المؤلف: ستيفان كوفمان وإنغو شتوتزلي

ترجمة: Alexander Locascio

مراجعة: عثمان عثمانية

الناشر: New York; London: Verso

سنة النشر: 2017

عدد الصفحات: 85

مقدمة

قلما أثار كتاب في الاقتصاد ضجة مثلما فعل كتاب الاقتصادي الفرنسي الشاب توماس بيكيتي، أستاذ مدرسة باريس للاقتصاد الذي يبحث في مجالات المالية والسياسات العامة والموضوعات المرتبطة بهما، الذي تهتم كتاباته خصوصاً بموضوع التفاوت في المداخيل. وقد كان كتابه الضخم رأس المال في القرن الحادي والعشرين نتيجة سنوات من البحث وجمع البيانات حول ظاهرة التفاوت في عدة دول عبر العالم، وما إن نقل إلى اللغة الإنكليزية سنة 2014 حتى أصبح في مدة قصيرة أكثر الكتب مبيعاً، على الرغم من تخصص موضوعه وكبر حجمه.

ومنذ صدور الكتاب تتالت الكتب التي تتحدث عن موضوعه، سواء بالتلخيص والتبسيط أو بالنقد والتصويب‏[1]. ومن بين تلك الكتب مقدمة الكاتبين الألمانيين ستيفان كوفمان‏[2] وإنغو شتوتزلي‏[3] الذي جاء تقديمه على موقع دار النشر البريطانية فيرسو (Verso) كما يلي: «تقدم هذه المقدمة حجة عمل بيكيتي الضخم في صيغة مضغوطة ومفهومة، كما تحقق أيضاً في النقاشات التي أثارها. إضافة إلى توضيح الكاتبين لحدود، وتناقضات وأخطاء ما يسمى «ثورة بيكيتي»‏[4].

قدم الكاتبان ملخصاً وافياً ومراجعة شاملة لكتاب رأس المال في القرن الحادي والعشرين، كما جمعا أهم ما كُتب حوله في الكتابات الأكاديمية الصحافية المتخصصة من مدح ونقد، من أجل الإجابة عن السؤال الأهم: لماذا حظي هذا الكتاب بهذا الاهتمام؟ وما الذي يجعل بيكيتي يتلقى كل هذا المدح والنقد، ويبرز كأحد أهم اقتصاديي القرن الحادي والعشرين؟

وقد جاء هذا الكتاب صغير الحجم في خمسة فصول، تناول الأول منها الهوس بكتاب بيكيتي والمديح الذي تلقاه فور إصدار النسخة الإنكليزية من كتابه، والفصل الثاني تناول تقديماً لموضوع التفاوت وتوضيحاً لأهميته في هذا التوقيت بالتحديد. أما الثالث فخصص لاستعراض كتاب بيكيتي وما جاء فيه، ثم الفصل الرابع تناول تحليـلاً لأسباب الضجة حول الكتاب والانتقادات التي تلقاها، أما الفصل الأخير فجاء فيه تحليل نقدي لعمل بيكيتي من قبل الكاتبين.

أولاً: الهوس ببيكيتي

يذكر الكاتبان في بداية الكتاب أن الاقتصادي توماس بيكيتي نجح في إثبات أن الغني يصبح أغنى، وأن النجاح يؤدي إلى النجاح، أو على الأقل ذلك ما كان ينوي فعله. وبينما لم يكن للنسخة الفرنسية أثر جوهري، أحدث نقل الكتاب إلى اللغة الإنكليزية في آذار/مارس 2014 ضجة هائلة، واحتفل الكثير من الاقتصاديين بالكتاب.

وقد مدح الاقتصادي الألماني بيتر بوفينغر (Peter Bofinger) الذي يدعى بـ «الحكيم الاقتصادي» الكتاب وذكر أن بيكيتي نجح في طرح النقاش اللازم حول مستقبل اقتصاد السوق وجعله في قلب الاهتمام العام. وكانت جولة بيكيتي الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية مشابهة لجولة نجم روك شهير، وقد عرض نتائجه على الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي والطاقم الاستشاري للرئيس الأمريكي باراك أوباما.

طرح الكاتبان في بداية كتابهما سؤالاً جديراً: هناك العديد من الدراسات الميدانية التي بينت التباعد بين الغني والفقير في الدول الصناعية، فإن كان بيكيتي قد كتب حول ما هو معروف ومثبت أصـلاً، فلماذا كل هذه الإثارة؟

ثانياً: إعادة التوزيع، التفاوت وأزمة الدين

إن الاهتمام الذي حظي به بيكيتي يمكن تفسيره بـ «العصر النيوليبرالي»، الذي يشمل إلى جانب أشياء أخرى رفع العبء عن رأس المال من أجل تعزيز الاستثمارات والنمو الاقتصادي، وهذا صار واضحاً بين الدول في صورة منافسة جبائية لجذب الاستثمار.

وبانخفاض الضرائب على رأس المال وانخفاض الأجور، كانت النتائج تزايد التوزيع غير العادل للدخل والثروة، واتسعت الفجوة في الدول الصناعية منذ الثمانينيات. وهذا التطور فسّر على أنه نتيجة للعولمة والتغير التكنولوجي اللذين أعطيا الامتياز للعمال ذوي المهارات العالية، وهذا ضغط على أجور العمال الأقل مهارة. كان يُنظر إلى هذا التفاوت على أنه لا يمكن تفاديه من جهة، وأنه نتيجة للتنافس بين الدول من أجل تعزيز النمو من جهة ثانية.

هذه الشرعنة للتفاوت واجهت صعوبات مع الأزمة المالية والاقتصادية لسنة 2008؛ فهذه الأخيرة أدت إلى ارتفاع كبير في الدين العام للدول، وبخاصة كنتيجة لإنقاذ البنوك المتعثرة. الأمر الذي أدى إلى التوجه نحو تبني سياسات تقشفية، وتالياً انخفاض مهم في الأجور والمنافع الاجتماعية، وإلى جانب كل هذا – في السنوات التي تلت الأزمة – بدأ عدة أكاديميين ومؤسسات مناقشة تنامي الفجوة بين الغني والفقير كسبب للأزمة.

هنا أحسن الكاتبان في توضيح أن المسألة كلها لا تتعلق بعلاج المشاكل التي تتسبب فيها الرأسمالية، بل معالجة أي مشكلة تعارض الرأسمالية. ومنه فالسعي ليس لتحسين حياة الأفراد، إلا إن كان ذلك يؤدي إلى تحسين أداء الرأسمالية، وبالتالي فنحن أمام معضلة أخلاقية حقيقية، تقودنا إلى طرح نفس التساؤل الذي طرحه جياكومو كورنيو‏[5] «هل عفّى الزمن على الرأسمالية؟»

ثالثاً: كتاب رأس المال في القرن الحادي والعشرين

ما الذي يؤثر في حركة الثروة والدخل؟ وفقاً لبيكيتي تميل الثروة إلى التزايد بصورة أسرع من الدخل، وهذا يزيد معدل رأس المال/الدخل، ويرى أن السبب في هذا أن العائد على رأس المال (عادة يتم اختصاره بـ r) من ناحية المتوسط التاريخي أكبر كثيراً من نمو الأداء الاقتصادي أو الدخل (g):

– يعتمد نمو الأداء الاقتصادي/الدخل (g) وفقاً لبيكيتي أساساً على تطور مجتمع العمالة والتقدم التكنولوجي.

– يعتمد معدل نمو الثروة (r) بقوة على المخاطرة التي يتعرض لها استثمار مالكي الثروة. ويتغير معدل نمو r مع شكل الاستثمار ودرجة المضاربة المرتبطة به: كلما كانت المخاطرة عالية، كانت r أكبر. لذلك فإن الاستثمار في الأسهم ذات المخاطرة أو باقي أشكال الأوراق المالية يعود بعوائد أعلى نسبياً من 7 إلى 8 بالمئة، وفي المقابل يقدم العقار عوائد بـ 3 إلى 4 بالمئة فقط. أما الودائع فتدرّ فوائد حالية على النقود لا تكاد تتعدى 2 بالمئة.

وصل بيكيتي إلى نتيجة هي أن العائد على رأس المال السنوي r – على عكس كل التقلبات والاختلافات – يكون متوسطه عند نحو 4 إلى 5 بالمئة في المدى الطويل. معدل النمو طويل المدى للأداء الاقتصادي g، على النقيض، يكون متوسطه عند 1 إلى 2 بالمئة، وبالتالي أقل من العائد على رأس المال. وقد عبر بيكيتي عن هذا بالصيغة r > g. هذا يبين أن النمو القوي للثروة في مقابل الدخل يفاقم خاصية التفاوت في كل المجتمعات، وأولئك الذين يملكون يحصلون على أكثر، والغني يصبح أغنى. وهو يعتقد أن التفاوت المتزايد ليس مصادفة، بل هو مصاحب للتنمية الاقتصادية، ويقول إن هذه الحالة ليست في النظام الرأسمالي فقط، لكن في باقي الأنماط الاقتصادية أيضاً. ومع ذلك، لم يرغب بيكيتي في أن يفهم هذا التشخيص المتعلق بتزايد التفاوت كدعوة إلى صراع الطبقات: «لأكون واضحاً هدفي هنا ليس دعوة العمال ضد الملّاك، لكن الحصول على نظرة أكثر وضوحاً للواقع»‏[6].

رابعاً: الضجيج والنقد

لماذا أحدث الكتاب مثل هذا الإحساس بينما نُشر حديثاً العديد من الدراسات والكتب والنصوص التي يسهل الوصول إليها؟

من بين المظاهر التي تفسر هذه الضجة، يمكن ذكر ما يلي:

– ما توصل إليه بيكيتي يُعَد استفزازياً، لأنه إن كان صحيحاً فهو يتطلب اتخاذ إجراءات سياسية. وما اقترحه بيكيتي بخصوص السياسة الجبائية يرغب الساسة في تجنبه، لذلك كان هناك نقاش واسع حوله وحول طروحاته.

– نقد بيكيتي للرأسمالية كان نقداً بناء، ولم ترتفع طلباته السياسية إلى حد التغيير الجذري للنظام، بل كانت محدودة في بعض التعديلات على النظام الجبائي، التي من شأنها جعل الرأسمالية أكثر استقراراً.

ويرى الكاتبان أن هناك أسباباً أخرى للنجاح المدهش الذي حققه بيكيتي غير «التوقيت المناسب»، «الكاريزما الشخصية» للكاتب، و»الصيغة العالمية» سهلة الفهم (ص 42).

ومثلما لاقى بيكيتي اعترافاً عالمياً بأهمية عمله، فقد تعرض للكثير من الانتقادات في الكثير من جوانب عمله الثوري. ويرى الكاتبان أنه هاجم في تحليله أسس الأيديولوجيا النيوليبرالية، وهي أن السوق هي مكان محايد حيث يمكن أي شخص مبدئياً البحث وإيجاد السعادة، وأن الاختلافات في الدخل والثروة مرحب بها ما دامت تحفز الأفراد على إنجاز الأعمال، وأن تلك الاختلافات شرعية ما دامت تعكس مستويات مختلفة من أداء أو تفضيلات الأفراد في السوق.

لكن ستيفن بريسمان (Steven Pressman) كان أكثر تحديداً من كوفمان وشتوتزلي في تحديد الانتقادات التي وجهت إلى عمل بيكيتي، والتي جمعها تحت أربع مجموعات: الانتقادات التي وجهت إلى بيكيتي من اليمين؛ الانتقادات التي أتت من اليسار؛ المراجعون الذين باركوا الكتاب، والمراجعون الذين يتضح أنهم لم يقرأوا الكتاب‏[7].


ما الذي يمكن فعله بكتاب رأس المال؟

في الفصل الأخير من الكتاب قدم الكاتبان تقييماً نقدياً لكتاب بيكيتي، وتناولا ما حققه وما لم يحقق، حيث يرى الكاتبان أن بيكيتي نجح في طرح النقاش المناسب حول موضوع التفاوت وجعله في أعلى أجندة الساسة والأكاديميين، وحتى الطبقات البرجوازية التي منحت نفسها لحظة للتفكير في الموضوع.

لكن الكاتبين أهملا أهم ما توصل إليه بيكيتي، وهو أن دخل رأس المال المتزايد (وليس دخل العمل) هو ما يحرك التزايد في التفاوت، وهذا مختلف عن كل النظريات الاقتصادية وأعلى منها تطبيقياً‏[8].

خاتمة

يتضح مما سبق أن الكاتبين بذلا جهداً كبيراً في جمع الانتقادات التي وجهت للكتاب، والتي ظهرت في جرائد ومجلات مختلفة ومتفرقة، ولم يكتفيا بعرضها فقط، بل بذلا جهداً أيضاً في جمع الردود التي وُجهت إلى تلك الانتقادات من جانب اقتصاديين وكتاب آخرين. وهذا ما ميز هذا الكتاب عن أعمال أخرى سابقة كتبت حول كتاب بيكيتي مثل كتاب Anti-Piketty أو Piketty, au piquet!، التي هاجمته من دون إعطاء أي أهمية لجوانبه الإيجابية.

لكن الكاتبين لخصا ملاحظاتهما حول الكتاب في نظرة بيكيتي للرأسمالية، ولم يبذلا جهداً واضحاً في انتقاد الأفكار الأساسية حول التفاوت والأرقام التي قدمها، مثل تلك المتعلقة بالثروة. كما أنهما لم يذكرا ما أجاد في فعله، ولم يستطيعا توضيح أهمية الكتاب ونتائجه.

ويبقى الكتاب كنسخة مضغوطة تشرح أهم ما جاء في كتاب رأس المال في القرن الحادي والعشرين لتوماس بيكيتي وما دار حوله من نقاش، لكن لا يمكن عَدُّه كافياً لتحقيق ذلك.