مقدمة

تهتم هذه الورقة بتقديم دراسة نقدية لنماذج التنمية الاقتصادية والتغيرات المرافقة لها التي عرفتها المجتمعات المعاصرة منذ قيام ما اصطُلِح على تسميته الثورة الصناعية. النمط الذي ظل سائدًا منذ ذلك الحين هو النظام الرأسمالي الذي يُقَدم القيم الفردية على القيم المجتمعية ويُمجّد المُلكية الخاصة للموارد الأساسية التي يعتمد المجتمع عليها في إنتاج ضروريات الحياة وضمان استمراريته. هذا النظام القائم على استغلال الإنسان والطبيعة أدى، في نسخته النيوليبرالية، إلى كوارث وأزمات انفجرت بصورة متزامنة وأضرّت بالاقتصاد والمجتمع والبيئة. النتيجة الطبيعية بحسب منطق النظام وحركِيّــته هي تمركُز الثروة والسلطة بين أيادي أقلية قليلة تحتكر قوةَ صنعِ السياسات الاقتصادية والاجتماعية على مستوى الكرة الأرضية وتفرض الفقر‏[1] والبطالة عبر سُبلٍ تنتهك كرامة الناس ولا تكترث لتدمير البيئة والمناخ‏[2]. بعد حقبة دامت ثلاثمئة سنة أو يزيد، نحن اليوم مطالبون بتقييم تجربتنا مع هذا النظام. لماذا؟ لأننا نرصد قدوم نظام جديد يرتكز الاقتصاد فيه على منظومة تكنو – اجتماعية مختلفة قد يتوافر فيها إمكان تغيير المبادئ الأساسية التي بُنِيّ النظام عليها. السؤال الذي يهمنا هنا هو كيف يمكن رصد عملية التحوُّل من نمط معين (بارادايم) إلى نمط آخر؟ كيف يمكن خلق نموذج تكنو – اقتصادي جديد يستجيب لمتطلباتنا الآنية في العيش الكريم والعدالة الاجتماعية؟

لا يمكن فهم عملية التحول هذه أو شرحها بالاعتماد على حقل معرفي واحد، لأنها عملية معقدة تتشابك فيها عدة عوامل تشمل البيئة والاقتصاد ونوع التكنولوجيا والقيم الاجتماعية، وهو ما يستدعي تضافر جهود علماء البيئة والاقتصاد والاجتماع والمؤرخين وغيرهم من الخبراء في عدة مجالات. فَهْمُ التحولات الاجتماعية هَمٌّ يحمله علماء الاجتماع منذ نشأة هذا الحقل المعرفي‏[3]. لكن، الدراسات المعاصرة صاغت مفاهيم مهمة جدًا تُمكننا من تحليل عمليات التحول من منظومة إلى أخرى وتساعدنا على فهم هذه التحولات على أنها عمليات إعادة بناء للتكوينات الاجتماعية – التقنية. فَفي العلوم الاقتصادية، مثلًا، توجد مدرسة تعطي اهتمامًا كبيرًا لكل ما هو تقاني (تكنولوجي) أو صناعي وتحاول فهم تطور المجتمعات من خلال التكنولوجيات المستعمَلة في كل حقبة زمنية من تاريخها‏[4]. من منظور هذه المدرسة، تتكون المجتمعات وتأخذ طابعها المميّز نتيجةَ تلاحمٍ معيَّن بين التقانات السائدة مع النماذج الاقتصادية والترتيبات الخاصة بهذه النماذج والتي تفرضها المؤسسات المجتمعية. هذه الترتيبات هي التي تمثل أنماط الإنتاج والتوزيع والاستهلاك الخاصة وتفرز تكوينات مجتمعية متمايزة في المكان والزمان‏[5]. تجدر الإشارة هنا إلى أن العلّامة الكبير ابن خلدون كان سبّاقًا في وضع الأسس العامة لهذا المنهج، إذ تحدث مطولًا عن أهمية استخدام الآلات والأدوات (التقانة بالتعبير الحديث) في العمليات الإنتاجية (الصناعة والحرف) وتأثير ذلك في تطور المجتمعات. توصل ابن خلدون إلى هذه الخلاصة من خلال ملاحظته أن العمران البشري (والتطور الحضاري) يمر بعدة مراحل، وأن المجتمعات تنتقل من البداوة إلى الحضارة، وأن هذا الانتقال مرتبط بتطور أساليب الحياة والإنتاج التي تعكس مستوى التقدم الحضاري (بما فيه التقني).

من هذا المنظور، يمكن قراءة تاريخ المجتمعات كحِقب متعاقبة تتميز كل واحدة منها بمستوى تقدمها التكنولوجي. وبالفعل، لم تكتسب مسألة التخلف الصناعي معنى إلا بعدما بدأت آثار الثورة الصناعية تَظهر في صورة منتجات وابتكار طرائق جديدة أدى استهلاكها واستخدامها إلى تحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة في البلدان الأوروبية، وفي ما عرف لاحقًا بـ «الغرب». وازداد الاهتمام بالتطور التكنولوجي بصورة كبيرة عندما أثبتت هذه الاكتشافات فائدتها الكبيرة في إنشاء ما سمّاه شومبيتر‏[6] «التكتلات»، التي تؤدي – بحكم طبيعتها – إلى مزيد من الاكتشافات والابتكارات، وهو ما سمح بتقدم أسرع على طريق التصنيع. وكانت النتيجة العامة لهذه الطفرة التكنولوجية هي حدوث تحسن في الرخاء المادي ومستويات المعيشة للسكان المحليين بحلول نهاية القرن التاسع عشر؛ وأدى ذلك إلى تباين واضح بين البلدان التي أصبحت متقدمة صناعيًا وتلك التي بقيت متخلفة عن الركب.

على الرغم من أن البلدان الأوروبية كانت تتنافس دائمًا في ما بينها من حيث الإنجازات التكنولوجية طوال تاريخها الحديث كقوى إمبريالية (صناعة السفن الحربية مثلًا)، فإن مستوى التباين أصبح مقلقًا، بوجه خاص في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث أصبح التخلف الصناعي يعني، على نحوٍ متزايد، خطر التعرض للغزوات الأجنبية والوهن في الحروب. في عشرينيات القرن العشرين، مثلًا، شرعت روسيا ومن بعدها الاتحاد السوفياتي في مشروع تصنيع عملاق لإحباط أي اجتياح محتمل من ألمانيا من خلال بناء جيش قوي وزيادة قدراتها الصناعية واكتفائها الذاتي. وبعد مدة وجيزة من انتصار الثورة الشيوعية، بدأت جمهورية الصين الشعبية عام 1953 في تنفيذ سياسة صناعية تلخصت في سلسلة من الخطط الخمسية التي حددت وتيرة التصنيع واتجاه المسار التكنولوجي. وعلى الرغم من وجود انتقادات مستنكرة للتجربة الصينية على نطاق واسع فإن هذه التجربة في تحويل البلاد من اقتصاد زراعي إلى واحد من أكثر الاقتصادات تقدمًا، صناعيًا وتكنولوجيًا، والأكثر حداثة في غضون أربعة عقود فقط، كانت نجاحًا هائلًا لا يمكن وصفه إلا بأنه قفزة كبيرة فعلًا إلى الأمام على طريق التنمية الاقتصادية التكنولوجية. تعطي هذه النظرة معنًى أكثر دقة لمصطلح «الحداثة» الذي ظل غامضًا ومَرِنًا جدًا منذ بداية تداوله في الوطن العربي.

أحد أهم الدروس المستفادة من التجربة الصينية هو أن البلدان المتأخرة في المجال الصناعي لا تحتاج إلى اتباع المسار نفسه الذي اتبعته البلدان الأوروبية، وأنه من الممكن تخطي المراحل والقفز للحاق بركب البلدان المتقدمة باستخدام نوع مختلف ومتجدِّد من التكنولوجيا. وهو ما يمثل ضربة للمخطط الذي كانت فرضته القوى الاستعمارية حين قسمت العالم إلى مجموعة من البلدان الصناعية القوية المتخصصة في إنتاج المنتجات المصنعة وتصديرها من جهة، وبقية البلدان التي كانت زراعية في الأساس وأقل تصنيعًا، من جهة أخرى. وقد حاول مروّجو الأفكار الإمبريالية تبرير هذا التقسيم الدولي للعمل، كما كان يُطلق عليه، وظلوا يدَّعون أنه يستند إلى أسباب اقتصادية بحتة تتلخص في الميزة النسبية التي يكتسبها كل بلد (انظر نظرية ريكاردو). والواقع يشهد أن الهدف المنشود، كان ولا يزال، هو إبقاء هذه البلدان في حالة تخلف صناعي دائم بحيث إنهم ظلوا يُصدرون الكاكاو ويستوردون الشوكولاتة، وها هم اليوم يصدرون الليثيوم ويستوردون البطاريات. وقد فضحت التجربة الصينية هذه الأكذوبة ونسفت هذه العقيدة التي سعى الإمبرياليون إلى غرسها في أذهان صانعي السياسات في البلدان الأقل تصنيعًا.

إذا كان من السهل نسبيًا تخطي المراحل والقفز مباشرة إلى إنتاج التكنولوجيا المتقدمة في صناعة معينة، وربما حتى خلق بعض جيوب كفاءة تكنولوجية داخل البلد، فإن ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى التنمية الاقتصادية ولا إلى تغيير طبيعة النظام (انظر حالة بوركينا فاسو وصناعة السيارات الكهربائية). لذلك، نوصي بأنه من الأفضل تصميم استراتيجية شاملة ومتماسكة من شأنها أن تُحدث تحولًا جذريًا يضمن انتقال البلد نحو مستويات أعلى من التنمية. بناءً على ما سبق، أقسم هذه الورقة إلى جزأين رئيسين. يركز الجزء الأول على ضرورة اعتماد سياسة تصنيع وطنية مبنية على استراتيجية واضحة تأخذ فيها الدولة زمام الأمور؛ والجزء الثاني يتطرّق إلى دراسة العوامل الدولية التي تعيق، أو تمنع، نجاح السياسات التصنيعية الوطنية، ومن ثمّ تقدّم الدراسة مقترحات من أجل إصلاحات هيكلية في النظام التجاري والمالي الدولي على رأسها: (أ) تحسين شروط التبادل بالنسبة إلى البلدان النامية؛ (ب) عبر استخدام عملة احتياطي دولية؛ (ج) إنشاء غرفة مقاصة دولية لهذا الغرض؛ (د) اعتماد العملات الوطنية المحلية في كل المبادلات التجارية والمالية بين البلدان المنخرطة في هذا النظام الجديد بحيث يزيل العوائق المالية الحالية ويسَهّل اقتناء التكنولوجيا العالية. وأعطي ملخصًا للأطروحات الرئيسية مع بعض التعليقات في الجزء الأخير من الدراسة.

لقراءة الورقة كاملة يمكنكم اقتناء العدد 561 (ورقي او الكتروني) عبر هذا الرابط:

مجلة المستقبل العربي العدد 561 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 561 في تشرين الثاني/نوفمبر 2025.

حسن بوكرين: أستاذ في الاقتصاد والمالية، جامعة لورينتيان – كندا.

[1](*) في الأصل أوراق هذا الملف قدمت إلى مؤتمر المجلس العربي للعلوم الاجتماعية السابع بعنوان: الدمار والخيال والمعرفة: منعطفات إقليميّة وأصداء عالميّة الذي انعقد في بيروت بتاريخ 15 – 18 أيار/مايو 2025.

وفق أحدث إحصاءات البنك الدولي، هناك على الأقل 44 بالمئة من سكان العالم يعيشون في حالة فقر. ويعترف البنك الدولي بأن عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من 6.85 دولار لليوم لم يكد يتغير منذ تسعينيات القرن الماضي، ويلقي باللوم في ذلك، من دون خجل، على النمو السكاني. انظر: Poverty, Prosperity, and Planet Report 2024: Pathways Out of the Polycrisis (Washington, DC: The World Bank, 2024), p. xxiii, <doi:10.1596/978-1-4648-2123-3>.

وفي المقابل، تشير كل المعطيات الى أن أغنى 1 بالمئة من سكان العالم يمتلكون نحو 43 بالمئة من صافي الثروة في العالم، وتنطبق هذه الصورة على مستوى البلدان أيضًا: <https://wid.world/world/#shweal_p99p100_z/WO/last/eu/k/p/yearly/s/false/41.789500000000004/44/curve/false/country>.

[2] تشمل هذه السبل افتعال حروب لا تنتهي، في مناطق معينة، الهدف منها هو القتل وتدمير الحضارات العريقة من أجل إخضاع الآخر وتسهيل سرقة موارده الطبيعية، ونشر وترسيخ الثقافة الإمبريالية. الوطن العربي، على امتداد جغرافيته من المغرب إلى المشرق، نال أكثر من نصيبه من هذه الحروب. ففي فلسطين، وفي غزة بالتحديد، أظهر الإمبرياليون أنهم مستعدون لارتكاب أبشع إبادة جماعية في تاريخ الإنسانية لضمان بقاء سلطتهم دون منازع.

[3] انظر: أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة العلامة ابن خلدون (بيروت: المطبعة الأدبية، 1879)،          <https://archive.org/details/ar120vieux152/mode/2up>.

[4] Carlota Perez and Luc I. Soete, «Catching Up in Technology: Entry Barriers and Windows of Opportunity,» in: Giovanni Dosi [et al.], eds., Technical Change and Economic Theory (London: Pinter, 1988), pp. 458–479, Carlota Perez, Technological Revolutions and Financial Capital: The Dynamics of Bubbles and Golden Ages (Cheltenham: Edward Elgar, 2002), and Carlota Perez, «Technological Revolutions, Paradigm Shifts and Socio-institutional Change,» in: Erik S. Reinert, ed., Globalization, Economic Development and Inequality: An Alternative Perspective (Cheltenham: Edward Elgar, 2004), pp. 217–242, and Frank W. Geels, Technological Transitions and System Innovations: A Co-Evolutionary and Socio-Technical Analysis (Cheltenham: Edward Elgar, 2005).

[5] اعتمد العلماء والمؤرخون في تصنيفهم لعصور ما قبل التاريخ، على استعمال الإنسان البدائي للأدوات الحجرية ومن ثم الانتقال الى الأدوات البرونزية والحديدية ليخلصوا إلى نظام العصور الثلاثة: العصر الحجري، العصر البرونزي ثم العصر الحديدي. وهذا بالضبط هو المنهاج الذي يتبعه التحليل القائم على مفهوم «التشكيلات التكنو – اجتماعية».

[6] Joseph A. Schumpeter, The Theory of Economic Development (New York: Oxford University Press, [1911] 1961).


حسن بوكرين

■ حائز شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة أوتاوا (كندا). ■ أستاذ في جامعة لورانشن منذ عام 1988، حيث يشغل منصب عميد قسم الاقتصاد فيها، وكان مديراً للمعهد الدولي للسياسات الاقتصادية من عام 2008 إلى عام 2010 فى الجامعة نفسها. ■ أستاذ زائر للكثير من الجامعات في أمريكا اللاتينية وأوروبا وأفريقيا. ■ خلال التسعينيات من القرن الماضي كان مستشاراً لمنظمات دولية، مثل الوكالة الكندية للتنمية الدولية، والمركز الدولي للأبحاث التنموية. ■ له عدد من الكتب والدراسات العلمية وبخاصة في مجالات المالية والسياسات الاقتصادية.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز