لست هنا بصدد وصف ما «ستكون عليه» اشتراكية القرن الحادي والعشرين، أو ما «يجب أن تكون عليه»، وأي تحديد من هذا النوع سيتعارض مع قراءتي للماركسية التي تقرّر أن الاشتراكية لا يمكن إلا أن تكون نتاجاً لصراع الطبقات والشعوب المستغَلة والمقهورة، لا تطبيقاً «لمشروع ثقافي» محدّد من قبل. ولكن يمكننا أن نتفق على المبادئ العامة التي يرتكز عليها تحليلنا للتحديات وهي:
1 – بناء عالم مؤسّس على التضامن بين البشر، لا «المنافسة».
2 – بناء عالم مؤسس على الاعتراف بالصفة غير التجارية للطبيعة ولموارد الكوكب، والأراضي الزراعية، للمنتجات الثقافية، والمعارف العلمية، والتعليم، والصحة.
3 – دعم السياسات التي توثق الرباط بين الدمقرطة والتقدّم الاجتماعي.
4 – تأكيد استقلالية الأمم والشعوب.
أولاً: الرأسمالية مرحلة عابرة في التاريخ
يتكوّن مسارُ الرأسمالية من مرحلة طويلة من النضج استمرّت لعدة قرون، وقادت لمرحلة ازدهار قصيرة (خلال القرن التاسع عشر)، تتبعها مرحلة اضمحلال محتمل، بدأت في القرن العشرين، وقد تصير مرحلة طويلة للانتقال إلى اشتراكية عالمية. لم تكن الرأسمالية نتيجة لرؤيا خيالية هبطت فجأة على المثلّث: لندن/أمستردام/باريس؛ في القرن السادس عشر، بل سبقتها منذ القرون قبلها أشكال أولى في المدن الإيطالية، والمدن التجارية على «طريق الحرير» من الصين والهند مروراً بالشرق الأوسط الإسلامي العربي والفارسي. وبعد ذلك – منذ عام 1492 – مع غزو الإسبان والبرتغاليين للأمريكتين، بدأ قيام النظام المركانتيلي/العبودي/الرأسمالي، وكانت فترة ازدهار النظام قصيرة، فبالكاد مرّ ما يقرب من القرن بين الثورة الصناعية والفرنسية وثورة عام 1917.
هل تستطيع هذه الرأسمالية التاريخية أن تسير في تطوّرها لتسمح لتخوم نظامها بـ «اللحاق» لتصير مجتمعات رأسمالية «متطورة» بالكامل؟ لو كان ذلك ممكناً، لكان «اللحاق» في داخل النظام الرأسمالي، وعن طريقه، أمراً مفروضاً كقوة موضوعية لا يمكن تخطّيها؛ أي الخطوة السابقة الضرورية للاشتراكية اللاحقة. ولكن الرأسمالية التاريخية كانت، وستبقى كذلك، مؤدّية بطبيعتها إلى الاستقطاب، الأمر الذي يجعل «اللحاق» أمراً مستحيلاً.
1 – الرأسمالية المعولمة تؤدي بطبيعتها إلى الاستقطاب
تقوم الرأسمالية المجرّدة المتصوَّرة كأسلوب للإنتاج على السوق المتكامل في أبعاده الثلاثة (سوق منتجات العمل الاجتماعي، وسوق رأس المال، وسوق العمل)، ولكن الرأسمالية كنظام عالمي، تقوم على التوسّع العالمي للسوق في بعديه الأولين فقط، حيث يُستبعد قيام سوق عالمي للعمل بسبب بقاء الحدود السياسية للدول، على الرغم من عولمة الاقتصاد التي تبقى ناقصة بسبب هذا الواقع. ولهذا السبب، تبقى الرأسمالية كما هي في الواقع، مستقطِبة بطبيعتها على المستوى العالمي دائماً. فإذا كانت الرأسمالية قد خلقت الأسس لاقتصاد، ولمجتمع عالميين، فإنها عاجزة عن السير بمنطق العولمة حتى نهايته. والاشتراكية بوصفها مرحلة أرقى كيفياً للإنسانية، لا يمكن إلا أن تكون عالمية، ولكن بناءها يمرّ بمرحلة تاريخية طويلة، يجب بالضرورة أن تبنى على استراتيجية تنفي الرأسمالية المعولمة، وتكون في تناقض معها.
كانت التنمية المتمحورة على الذات تاريخياً هي الشكل المميّز لعملية التراكم الرأسمالي في المراكز الرأسمالية، وهي التي حدّدت أشكال التنمية الاقتصادية التي نتجت منها؛ أي أنها كانت تتبع أساساً تحركات العلاقات الاجتماعية الداخلية، إضافة إلى استخدام العلاقات الخارجية لمصلحتها. أما في التخوم المقابلة، فإن عملية تراكم رأس المال يتحكم فيها بشكل أساسي تطوّر المراكز؛ أي أنها نوعاً ما «تابعة».
هكذا فالتنمية المتمحورة على الذات، تفترض ما يمكن تسميته التحكّم في الشروط الأساسية الخمسة للتراكم، وهي:
أ – السيطرة محلياً على إعادة إنتاج قوة العمل، الأمر الذي يقتضي أن تضمن سياسة الدولة تحقيق تنمية زراعية قادرة على إنتاج فائض زراعي بكميات كافية، وأسعار تتمشى مع تحقيق ربحية لرأس المال.
ب – السيطرة محلياً على تركيز الفائض، وهذا يفترض لا مجرّد وجود مؤسسات مالية وطنية شكلاً، وإنما استقلالية هذه المؤسسات بالنسبة إلى حركة رؤوس الأموال متعدية الجنسية.
ج – السيطرة محلياً على السوق المقتصر واقعياً على الإنتاج المحلي، حتى في حال عدم وجود حماية قوية، وكذلك القدرة على المحافظة على التنافسية في السوق العالمي بشكل انتقائي على الأقل.
د – السيطرة محلياً على الموارد الذي يفترض إلى جانب ملكيتها الرسمية، القدرة على استخدامها أو الاحتفاظ بها كاحتياطي. وبهذا الفهم، فإن البلدان البترولية التي لا تستطيع التحكّم في «إغلاق الصنبور» – إذا فضّلت أن تحتفظ بهذا البترول في باطن الأرض بدلاً من تحويله إلى ممتلكات مالية يمكن مصادرتها في أي وقت – لا تتحكم في مواردها واقعياً.
هـ – وأخيراً السيطرة محلياً على التكنولوجيا، بمعنى أنه سواء أكانت هذه التكنولوجيا مخترعة محلياً أم مستوردة، يكون من الممكن إعادة إنتاجها بسرعة.
في مقابل هذا المفهوم للتنمية المتمحورة على الذات، يقوم مفهوم التنمية التابعة (المبني على التكيّف من جانب واحد مع الاتجاهات السائدة التي يقرّرها تحرّك الرأسمالية على المستوى العالمي).
2 – قراءة نقدية للمحاولات التاريخية لتنمية متمحورة على الذات، سواء أكانت شعبية أم اشتراكية
منذ ثلاثة أرباع القرن، تواجه جميع الثورات الشعبية الكبرى ضد الرأسمالية كما هي في الواقع قضية التنمية المتمحورة على الذات، وفك الارتباط، سواء الثورات الاشتراكية الروسية، أو حركات تحرّر شعوب العالم الثالث. ولهذا، فلا بدّ من النظر بعين فاحصة، وبشكل مستمر، إلى الإجابات التاريخية لتلك الثورات والحركات عن تلك القضية في ارتباطها الوثيق مع إجاباتها عن جميع المظاهر الإشكالية لعملية تنمية قوى الإنتاج، والتحرّر الوطني، والتقدّم الاجتماعي، ودمقرطة المجتمع، وأخذ الدروس من نجاحاتها، وهزائمها. وفي الوقت ذاته، وحيث إن الرأسمالية تتحوّل وتتطوّر باستمرار، وتتكيّف مع التحدّيات التي توجّهها لها ثورات الشعوب، تتعرض الظروف ذاتها التي تجري في ظلها هذه القضايا لتطوّر مستمر. وهكذا فالتنمية المتمحورة على الذات، وفك الارتباط، لا يمكن تلخيصها في شكل وصفات جاهزة تصلح لكل المناسبات، ولكل لحظات التطور التاريخي.
وقد انتهت الموجة الطويلة من حركات التحرّر الوطني، التي اجتاحت بلدان العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، بقيام سلطات دولة جديدة مؤسسة بصفة رئيسة على البرجوازيات القومية. وقد طوّرت هذه البرجوازيات مشروعات «للتنمية» باعتبارها استراتيجيات للتحديث تعمل على تحقيق «الاستقلال في إطار الترابط العالمي المتبادل». وبناءً عليه، فهذه الاستراتيجيات لم تعمل على فك الارتباط بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنما مجرّد تكيّف إيجابي مع النظام العالمي. وقد أثبت التاريخ الطبيعة الخيالية للمشروع، الذي فقد اندفاعه بعد مرحلة من النجاح الظاهري بين عامي 1955 و1975، وعاد مرة أخرى باقتصاده إلى وضع التخوم، وذلك عن طريق ما سُمّي بسياسات «الانفتاح»، والخصخصة، والتكيّف الهيكلي تحت ضغوط العولمة الرأسمالية.
وفي المقابل، نجحت تجارب الاشتراكية كما هي في الواقع، في الاتحاد السوفياتي، والصين في فك الارتباط بالمعنى الذي يحمله هذا المبدأ، وخلقت بهذا الشأن نظماً للمعايير والاختيارات الاقتصادية المستقلة عن تلك التي يفرضها منطق التوسّع الرأسمالي العالمي. ومع ذلك، فعند مواجهة الاختيار بين «اللحاق بأي ثمن» بتطوير القوى الإنتاجية التي تنتج أنظمة على شاكلة تلك القائمة في المراكز الرأسمالية، وبين اختيار «بناء مجتمع آخر» (اشتراكي)، اتجهت هذه المجتمعات بالتدريج إلى إعطاء الأولوية للاختيار الأول، لدرجة المخاطرة بتفريغ الاختيار الثاني من أي مضمون حقيقي. وهذا التطوّر، الناتج من دينامية اجتماعية، ارتبط بنشوء تدريجي لبرجوازية قوية. فإذا ما نجحت هذه البرجوازية في فرض نفسها كطبقة مسيطرة سياسياً، فإن هذا يعني قيام رأسمالية عادية مندمجة في النظام العالمي، الأمر الذي يؤدّي مباشرة إلى تحويل هذه المجتمعات إلى وضع التخوم.
وهكذا فالسير في طريق التنمية الرأسمالية يمثّل مأزقاً مأسوياً لشعوب التخوم، لأنّ الرأسمالية «المتقدّمة» للبعض – المراكز المسيطرة والتي تمثّل الأقلية (20 بالمئة من سكان الكوكب) – تعني في الوقت نفسه، الرأسمالية «المتخلفة» للآخرين (80 بالمئة من سكان الكوكب). ويظهر هذا المأزق بشكل صارخ في ما يتعلّق بالمشكلة الزراعية.
يقوم طريق التنمية للرأسمالية التاريخية على الملكية الخاصة للأرض الزراعية، وخضوع الإنتاج الزراعي لما تفرضه «السوق»، ويؤدي هذا إلى الطرد التدريجي للفلاحين لمصلحة عدد قليل من المزارعين الرأسماليين، الذين لم يعودوا فلاحين، وينتهي الأمر بهم إلى أن يصيروا أقلية صغيرة من السكان (5 إلى 10 بالمئة)، ولكنها قادرة على تغذية (جيداً) مجموع سكان البلدان المعنية، ويبدو هذا الطريق فاعلاً تماماً. ولكن بغضّ النظر عن فاعليته هل يمكن تقليد هذا الطريق في تخوم النظام؟
لم ينجح هذا الطريق الرأسمالي إلا لأن الأوروبيين كان لديهم صمام الأمان المتمثّل في الهجرة الواسعة إلى الأمريكتين. ولكن فرصة هذه الهجرة لا تتوافر أبداً لشعوب التخوم اليوم. وفضلاً عن ذلك فعملية التصنيع الحديثة لا تستطيع أن تستوعب سوى أقلية ضئيلة من سكان الريف المعنيين، لأن صناعات اليوم تتميّز بتقدمّ تقني بالنسبة إلى صناعات القرن التاسع عشر – كشرط للكفاءة – ما يقلّل عدد العمّال الذين تستوعبهم. والطريق الرأسمالي هنا لا يستطيع إلا أن ينتج «كوكباً من العشوائيات»، وأن ينتج ويعيد إنتاج العمل الرخيص. وهذا هو السبب في أن هذا الطريق غير ممكن سياسياً. وقد نجحَ الطريق الرأسمالي – في ارتباط مع مخرج الهجرة، وأرباح الإمبريالية – في أوروبا والولايات المتحدّة واليابان، في خلق الظروف – المتأخّرة – للحلّ الاجتماعي الوسط بين العمال ورأس المال (ظهرَ بشكل واضح بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في دولة الرفاهية)، ولكن شروط مثل هذا الحل الوسط لا تتوافر في التخوم اليوم. فالطريق الرأسمالي في الصين مثلاً، لا يستطيع أن يؤسّس تحالفاً جماهيرياً واسعاً وثابتاً يجمع بين الطبقة العاملة ومجموع الفلاحين، فهو لا يستطيع أن يجد أساساً اجتماعياً إلا في الطبقات المتوسّطة التي صارت المستفيد الوحيد من هذه التنمية، إذاً فالطريق «الاجتماعي الديمقراطي» ممنوع هنا.
وتمثّل قضية الموارد الطبيعية محوراً ثانياً وحاسماً في صراع الحضارات بين الرأسمالية والاشتراكية المرتقبة. فاستغلال الموارد غير المتجدّدة للجنوب لمصلحة التبذير الاستهلاكي للشمال، هو كذلك شكل من أشكال التراكم عن طريق النهب.
والبعد التخريبي للرأسمالية – على الأقل لشعوب التخوم – يمنعنا من تصوّر أنه من الممكن لها أن تُستدام، أو أن يقلدها «المتأخرون». ومكانها في مجرى تاريخ البشرية، هو أنها مرحلة عابرة تمهّد الطريقَ لتجاوزها. فإذا لم يحدث هذا التجاوز، لن تؤدي الرأسمالية إلا إلى مرحلة من البربرية والفوضى؛ أي إلى نهاية الحضارة البشرية بالكامل.
ثانياً: القرن العشرون: الموجة الأولى للثورات الاشتراكية وصحوة «الجنوب»
وهكذا، فقمّة ازدهار النظام كانت قصيرة، تساوي بالكاد قرناً من الزمان. وقامت في القرن العشرين الموجة الأولى من الثورات تحت شعار الاشتراكية، وكذلك تجذّر نضال التحرير في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية (تخوم النظام الإمبريالي الرأسمالي)، الذي جرى التعبير عن تطلّعاته في «مشروع باندونغ» (1955 – 1981).
- باندونغ والعولمة الأولى للصراع (1955 – 1980)
أعلنت حكومات وشعوب آسيا وأفريقيا في باندونغ في العام 1955 إرادتها لإعادة بناء النظام العالمي على أساس الاعتراف بحقوق الأمم التي كانت مسودة حتى ذلك الوقت. وكان هذا الحق في التنمية هو أساس العولمة في تلك الحقبة، وقد وضع موضع التنفيذ في إطار متعدّد الأقطاب ومتفق عليه. وهذا فرض على الإمبريالية أن تتكيّف مع هذه المتطلبات الجديدة.
ولا ينتمي التقدّم في التصنيع الذي بدأ في عصر باندونغ إلى منطق التوسّع الإمبريالي، ولكنه حدث نتيجةً لانتصارات شعوب الجنوب، ولا شك في أن هذا التقدّم شجّع أوهام «اللحاق» الذي بدا أنه في طريق التحقّق، في حين أن الإمبريالية في الواقع كانت قد اضطرت إلى التكيّف مع متطلبات التنمية في التخوم، وكانت تعيد ترتيب مواقعها حول أشكال جديدة من السيطرة. فقد تراجع التباين القديم: بلدان إمبريالية/بلدان مسودة؛ الذي كان مرادفاً للتباين: بلدان مصنعة/بلدان غير مصنعة؛ ليحلّ مكانه تدريجياً التباين الجديد المبني على تمركز المزايا المرتبطة «بالاحتكارات الخمسة الجديدة للمراكز الإمبريالية» (التحكم في التكنولوجيا الجديدة، والموارد الطبيعية، وفي النظام المالي العالمي، وفي الاتصالات، وفي أسلحة الدمار الشامل).
فهل يكون التراجع الطويل للرأسمالية مرادفاً لمرحلة الانتقال الطويل نحو الاشتراكية؟ لكي يحدث هذا ينبغي أن يكون القرن الحادي والعشرون امتداداً للقرن العشرين، مع تجذير أهداف التحول الاجتماعي. وهو أمر ممكن، ولكن يجب تحديد شروط ذلك بدقة، وإلا فسيصير التراجع الطويل للرأسمالية مجرّد تدهور مستمر للحضارة الإنسانية.
ولكن التراجع ذاته ليس عملية مستمرّة خطية، فهو لا يستبعد لحظات من «الاستعادة»؛ أي من الهجوم المضاد لرأس المال. ويمثّل القرن العشرون الفصل الأول لعملية التدريب الطويلة للشعوب على تجاوز الرأسمالية وفقاً لتعبير دومينيكو لوسوردو[1]. وأوافقه في تحليله بعدم الحديث عن «الفشل» (للاشتراكية، وللاستقلال الوطني) كما تحاول الدعاية الرجعية المنتشرة اليوم أن تصوره. بل على النقيض، فإن نجاحات هذه الموجة الأولى من التجارب الاشتراكية والوطنية لا إخفاقاتها هي الدافع وراء مشاكل العالم المعاصر. وقد حلّلت مشروعات هذه الموجة الأولى في أشكالها الثلاثة من التقدّم الاجتماعي والسياسي التي رأيناها في حالة دولة الرفاهية للغرب الإمبريالي (الحلّ الوسط التاريخي بين رأس المال والعمل)، والاشتراكية كما هي السوفياتية والماوية، والأنظمة الوطنية الشعبية لمرحلة باندونغ في الواقع. وقد حللتها في تكاملاتها وتعارضاتها على المستوى العالمي (وهي نظرة تختلف عن نظرة «الحرب الباردة»، وعن القطبية الثنائية التي يقترحها اليوم المدافعون عن «الرأسمالية نهاية التاريخ»، التي كانت تركز على الطبيعة متعددة القطبية لعولمة القرن العشرين). ويفسر تحليل التناقضات الاجتماعية الخاصة بكل من هذه الأنظمة، وفقدانها لقدرتها، ثم هزيمتها لا فشلها[2].
إذاً، ففقدان القدرة هذا، هو الذي خلق الظروف المساعدة للهجوم المضاد الحالي لرأس المال، وهو مرحلة «انتقال محفوفة بالأخطار» جديدة لحركات تحرّر القرن العشرين نحو مثيلاتها في القرن الحادي والعشرين.
ثالثاً: الهجوم المضاد لرأس المال المتراجع
لم يعد التباين: المراكز/التخوم؛ مرادفاً للتباين: البلدان المصنعة/البلدان غير المصنعة. ويستمرّ الاستقطاب المراكز/التخوم الذي يعطي للتوسع الرأسمالي العالمي طابعه الإمبريالي، بل ويتعمّق عن طريق «الاحتكارات الخمسة الجديدة» التي تستفيد منها المراكز (أشرنا إليها أعلاه). وفي ظلّ هذه الظروف، لا يلغي استمرار مشروعات التنمية المتسارعة للتخوم البازغة بنجاح حالي لا شك فيه (في الصين خاصة)، السيطرة الإمبريالية. فهذا الاستمرار يساعد على قيام تباينات جديدة مراكز/تخوم لا على تجاوزها.
والإمبريالية لم تعد متفرّقة كما كانت في المراحل السابقة لتطوّرها، فقد صارت «إمبريالية جماعية» للثالوث (الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان). وبهذا الفهم، تتغلّب المصالح المشتركة للاحتكارات التي تنتمي لبلدان الثالوث على نزاعات المصالح (التجارية) التي قد تفرّق بينها. ويجري التعبير عن هذه الطبيعة الجماعية للإمبريالية عن طريق إدارة النظام العالمي بواسطة الأدوات المشتركة للثالوث، وهي على المستوى الاقتصادي: منظمة التجارة العالمية (وزارة المستعمرات للثالوث)، وصندوق النقد الدولي (الوكالة الجماعية الاستعمارية للنقد)، والبنك الدولي (وزارة الدعاية)، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، والاتحاد الأوروبي (المؤسسان لمنع أوروبا من التخلص من الليبرالية)؛ وعلى المستوى السياسي: السبعة/الثمانية الكبار، والقوات المسلحة للولايات المتحدة، وتابعتها قوات حلف الأطلنطي، وتكتمل الصورة بعملية تهميش وتطويع الأمم المتحدة. ويتمحور مشروع الهيمنة الأمريكية القائم على أساس مشروع التحكّم العسكري في الكوكب (الذي يفترض إلغاء القانون الدولي، وما تدّعيه واشنطن من الحق في القيام «بحروب استباقية» وفقاً لاختيارها، وغير ذلك)، على الإمبريالية الجماعية، ويسمح لقائدها الأمريكي بأكثر من التعويض عن عجزه الاقتصادي.
رابعاً: التقدّم الاشتراكي في القرن العشرين: السوفياتيّة والماويّة
كانت ماركسية الدولية الثانية، بطبيعتها العمالوية المتمركزة على أوروبا، تتبنّى الأيديولوجيا السائدة في تلك المرحلة التي تنظر إلى التاريخ نظرة خطّية تقضي بأن على جميع المجتمعات أن تمرّ أولاً بمرحلة من التنمية الرأسمالية، قبل أن تتطلع لبناء الاشتراكية، ولم تصل مطلقاً إلى الحقيقة القائلة بأن «تنمية» البعض (المراكز المسيطرة)، «وتخلف» البعض الآخر (التخوم المسودة) لا يمكن فصلهما كوجهَي عملة واحدة، وأن كليهما ناتج أصيل للتوسّع العالمي للرأسمالية.
في مرحلة أولى، ابتعدَ لينين بعض الشيء عن النظرية السائدة للدولية الثانية، وحقّق بنجاح الثورة في «الحلقة الأضعف» (روسيا)، مع الاعتقاد بأن هذه الثورة ستتبعها مباشرة موجة من الثورات الاشتراكية في بلدان أوروبا، وعندما خاب توقعه هذا، بدأ يتخذ رؤية تعطي الأهمية لتطوير انتفاضات الشرق إلى ثورات، ولكن هذه النظرة الجديدة لم تتحول إلى فكرة منظمة إلا على يد الحزب الشيوعي الصيني، وماو.
قامت الثورة الروسية على يد حزب قوي الارتباط بالطبقة العاملة، والمثقفين الراديكاليين. وكان من الضروري أن يتحالف مع الفلاحين – في زي الجنود (ويمثّلهم الحزب الاشتراكي الثوري). وحقّق الإصلاح الزراعي الجذري الذي نتج من ذلك التحالف حلمَ الفلاحين الروس القديم، بأن يصيروا ملّاكاً. ولكن هذا الحل التاريخي الوسط حملَ بين طياته حدوده الحتمية، فقد فرض «السوق» بقواه الذاتية – كما يحدث دائماً – التباينات المتزايدة بين صفوف الفلاحين (أي الظاهرة المعروفة، وهي نمو طبقة الكولاك بينهم).
وقامت الثورة الصينية منذ البداية على أسس أخرى تضمن تحالفاً متيناً مع فقراء الفلاحين ومتوسطيهم. وفضلاً عن ذلك، فقد مكّن البعد الوطني – حرب المقاومة للغزو الياباني – الجبهة التي يقودها الحزب الشيوعي من تجنيد الكثير من الطبقات البرجوازية التي أحبطها ضعف الكومنتانج، وخياناته. ومن هنا حققت الثورة الصينية أوضاعاً جديدة مختلفة عن أوضاع روسيا ما بعد الثورة. فقد قضت الثورة الفلاحية الجذرية على فكرة الملكية الخاصة للأرض الزراعية ذاتها، وحقّقت بدلاً منها ضمانَ حصول جميع الفلاحين على الحقّ المتساوي في الحصول على الأرض.. وفضلاً عن ذلك، فإن انضمام الكثير من البرجوازيين الوطنيين إلى الحزب الشيوعي، أدّى إلى وجود تأثيرات أيديولوجية تعمل على دعم انحرافات أولئك الذين دعاهم ماو بأنصار الطريق الرأسمالي.
والنظام الصيني لما بعد الثورة لم يكتفِ بتحقيق عدد من الإنجازات السياسية، والثقافية، والمادية، والاقتصادية. فالصين الماوية حلّت «القضية الفلاحية»، وهذه النجاحات هي التي مكّنت من تحقيق مثيلاتها في الصين ما بعد الماوية ابتداءً من العام 1980. والمقارنة مع الهند التي لم تقم بثورة، تبدو هنا ذات مغزى كبير، لا لتفسير المسارات المختلفة خلال السنوات 1950 – 1980 فقط، وإنما لتحديد آفاق المستقبل المحتمل (و/أو الممكن) المتنوّعة، وهذه النجاحات هي التي تفسّر أن الصين بعد الماوية – عندما انخرطت في العولمة الرأسمالية الجديدة – لم تتعرّض لصدمات مدمرة مماثلة لتلك التي تعرّض لها الاتحاد السوفياتي بعد انهياره.
ومع ذلك، فنجاحات الماوية لم تحسم «بشكل نهائي» قضية الآفاق البعيدة المدى لمصلحة الاشتراكية. أولاً، لأن استراتيجية التنمية للسنوات 1950 – 1980، استنفدت إمكاناتها، وصار من الضروري الانفتاح (ولو المتحكّم فيه الذي تضمّن – كما ثبت في ما بعد – المخاطرة بتقوية الاتجاهات لتطور نحو الرأسمالية. ولأن نظام الصين الماوية كان يحتوي الاتجاهات المتناقضة التي تقضي بتدعيم الاختيارات الاشتراكية أيضاً، وفي الوقت نفسه بإضعافها.
والصراع في الصين بين اختيار الطريق الاشتراكي، الطويل والصعب، وبين الاختيار الرأسمالي القائم حالياً، لم يُحسم بالتأكيد «بشكل نهائي». وكما في بقية أنحاء العالم، يمثّل الصراع بين الاستمرار في الطريق الرأسمالي، وبين التطلّع إلى الاشتراكية الصراع بين الحضارات في عصرنا.. وقد اختُصرت هذه النتائج في عبارة بليغة «على الطريقة الصينية» تقول: «الدول تريد الاستقلال، والأمم تريد التحرّر، والشعوب تريد الثورة». وهو ما يعني: الدول – أي الطبقات الحاكمة (لجميع بلدان العالم، إذا لم تكن مجرد عملاء، أو سيور توصيل للقوى الخارجية) – تحاول توسيع مجالات تحرُّكها لتستطيع المناورة داخل النظام العالمي (الرأسمالي)، وأن ترتفع من دور الفاعلين «السلبيين» (دورهم مجرّد التكيّف من جانبهم فقط مع مطالب الإمبريالية المسيطرة)، إلى دور الفاعلين «الإيجابيين» (الذين يساهمون في تشكيل النظام العالمي). والأمم – أي الكتل التاريخية للطبقات التقدمية الاتجاه – تريد التحرر؛ أي «التنمية» و«التحديث». والشعوب – أي الطبقات الشعبية المسودة والمستغَلّة – تتطلع إلى الاشتراكية. وتساعد هذه العبارة على فهم العالم الحقيقي بكل تعقيداته، ومن هنا، تحديد استراتيجيات التحرّك الفاعل، وهي تأتي في إطار مرحلة انتقال طويل – من الرأسمالية إلى الاشتراكية العالمية، وتقطع بذلك العلاقة مع «الانتقال القصير» للدولية الثالثة.
خامساً: من أجل تجدّد اشتراكي في القرن الحادي والعشرين: الارتباط الوثيق للصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، وصراع الشمال/الجنوب
كان الصراع شمال/جنوب (المراكز/التخوم) على الدوام، من المعطيات الأساسية طوال تاريخ تطور الرأسمالية. ولهذا السبب يرتبط صراع شعوب الجنوب من أجل التحرّر – وهو يتجه بصفة عامة نحو الانتصار – بقضية الطعن في الرأسمالية، وهذا أمر لا يمكن تجنّبه. والصراعات بين الرأسمالية والاشتراكية، وبين الشمال والجنوب، لا يمكن فصمها. ولا يمكن تصوّر الاشتراكية من دون العالمية التي تفترض المساواة بين الشعوب. وفي بلدان الجنوب، تقع الأغلبية ضحية للنظام، وفي بلدان الشمال تستفيد الأغلبية – إلى حدٍّ ما – من النظام، والطرفان يدركان ذلك جيداً. ولذلك، فليس من قبيل الصدفة ألا يكون التحوّل الجذري للنظام على جدول أعمال شعوب الشمال، في حين يكون الجنوب «منطقة الزوابع»، حيث تتكرّر الهبات التي يمكن أن تتحوّل إلى ثورات. ومن هنا كانت مبادرات شعوب الجنوب حاسمة في تحوّل العالم كما يدلّ تاريخ القرن العشرين بكامله. والوعي بهذه الحقيقة يسمح لنا بتقييم صراع الطبقات في الشمال في إطاره الحقيقي، حيث يقتصر على المطالب الاقتصادية التي لا تمسّ عادة لا الملكية الرأسمالية، ولا النظام العالمي الإمبريالي، ويتضح هذا الأمر بصفة خاصة في الولايات المتحدة في إطار سياسة التوافق السياسي.
ومن جانبها، عندما تتجذر هبّات الجنوب، فإنها تواجه تحديات التخلّف الاقتصادي، ولذا «فاشتراكياتها» تتعرّض لتناقضات بين النوايا الأولى وواقع الإمكانات. والوسيلة الوحيدة لتجاوز العوائق أمام شعوب بلدان الشمال والجنوب هي الربط – الصعب ولكن الممكن – بين نضالات الطرفين.
وحيث إن الرأسمالية نظام عالمي لا مجرّد جمع بين أنظمة رأسمالية قومية، يقتضي الأمر لفاعلية الصراع السياسي والاجتماعي ضدها، أن يجري على الصعيد القومي (وهو الحاسم لأن الصراعات، والتحالفات، والحلول الاجتماعية الوسط تجري على هذا الصعيد)، وكذلك على المستوى العالمي. ووجهة النظر هذه – التي أعتبرها عادية – كانت كما أتصور، هي وجهة نظر ماركس، والماركسيات التاريخية «يا عمّال العالم اتّحِدُوا»، أو كما جاءت في الصورة الماوية: «يا عمال جميع البلدان، وشعوبها المقهورة، اتحدوا».
يستحيل رسمُ المسارات التي تتخذها هذه الخطوات المتقدّمة، التي تنتج من الصراعات في الجنوب أو الشمال. وتقديري أن الجنوب يمرّ حالياً بأزمة – ولكنها أزمة نمو – بمعنى أن أهداف تحرير شعوبه لا يمكن التراجع عنها. وعلى شعوب الشمال أن تعي هذه الحقيقة، والأفضل أن تؤيّد هذا التطوّر وتربطه ببناء الاشتراكية. وكانت باندونغ لحظة من هذا النوع من التضامن، فقد كان الشباب حينئذٍ يعلنون أنهم من «أنصار العالم الثالث»، وكان ذلك شعوراً ساذجاً ولا شك، ولكنه أجمل بكثير من الانكفاء الحالي.
سادساً: القضايا التي يصعب الجدل بشأنها
1 – القضية الزراعية
يقوم البديل الخاص بالتنمية ذات التوجّه الاشتراكي على المبدأ الصحيح بأن الأرض موردٌ طبيعي أساس، وهي من مِلكية الشعوب، ولا سيّما الفلاحين الذين يعيشون عليها. وقد طبقت الثورتان الآسيويتان الكبيرتان هذا المبدأ وتجنبتا بذلك الهجرة الجماعية غير المحكومة من الريف، التي تصيبُ بقية سكان القارات الثلاث. وتبنّي هذا البديل يعني الاحترام الكامل لهذا المبدأ طول فترة الانتقال الطويل للاشتراكية. وبالتأكيد سيحتاج زيادة سكان الحضر الذي يصاحب التصنيع الضروري (حتى وفق نموذج خاص لا يقلّد النموذج الرأسمالي من دون تحفظ)، إلى نقل بعض السكان من الريف إلى المدن. ولكن يجب أن تُنظم هذه الهجرة وفقاً لقدرة الأنشطة المنتجة في المدن على الاستيعاب، وأن تؤخذ أشكال إدارة الإنتاج في الريف في الاعتبار.
وهذا لا يعني إبقاء الريف متوقفاً في حالة «ازدحام سكاني»، وقد ارتُكبت أخطاء عندما ظنّ البعض أنه يمكن لعملية نشر التعاونيات في الريف – سابقة لمتطلبات وقدرات التكنولوجيا – أن تحلّ التناقض المشار إليه. وقد أثبتت الخبرة أن الحقّ المضمون في الحصول على الأرض لجميع الفلاحين، مع أشكال تجمع بين الإنتاج العائلي الصغير والسوق، سمحت بزيادة قوية وسريعة للإنتاج الزراعي؛ أي رفع للاستهلاك الذاتي للفلاحين، وكذلك للفائض المخصص للسوق. واستمرار هذا التقدّم سيقتضي بالضرورة اختراع أشكال جديدة تتمشّى مع كل مرحلة من طريق التنمية ذات التوجّه الاشتراكي. ولكن هذه الأشكال لا يمكن أن تتخلّى عن مبدأ الحصول على الأرض للجميع، لمصلحة بعض الأوهام عن الملكية الخاصة للأرض.
ومن الضروري فحص هذه البرامج الخاصة بالتنمية الفلاحية الشعبية بعناية أكثر من أي وقت مضى، ولا يمكن اقتراح الأشكال ذاتها للجميع، فهناك تنوّع لا حدود له للأوضاع التي خلقها التوسّع الرأسمالي. وفي البلدان التي خلق فيها هذا التوسّع لامساواة ضخمة في شكل أبعاد شاسعة كما الحال في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا الجنوبية، والهند، فإن الأمر يحتاج إلى إصلاح زراعي جذري.
ويمرّ برنامج التوسّع الرأسمالي اليوم بعمليات «تحديث» جزئية (يطلق عليها الثورة الخضراء)، لا يستفيد منها سوى أقلية من الفلاحين الأغنياء والرأسماليين الزراعيين، وهي تضع الزراعة في مجموعها في حالة تبعية شديدة «للبزنس» الزراعي، أما الأشكال البديلة لتنمية ريفية التي يجري تحديثها تدريجياً لمصلحة الجميع، لا يمكن أن تكون مشابهة. وعلى التفكير النظري مع التجربة العملية الوصول إلى اختراع النماذج المناسبة.
ويجب أن يقترن الحصول على الأرض بتوفير وسائل استغلالها للفلاحين، وأول هذه الوسائل هو الماء الذي لا يمكن اعتباره – لهذا السبب – مجرد «سلعة كأي سلعة أخرى». وحصول الشعوب على الماء يثير القضية الصعبة المتعلقة بأنظمة الأنهار الدولية، التي يتجاهلها القانون الدولي بشكل كامل تقريباً، والتي تحكمها – أحياناً – معاهدات ثنائية أو متعددة الأطراف يجري التفاوض الصحي بشأنها في بعض الحالات. والحصول على وسائل الإنتاج الضرورية لتقدّم الزراعة (مثل الائتمان، والمعدات، والبذور، والأسمدة ومواد مقاومة الآفات، ومؤسسات التسويق)، لا يمكن تركها «لقواعد السوق». ويقتضي البديل الشعبي، والتوجه الاشتراكي تدخُّلَ سياسات الدولة المناسبة في هذه المجالات، وفتح المجال أمام المبادرات الفلاحية (التعاونيات بأشكالها المختلفة). كذلك لا يُسمح بأن يكون إدخال التقدّم العلمي والتكنولوجي في مجال الإنتاج الزراعي والغذائي مبنياً على اعتبارات الربحية المباشرة. والترشيد الرأسمالي بطبيعته قصير المدى، وبذلك قد لا يكون مستداماً على المدى الطويل، فإدخال المنتجات المعدّلة وراثياً مثلاً، قد يؤدّي إلى أخطار غير مدروسة بالنسبة إلى استمرارية القدرة الإنتاجية للأرض (ويشهد بذلك مثالُ تدمير القدرة الإنتاجية للأرض في الأرجنتين)، واستمرار التنوع البيولوجي، وهو أمر يجب المحافظة عليه، وقيام بعض الأخطار الصحية للإنسان. وفرض هذه المنتجات يجري حالياً وفقاً للإرادة المنفردة للشركات الزراعية متعدية الجنسية، بهدف إخضاع الإنتاج الفلاحي، وإخضاع الأسواق لمصلحتها الخاصة. أما البديل الشعبي فيقتضي أن تكون معايير البحث العلمي مختلفة عن ذلك.
ولا يجوز أن تقتصر السياسات الوطنية الخاصة بعالم الريف على موضوع الإنتاج الزراعي فحسب، بل يجب أن يوافر للمجتمعات الريفية الخدمات الأساسية (وخاصة العناية الصحية والتعليم)، بمستوى لا يقل عمّا يتمتع به سكان الحضر لتحقيق العدالة الاجتماعية.
كذلك يجب أن تعمل السياسات الوطنية على تحقيق السيادة الوطنية في شؤون الغذاء (الاكتفاء الذاتي الأساسي للأمة)، وليس مجرد «الأمن الغذائي» (أي القدرة على دفع قيمة المواد الغذائية المستوردة لاستكمال النقص في الإنتاج الوطني للغذاء)، الأمر الذي يحاول البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية فرضه.
يمثل الارتباط بين سياسات التنمية الزراعية، وسياسات التصنيع العمودَ الفقري للتنمية الكلية للمجتمع. وتصوّر هذه السياسات مع ربطها بالتنمية ذات التوجّه الاشتراكي يدخل في صراع واضح مع السياسات التي تنتج من تأثيرات الأسواق الاحتكارية للرأسمالية كما هي في الواقع. فالأولى تقوم على مبدأ «التحالف العمالي الفلاحي» الذي لا يمكن ترك المسؤولية عنه للسلطات السياسية المركزية بمفردها. فدمقرطة المجتمع تفترض تركَ مجال واسع للمفاوضات الجماعية (بين المنظمات الفلاحية والنقابات العمالية، وبين عالم الريف ومنظمات المستهلكين) بتأييد من الدولة الشعبية.
يتعرّض الإنتاج الزراعي في الوقت الحاضر إلى هجوم معولم من رأس المال الاحتكاري، تقوم به أجهزة منظمة التجارة العالمية، في إطار الاستراتيجية المسمّاة «انفتاح الأسواق»، وهي تعني في الواقع انفتاح أسواق الجنوب من جانب واحد أمام متطلّبات توسّع رأس المال الاحتكاري للشمال. وتدور المعارك حالياً داخل منظمة التجارة العالمية (بعد أن انضمت أغلبية بلدان العالم لهذه المؤسسة التي تصوّرتها وصاغت نظمها القوى الإمبريالية وحدها) حول الدعم الصريح أو المتخفّي لمنتجات بلدان الشمال الزراعية (دورة الدوحة). ولا بدّ من دعم وجهات نظر بعض بلدان الجنوب التي تطلب إعادة النظر في «قواعد منظمة التجارة العالمية»، وتقويتها بمبادرات شعبية مشتركة قادرة على تحديد البدائل العامة المتماسكة، والأهداف المباشرة للنضال المشترك.
2 – قضية التحكّم في استخدام الموارد الطبيعية
تقوم الرأسمالية على حسابات الترشيد حقيقة – ولكن في المدى القصير على الدوام – من دون القدرة على أخذ المدى البعيد في الاعتبار. وهذا القيد الذي لا يمكن تجاوزه على الرغم من كل الطنطنة حول الموضوع يبدو بكل وضوح في ما يتعلّق بالموارد غير القابلة للتجدّد (وخاصة البترول)، أو المتجدّدة جزئياً (كالمياه والغابات). ومبادلة الموارد غير المتجدّدة التي يصدرها الجنوب في مقابل استيراد بضائع قابلة للتجديد، هو بطبيعته غير متكافئ، حيث يضحّي بمستقبل شعوب الجنوب لمصلحة الاستهلاك المباشر للشمال. والهدف المعلن للقوى الإمبريالية هو الاستئثار بهذه الموارد لاستخدامها الخاص، ومنعها عن بلدان الجنوب – حتى إن جرى ذلك في انتهاك صريح لقوانين السوق المزعومة – وهذا يعني أن تيسير حصول شعوب الجنوب على هذه الموارد، سيفرض على الشمال أن يتكيّف بدوره مع استخدام أفضل لموارد الكوكب. والبديل الشعبي يفترض تحكّم الشعوب في هذه الموارد، ووضع معايير جديدة لقياس الفائدة الاقتصادية لهذه الموارد، التي تقوم على أساس احترام قواعد العدالة الاجتماعية في المدى الطويل، والدخول في مفاوضات دولية في إطار الاعتراف باحترام هذه المبادئ فعلياً.
من الواضح أن التغيّرات المناخية صارت تمثّل تحدّياً جدّياً للبشرية، يعود إلى تبذير الرأسمالية (مثل ظاهرة الدفيئة)، وإلى بعض التغيّرات الطبيعية الخارجة عن سيطرة البشر. وهذه التغيّرات تُمثّل في جميع الأحوال تحدياً يفرض أن تؤخذ في الاعتبار تطورات المدى البعيد عند اتخاذ الاستراتيجيات العالمية. وهنا أيضاً، يضحّي النظام الإمبريالي السائد بمستقبل الجنوب في سبيل المحافظة على الأوضاع المتميّزة للشمال. وينبغي على البديل ذي التوجّه الاشتراكي الذي تدعمه الحركات الشعبية أن يرغم حكومات الجنوب على إدماج هذا البعد عند تحديد استراتيجيات التنمية، وأن يفرض على النظام الدولي (وخاصة منظمة التجارة العالمية) احترام هذا المطلب.
3 – قضية دمقْرَطة المجتمعات
تتعلق الدمقرطة – وهي المرادف لسلطة الشعب – بجميع مظاهر الحياة وليس مجرد إدارة بعدها السياسي. وهي تتعلّق بجميع العلاقات بين الأفراد في نطاق العائلة، وفي مكان العمل، وفي العلاقة بين العاملين وبين متخذي القرارات الاقتصادية، والإدارية، والسياسية. وهذه العلاقات هي في الوقت ذاته علاقات فردية وجماعية (مثل علاقات الطبقات، وهي غير متكافئة بطبيعتها في المجتمع الرأسمالي، حيث تقوم على المِلكية الخاصة لوسائل الإنتاج في يد أقلية تستبعد ملكية الشعب). وهذه هي حدود الديمقراطية – عند وجودها – في ظل الرأسمالية، وتفترض الدمقرطة تجاوز هذه الحدود، وكذلك تجاوز الرأسمالية، والسير في طريق بناء البديل الاشتراكي.
والأيديولوجية السائدة، و«الوصفات» الديمقراطية المقترحة في إطارها، تفصلُ بين الديمقراطية «السياسية» وبين المطالب الاجتماعية، التي تعبّر عنها صراعات الطبقات المسودة المستغَلة ضد المنطق الأحادي لرأس المال. وتفترض الدمقرطة الربط بين الديمقراطية السياسية وبين التقدّم الاجتماعي لا التفرقة بينهما.
وتفترض الدمقرطة الاعتراف بحقوق الفرد وتحديدها بوضوح على شكل حقوق قانونية، وضمان احترامها بشكل مؤسسي. والحرية الفردية، وتحرير الكائن البشري من جميع أشكال الاستبداد، لا يمكن فصلها عن أهداف الاشتراكية. ولا يمكن تحقيق الاشتراكية المتقدمة من دون إدماج حقوق الإنسان ضمن حقوق جماعة العاملين، والشعب كله.
والرأسمالية نظام اجتماعي مؤسس على مبدأ التمييز، الذي يضع المسيطرين (وكثيراً ما يكونون ملاكاً) على وسائل الإنتاج، في مواجهة الأغلبيات الشعبية المحرومة منها. ولا يوجد «اقتصاد سوق» (بالمعنى الليبرالي) من دون أن يكون مجتمع سوق، والسوق يميّز ويفتّت. والتمييز الأكثر وضوحاً كان دائماً التمييز ضد المرأة. وبالتأكيد لم تكن المجتمعات السابقة للحداثة الرأسمالية خالية من التمييز، ولكن الرأسمالية بدلاً من التخفيف من حدته أدمجته في ممارساتها الاستغلالية لتستفيد منه، وتضعه في خدمة أهدافها الخاصة. وحتى عندما سمحت تلك الأهداف ببعض التقدّم في أوضاع النساء، حاولت الرأسمالية الحد من تأثيرها. ونضال نصف البشرية من النساء من أجل الاعتراف القانوني والحقيقي بجميع حقوقهن (في تنظيم العائلة، وفي مكان العمل، وفي ممارسة المواطنة) ليس مجرّد نضال ديمقراطي (يمثلن عنصراً أساسياً فيه ومن دونه يكون الحديث عن دمقرطة المجتمع مجرد حديث أجْوَف)، بل هو جزء مؤسس من البديل الاشتراكي للرأسمالية. وقائمة الفئات الشعبية المعرضة للتمييز طويلة، وهي تضم المهاجرين، والأقليات الإثنية والدينية، والمرضى بالإيدز وغيره من الأوبئة… إلخ، وتكتسب مطالبها قوة عندما ترتبط بمطالب غيرها من الفئات في إطار النضال من أجل تنمية شعبية ذات توجه اشتراكي.
4 – قضية الاستقلال الوطني
أ – ضرورة هزيمة السيطرة العسكرية للولايات المتحدة على العالم
تحتاج الشعوب إلى السلام، كما تحتاج الأمم وكذلك الأفراد إلى الأمن، ولكن الطبيعة الإمبريالية للنظام الرأسمالي لا تسمح بأي منهما. وعلى النقيض، فالمحافظة على النظام الدولي اللازم لاستمرار توسّع السوق الرأسمالي الاحتكاري، يقتضي بسبب الطبيعة الظالمة لهذا التوسّع، استخدام العنف، بما في ذلك التهديد باستخدام القوة العسكرية، بل واستخدامها ضدّ جميع الحركات، والشعوب، والأمم الرافضة للخضوع.
يمثّل برنامج «السيطرة العسكرية على العالم» من جانب القوات المسلحة للولايات المتحدة وحلفائها (وخاصة الناتو)، والحفاظ لهذا الهدف على أكثر من 600 قاعدة عسكرية أمريكية في قارات العالم الخمس، و«الحروب الاستباقية» القائمة بالفعل (العراق) أو المهدّد بها (إيران) – يمثّل – التعبير عن هذه العسكرة للعولمة. وطالما لم يُهزم هذا المشروع الإجرامي المجنون، تبقى جميع المكتسبات الاجتماعية والديمقراطية الممكنة هنا أو هناك معرّضة لأشد المخاطر.
وتحقيق برامج القوى الإمبريالية هذه، وخاصة لزعيمتها، تحبط تطلعات جميع شعوب الجنوب للسلام والأمن، وهذا هو الدافع المباشر أو غير المباشر، لعملية التبديد المتمثلة في سباق التسلح، وهي المحرك المباشر أو غير المباشر للكثير من الصراعات «المحلية»، التي كثيراً ما تكون نتيجة التحريض الخارجي.
ب – هزيمة النيوليبرالية المعوْلمة
الرأسمالية ليست «اقتصاد السوق»، ولكنها «اقتصاد السوق الرأسمالي»، فالاقتصاد هنا تقننه سيطرة المصالح الرأسمالية التي تتغلب على مصالح الطبقات المسودة والمستَغلة، التي يتحول أفرادها إلى موردي قوة العمل، ومستهلكين موجَّهين وسلبيين. والسوق الرأسمالي على الرغم من كفاءته في بعض جوانبه، يبقى تابعاً لجري الرأسماليين وراء الربح الفردي. أما البديل الشعبي فيفترض إخضاع السوق للأهداف الاجتماعية والديمقراطية للشعب، أي لأشكال أخرى من التقنين تقوم على أساس الاشتراكية الجاري بناؤها، وخاصة التحقيق الفعلي لأكبر قدر ممكن من المساواة.
وصل تركيز رأس المال في الرأسمالية المعاصرة إلى درجة صارت فيها بضع مئات من المجموعات المالية تسيطر على الجزء الأكبر من الاقتصادات القومية بوصفها الاقتصاد المعولم، وتوجه الأسواق بشكل يحقق مصالحها وحدها. وتركز رأسمالية الاحتكارات هذه السلطة الفعلية، الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية في أيدي قلّة حاكمة تمثّل العدو الأكبر للإنسانية جمعاء.
وفي توسّعه، يحاول السوق الرأسمالي أن يضمّ تحت جناحه مجالات جديدة من الحياة الاجتماعية لتحويلها إلى مواقع لامتصاص الأرباح لرأس المال. وتتناسب برامج خصخصة شركات القطاع العام، أو المملوكة لتعاونيات العاملين أو المواطنين، أو خصخصة الخدمات الأساسية (مثل التعليم، أو الصحة، أو الإسكان، أو المياه والكهرباء، أو النقل) مع أهداف تتعارض بطبيعتها مع سلطة الشعب، وتحدُّ من مجالات تحركها. وفي توسعه، يحاول السوق الرأسمالي أن يضمّ كذلك السيطرة على جميع موارد الكوكب، المتجددة وغير المتجددة، وبذلك يعرض للخطر آفاق بقاء الجنس البشري على المدى الطويل. يجب اعتبار خصخصة الأرض خطراً يهدّد بصفة خاصة بقاء نصف البشرية من الفلاحين.
والتنمية البديلة، التي تستطيع أن توفر الاحتياجات البشرية، لا يمكن أن تكتفي «بخفض حالة الفقر»، وهي تعود بالدرجة الأولى إلى المنطق الذي يوجّه توسّع الأسواق الرأسمالية. والتنمية البديلة الحقيقية، عليها أن تغيّر أساليب الحياة في اتجاه التحرير الحقيقي للطبقات الشعبية، والأفراد. ويجب تحديد وتعريف «المؤشرات» الدالة على التقدّم المحرز في هذا الشأن.
وعلى المستوى العالمي، يقوم الاقتصاد الرأسمالي على أساس اللامساواة بين الشركاء الوطنيين، ومنطق توسعه يعمل على زيادة هذه اللامساواة بدلاً من الحدّ منها، الأمر الذي ترفضه شعوب الجنوب. وعلى الحركات الشعبية، والدول التقدمية، أن ترد على الممارسات الحالية، والمشروعات المقترحة (في مجالات التجارة، والاستثمارات الأجنبية، وتدفّق رؤوس الأموال، والديون) من مؤسسات العولمة الرأسمالية المسيطرة (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، والاتحاد الأوروبي، وغيرها)، بالبدائل الإيجابية التي تتجاوب مع الأهداف الخاصة للحركات الشعبية.
والنيوليبرالية ليست إلا الشكل الأعلى للتعبير عن متطلّبات إعادة إنتاج الرأسمالية في ظروف عصرنا الحالي، والخطاب حول «اقتصاد السوق الشفاف»، مجرّد حديث دعاية فجّة تحاول إخفاء هذه الحقيقة. وإعادة إنتاج الرأسمالية الاحتكارية العصرية يقتضي تشديدَ أشكال التراكم عن طريق النهب التي تدل عليها عمليات الخصخصة المتسارعة، والتوسّع في تحويل جميع جوانب الحياة الاجتماعية للطابع التجاري، ونهب موارد الكوكب، وما يفترضه ذلك من إخضاع شعوب الجنوب. لقد صارت الرأسمالية الاحتكارية العدو الأول للبشرية جمعاء، متجاوزة مجرّد العداء للطبقات المستَغلة والمسودة.
قد يهمكم أيضاً الاشتراكية أو البربرية: مقاربة مقارنة لفهم مشروع عروبة ناصر
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الاشتراكية #الرأسالمية #باندونغ #العولمة #تحرر_الشعوب #النيوليبرالية #دول_الشمال_والجنوب #التنمية #صراع_الحضارات
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 430 في كانون الأول/ ديسمبر 2014.
(**) سمير أمين: مفكّر اقتصادي مصري.
سمير أمين
• مفكر اقتصادي عربي (2018-1931). من العلماء المؤسسين لنظرية «المركز والأطراف»، عمل مستشاراً دولياً في العديد من الدول حول العالم، خاصة الإفريقية منها. تم تعيينه خلال سبعينيات القرن الماضي مديراً لمعهد الأمم المتحدة للتخطيط الاقتصادي في داكار - سنغال. شارك في تأسيس «المجلس الإفريقي لتنمية البحوث الاجتماعية والاقتصادية»، وكذلك «منتدى العالم الثالث».
• له العديد من الكتب الاقتصادية الهامة نشرت باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، منها: التطور اللامتكافئ: دراسة في التشكيلات الاجتماعية للرأسمالية المحيطية (1978)؛ التراكم على الصعيد العالمي: نقد نظرية التخلف (1978)؛ ما بعد الرأسمالية المتهالكة (2003)؛ الفكر العربي وتحولات العصر: رؤى وأفكار من وجهات نظر ماركسية مختلفة (2006)، والرأسمالية في عصر العولمة: إدارة المجتمع المعاصر (2007).
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.