مدخل

التطبيع العربي – الإسرائيلي هو تحويل، أو تصيير، العلاقة بين الكيان الصهيوني الذي أنشأ دولته على الأرض العربية الفلسطينية عام 1948 من علاقة غير طبيعية إلى روابط طبيعية تقوم على الأسس نفسها التي تقوم عليها الدول المجاورة بهدف أن تصبح «إسرائيل» الدولة الأقوى المؤهلة طبيعيًا لقيادة المنطقة والتحكم في تفاعلاتها، بعد أن تم إخراج مصر من المعادلة وبعد غزو العراق وتدميره. والتطبيع مصطلح صهيوني ظهر أول مرة في المعجم الصهيوني للإشارة إلى يهود المنفى حيث طرحت الحركة السياسية الصهيونية نفسها لتقوم بتطبيع يهود الشتات المنتمين إلى أمم متعددة وإعادتهم إلى طبيعتهم كأمة واحدة[1]. لكن لجوء بعض الدول العربية إلى تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني المحتل، عبْر إعلان صفقة القرن بتاريخ 27/1/2020، قبل إيجاد الحل العادل للقضية الفلسطينية، أشكل هذه القضية وأضعفها وعقّد مسار حلها، وتجاوز الإرادة الفلسطينية.

أولًا: أسس الاستراتيجية الصهيونية العالمية للتطبيع

1 – منع التضامن العربي

برزت أولى عناصر مخطط التفتيت مع اتفاقيات السلام العربي – الإسرائيلي في معاهدة كامب دايفيد (1979)، التي مثلت نقطة تحوُّل في مسار القضية الفلسطينية والبوابة التي عبرها ستتسلل كل أوجه الاستسلام السياسي لأنها أجبرت العرب بكيفية غير مباشرة على الاعتراف بالكيان الصهيوني. أُخرجت مصر من المعادلة وكُسر الإجماع العربي حول مقاطعة إسرائيل وجُعلت كل الأوراق بيد أمريكا (عبارة السادات) وكُسر قرار اتخذته جامعة الدول العربية عام 1950، أي قبل لاءات الخرطوم الثلاث ولم يستوجب أية خطوة مماثلة من الطرف اليهودي، وفتح الباب واسعًا لأوجه التطبيع الأخرى؛ بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 ومؤتمر مدريد للسلام، فجاءت أوسلو وكُسر الحاجز النفسي (1993)، ثم اتفاقية وادي عربة (1994) بعد عشرة أشهر منه. تمت اتفاقية أوسلو ووادي عربة في سياق حروب بين أطرافها وجاءت لتسوية نتائج تلك الحروب؛ والشعب الفلسطيني - الأردني إلى اليوم غير متقبل فكرة وجود الكيان الصهيوني على أراضيه. جاء في المادة السابعة فقرة «ج» من اتفاقية وادي عربة «عدم حصر التعاون بين الدولتين فحسب وإنما يشمل تعاونًا في النطاقات الإقليمية الأوسع»[2]، بمعنى أن المملكة الأردنية تمثل مدخلًا للكيان نحو بلدان العالم العربي والإسلامي وضمان الإطار الأوسع للتعاون، وهو هدف الكيان البعيد المدى. يلي ذلك التطبيع الاقتصادي لتقنين العلاقات على المستوى التجاري في سياق مؤتمر القمة الاقتصادي للشرق الأوسط وأفريقيا المنعقد في الدار البيضاء بتاريخ 30/10/ 1994، وعلى مستوى ممثليات اقتصادية وتجارية في المغرب وتونس (1996-2000)، وأقامت موريتانيا والمغرب وتونس وقطر ودول أخرى علاقات دبلوماسية مع الكيان وقطعتها فيما بعد، في حين صمدت دول أخرى في مواجهة هذا التطبيع: الجزائر، سورية، العراق، ليبيا، لبنان، اليمن. لكن مسار التطبيع هذا مثّل تحولًا جوهريًا للقضية الفلسطينية، أفضى إلى «صفقة القرن»، نتيجة المخططات السالفة، الهادفة إلى تفريغ الجسد العربي من عناصر القوة لتغيير خريطة المنطقة وإدماج الكيان مع المحيط العربي، حيث وقَّعت الإمارات (13/8/2020) والبحرين (11/9/2020) اتفاقيتي التطبيع في البيت الأبيض في 13/8/2020 بهدف دمج الكيان الصهيوني بالمنطقة وتحييد البلدان العربية عن القضية ليبقى الصراع محصورًا بين الفلسطينيين والكيان. عقدت أربع اتفاقيات عربية رسمية مع الكيان برعاية الولايات المتحدة الأمريكية لأن المشروع الصهيوني لا يتحرك إلا في سياق المشروع الأمريكي للمنطقة: الإمارات والبحرين ثم تبعتهما السودان (23/10/2020) فالمغرب، سادس دولة، بتاريخ (10/12/2020)، باستخدام قضية الصحراء الغربية كورقة ضغط. وتمكنت الإدارة الأمريكية من وضع بنودها موضع التنفيذ عبر الإعلان عن توقيع «اتفاقية أبراهام» في 13/8/2020. تنجح أمريكا دائمًا في تكريس الانقسام العربي بين من يضع ثقته في حمايتها وفيها وحدها ومن يحتفظ بما بقي من وعي قومي.

لم يتوقف الكيان الصهيوني خلال مسار التطبيع عن ممارسة أبشع الجرائم وسفك الدماء وبسط النفوذ بقوة السلاح وسياسة الاعتقال واقتحام المدن والقرى وفرض الحصار الجوي والبري والبحري على قطاع غزة وخوض الحروب ضده وتدميره للنيل من صمود الشعب الفلسطيني تجاه جبروت المحتل الذي يحلو له القيام بدور الضحية لكنه في الواقع أقوى قوة في المنطقة نجحت في ممارسة استراتيجية منع التضامن العربي.

2 – الدبلوماسية الروحية والمخطط الإبراهيمي

يتلخص التطبيع، وهو أحد مظاهر «صفقة القرن»، في ضم الضفة الغربية من دون القدس والمستوطنات إلى الأردن، وتسليم أهل غزة إلى مصر وإنهاء الوجود الفلسطيني في فلسطين التاريخية[3]، متجاوزًا مبادرة السلام العربية (قمة بيروت 2002)، حيث أصحاب الحق يلجأون إلى الكيان طلبًا للسلام، التي تنص على إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود عام 1967، وعودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان مقابل تطبيع العلاقات مع الكيان، ولاقت إجماعًا عربيًا ودوليًا[4]، ولم تلق قبولًا لدى الكيان رغم أنها لا تلبي سوى الحد الأدنى من الحق الفلسطيني، بمعنى إعاقة الكيان لكل خيار سلام وترسيخ سياسة الأمر الواقع؛ هكذا حقق هدفه ضاربًا بجميع المبادرات العربية عرضَ الحائط، فلم ينسحب من الأراضي العربية المحتلة، ولا اعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، لأن استراتيجيته لإدارة الصراع تقوم أولًا على تحقيق التفوُّق العسكري لمنع البلدان العربية من محاولة القيام بأي عمل ضده والمعروف بنظرية «الردع ضد الدول العربية» لا على أساس تسوية عادلة للصراع؛ ثانيًا على تفتيت الدول المركزية إلى كيانات صغيرة تقوم على أسس طائفية أو عرقية وتحويله إلى كيانات صغيرة متصارعة وقطع الطريق على الأطراف الإقليمية، ليتحول الإجماع إلى قرارات فردية لتحقيق مصالح ضيقة للأنظمة الوظيفية، وتعارض الإجماع العربي والدولي والشعبي وتعزل الدول بعضها عن بعض، وتدمر الثقافة والهوية الحضارية الإسلامية للمنطقة بكاملها لما يتيحه التطبيع لجامعات الكيان الصهيوني ومراكز الأبحاث والدراسات أن تصبح مرجعية علمية للمنطقة طبقًا لبند التعاون الثقافي والأكاديمي في «اتفاقية أبراهام» وهدفها صوغ المنطقة عبر التطبيع الثقافي الذي يستهدف «جهاز المناعة» و«منظومة القيم» و«الهوية العربية» مقابل هوية إبراهيمية جديدة بتوظيف الدبلوماسية الروحية لتقبل الكيان كمدخل للسلم الديني العالمي، بتحويل الصراع إلى «صراع هوية» لا «صراع أرض»، وتصفية القضية الفلسطينية وموت الدولة القومية. والعقل اليهودي منذ بداية التاريخ، قسَّم العالم إلى «الأنا» و«الأغيار»، «الأنا» «المقدس» و«الآخر» «المباح» أي عبّر عن الرفض القاطع للأغيار، فهو عقل عنصري يبحث عن أرض الميعاد وإلهه هو إله «الشعب المختار» الذي عقد معه ميثاقًا أبديًا، تسانده حضارة قائمة على العنصرية التي تحمل في تعريفها خمائر العنف[5]، تم التنظير لتفرد الجنس اليهودي عن باقي الأجناس تمشيًا مع العنصرية التي كانت سائدة في فلسفة القرن التاسع عشر، تغذيها سياسة الكيان التعليمية التي تقوم على عقلية التفوق المتحكم في مقدرات المنطقة وتحقير الخصم وتجريده من صفاته الإنسانية، لذا وجب إقامة وطن قومي في أرض الميعاد يكون متفردًا عن البلدان الأخرى حفاظًا على نقاوة الجنس اليهودي، من هنا تفضيلهم العيش في (الغيتوهات).

الصهيونية حركة جماهيرية يغذيها تضامن قبلي فريد في نوعه، وتدور حول إلغاء الآخر وإعادة خلق الظروف التي يستطيع فيها اليهود الاحتفاء بسماتهم وخصائصهم، ومواجهة اندماج وانحلال الهوية اليهودية، الاندماج الديمقراطي فيها مستحيل، إذ «أن تكون صهيونيًا معناه أن تكون يهوديًا في المقام الأول، فاليهودية التزام سياسي[6]. ولها جذور بنيوية خاصة وتتغذى من النهج اليميني الراديكالي القائم على الاستيطان واستراتيجية التوسع، ولا تؤمن بالتفاوض الجاد ولا تلتزم بالاتفاقيات والعهود والمواثيق وترفض قرارات الأمم المتحدة في شأن اللاجئين[7]، وتسعى لمزيد من الامتداد والشمولية، وتعدّ الأمن مقابل السلام هدفًا لا الأرض مقابل السلام، ينص قانون القومية أن الاستيطان يهودي وقيمة قومية؛ نظام مبني على التمييز البنيوي، فهل أدرك المطبعون أن نظام تعليم الكيان ينتج ثقافة عدائية ضد العرب، وأن ما تلقنه الكتب الإسرائيلية هو شحذ أفكار الناشئة منذ الطفولة المبكرة بفكرة التعالي والتسامي والتفوق، وبروح العداء والاحتقار للعرب وإشعارهم بعدو متربص بهم عليهم أن ينتقموا منه بشدة كلما أتيحت لهم الفرصة؟

3 – التطبيع جريمة سياسية وخطيئة تاريخية

تطبيع العلاقات مع العنصرية الصهيونية المخالفة لجميع القرارات الدولية غير طبيعي، رغم عدم إغفال الوضع العربي وسياقه التاريخي، ورغم أن توحيد العرب أمر عسير. وكما دلّت التجربة هناك خلاف عربي – عربي، وخلاف خليجي، واستثمار لدى الإدارة الأمريكية الساعية إلى دمج الكيان في أحلاف إقليمية قبل التوصل إلى حل القضية الفلسطينية، الخلاف العربي – الإيراني لخلق التقارب مع الكيان الحليف الحريص على دول المنطقة والقادر على مواجهة الخطر الإيراني، والخلاف الفلسطيني – الفلسطيني: رفض حماس لكل أوجه التطبيع الذي ترى فيه خيانة لشعوب الأمة وقيمها وأخلاقها وتفريط بتضحيات الشعب الفلسطيني. وهناك تأثير الربيع العربي ومخرجاته، إضافة إلى أن العلاقات العربية مع الكيان مستمرة منذ سنوات بحيث استخدمت الدول العربية، وبخاصة الخليجية، المؤسسات الاقتصادية والتجارية لفتح قنوات الاتصال السياسي مع الكيان وتنظيم زيارات لقيادات وفرق رياضية[8] بين الكيان والدول الخليجية، علمًا أن التطبيع الرياضي أخطر أوجه التطبيع. يقول هرتزل في أحد خطاباته: «مهرجان رياضي واحد أقوى من مائة خطاب من خطاباتي»، ويسعى ولي العهد السعودي لإخراج بلده من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي مقابل بناء تحالف استراتيجي مع إسرائيل تجاه إيران، مؤكدًا أن «من حق الإسرائيليين العيش في أمان على أرضهم» مشددًا على أنها ليست العدو بل إيران، كما ورد في صحيفة أتلانتيك ونعدّها مجرد انطباعات وانفعالات تنتصر للصهيونية قافزة على طبيعة المشروع الصهيوني ودولته، تعالج أعراض المشكلة لا جذورها وجانبها التاريخي التحليلي الجوهري، وكأنه ليس هناك أبعد مما هو حاضر، وكأن التطور الذي تستحقه المنطقة يمر عبر الكيان (العقل المتفوق والإنسان السوبرمان) والدول العربية بثرواتها ورؤوس أموالها سوف تبقى بحاجة إلى عقل ومعرفة الكيان الصهيوني، الشريك الموثوق به للأنظمة العربية في طريق الازدهار. والحال أن نهضة المنطقة العربية مرتبطة بالتخلص من المشروع الصهيوني المبني أساسًا على بقاء البيئة العربية الإسلامية ضعيفة مفككة ومتخلفة ويمس أهم قضية من قضايا العرب المعاصرة، قضية نهضتهم وعودتهم كأمة إلى مسرح التاريخ ، وهو أمر يتوقف على التخلص منه عوضًا من إضفاء الشرعية عليه، في تجاهل تام لقول رئيس المؤتمر الصهيوني الأول تيودور هرتزل عام 1897 في سويسرا «إن تطلعات الصهيونية العالمية لا بد أن تصل إلى إضعاف وتقسيم الجزيرة العربية؛ إن ما يلزمنا ليست الجزيرة العربية الموحدة، وإنما الجزيرة العربية الضعيفة المقسمة الواقعة تحت سيادتنا، المحرومة من إمكان الاتحاد ضدنا». وقول مناحيم بيغن: «لن يكون سلام لشعب إسرائيل، ولا لأرض إسرائيل، ولا للعرب، ما دمنا لم نحرر وطننا بأجمعه بعد، حتى لو وقعنا معاهدة الصلح»!. وبعد تدنيس ساحة المسجد الأقصى والاعتداء على حائط البُراق في احتفال ضخم ونفخ بالأبواق عام 1967، ألقى دايفيد بن غوريون خطابًا ورد فيه: «لقد استولينا على القدس، واستعدناها وغدًا سيكون طريقنا إلى يثرب»، أما موشي ديان فقال يوم احتلال القدس: «الآن أصبح الطريق مفتوحًا أمامنا إلى المدينة ومكة»، وتطلعت رئيسة وزراء الكيان غولدا مائير إلى الجنوب ثم قالت: «إني أشم رائحة أجدادي بالحجاز، وهي وطننا الذي علينا أن نستعيده»، بعد أن فقدت الجماعة اليهودية المتفرقة في شتى بقاع العالم وضياع الروابط والمكونات التي تشكل الجماعة ومقومات وجودها كجماعة واحدة: روابط اللغة والأرض والحياة المشتركة.

4 – التطبيع إنجاز استراتيجي للكيان الصهيوني

انطلاقًا من الحقائق أعلاه التطبيع إنجاز استراتيجي للكيان الصهيوني ومدخل لتصفية القضية الفلسطينية، إذ مكّن الكيان من فتح عهد جديد للعلاقات مع المطبّعين عبر «اتفاقية أبراهام» التي تبيِّن مدى قدرته على التوسع في المنطقة في الوقت الذي لا تزال آلة قمعه مستمرة في سفك دماء الفلسطينيين وسلب أراضهم وحقوقهم وتدمير مقدراتهم، ومدى انغماس الإدارة الأمريكية بالعقلية الأيديولوجية التي شكلت خلفيتها الأساس وكرَّست بعدها الديني، موظفة الرواية الدينية في الصراع السياسي والحلول القائمة على القانون الدولي والشرعية الدولية، وتعكس التحالف الاستراتيجي العسكري؛ فالإمارات والبحرين والمغرب دول لا تملك حدودًا مشتركة مع الكيان ولا خاضت حروبًا معه ليصبح الكيان الصهيوني المحتل بهذا الاتفاق دولة ذات سيادة ومعترف بها، وهذا إنجاز له في المجالات كافة، وجريمة سياسية وخطيئة تاريخية للأمة العربية، بالأخص المجال الأكاديمي، وأكبر تحدّ يواجهها لأنه يخدم مشروع اليمين المتطرف الساعي إلى إسرائيل الكبرى.

لجأ الفكر العسكري الصهيوني إلى الشعوب بعدما تبين له أنها من تملك إرادة الرفض والمقاومة، من هنا إصراره على الاختراق الثقافي المدروس عبر إقامة علاقة صداقة معها ونشر ثقافته لأهمية هذا الميدان في ضخ التصورات التي يريدها في عقول الشعوب، ولأنه يستهدف كل ما يتصل بالتاريخ والوعي العربي وإعادة صوغه. فقد انخرطت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار في مسلسل التطبيع مع الكيان في مجالات التكنولوجيات الحديثة والرقمنة والذكاء الاصطناعي، وكذا تكوين الدكاترة من الجيل الجديد، وتبادل الطلبة والخبرات والمعرفة. كشف نائب رئيس مكتب الاتصال الصهيوني في المغرب، إيال دايفيد، أن جامعة عبد المالك السعدي في مدينة تطوان، وقعت مذكرة تفاهم مع جامعة حيفا الصهيونية، في إطار «التعاون الأكاديمي بين البلدين» تشمل التعاون في العلوم البحرية وفي ميادين الزراعة المائية المستدامة والتكنولوجيات البحرية والبحوث الإيكولوجية. وكانت النقابة المغربية للتعليم العالي والبحث العلمي قد استنكرت إقدام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار على «الزج بمؤسسات التعليم العالي في محافل التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت مسميات الشراكة الأكاديمية والبحثية». كما زودت شركة صهيونية المغرب طائرات انتحارية بلا طيار فيها «كاميرات حرارية، وتستخدم للمهمات الاستراتيجية والتكتيكية، مع أنظمة لجمع المعلومات الاستخبارية، من طريق أربع استشعارات إلكترونية، وتحديد المواقع الجغرافية من طريق الإشعاعات الكهرومغناطيسية الصادرة عن المواد المشعة والقنابل النووية»، كما تمّ توقيع اتفاقية تاريخية في مركز الطاقة والاستدامة في جامعة بار إيلان (وسط) مع إطلاق أكثر من خمسين مجموعة بحثية في كلا البلدين (المغرب والكيان الصهيوني) في مجالات «الطاقة الشمسية والهيدروجين وتخزين الطاقة ونقلها». نجح الكيان عبر استراتيجيته في جعل القضية الفلسطينية لا تمثل عائقًا أمام بناء «علاقات طبيعية» مع البلدان العربية وتطورها، بل تتحوّل العلاقة معها من مرحلة المواجهة المسلحة إلى مرحلة التسوية السلمية للصراع، وإدارته وتحييد بعض أطرافه باستغلال وتر التناقضات والخلافات العربية البينية واستمالة طرف ضد الآخر من 1978 إلى 2020 السنة التي شهدت تحولًا طارئًا في العلاقات وصفته صحيفة هآرتس بـ «إجراء تعديل جيو- سياسي إقليمي» في المنطقة.

تبين للكيان أن التفوق العسكري وامتلاك مختلف أنواع الأسلحة لم يوفر له الأمن، فلجأ إلى الشراكة الأمنية مع الجوار العربي بتوثيق العلاقات معه عبر بوابة التطبيع، وجوده والاعتراف بسيادته على الأرض المغتصبة، ومنه التطبيع الثقافي الذي من أخطر أهدافه التعامل مع الكيان كدولة طبيعية وتأمين الغطاء السياسي والثقافي له والتضييق على المقاومة، وتخفيف العزلة عنه بإخراج علاقاته الخفية مع العالم العربي والإسلامي إلى العلن، ليضحى المحتل حليفًا يحقق نصرًا دبلوماسيًا مهمًا. وأساس هذا «التطبيع الجديد» المحكوم بمبدأ «السلام مقابل الازدهار» تجاوز «السلام مقابل الأرض» أي إنهاء مفهوم الصرع العربي - الإسرائيلي عبر اختراق دول عربية وتحويلها إلى أدوات وظيفية لحماية أمن الكيان تجسيدًا لمقولة بن غوريون: «إن الأسلوب الآخر لضمان أمن إسرائيل، يكون من طريق إقامة علاقات صداقة مع جميع الدول خاصة دول آسيا وأفريقيا»[9]، ومفهوم الكيان للأمن هو التفوق العسكري والاقتصادي والدبلوماسي يصبح عبرها صاحب النفوذ والريادة ودولة الاستقطاب الأولى والقوة العسكرية والاقتصادية البارزة في منطقة الشرق الأوسط.

ثانيًا: التطبيع بين إسرائيل والمغرب

1 – هيكلة الحركة الصهيونية في المغرب (1917- 1929)

اخترقت الحركة الصهيونية المغرب في وقت مبكر على يد حاخام طنجة الروسي  ليون جافلون. تمتد جذور الاختراق السريع الذي يشهده المغرب اليوم على المستوى الرسمي إلى القرن التاسع عشر، وبالتحديد عام 1864 تاريخ إصدار السلطان محمد بن عبد الرحمن (1859- 1873) ظهير «الحرية لليهود»، وقصته أن أربعة من اليهود المغاربة اتُّهموا بتسميم مندوب الحكومة الإسبانية المكلف باستخلاص التعويضات التي فرضتها إسبانيا على المخزن بمعاهدة تطوان عقب هزيمة 1860، وما ترتب عنها من غرامات خارقة وشروط سياسية مخجلة مست على نحوٍ خطير وحدة التراب الوطني على الخصوص، وطالبت الحكومة الإسبانية بمعاقبة المتهمين فأعدم اثنان منهم عام 1863. واستغلت الرابطة الإسرائيلية العالمية الفرصة للقيام بحملة ضد «اضطهاد اليهود» في المغرب، فبعثت بالثري موسى حاييم مونتيفيور للتدخل لدى السلطان في مراكش. قدم مونيتينور هداياه وحصل على ظهير صدر يوم 5 شباط/فبراير (1864 – 1280) مضمونه: «نأمر من يقف على كتابنا هذا من سائر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أعمالنا أن يعاملوا اليهود بميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام، حتى لا يلحق أحدًا منهم مثقالُ ذرة من الظلم ولا يضام ولا ينالهم مكروه ولا اهتضام». يقول المؤرخ خالد الناصري عن نص الظهير: «ولما مكنهم السلطان من هذا الظهير أخذوا منه نسخًا وفرقوها في جميع يهود المغرب وظهر منهم تطاول وطيش»[10]. ولما أحس السلطان ببطشهم عقّب الظهير بكتاب آخر بيّن فيه أن الظهير يسري على أهل المروءة منهم المشتغلين بما يعنيهم. أما صعاليكهم المعروفون بالفجور والتطاول على الناس والخوض فيما لا يعنيهم فيعاملون بما يستحقونه من الأدب. ومن نتائج الظهير قيام اليهود المغاربة بتوثيق روابطهم مع الرابطة الإسرائيلية العالمية وممارسة مجموعة من الأنشطة بكيفية علنية رسمية، من جملتها إنشاء المدارس الإسرائيلية بمساعدة الرابطة المذكورة وتحت مراقبتها في مختلف المدن المغربية[11].

يذكر الجابري في سرده للحقائق التاريخية لاستعراض مضمون السياسة التعليمية الفرنسية ببلادنا أن الحماية الفرنسية وجدت تعليمًا إسرائيليًا في المغرب، فشجعته وساعدته بإبرام اتفاقية بين الرابطة الإسرائيلية العالمية ومديرية التعليم بالمغرب عام 1915، وهي اتفاقية بمنزلة القانون الأساس وبمقتضاها كانت المدارس الإسرائيلية تتلقى إعانات مالية من إدارة الحماية، واستمرت حكومات الاستقلال في تقديم هذه الإعانة[12]. وفي الرابع من أيلول/سبتمبر عام 1900 تأسست في موغادور رابطة صهيونية (أبواب صهيون) رئيسها دايفيد بوحبوط الذي أرسل خطابًا إلى هرتزل يخبره بإنشاء الرابطة وبالترويج للشيكل الصهيوني في شمال أفريقيا[13]؛ و«رابطة العودة إلى صهيون» في تطوان بتاريخ 11 أيلول/سبتمبر؛ ورابطة «حب صهيون» في مدينة آسفي عام 1902، وأعربت عن استعدادها لخدمة الفكرة الصهيونية (أرض إسرائيل) وأعلنت هرتزل رئيسًا شرفيًا لها؛ ثم رابطة «محبة صهيون» في فاس. وأصدر يوناثان طرشر مندوب الاتحاد العالمي في المغرب مجلة المستقبل الواضح عام 1948. وحرص الاتحاد الصهيوني في المغرب على افتتاح فصول لتدريس اللغة العبرية بالاشتراك مع جماعة «كل شعب إسرائيل أصدقاء» لبذل المزيد من الاهتمام بالتعليم العبري، و«رابطة ماجين داوود» و«رابطة محبي اللغة العبرية» و«رابطة بناة القدس» في العرائش، و«رابطة شارل نيطر» التي نظمت دورات عن فلسطين والاستيطان بها. كان التلاميذ يتلقون دروسًا في اللغة العبرية وأخرى في تاريخ الاستيطان والفكرة الصهيونية. تمركز نشاط هذه الروابط على بيع الشيكل والحملات الدعائية لجمع التبرعات وترويج أسهم الاستيطان اليهودي، وضمت اليهود الأغنياء وأصحاب المناصب المهمة وكبار الحاخامات، وظهرت صحف صهيونية في المغرب بدءًا من سنة 1926: L’Avenir Illustré والمستقبل المصور، وأسبوعية نهضة إسرائيل (Rinacimiento de Israel) في مدينة طنجة حيث تمتع بهامش من الحرية. جاء في مقال المستقبل المصور يوم 23/3/1927: «إننا لا نرغب في الحصول على الذهب الأمريكي فقط بل أيضا على الذهب المغربي».

2 – اليهود المغاربة ومسلسل الصهيَنة 

ازدهرت الحركة الصهيونية في المغرب بعد الحرب العالمية الثانية ليتجاوز نشاطها مرحلة التعبئة والدعاية والتبرعات إلى تأهيل يهود المغرب للهجرة لزيادة نمو عدد الصهاينة في فلسطين مثلما ازدهرت المراكز الثقافية العبرية لنشر اللغة العبرية في الدار البيضاء. وتأسست خلايا صهيونية سرية غداة مؤتمر بال (1897) بكل من الصويرة وتطوان بهدف «إعادة بناء وطن قومي بأرض إسرائيل» والرجوع إلى «القيم والتقاليد اليهودية الخالصة» التي كانوا يرون أنها ابتعدت عن صفائها الأصلي، بسبب الممارسات المبتدعة بتأثير المحيط الإسلامي، ومجموعات صغيرة بكل من فاس ومكناس وصفرو 1906، وكان من ورائها بعض الحاخامات والتجار وبعض قدماء تلاميذ الرابطة الإسرائيلية العالمية، وكانوا يستعملون الملاحات والبيعات لدعايتهم، مؤكدين أن الصهيونية ليست إلا «التسمية العصرية لحلم يرجع إلى ألفي سنة. ولأن سلطان الربح يسكنهم فقد أدى النزوع لحرمانهم من أداء دور الوساطة التقليدي الذي كانوا يتميزون به في الشركات الأجنبية وظهور مؤشرات قرب الحماية واستحواذ فرنسا على المغرب إلى تسهيل الاستجابة للنداءات الداعية إلى «الاستقرار» [الإقامة] في فلسطين لا مجرد القيام بمناسك الحج أو قضاء ما تبقى من العمر في «أرض الأسلاف المقدسة التي لا تتفسخ الأجساد فيها أبد الدهر»، بل لتأسيس دولة يفترض فيها أن تصبح إطارًا «لانبعاث الشعب اليهودي ووضع نهاية للتيه والمنفى (الجالوت)». وكان الإسراع لتلبية نداء التوجه للاستقرار في «الوطن القومي» بمجرد سماع خبر دخول الجنرال الإنكليزي «أللنبي» إلى القدس حيث قام قنصل إنكلترا بعرض فيلم عنه في مدينة تطوان، فاستقر رأي عائلات تملك بعض الموارد المالية في مدن فاس وصفرو والدار البيضاء ومراكش على الهجرة النهائية إلى فلسطين[14].

3 – اليهود المغاربة وبناء «الوطن القومي»

مثّل اليهود في المغرب على امتداد العصور إلى حدود أوائل القرن العشرين وإقرار نظام الحماية (1912) أقلية دينية إثنية غير مسلمة إلى جانب الساكنة المسلمة العربية والأمازيغية، فتاريخ الجماعة اليهودية في المغرب قديم لكن ما بين سنوات 1912 و1948 شهدت تقويض القاعدة المادية والأخلاقية التي كانت تقوم عليها العلاقات بين سكان البلاد المسلمين واليهود، بفعل تأثير التحولات الناتجة من التدخل الاستعماري، لتتدهور عقب تأسيس دولة الكيان إضافة إلى القطائع التي عرفتها العلاقات مع المجال المغربي الأصلي لهذه الجماعة بفعل هجرتها المكثفة نتيجة إنشاء تجمعات صهيونية وتوسيع أنشطتها الأيديولوجية التعبوية في «الملاحات» و«البيعات» الرامية إلى «أن تصبح فلسطين يهودية بمقدار ما تكون إنكلترا إنكليزية»، والطامحة إلى إعادة بناء هيكل سليمان وبسط النفوذ إلى «ما وراء دجلة والفرات»[15]. وأفضت الجهود المتعددة الأشكال ودهاء مسيري الحركة الصهيونية ومساعيهم لدى الإقامة العامة بالرباط والحكومة الفرنسية بباريس في نهاية الأمر إلى مكسب أول كان له صدى واسع تمثل بعقد مؤتمر صهيوني في الدار البيضاء ضم ممثلين عن مناطق المغرب الثلاث وأعطى دفعة قوية للنشاط الصهيوني في البلاد[16]، إذ احتل التجار اليهود مكانة متميزة بالنسبة إلى تجارة الجملة المتعلقة بالشاي والسكر والشمع والصابون إضافة إلى مهنة الصرافة، وفتح بعضهم مطاحن كبرى في فاس والدار البيضاء بينما تكفل آخرون بمهمة تمثيل بعض كبريات الشركات الأمريكية. كما مارس آخرون الصناعات التقليدية والتجارة المتنقلة وحتى الزراعة. وانتشرت بعض العائلات اليهودية خارج أحياء الملاح واستقرت في الأحياء الأوروبية الجديدة بنسب تجاوزت كثيرًا نسبة أغنياء المسلمين. وصل «عدد الأسر التي استقرت بالمدينة الجديدة في فاس قبل 3 أيلول/سبتمبر 1939 إلى 21 عائلة مسلمة و270 عائلة يهودية»[17]، منهم محميون فرنسيون، شأن أبراهام إسرائيل رئيس الجماعة اليهودية في تطوان. يمارس المحميون أو المجنسون الهيمنة الكبرى لتمتعهم بامتيازات، كالانفلات من سلطة المخزن. وكان لهم دور في حصول بعض المغاربة على بطاقة الحماية والجوازات الأجنبية. وفي ظل العلاقة الوثيقة بين الرابطة الإسرائيلية العالمية والحكومة الفرنسية، ظهر نمط جديد من السلوك لدى سكان بعض اليهود وأصبحوا لا يترددون كما كان الأمر عليه قبل 1912، في اعتراض سبيل العرب واستعمال السكاكين في المشاجرات، وذهب بعضهم إلى حد عرقلة مسيرة بعض الطرائق الدينية. علق ليوطي على مثل هذا السلوك باستنكار؛ فـ«الساكنة اليهودية التي هي اليوم مدينة للحماية الفرنسية بتحررها من وضعية العبودية التي عاشت فيها منذ قرون، تعقد مهمة السلطات لأنها ساكنة لا تعامل رجال المراقبة باللياقة اللازمة، وتتصرف بوقاحة تجاه المسلمين الذين لم تعد تخاف تحديهم محتميةً في ذلك بوجودنا»[18]. كانت العائلات الكبرى المسلمة كما هو الشأن في الأوساط اليهودية تتمتع كلها تقريبًا بالحماية الأجنبية (إنكلترا، الولايات المتحدة، فرنسا، إسبانيا والبلاد المنخفضة).

4 – موقف الحركة الوطنية من الأنشطة اليهودية

اهتم المغاربة بالنشاط الصهيوني لبعض اليهود أكثر من اكتراثهم بجدالهم مع الإقامة العامة[19]. كانت العائلات اليهودية الكبرى تقوم بتغذية صناديق المؤسسات الخيرية بالهبات والثروات التي راكموها في المغرب قبل الحماية. وتأسست خلايا صهيونية سرية في كل من مدن الصويرة وتطوان غداة مؤتمر بال (1897). وفي فاس ومكناس وصفرو غداة انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء (1906)، وكان يقف وراءها بعض الحاخامات والتجار وبعض قدماء تلاميذ الرابطة الإسرائيلية العالمية. هاجرت أوائل العائلات التي تملك موارد مالية اكتسبتها في المغرب هجرتها النهائية إلى فلسطين من فاس وصفرو والدار البيضاء ومراكش حينما بلغها دخول الجنرال أللنبي إلى القدس، رغم البيعة التي في عنق اليهود تجاه السلطان، والسكينة التي كانوا ينعمون بها في المغرب والإصلاحات التي تم إدخالها لمصلحتهم، إضافة إلى أن سياسة الحماية كانت تهدف إلى الحفاظ عليهم «في منأى عن التوجهات الصادرة عن المنظمة المركزية للصهيونية وموقف السلطان الرافض لتطبيق القوانين الفرنسية المناهضة لليهود «قوانين فيشي العنصرية»»، مبررًا موقفه «أن صاحب الجلالة سيخرق القوانين الشرعية إذا صادق بواسطة ظهير على إجراءات منافية لروح النص القرآني ولفظه، التي تبيح لأهل الذمة من النصارى واليهود العيش في دار الإسلام وممارسة كل الحرف والصنائع غير الشرعية شريطة دفعهم الجزية واحترام الدين الإسلامي»[20]. وأكد في استقباله لوفد أعيان اليهود 1942 «حق هذه الفئة من رعاياه بالتمتع بالحماية الملكية مشددًا على المساواة في التعامل التي يجب أن تتوفر لهم أسوة بمواطنيهم المسلمين»[21]. ورغم أن مجموع الطبقة العليا من السكان لا ينظرون بعين الرضا إلى النشاط الصهيوني، والظروف السياسية كانت تتعارض وإنشاء تجمعات صهيونية، فقد استمر أعضاء من مجلس النواب والشيوخ ومسيرو «المنظمة الصهيونية العالمية» و«الفدرالية الصهيونية لفرنسا» و«صندوق إعادة البناء اليهودي» في ممارسة ضغوطهم على الحكومة الفرنسية وعلى الإقامة العامة بهدف تليين موقفها تجاه الصهاينة[22].

5 – محاولة إشراك اليهود المغاربة في المطالبة بالاستقلال

مثّلت هذه النازلة «محك اختبار» أقطاب الحركة الوطنية[23] تجاه الحركة الصهيونية العدوانية المتصاعدة من جراء تواطؤ الإقامة العامة وسعيها لقمع الحركة الوطنية. وضعت المطالبةُ بالاستقلال اليهودَ في موضع دقيق جدًا وبينت معدنهم. قدم الوطنيون عريضة الاستقلال بتاريخ 11 كانون الثاني/يناير 1944، وبما أن هؤلاء الزعماء كانوا يتحدثون باسم جميع المغاربة من دون تمييز في الانتماء الديني أو العرقي، حاول الموقعون الحصول على الالتزام الرسمي لأعيان اليهود بمطالبهم، وبخاصة أنهم كانوا يرون أن الصدمة التي خلفتها قوانين فيشي في الملاحات قد زعزعت ميلهم إلى الفرنسيين، وافترضوا أن انضمام مواطنيهم اليهود إلى برنامجهم من شأنه أن يعزز مواقفهم تجاه الحلفاء واللجنة الفرنسية للتحرير الوطني، فامتنع «اليهود المغاربة» عن التوقيع وصمتوا عقب الاضطرابات والاعتقالات والمواجهات بين الأهالي وقوات الاحتلال التي هزت مدن الرباط وفاس وغيرها من المدن المغربية، رغم أن العريضة شددت على أن «الأمة المغربية التي تكوِّن وحدة متناسقة الأجزاء تشعر بما لها وما عليها داخل البلاد وخارجها تحت رعاية ملكها وتقدر الحريات الديمقراطية». وأكبت الجماعات اليهودية على الانشغال بأولويات لا علاقة لها بأوضاع المغرب، وبالتحديد اختيار مندوبين لحضور المؤتمر اليهودي العالمي المزمع انعقاده في الولايات المتحدة الأمريكية (مؤتمر أتلانتيك سيتي ويهود المغرب) الذي احتكر تمثيلية يهود المغرب، لتدارس قضايا في طليعتها مساعدة اللاجئين الذين يتقاطرون على المغرب من إسبانيا حيث تم فتح مخيم لهم في المحمدية، والمطالبة برفع القيود الإنكليزية التي تحد من الهجرة نحو فلسطين، وتنشيط مساعي تأسيس دولة يهودية. وانتخب س. د. ليفي الذي يمثل المنطقة الإسبانية، نائبًا لرئيس اللجنة السياسية للمؤتمر، وركز تدخلاته على شعار «بنو إسرائيل في أرض إسرائيل» وقدم «بتاريخ 20 شباط/فبراير 1945 في الدار البيضاء تقريرًا عن مهمته في أمريكا؛ فبالنسبة لهم (باستثناء الصهيونية) كل الحلول ليست إلا عابرة أو مؤقتة»[24]. وطلب الصهاينة من الإقامة العامة منح الجماعة الإسرائيلية وضعية خاصة، لأن ذلك «سيمكن اليهود المغاربة من التخلص من التبعية للقضاء المخزني والارتباط فقط بالتشريع والمحاكم الفرنسية»[25]. ولم يضع المقيم العام غابريال بيو والمدير الجديد للشؤون السياسية «فيليب بونيفاس» أي عائق أمام الجهود التي كان الصهاينة، وعلى رأسهم س. د. ليفي، يبذلونها من أجل تنظيم الحركة الصهيونية في مجموع التراب المغربي على نحوٍ أكثر منهجية، علمًا أن السلطان هو الوحيد الذي اعترض على تطبيق قوانين فيشي في المغرب. وكرد فعل على التعبئة التي قام بها الصهاينة لاحتكار تمثيلية الجماعات اليهودية المغربية في أتلنتيك سيتي، ذكَّرهم السلطان في عيد العرش يوم (18 تشرين الثاني/نوفمبر 1944) بواجباتهم بوصفهم من جملة رعاياه مثلهم مثل المسلمين. فشلت جميع محاولات التقارب اليهودي – الإسلامي في المغرب رغم الجهود المبذولة المنادية بأن «المغرب للمغاربة أي للمسلمين واليهود». ندد محمد الخلطي[26] بالصهيونية بوصفها «خطرًا عموميًا» و«عنصر فوضى» و«فاشية عنصرية» و«نزعة وطنية شوفينية وغازية» يستخدمها «… رجال أعمال جشعون لإخراج العرب من فلسطين»[27]. ورغم ذلك واصل زعماء كتلة العمل الوطني حث اليهود على «إبعاد كل فكرة وطنية شوفينية لمصلحة القضية المغربية وتوحيد جهودهم مع جهود المسلمين حتى يضمنوا للبلاد المصير الذي يستجيب بكيفية أفضل لتطلعاتهم المشروعة في جو يطبعه السلام والوئام». وأفصحوا بتصرفهم هذا وبإلحاحهم المستمر على «الوحدة الضرورية لكل المغاربة بهدف الحصول على الحقوق من دون تمييز ديني، غير أن النخب اليهودية تجنبت الرد عليهم، بل عدَّ الصهاينة مستقبلهم «فلسطينيًا» وتجاهلوا الدعوة إلى الكفاح المشترك التي كانت كتلة العمل الوطني تدعو إليها «المواطنين اليهود». وردوا على الانتقادات المبنية على «تخليهم عن واجباتهم كمغاربة» وجبنهم تجاه الإقامة العامة، فردَّ عليها صهيونيو الدار البيضاء في صحافتهم قائلين: «إن قضايا السياسة المغربية لا تهمهم سواء بكيفية مباشرة أو غير مباشرة». أما في ما يتعلق بشجاعة اليهود «فإن الأمر لم يعد في حاجة إلى برهان لأن عشرين قرنًا من المعاناة المؤلمة قد طهرت اليهودية من عناصرها الضعيفة التي ذهبت، حتى في المغرب نفسه، لتعزز صفوف غير اليهود[28]. ورفع العلم الصهيوني في طنجة يومي 3 و17 نيسان/أبريل 1934. وأكد وطنيو تطوان أمام تحدٍّ كهذا أنه «لا يوجد في المغرب مكان للصهيونية وإذا كان اليهود يريدون أن يصبحوا أجانب فما عليهم إلا التصريح بذلك». أمام هذا الموقف لجأوا إلى المناورات لتهدئة الوضع ليتمكن القادة الصهاينة من تكثيف دعايتهم وحث إخوانهم في الدين على تقديم المزيد من التبرعات لفائدة «الوطن القومي» في ظرفية طغت عليها أصداء تصاعد الاضطهاد النازي في ألمانيا، بل حثوا الشباب اليهودي على التوجه نحو الفلاحة والصناعة قصد تهيئة الهجرة نحو فلسطين. وفتحت لهذه الغاية مكاتب سرية بكل من الدار البيضاء ومكناس ومراكش، وشددوا على التقاليد الزراعية والرعوية ليهود الأطلس الكبير وعلى جودة «الخمور والكاشير (الحلال) التي ينتجها المعمرون اليهود في المغرب». كما حرصوا على تشغيل شباب أشداء في ضيعات إخوانهم في الدين (بسايس والشاوية والحوز) قصد تعلم الفلاحة والإعداد بكيفية خاصة لـ «الإكثار من الحقول الخضراء في فلسطين بفضل العمل الجبار لرواد ياشوف (الوطن القومي). وتم تكثيف نشاط الفرع المغربي للمنظمة الدولية للمرأة الصهيونية وهي جمعية يوجد مقرها الرئيس بنيويورك، تدعمها السيدة الأولى أليونور روزفيلت. عملت الشعبة المغربية من الدار البيضاء على نشر الأيديولوجيا الصهيونية بين النساء وجمع الهبات على نحو منهجي ومنتظم. وأفضت هذه الجهود ومساعي مسيّري الحركة لدى الإقامة العامة بالرباط والحكومة الفرنسية بباريس إلى عقد مؤتمر صهيوني بالدار البيضاء ضم ممثلين من مناطق المغرب الثلاث وأعطى دفعة قوية للنشاط الصهيوني في البلاد[29]. ولعل هذا دفع علال الفاسي إلى تحذير المستمعين خلال درس ديني ألقاه بالقرويين حول السيرة النبوية عن أدوار الخداع التي قام بها اليهود وعن غدرهم، كما ورد في تقارير الاستعلامات الفرنسية[30]. هذا في الوقت الذي تضمن دفتر «مطالب الشعب المغربي» الذي رفعته الكتلة إلى كل من السلطان والمقيم العام ورئيس مجلس الوزراء الفرنسي بندًا طالب من خلاله زعماؤها «مشاركة المغاربة في ممارسة السلطة في مختلف دواليب الإدارة وفصل السلطات… وإحداث مجلس وطني يتكون من ممثلي المسلمين واليهود المغاربة». كان الصهاينة يستخدمون مختلف الدسائس والأطروحات التي تخدم أهدافهم، وجاء في صحافتهم: إن اليهود المغاربة لا يتطلعون إلى التعمير الفلسطيني… إننا نحب الثقافة الفرنسية لكننا لا نرغب إلا في التحرك والاندماج داخل الحياة المغربية فقط. إن اليهود لا يجدون بدًّا من الاعتراف بالجميل لكل شعب منحهم السلم الأقوى، كما هو الأمر بالنسبة إلى الشعب المغربي»[31]، وشكلت هذه النازلة «محك اختبار» أقطاب الحركة الوطنية[32] تجاه الحركة الصهيونية العدوانية المتصاعدة من جراء تباطؤ الإقامة العامة وسعيها لقمع الحركة الوطنية.

6 – التطبيع الفضيحة المقاومة وطرق المواجهة

السؤال المؤرق هو كيف آلَ مستقبل هذا الماضي الذي تعمدنا تشريحه إلى التحالف الاستراتيجي؟ هل من المعقول أن يؤول مستقبل هذا الماضي الذي اتخذ فيه الكيان من المغرب محطة عبور وسوق استثمار لمصالحه إلى التطبيع المذل، واستقبال الصهاينة، قتلة أطفال فلسطين ونسائها وشبابها، كل أسبوع وانتهاك كل القرارات العربية الداعية إلى مقاطعة العدو الصهيوني؟ وهل يمكن للذاكرة الجماعية للمغرب أن تنسى هدم حي المغاربة وهو وقف من عهد صلاح الدين الأيوبي؟ ما نتائج التطبيع وتفرعاته، وماذا استفاد المغرب منه؟ بعد توقيع اتفاقية أوسلو وأثناء العودة من واشنطن عرج إسحق رابين وشمعون بيريز إلى المغرب للقاء الحسن الثاني وتم فتح مكتب اتصال إسرائيلي عام 1994 ومكتب مواز في تل أبيب وفتح المجال للسياحة في المغرب، ليتم تجميد العلاقات الرسمية في الانتفاضة الثانية عام 2000 مقابل استمرار العلاقات السرية. هكذا تواترت العلاقات بأبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية، وما التوقيع على التطبيع المهين بتاريخ 10 كانون الأول/ديسمبر 2020 سوى استمرار لتلك العلاقات، وهذا ما عبر عنه رسميًا بـ«استئناف» العلاقات. أما قضية الصحراء فهي مفتعلة وليست السبب المحدد للتطبيع، لأنها، كما تؤكد ذلك الوقائع التاريخية والسياسية والقانونية، تعد قضية استرجاع للوحدة الترابية للمملكة وليس تصفية الاستعمار. ويعزى التعاون الأمني بين الطرفين إلى أن توجهات النظامين غربية وعلاقتهما متميزة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية وكلاهما شديد العداء للمد القومي واليساري في الوطن العربي.

علم الشعب المغربي بالتطبيع عبر تغريدة في التويتر للرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب ورد فيها: «إنجاز تاريخي آخر، فقد اتفق اثنان من كبار أصدقائنا، إسرائيل والمغرب على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة»، معلنًا اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية بقوله: «المغرب اعترف بالولايات المتحدة في عام 1777، ومن المناسب أن تعترف بسيادته على الصحراء الغربية»، و«أكد بلاغ الديوان الملكي القرار التاريخي بالسيادة التامة والكاملة على صحرائه وبفتح قنصلية في مدينة الداخلة من أجل تعزيز الفرص الاقتصادية والاستثمارية لفائدة المنطقة، وأن المغرب يدعم «حل الدولتين» ويدعو إلى حماية «الطابع الإسلامي لمدينة القدس الشريف والمسجد الأقصى»، مشيرًا إلى أن زيارة غاريد كوشنر عام  2018 «كانت حاسمة في مختلف القضايا». اختفى الشرطان في الاتفاق الثلاثي بل أشير إلى أهمية القدس بالنسبة إلى الديانات الثلاث من دون ذكر المحافظة على الطابع الإسلامي للمسجد الأقصى ناهيك بمسألة السيادة على القدس. إن ما تضمنه الاتفاق بخصوص القضية الفلسطينية والقدس مريح جدًا للكيان الصهيوني، بمعنى أن سياسات الاستيطان والتهويد والحصار وتعميق الاحتلال والاقتحام المتكرر للأقصى لا تؤثر في تطوير العلاقات مع دول التطبيع؛ علمًا أن ملك المغرب هو رئيس لجنة القدس المنبثقة من المؤتمر الإسلامي، وأن علاقة المجتمع المغربي بالقدس وفلسطين حالة شعبية راسخة وتاريخ عميق تعززه مواقف الأحزاب اليسارية والقومية والإسلامية. وتعود العلاقة المباشرة للمغرب بفلسطين إلى أن الحجاج المغاربة عبر التاريخ كانوا يعرجون على القدس بعد عودتهم من الحجاز، ومشاركة جنود مغاربة في جيش صلاح الدين الأيوبي محررها الذي احتفظ بالجيوش المغربية وأمر بإقامة حي المغاربة في المدينة قائلًا: «أسكنت هناك من يثبتون في البر ويبطشون في البحر وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة».

7 – نتائج التطبيع وإفرازاته

قام التطبيع بناءً على الضغوط والمقايضات الأمريكية والإغراءات الصهيونية، وهو يعكس العلاقات السياسية للأنظمة الحاكمة من دون شعوبها. ادعت الدول المطبعة أنه سياسة لا بد منها بحكم الأمر الواقع وأنها ستدعم القضية الفلسطينية. وقد تجاوز تطبيع دول الخليج مرحلة التطبيع إلى مرحلة التعاون العسكري والاقتصادي بهدف ضرب الوحدة العربية وإغراق الأمة بالحروب والنزاعات الداخلية لتسهيل السيطرة الاستراتيجية للكيان على منطقة الشرق الأوسط برمّته. وهذا ما تحرص عليه الإدارة الأمريكية ومعها الدول الأوروبية التي تجمع على «الحفاظ على التفوق العسكري الاستراتيجي للكيان الصهيوني في المنطقة. أما النظام المغربي فقد امتثل للضغوط الأمريكية والإسرائيلية في خلق علاقات مع الكيان تتعدى درجة التطبيع الأمني والعسكري لتصل إلى حد التحالف الاستراتيجي وتشمل مختلف مستويات التعاون – سياسي اقتصادي رياضي ثقافي فني أكاديمي – على حساب تصفية القضية الفلسطينية والمواقف العربية والإسلامية، والدعم المقنع للفلسطينيين، ألم يلتزم وزير الخارجية للأيباك «بالذهاب إلى أبعد الحدود في التطبيع مع الكيان»![33] جاء في الاتفاقية: «الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية مقابل التطبيع مع الكيان الصهيوني واستخدام المجال الجوي بين البلدين وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية وفتح العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين». ولم يمثل هذا الاعتراف اعترافًا دوليًا بل اعتراف الولايات المتحدة فقط، أما وزارة خارجية الكيان الصهيوني فلم تفصح عن أي موقف رسمي يقر بمغربية الصحراء بل لجأت إلى المراوغة تفاديًا للاعتراف بمغربيتها، ما يفسر كلام الملك محمد السادس في خطاب العرش 20 آب/أغسطس 2022 الداعي إلى ضرورة توضيح إسرائيل لموقفها، مشيرًا إلى «الموقف الضبابي لكل من الشريك التقليدي أي فرنسا، ثم الشريك الجديد إسرائيل، من هذا الملف». فأي مصالح استراتيجية للمغرب مع الكيان سوى منع التضامن العربي من أن يحدث أي نوع من التقارب مع المشرق العربي ومنع الإرادة العربية من التكامل والتماسك واستئصال إرادة التحدي العربية، وتعاظم مخاطر هيمنته على النظام، وتغيير طبيعة الصراع وصيرورته التاريخية، وتجاوز ما يُسمى «التطبيع الاضطراري» بسبب قضية الصحراء المغربية، لأن حلها يتعلق بفتح جسور الحوار الديمقراطي وتصفية الأجواء بين النظامين المغربي والجزائري، لأن توتر العلاقة بينهما يؤثر في مشروع بناء المغرب الكبير الذي تتطلع إليه الشعوب المغاربية.

المستفيد الوحيد من التطبيع وارتفاع وتيرة تبادل الزيارات على مستوى الوزراء والمسؤولين ورجال الأعمال، وتوقيع مجموعة من الاتفاقيات الثنائية المتسارعة وعلى جميع الصعد، هو الكيان الصهيوني. أما المغرب فلن يجني أي آثار إيجابية من التطبيع، فالإدارة الأمريكية مع مقررات الأمم المتحدة أي مع حق تقرير المصير، بينما طورت الاستخبارات والدبلوماسية سياسة عزل المغرب عن محيطه الجغرافي تمهيدًا للمواجهة مع الأشقاء العرب (تونس، موريتانيا، الجزائر). والحال أن تجاوز ما يُسمى «التطبيع الاضطراري» لحل قضية الصحراء الغربية يتعلق بفتح جسور الحوار الديمقراطي وتصفية الأجواء بين النظامين المغربي والجزائري، لأن توتر العلاقة بينهما يؤثر في مشروع بناء المغرب الكبير الذي تتطلع إليه الشعوب المغاربية، إضافة إلى أن التطبيع مع الكيان من الناحية الأخلاقية غير مقبول إطلاقًا، وما تحقق من ورائه على أرض الواقع خسارة للوطن.

8 – تناسل فضائح الكيان الصهيوني وجرائمه

تتعلق الفضيحة الأولى بخروقاته التمثيلية الدبلوماسية للكيان (مكتب الاتصال بالرباط) الرامية إلى تلويث المحيط وتكريس المفاهيم المنتمية إلى الأيديولوجيا المهيمنة. تساوق التطبيع مع ظهور معالم بناء نظام جديد للقيم هدفها التخريب المعنوي وسيادة أهداف مختلفة ومصالح متناقضة لتفكيك الجسد المجتمعي المغربي تجلت في الشذوذ الجنسي، والزواج المثلي، والابتزاز، والتحرش الجنسي لموظفات مغربيات في أماكن العمل والرشى والاستيلاء على هدايا رسمية؛ عناصر تمثل ضربة قوية لعملية التطبيع السياسي بين الطرفين. ونتج من هذا التطور غير المنتظر انقسام واضح، طرف مغربي- إسرائيلي أراد الدفع بالتحقيق وأن تتولاه إسرائيل، بحكم تمتُّع المتهمين بالحصانة الدبلوماسية، حيث لا يمكن للقضاء المغربي استدعاؤهم، بل مطالبة تل أبيب بطردهم فقط، وطرف مغربي- إسرائيلي سعى إلى التستر على هذه الفضيحة إنقاذًا لعملية التطبيع، وهذا التيار هو الذي عمل من أجل التطبيع منذ سنوات. وأن يقع تحرش في مقر العمل، وعنف جنسي وشطط في استخدام السلطة، وانعكاس لعلاقات القوة غير المتكافئة، وانتهاك لحقوق الإنسان، هو حدث مقرف يدل على بداية التطور النوعي الخطير في العلاقات المغربية مع الكيان أساسها الإهانة والإذلال والإساءة للوطن، والتأسيس لتدمير المجتمع المغربي من الداخل بتسخير «مكتب الاتصال» لتحقيق المخططات التدميرية المنصوص عليها في بروتوكولات حكماء صهيون، ومنها نشر الفساد والميوعة لدى الأجيال الناشئة ليسهل عليهم قيادتها. والمؤكد أن توظيف المرأة من صميم فلسفة الكيان الصهيوني وهو من أبرز وسائله المتبعة لبلوغ الهدف وتحقيق الغايات بحسبان النساء والمال والنفوذ من أهم أسلحته، إذ يرى الموساد في النساء أفضل وسيلة للإيقاع بالمستهدفين، بحيث يتم الاعتماد على أجسادهن في تنفيذ المهمات الاستخباراتية التجسسية القذرة. ألم تقل تسيبي ليفني «نعم للقتل والجنس من أجل إسرائيل»، فضلًا عن أن اليهود هم رواد تجارة الجنس والدعارة في السينما والمسرح. والمفارقة الكبرى أن وزارة الخارجية المغربية كانت تروم إبقاء الملف سرًا، غير أن عملية التسريب الاستباقي للإعلام حصلت بهدف التقليل من حدة التهم، لينفلت الملف من أيدي المسربين وكانت نتائجه عكسية. ومن إفرازاته المساس برمزية الدولة (الملك) وفقدان احترام السلطة والثقة بها، واغتراب المثقف، والهدف هو القضاء على التماسك الأيديولوجي لتصبح الأرض رخوة خالية من عنصر المقاومة.

تتعلق الفضيحة الثانية باستهداف العقول إما بجذبها إلى الخارج وإما بتحويلها إلى عناصر مغتربة في الداخل (مكتب الوساطة) للتسجيل للعمل في دولة الكيان في المجالات الحرفية: البناء والترصيص والتبليط والتمريض، برواتب مغرية ببناء مستوطنات للصهاينة وتمريض قطعان المستوطنين بأياد مغربية (سياسة فرق تسد وخلق الكراهية المعتمدة من طرف الكيان وبأخسّ الطرق) أو بتوظيفها ضد مصلحة الوطن الحقيقية (شبكات الدفاع عن الصهيونية وترسب العداوة بين الشعوب وزرع مفهوم الولاء الشعوبي ليختفي ما له علاقة بالولاء القومي بإشاعة شعارات مثل «تازة قبل غزة»).

9 – مآل التطبيع

ماذا بعد مرور عامين كاملين على الذكرى الأليمة للقضية الفلسطينية بتوقيع بعض الدول العربية اتفاقية التطبيع برعاية أمريكية؟ أنتج الفيلسوف جيل دولوز مفهوم المآل (Devenir) ومفهوم الانفلات أو خطوط الانفلات (Lignes de fuite) لتفكيك مفهوم «المستقبل» (L’avenir). فنحن عندما نتساءل عن مستقبل الكيان أو مستقبل الثورة أو مستقبل التطبيع (…) ، فإننا نهمل صيرورة مآلات الكيان أو صيرورة مآلات الثورة أو صيرورة مآلات التطبيع أي نهمل خطوط الانفلات (الحرب الأوكرانية ومفرزاتها، صراع الأقطاب العالمية من أجل مناطق النفوذ…)؛ فالمجتمع يتحدَّد بخطوط انفلاته أكثر مما يتحدد بتناقضاته، فهو ينفلت من كل الجهات. ليست البرامج هي التي تصنع المستقبل، فواقع أي مجتمع من المجتمعات ليس منبثقًا من تطبيق هذا البرنامج أو عدم تطبيق ذاك، بل هو واقع ناتج من صيرورة المآلات المتعددة والمختلفة، ومن خطوط الانفلات التي تتجاوز البرنامج أو المخطط، فنحن لا نَصْنَعُ المستقبل بأيدينا بقدر ما نُصنع فيه. ورغم النجاح الظاهري للتطبيع فهو فشل، وأفشله رد الشعب المناهض للتطبيع والمناصر للقضية الفلسطينية بالرفض والإدانة. تصدر وسم مغاربة ضد التطبيع مواقع التواصل الاجتماعي، والاعتراف الثلاثي بمغربية الصحراء لا يبرر التطبيع مع الكيان الذي يواصل انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني[34]، وعلى حساب القضايا العربية المصيرية. صحيح أن الزيارات متواصلة بين الطرفين آخرها زيارة رئيس الأركان المغربي وتدفق المسؤولين الإسرائيليين بصورة فجة، والزيارات السياحية، وقد سجل حفل زيارة «هيولة» السنوي حضور أزيَد من 2000 مشارك في مدينة الصويرة بتاريخ 19/9/2022، وهو رقم قياسي لكن يبقى التطبيع هشًا ولا يستند إلى قاعدة سياسية واقتصادية واجتماعية. بل لم يعد المجتمع المغربي يقبل المفاهيم ولا المدركات التي تقدم إليه: علق أحد المغاربة على الزيارات المتناسلة: «هل يُفيدون المغرب بجلب الاستثمارات أو تقديم خدمات إلى هذا الوطن أم يفيدون الدول التي قدموا منها، أمريكا والدول الغربية والكيان، ولا يستفيد المغرب إلا من صيحاتهم في المايكروفونات بأنهم يعتزون بأصولهم المغربية؟ المزاج الشعبي المغربي رافض للتطبيع لأنه ينظر إلى الكيان، شأن الشعوب العربية، بوصفه العدو الأول وإلى فلسطين بوصفها قضيته الأولى. والشعوب العربية هي التي ستفشل التطبيع لأنها تملك إرادة الرفض والمقاومة، ومثلما أفسد رجل الشارع بحسه ووعيه عمليات تطبيع العلاقات المصرية – الإسرائيلية في سورية ولبنان وبصفة خاصة الأرض المحتلة لأنه يعلم أن عدوه هو فقط الكيان الصهيوني، الخصم الحقيقي الذي عليه أن ينازله. وسيؤدي العمل المستمر للقوى الرافضة بتحركاتها وفعالياتها ولقاءاتها وكتاباتها وندواتها وشعاراتها كشعارات «هاشتاغ أغلقوا مكتب التطبيع» إلى إفراغه من محتواه. ولن تغيِّر سياسة التطبيع من حقيقة الصراع، بحكم أنها تمثل الأنظمة المطبعة بمنطق القوة بدل المنطق التحاوري مع شعوبها التي يبقى الكيان الصهيوني في نظرها كيانًا عنصريًا استعماريًا استيطانيًا اغتصب أرض فلسطين. ويومًا ستتلاشى الضغوط وتنكشف الإغراءات ويحدث تغيير في الأنظمة السياسية المطبعة. وسيكون مصيره مصير مكتب الاتصال الذي فتح عام 1994 في الرباط وفتح المجال للسياحة في المغرب، ليتم تجميد العلاقات الرسمية في الانتفاضة الثانية عام 2000.

كتب ذات صلة:

مقاومة التطبيع: ثلاثون عاماً من المواجهة

الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي : المخطط الاستعماري للقرن الجديد