المؤلف: فردريك معتوق

مراجعة: فادي سعيد دقناش

الناشر:  منتدى المعارف، بيروت- (سلسلة اجتماعيات عربية؛ 9)

سنة النشر: 2017

عدد الصفحات: 206

 

مقدمة

ليس مستغرباً أن ينال هذا الكتاب جائزة الإبداع العربي لعام 2018، وبخاصة أنه يطرح جملة من المفاهيم والأفكار والقضايا التي باتت تُمثّل المدخل الأساس لفهم طبيعة الأزمات التي تعيشها المجتمعات العربية. هي «العصبية»، الظاهرة الاجتماعية القديمة – الحديثة المنتشرة في مجتمعاتنا، التي أخذها الباحث على عاتقه لدراستها والإضاءة عليها بنظرة «ماكرو» و«ميكرو» سوسيولوجية من خلال التنقيب داخل التراث، منطلقاً من نظرية الأب الروحي لعلم الاجتماع «ابن خلدون». فالعصبية تؤدي اليوم دوراً هدَّاماً ومهدّداً لكيان «الدولة العربية» بهيئتها الحالية، حيث تقوم بتفكيك البنيان الاجتماعي، وفرز مكوناته المجتمعية بطريقة أحادية من خلال شدّ العصب المذهبي – الطائفي.

من هنا رأى الباحث ضرورة العودة إلى التراث، ليس بهدف تمجيد الماضي، بل بقراءته قراءة موضوعية وهادئة، للاستفادة منه، وتجنب أخطائه، والمضي قُدُماً إلى المستقبل بخطى ثابتة وواثقة، وهو يُحاول أيضاً ترسيم خارطة طريق حول كيفية الانتقال من دولة «العصبية» العربية إلى دولة «الشأن العام» – الدولة المدنية الحديثة – التي تقوم على مفاهيم عصرية تحترم حقوق الإنسان، ومبادئ العدالة والمساواة بين الشرائح الاجتماعية كافة، فيرصد تطورها وتحولها من عصبية قَبَلِيَّة رابطها رحم ودم، إلى رابط رحم ودم ودين، وصولاً إلى انتقالها الأخير لتستقر كرابطة رحم ودم ودين ومذهب، وهنا يحصل الصدام لأنَّ بنيان المجتمع أصبح بنياناً عصبياً متطرفاً.

تتوزع صفحات الكتاب (206 ص) على تسعة فصول وزّعَت ضمن قسمين، قسم نظري تناول مفهوم العصبية وانتقاله وتطوره من طور بسيط إلى طور مركَّب، وقسم ميداني تضمَّن دراستين: الأولى لعالم الاجتماع الفرنسي ميشال سورا، وأخرى لصاحب الكتاب.

أولاً: في المفهوم

منذ فجر البشرية كان الإنسان بحاجة إلى أن يحمي نفسه من الحيوانات المفترسة أو حتى من الإنسان المتوحش الآخر، وهو ما اضطر أفراد الأسرة الممتدة إلى التكوكب حول عصبة ما بسبب حاجتها إلى الأمن، إلا أنَّ هذه العصبة سرعان ما ارتدت طابعاً اجتماعياً – سياسياً مع توسع حجوم الأسر وتكاثر المجموعات البشرية، فانتقلنا إلى طور مفاهيمي آخر هو طور العصبية (رابطة دم ونظام تعاضدي اجتماعي)، وهذا يعني أنَّ العصبية كانت من صنع وعي الإنسان استجابة لمطلب حياتي حيوي ومصيري، وعملية تركيبها انتقلت من الضرورة الأمنية إلى مجالات أخرى اجتماعية، اقتصادية، ثقافية. وتحرُّك العصبية داخل فضاء اجتماعي جعلها مرنة وقادرة على التأقلم السياسي. هنا يرى ابن خلدون أنَّ صلة الرحم شأن طبيعي لدى البشر بينما النسب في المقابل «أمر وهمي لا حقيقة له»، فهو من صنع أذهان البشر ابتدعه الإنسان لـ«تحقيق أقصى اللحمة الاجتماعية في المواجهات السياسية»، ما يعني أنَّ النسب هو ركيزة العصبية.

ثانياً: كيفية عمل العصبية

ينطلق معتوق بتفكيك وتشريح ما أورده صاحب المقدمة حول مفهوم العصبية، حيث «المغالبة والممانعة إنَّما تكون بالعصبية، لما فيها من النعرة والتذامر واستماتة كل واحد منهم دون صاحبه». فالمغالبة (الغُلب)، معنية بإيصال العصبية إلى السلطة بالقوة، وهي لا تتحقق إلا بسيطرة عصبية على عصبية أخرى أو عدة عصبيات أضعف أو أصغر منها، ويتألف فريق عملها من قادة ميدانيين عسكريين يستمع إليهم الزعيم زمن الحروب، أمَّا المُمانعة فهي معنية بإبقاء العصبية ودوامها في السلطة بأساليب ناعمة، وفريق عملها المستشارون المدنيون (هكذا يكون الغُلب نصف العصبية، والممانعة النصف الآخر، وكلاهما في خدمة الزعيم (صاحب الشوكة) الذي يُفرِد له الباحث فصـلاً كامـلاً عن «لغته الاجتماعية» التي يستخدمها مع مجتمعه العصبي: لغة الجزم، اللغة المباشرة، اللغة المشهدية، لغة الدّال، خطابه العصبي، وفصل آخر حول المهمة الرئيسة للعصبية: كصناعة العدو التي تسهم في مكان ما بتعزير انطواء الجماعة العصبية على نفسها فتمنع تبلور معارضة داخلية، وتخلق صورة في الوعي «المُعَسكر» حول جنَّة العصبية). أمَّا مثلث العصبية فهو: النعرة، وهي صراخ استباقي هدفه الاستنفار الحربي ودرء الشر الداهم، وهو «كفيل باستنهاض العزائم واستنفار الهمم». (الحث بالصياح والصوت)؛ التذامر، يعني تلبية النداء فوراً من خلال الحض على المشاركة، ولوم مسبق في حال عدم المشاركة (التعبئة والاستعداد)؛ الاستماتة (كل واحد دون صاحبه) أي المطلوب من كل فرد (دون صاحبه) أن يستميت دفاعاً عن العصبة ويقدم دمه، «كواجب لا رجوع عنه بغض النظر عن موقف غيره من أعضاء العصبة فداءً للعصبة»، وهنا يُعرَّى الفرد من جماعيته، وهو أقسى وأقصى ما يتعرض له الفرد في حياته عندما يكون عاجزاً عن العودة إلى عالمه الجماعي، إلا بعد الامتثال لنداء الدم، إذ عليه أن يستميت «دون صاحبه». فالاستماتة هي قمة الالتزام العصباني، وهي تُطوّب قدسية العمل الفردي التي تؤدي لاحقاً إلى اعتبار الفرد شهيداً في حال مماته وليس قتيـلاً.

ثالثاً: استغلال الدين كوقود للعصبيات

للدين طبيعة تختلف عن طبيعة العصبية، فـ«الصبغة الدينية تُذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتفرد الوجهة للحق»، فهاتان العاهتان الاجتماعيتان موجودتان في العصبية، بينما الرسالة الدينية تذهب أبعد من السقوف المادية للعصبية إلى مجتمع جديد يتخطى فيه الفرد نفسه وغرائزه؛ حيث تفرض نفسها بديـلاً من العصبية المغلقة، ما يعطي للدين طاقة سياسية هائلة، وهذا ما يشير إليه ابن خلدون «في أنَّ الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية، التي كانت لها من عددها»، فهو يلاحظ أنَّ قاعدة الغُلب السابقة للدين تتغير كمياً بدخول الدعوة الدينية على تكوينها، ومن الأمثلة على ذلك معركة القادسية (نسبة المحاربين المسلمين مقارنة بالفرس 1 مقابل 4) واليرموك (1 مسلمون مقابل 8 بيزنطيين). ورغم ذلك لم يستطع الدين إلغاء العصبية، فبعد انتهاء عهد الخلفاء الراشدين عادت المفاهيم القَبَلية لتؤدي دوراً في الحياة العامة زمن الأمويين من خلال تأكيد فكرة النسب بين القبائل الذي أعطي أولوية في علاقاتها العامة.

رابعاً: العصبية في المجتمعات الغربية

يتساءل البعض منا، هل العصبية هي صفة حصرية بالمجتمعات العربية؟ يجيبنا الباحث قطعاً لا، فهو يُفرد فصـلاً من الفصول ليشرح ظاهرة العصبية الدينية، الطائفية، الإقطاعية لحرب الثلاثين عاماً بين البروتستانت والكاثوليك (1618 – 1648) التي دارت رحاها على الأرض الألمانية، بمنظور «هيغيلي». فالبرغم من أنَّ اتفاقية «وستفاليا» 1648 قد أنهت الحرب المذهبية بين الطرفين المتنازعين، إلا أنَّها كرَّست لكل مذهب حكامه ومرجعياته الاجتماعية والإيمانية وأراضيه المختلفة ضمن وحدة هشة كبيرة هي الدولة. وهذا الأمر أبقى الانقسام في النفوس والأرض والوطن. وهنا يُحَمّل «هيغل» الدين مسؤولية الحرب الباردة عبر غرس التقسيم المذهبي عميقاً في الدستور وتفخيخه مذهبياً من خلال الاتفاقية «الطائفية» المذكورة أعلاه، إذ إنَّه بعد أن دمَّرت الحرب الإنسان الألماني أمعنت هذه الاتفاقية بضرب المؤسسات وجعل الشخصية الألمانية مقسومة بقانون منحاز إلى فئة على حساب فئة أخرى. فتداخل الدين والسياسة جعل «الحقوق المواطنية محجوبة عن البروتستانت في المناطق الكاثوليكية، وكذلك محجوبة عن الكاثوليك في المناطق البروتستانتية». أليس هذا ما يحصل في لبنان بحجة الميثاقية والعيش المشترك، حيث تكرَّست الطائفية بطريقة غير مباشرة بأعراف دستورية؛ فرئيس الجمهورية «ماروني»، ورئيس مجلس الوزراء «سني»، ورئيس مجلس النواب «شيعي»، إضافة إلى الإشارة بوضوح في الدستور الجديد (دستور الطائف) بتقسيم وظائف الفئة الأولى مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، ناهيك بانتخاب مجلس النواب بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين استناداً إلى قوانين انتخابية طائفية، ما يسهم بمزيد من الشرخ والانقسام المذهبي، فتبدو المناطق اللبنانية وكأنَّها جزر طائفية تجعل كل طائفة تخشى على نفسها من هيمنة الطائفة الأخرى؟

خامساً: العصبيات والديانات السماوية

يعود الباحث إلى البدايات ليربط علاقة العصبية بالسياسة والدين (اليهودية والمسيحية والإسلام)، ما يؤدي إلى ولادة عصبيات دينية كبرى، أو عصبيات مذهبية صغرى تسعى لأن تتحول مع الأيام إلى عصبيات كبرى. ويستعرض ظروف كل ديانة بوصولها إلى السلطة من خلال استخدام «العصبية»: اليهودية (سلطة تحت وصاية خارجية)، المسيحية (دخلت ملعب السلطة باعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية)، والإسلام (دخل السلطة من باب الدعوة الدينية).

سادساً: في الدراسات الميدانية

تضمَّن الكتاب دراستين ميدانيتين: الأولى لعالم الاجتماع الفرنسي ميشال سورا في العصبية الحضرية، منطقة طرابلس (باب التبانة «السنية» وجبل محسن «العلوية» نموذجاً)، حيث يرى الباحث أنَّه رغم التجاور (الجغرافي، الاجتماعي) للطرفين المذهبيين المتنازعين، ورغم رفعهم للشعارات التقدمية والعدالة بقيت هذه الشعارات مطوقة بقرار عصبي (مذهبي) معلن أو غير معلن؛ ما يعني غياب فكرة المواطنة مضموناً. أمَّا الدراسة الثانية فكانت لصاحب الكتاب «أرابيسك العصبيات اللبنانية» تضمَّنت عينة شملت عدداً من المكونات المذهبية الرئيسة في المجتمع اللبناني، استخدم خلالها الباحث تقنية الملاحظة والمقابلة، وأظهرت نتائج التحليل انتقاداً واضحاً للدولة بصورتها الحالية من جانب المُستطلَعين، فهي دولة عصبية طائفية «عجزت عن إرضاء أي طرف من الأطراف» المذهبية المكونة لها، كما أنَّ أغلبية المكونات المجتمعية جاهرت بضرورة قيام دولة مدنية يتساوى فيها الجميع بالحقوق والواجبات المدنية بعيداً من الانتماءات العصبية والمذهبية.

خلاصة

إنَّ حالات الفوضى والعنف والحروب والصراعات التي تعم وطننا العربي تُظهر مدى عمق وتنوُّع الأزمات المحيطة بنا، منها ما هو خارجي أفرزته العولمة والثورة التكنولوجية وعلاقتنا التاريخية بالآخر، ومنها ما هو داخلي بنيوي حيث تقع «العصبية» في محوره، فالعصبية كما أوضح الباحث ليست مفهوماً مجرداً ساكناً، بل هي مفهوم إجرائي عملاني دينامي «يقع في قلب حياة الجماعة البشرية»، ولكنَّها أيضاً من المفاهيم «المحذوفة» أو «المسكوت» عنها مجتمعياً والكامنة في اللاوعي المجتمعي، وهي «كالحرباء» تُبدّل لونها حسب مقضياتها المصلحية، حيث تمكَّنت اليوم من تطويع نفسها وتعديل «جيناتها» من رابطة رحم ودم إلى رابطة دم ودين ومذهب.

لقد استشرف الباحث بدايات وعي مدني في الوطن العربي هدفه الانتقال من دولة العصبية إلى الدولة المدنية الحديثة، ولكننا هنا نتحفظ عن مفهوم المجتمع المدني في الوطن العربي، فالتجارب الفعلية أظهرت مدى رخاوته وعدم وضوح رؤيته وأهدافه، إذ إنَّه في مكان ما مضطر إلى السير وفق إملاءات وأهداف المنظمات غير الحكومية التي تضع التمويل والرؤى وخطط السير المناسبة له، ومن جهة أخرى تحولت النقابات العمالية والمهنية والنخبوية (أطباء، مهندسون، طلاب…) أبواقاً للسلطة «العصبية» الحاكمة في الوطن العربي، وهي تعيد إنتاج السلطة «العصبية» نفسها بدلاً من إنتاج رؤية واحدة تقوم على الشأن العام لتساهم في بناء الدولة المدنية الحديثة بالمضمون وليس بالمظهر فقط.

وفي ظل «صدام العصبيات العربية» نتساءل كيف يمكننا كعرب مواكبة التقدم الحضاري في القرن الحادي والعشرين عصر العولمة والتكنولوجيا بعينين معصوبتين؟ هل نكون تابعين ناقلين ما تُنتجُه الحضارات الأخرى أم نكون فاعلين شركاء في التقدم الحضاري؟ هذا ما سيجيبنا عنه الباحث في كتاب آخر تحت عنوان التقدم الحضاري العربي المعصوب.