الأمر الذي صادف توافقًا، هو الذي حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، حيث صنعت المقاومة الفلسطينية (حماس والجهاد ومعهما بقية الفصائل)، مجدًا نضاليًا جديدًا باسم عملية «طوفان الأقصى»، استعادت معه وفي الشهر نفسه انتصار أكتوبر المجيد، وبالمفاجأة الاستراتيجية ذاتها التي هزت الكيان الصهيوني، في كلتا المفاجأتين. وبلا مبالغة، بل إنها الحقيقة التي تثبتت خلال المئة يوم الأولى للحرب بعد الطوفان، وما يزيد عليها، أن عملية طوفان الأقصى ستكون نقطة تحول استراتيجية في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني، بل والاستعماري؛ ونقطة تحول في الإقليم العربي، بل والشرق أوسطي، وبلا مبالغة أيضًا؛ ستكون آلية التحول في النظام الدولي، حيث تتراجع فيه أمريكا، وأوروبا، لتتقدم روسيا والصين، وتظل المنافسة محتدمة إلى حين.

كانت لعملية «طوفان الأقصى»، بلا شك، تداعيات خطيرة، حيث اندلعت الحرب المسعورة من جانب العدو الصهيوني، في اليوم التالي لهذه العملية، ضد شعبنا العربي في غزة، وطوال شهور أربعة لم تتوقف الحرب التي تمخض عنها القتل العمدي للمدنيين، أي إبادة جماعية منظمة للشعب الفلسطيني في غزة، راح ضحيتها من الشهداء ما يقرب من 30 ألف مواطن مدني، وإصابة نحو 70 ألف شخص. وتوازى مع ذلك تدمير ممنهج للحياة المدنية، بتدمير المستشفيات والمخابز والمدارس، والمساجد والكنائس، والمباني الحكومية والمدنية، وإجبار المواطنين على الرحيل، بهدف الترحيل القسري خارج الحدود، والتوجه نحو الحدود المصرية عند رفح، وفي النهاية تحقيق التشريد، بالحصار والضرب والتخويف والرعب. وقد شاهدنا على الهواء مباشرة ما يحدث للبشر في غزة، من صور تتسم بالبشاعة والعودة إلى حياة الهمجية، من دون رادع من أخلاق أو قيود أو قانون دولي وإنساني. والمؤسف أن تصمت النظم العربية في أغلبيتها، وفي مقدمتها بلدان عربية مجاورة، بل وتشارك في الحصار، كمحاولة لتحقيق هدف الصهاينة في تدمير حركة «حماس»، بل والمقاومة الفلسطينية. ومن أسف أيضًا أن تصمت أغلبية الدول الإسلامية في العالم، باستثناءات محدودة جدًا. ومن أسف أكثر أن يتحدث رئيس عربي مخاطبًا الكيان الصهيوني، بأنه يمكن ترحيل شعب غزة إلى صحراء النقب، حتى تقوم القوات الصهيونية بالقضاء على المقاومة (حماس والجهاد ومن معهم)، ثم إعادتهم مرة أخرى! فالعدو الصهيوني يمارس العدوان الهمجي على المدنيين، من قتل وجرح وإصابة، وتشريد، وتوقيف الحياة المدنية في غزة. إلا أن صمود الشعبي الفلسطيني، وتمسكه بالأرض، فاق كل تصور، وهزم كل المؤامرات التي حيكت ضده، بتنفيذ «صفقة القرن»، التي تمت الموافقة عليها منذ عهد الرئيس الأمريكي السابق (ترامب)، القاضية بتشريد وتهجير قسري لأهالي غزة إلى أراض مصرية في سيناء، وكذلك لأهالي الضفة إلى الأردن.

فالعدوان الصهيوني المستمر منذ ما يفوق المئة يوم، استهدف القضاء على المقاومة الفلسطينية، وفي المقدمة حركتا حماس والجهاد، والتهجير القسري لشعب غزة، وفصل الشمال عن الجنوب من منتصف غزة، إلا أن جيش الاحتلال لم ينجح في تحقيق أي هدف على الإطلاق، وذلك لعدة أسباب، في مقدمتها:

1 – المقاومة الفلسطينية الشاملة ضد العدو الصهيوني طوال هذه المدة، والتي تجاوزت مجرد مواجهة العدوان الصهيوني فحسب، إلى الهجوم على مدن الكيان كلها، التي أصبحت تحت مرمى صواريخ المقاومة.

2 – صمود الشعب الفلسطيني في غزة، رغم كل هذا الحجم من الاستخدام المفرط للقوة من العدو الصهيوني الغاشم، إلى حد استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا، ومنها (الفوسفور الأبيض)، ورغم أزمات الغذاء والمياه والعلاج والأمن، وغير ذلك. فقد قدم الشعب الفلسطيني أروع مواقف الصمود في التاريخ بصدور عارية، في مواجهة عدو يمارس العدوان والقتل المباشر بفجور، وعدم خشية من العقاب!!

3 – فتح الساحات ضد الكيان الصهيوني، بجنوب لبنان، والمقاومة العراقية، والمقاومة اليمنية، فضلًا عن ساحة هضبة الجولان، الأمر الذي أسهم في تخفيف الضغط على الشعب العربي في غزة. إضافة إلى فتح ساحة الضفة الغربية، وتصاعد المقاومة فيها، وتزايد استخدام العنف والإرهاب الصهيوني، فيها، وبصورة سيئة جدًا، وكما هو معتاد من قبل.

4 – تحقق التهجير القسري نتيجة المقاومة الفلسطينية، وطوفان الأقصى، من حدود الكيان الصهيوني في غلاف غزة الملاصق لقطاع غزة، وقد رحل – ولم يعودوا – حتى الآن ما يزيد على 80 بالمئة من سكان منطقة الغلاف التي كانت هي أرض الطوفان، وبداية المفاجأة الاستراتيجية.

5 – تحقق التهجير القسري في جنوب خط الحدود اللبنانية، مع الكيان الصهيوني، وشمال فلسطين المحتلة، إلى مسافة 5 – 7 كم، وهو ما لم يكن قائمًا، قبل الطوفان. ويمثّل التهجير عبئًا اقتصاديًا إضافيًا، وأشاع أن الكيان الصهيوني، غير قادر على توفير الأمن والاستقرار سواء في شمال فلسطين المحتلة، نتيجة الهجمات من حزب الله، أو في شرق القطاع في غلاف غزة.

6 – عدم تمكين الكيان الصهيوني من تحرير أي أسير موجود لدى المقاومة الفلسطينية، والذين تم أسرهم في «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023، والبالغ عددهم 250 أسيرًا صهيونيًا، أغلبهم عسكريون!! وذلك رغم استخدام جيش الكيان الصهيوني للعنف المفرط ضد المدنيين والإبادة الجماعية المنظمة، ورغم الترهيب والتخويف، وهدم المباني والمساكن بلا حدود أو سقف!! الأمر الذي يؤكد الفشل الذريع لحكومة الكيان في تحقيق هذا الهدف، الذي يمثل أحد أهم الضغوط على الحكومة الصهيونية، من أهالي هؤلاء الأسرى.

لكل هذه الأسباب وغيرها، فقد مُني العدو الصهيوني بالفشل الذريع، وحققت المقاومة في المقابل، انتصارًا ساحقًا حتى الآن، الأمر الذي يضع أمام الباحثين وأهل العلم، مسؤوليات ضخمة، في تحليل ما جرى، ورسم خريطة المستقبل. وفي المقدمة، موضوع واحد ذات وجهين. فالموضوع هو مستقبل الأرض والشعب، بوجهين: الأول، انهيار الكيان، والقضاء عليه بعد أن فشل المشروع الصهيوني الاستعماري في الاستمرار أكثر من 75 سنة في استقرار نسبي رغم الحروب، وهو في الحقيقة ليس استقرارًا حقيقيًا!! والوجه الثاني هو تحرير واستقلال الدولة الفلسطينية الواحدة من النهر إلى البحر، بلا وجود صهيوني، تماثلًا مع تجربة التحرير والاستقلال لجمهورية جنوب أفريقيا. وليس بخافٍ أن أول دولة ساندت المقاومة الفلسطينية هي الدولة ذاتها، التي هي المرجعية والنموذج لتحرير فلسطين، وإنهاء الوجود الصهيوني إلى غير رجعة، كما تمت هزيمة الرجل الأبيض ورحيله وتمكين الرجل الأسود صاحب البلد والأرض والموارد. وهكذا تحررت جنوب أفريقيا وأصبحت سيدة نفسها، وصاحبة السيادة والريادة. ولذلك لم أتعجب، حينما وجدت جنوب أفريقيا، تتوحد رئيسًا وشعبًا وبرلمانًا، على قطع العلاقات الكاملة مع الكيان الصهيوني، مثلما فعل عبد الناصر، عند قطع العلاقات الشاملة مع الكيان العنصري في جنوب أفريقيا في الخمسينيات والستينيات وساند حركة تحرير جنوب أفريقيا، ووجدنا إذًا، مبادرة جنوب أفريقيا، بتقديم دعوى قضائية ضد الكيان الصهيوني، متهمًا إياه بالإبادة الجماعية لشعب فلسطين في غزة والضفة الغربية، وكل فلسطين المحتلة وعلى مدار 75 عامًا حتى الحرب الأخيرة بعد طوفان الأقصى، وذلك أمام محكمة العدل الدولية التي أقرت يوم الجمعة 26 كانون الثاني/يناير 2024، وقوع جريمة الإبادة الجماعية من جانب الكيان الصهيوني.

لذلك، فإن جدول أعمال المستقبل، يجب أن يعاد صوغه وترتيبه من الآن كما أوضحت. ومن حسن الطالع، أن خصصت الجمعية العربية للعلوم السياسية، التي أتشرف برئاستها منذ عام 2019، مؤتمرها السنوي الأكاديمي الخامس المقرر انعقاده في بيروت (من 22 إلى 25 أيار/ مايو 2024)، وسيشارك فيه علماء وباحثو العلوم السياسية والمجتمعية في مناقشة الموضوع، وتقديم رؤاهم بتحليل ما حدث، وتوقعاتهم لما سيحدث في المستقبل، وستُنشر أبحاث المؤتمر كالعادة في العددين المقبلين.

وختامًا، ينبغي أن نبحث في ما هو قادم، وبسرعة، فقد آن الأوان لرحيل الكيان الصهيوني بعد فشل المشروع الاستعماري الأمريكي والأوروبي، في تفتيت المنطقة العربية، وإعاقة تولي ريادتها للحضارة الإنسانية كما كان قائمًا. بل إن المنطقة العربية وجوارها الجغرافي، عليهم أن يتعاونوا، وينسقوا ويتحدوا، من أجل مستقبل سيكون حتمًا هو الأفضل مما كان قائمًا على مدى 75 سنة نكبة، إلى ازدهار حتمي وحسن استثمار مواردنا لمصلحة الشعوب العربية بعد أن كانت نهبًا للاستعمار طوال قرنين من الزمان وأكثر.

القاهرة في 27 كانون الثاني/ يناير 2024

كتب ذات صلة:

غزة: بحث في استشهادها

في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسية

المقاومة الفلسطينية بين غزو لبنان والانتفاضة