفية على سبيل المثال، وهي أحد التنظيمات البارزة في الحركة السلفية الثورية، ولطالما كانت من منتقدي مرسي، انضمت رسمياً إلى «التحالف الوطني لدعم الشرعية»، الذي جمع أنصار الرئيس المعزول تحت وصاية إخوانية.

لكن هذا الاندماج بين السلفيين الثوريين وبين المعسكر المؤيد لمرسي، أثار توترات كثيرة. تجسّد هذا التوتر بخاصة في الدعوة إلى «انتفاضة الشباب المسلم» التي أطلقتها الجبهة السلفية، وانضم إليها أعضاء في الحركة السلفية الثورية في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2014‏[35]. اختير هذا التاريخ لسبب؛ فقد كان من المقرر إعلان الحكم في قضية مبارك في 29 تشرين الثاني/نوفمبر، بحيث أثارت احتمالات تبرئته مشاعر قوية في أوساط النشطاء. وخلافاً للاحتجاجات المؤيدة لمرسي، أُريد لهذه «الانتفاضة» أن تتجاوز الشعارات المطالبِة بعودة الرئيس المعزول، والدفع بالهوية الدينية من خلال رفع المصاحف، والدعوة إلى ثورة «إسلامية». وبعد نقاش داخلي مكثف، انتهت قيادة الإخوان المسلمين في المنفى في وقت لاحق إلى الاقتناع بمساندة هذه الحركة‏[36].

لكن، ومع اقتراب التاريخ المحدد، تتضاعف حشود الشرطة تحسباً لأي استجابة محتملة لهذه الدعوة، وبخاصة أن وسائل الإعلام عمدت إلى تأكيد أن هذه الاحتجاجات، ستكون مصحوبة بأعمال عنف. وقُبيل أيام من الحدث، بدأ التحوّل في موقف قادة الإخوان، بحيث أعلنوا أنهم لن يُشاركوا في «الانتفاضة»، ودعوا أنصارهم في الوقت ذاته، كما كانوا يفعلون أسبوعياً، إلى التظاهر على حدة لأجل عودة رئيسهم ورفع الأعلام المصرية‏[37]. لكن بعضاً من شباب الإخوان لم يَذعنوا للقرار الرسمي، وأعلنوا إنهم سينضمون إلى السلفيين الثوريين حتى مع احتمال اتخاذ التظاهرات منحىً عنيفاً، مثلما أعلنت وسائل الإعلام‏[38]. كتب عمرو فرج على صفحته على فيسبوك مثـلاً، وهو مدير الموقع الإخباري «رصد» التابع للإخوان: «غداً من المفترض أن تطلق الرصاصة الأخيرة على مقولة «سلميتنا أقوى من الرصاص». للأسف هذه سُنة التدافع الطبيعية… الرصاص للأسف تظل الجماهير تستقبله بصدر رحب… بل ستحمل أيضاً السلاح (…) غداً للأسف يوم أحمر»‏[39]. وفي يوم الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، كانت التظاهرات الكبرى قد تمت في أحياء مختلفة بالقاهرة؛ ولا سيما في حي المطرية، حيث يوجد السلفيون الثوريون والإخوان بقوة. وخلّف القمع الدموي الذي تلته اشتباكات عدداً كبيراً من القتلى، من دون أن تسفر التعبئة عن نتيجة في النهاية. في اليوم التالي لهذا الفشل، اتهمت الجبهة السلفية الإخوان بالخيانة، وغادرت التحالف الوطني لدعم الشرعية بشكل مفاجئ (إسماعيل وعرفة، 2014)‏[40].

ربما بدا هذا الأمر غير ذي أهمية، لكن هذا الحدث شكّل في الواقع تحوّلاً في العملية الاحتجاجية في مصر على عدة أصعدة؛ فهو يمثل المحاولة الفعلية الأولى للسلفية الثورية لفرض شعاراتها بشكل رسمي في الاحتجاجات المناهضة للسيسي؛ وهي المحاولة التي لم تنجح بسبب تراجع قيادة الإخوان عن الانضمام إليها في النهاية. كما إنها تُشكّل من جهة أخرى، علامة على بدايات الانفصال بين مكوّنين اثنين في المعارضة الإسلاموية بعد ما يقرب من عام ونصف من التعاون القسري. وأخيراً، فتحت أحداث 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2014 المواجهة بين اتجاهين في حركة الإخوان والتي ستحتدم خلال العام 2015 ولا تزال مستمرة لدرجة التهديد بشق الجماعة: قيادة الإخوان في المنفى، الملتزمة باستراتيجيتها المرتكزة على التظاهرات التي يجب أن تبقى سلمية مهما كان العنف المُمَارَس من طرف النظام من أجل المطالبة بعودة مرسي، والكوادر التي بقيت في مصر من الشباب الذين يواجهون وحشية القمع، فيتناقص إيمانهم بالسلمية أكثر فأكثر، ليتحولوا في كثير من الحالات عن الهدف الوحيد المتعلق بعودة مرسي؛ بحيث يعتبرون أنه يتحمل – كقيادة الإخوان – جزءاً من المسؤولية في فشل المرحلة الانتقالية.

يتيح هذا التحول نحو الراديكالية لجزء من قواعد الإخوان في مصر فرصاً جديدة للتقارب مع السلفيين الثوريين تحت برنامج ثوري لا يستبعد خيار استعمال العنف. ولا يتعلق الأمر بالنسبة إلى السلفيين الثوريين بخطوة استثنائية، لأن ثقافتهم الاحتجاجية تحمل في ثناياها عنفاً كامناً أكثر تجذراً مما لدى الإخوان. بل إن كثيراً منهم لم يخفِ ذلك على الإطلاق؛ ففي خلال لقاءاتنا مع نشطاء في السلفية الثورية في شتاء 2012، شرح أغلبهم أن العنف وإنْ لم يكن وارداً حينذاك، لكنه كان لا يزال احتمالاً نظرياً. لهذا، إذا كان عدد كبير من الملاحظين يعتقدون الآن بأن مُبرر وجود الأسلحة في رابعة، والذي استخدمته السلطة لتبرير فضها العنيف للاعتصام كان واهياً.

منذ عام 2013 تنشط في مصر جماعات عنف صغيرة مختلفة‏[41] تستهدف الشرطة والجيش أسسها شباب من الإخوان الذين تشددوا، أو ممن ينتمون إلى السلفية الثورية. كما يحدث التقارب في بعض الأحيان مع الجماعات الجهادية؛ وهذا يفسر، بدءاً بعامي 2014 و2015، خروج أنصار سابقين لـ أبو إسماعيل ومن شباب الإخوان الذين تشددوا باتجاه ميادين المعارك في سورية أو العراق (العناني، 2016). هذا التقارب سَهّله عالم الاعتقال، بحيث يُسجن عادة إخوان وسلفيون ثوريون وجهاديون معاً‏[42].

في ما يخص هؤلاء النشطاء الذين لا يزال لديهم أمل في ثورة جديدة تحت راية الإسلام، تبقى شخصية أبو إسماعيل مركزية. ويروي صحافيّ كان يغطي التظاهرات الكبرى «المناهضة للانقلاب العسكري» في الأزهر، في شتاء 2013، أنه حين كان يَسأل المحتجين عن هوية ملهمهم، كانت إجاباتهم السريعة: «حازم»‏[43]. ولا تزال فيديوهات الرجل التي تُظهر خطاباته السابقة منذ عام 2011 حين تنبّأ بالعودة القوية للجيش‏[44]، وما سيُعانيه المجتمع جرّاء هذه العودة، إضافة إلى تلك التي حوت مداخلاته خلال محاكمته، حين كان يتحدث عبر قفص من الزجاج، تحظى بالمشاهدة على الشبكات الاجتماعية.

يُعمًّق كل ما سبق من كاريزمية أبو إسماعيل باعتباره أول من تنبأ ووصف بدقة ما يحدث في مصر، بعد سنوات من اعتقاله‏[45]. وربما تكون السلفية الثورية اليوم في طريق التحوّل، لكن زعيمها الكاريزمي لا يزال، حتى وهو في محبسه، مصدراً كبيراً للإلهام لكل الذين يحلمون ببديل إسلاموي للاستراتيجية الإخوانية.

 

قد يهمكم أيضاً  موجة السياسات الاحتجاجية في مصر: من المشهد الطوباوي لميدان التحرير إلى إعادة إنتاج خطاب الإجماع الوطني

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #السلفية_في_مصر #حازم_أبو_إسماعيل #مصر #الثورة_المصرية #دراسات