يتابع علي القادري في هذا الحوار تحليله النقدي

 لآليات الاستغلال والنهب الاقتصادي والهدر البيئي والحياتي والهيمنة السياسية والعسكرية

 للنظام الإمبريالي في العالم واستمرار نهبه لجنوب العالم والقوى العاملة في بلدانه.

 ويتناول القادري موقع حرب الإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة في نظام الهيمنة

 الإمبريالية ويبحث عن موقع الطبقة العاملة واليسار في بلدان المركز

 الإمبريالي في هذا التناقض والصراع مع الإمبريالية.

 

  • يوافق يوم 15 يناير 1919 ذكرى اغتيال روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت. هل لروزا لوكسمبورغ أو للشيوعيين الألمان أي معنى بالنسبة للحركات أو الأحزاب الشيوعية العالمية اليوم؟
  • ما لا شك فيه أن لأممية لوكسمبورغ ثقلًا نحتاج إليه اليوم لتوجيه عمل الطبقة العاملة. إن تأكيدها على الدوافع المركزية لرأس المال لدمج الأسواق الجديدة في الجنوب وعلى النزعة العسكرية كمجال للتراكم، ما تزال تخبرنا بأن قوانين رأس المال ستزداد زخمًا ما لم تمسك القوى الثورية بزمام التاريخ. كان استشهاد روزا لوكسمبورج وكارل ليبكنخت بمنزلة شهادة على أمميتهما التي لا تتزعزع. أما بالنسبة للشيوعيين الألمان، فإن نضالهم ضد الفاشية يشكل أيضًا درسًا في الالتزام بقضية التحرر. وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفياتي قلل من فرص العدوان الإمبريالي في العالم الثالث، من خلال المساعدات العسكرية المباشرة وغيرها من المساعدات للعالم النامي، أو بسبب ثقله في العلاقات الدولية، إلا أن شيوعيي جمهورية ألمانيا الديمقراطية كانوا رائدين في رسم السياسات الطليعية المناهضة للإمبريالية. إن تاريخ النضال هذا لا يخلو من المعنى؛ ومع ذلك، فإن تفكك الاتحاد السوفياتي وأزمة الأيديولوجية الشيوعية التي أعقبت ذلك وضعت الشيوعية في موقف المراجعة وتفحص الذات. إن مراجعة الممارسة الاشتراكية التي تتمحور حول مصلحة الطبقة العاملة، لا المراجعة التي تقوّض النظرية الاشتراكية لصالح رأس المال، هي محاولة مرحب بها لتتبع الواقع المتغير الذي يفشل الفكر في اللحاق به. إن القصور في التطبيق ناتج من قصور في التنظير، وبخاصة في سبر غور اللحظة التاريخية أو تقييم موازين القوى، بما في ذلك القوى الأيديولوجية؛ فقطعًا لا تستهدف الممارسةُ أسسَ رأس المال مقرونة بالمساومة على الأسس النظرية تخلق دورة تسابق نحو الأسفل.

أدت حالة الهزيمة الاشتراكية منذ ذلك الحين إلى تفاقم ظاهرة الهدر العالمية. أعني بذلك أن عدد البشر الذين أُهدِرت حياتهم قبل أوانها ومستوى التلوث في يومنا هذا يفوقان كل الثروة السلعية المفيدة المعروضة.

لقد باتت جليةً طبيعة رأس المال كعلاقة دفعت أنشطتها الكوكب إلى ما بعد نقطة اللاعودة. يتعرض المجتمع العالمي للقمع ويجبر على دفع ثمن الهدر واستهلاكه. تقول النظرية المسلم بها إن السلع ذات القيمة الاستخدامية تباع بعد أن تُنتَزَع من منتجيها الاجتماعيين. وبما أن كومة السلع الضارة، أو منتجات الهدر، أكبر كثيرًا من كومة السلع المفيدة أو الصالحة، فإن منتجات الهدر تنتزع أيضًا من المنتجين الاجتماعيين وتباع مرة أخرى لهم. إن مصطلح علاقة القيمة يشي بشيء إيجابي وذي قيمة استخدامية. لذلك، فإن استبدال علاقات القيمة بعلاقات الهدر هو أقرب إلى الحقائق ويقدم معنى أكبر.

ما يحدث هو أن الضرر الاجتماعي والبيئي الذي تنتجه الطبقة العاملة يُسلب منها ومن ثم يباع لها وتستهلكه. وبهذا تنتقل السلعية أو حكم السلعة من سلعة ذات فائدة إلى سلعة هدرية ذات ضرر.

لكن رأس المال لا يقوم فقط بنقل تكاليفه الاجتماعية والطبيعية إلى الخارج، ومن ثم يستدخلها أو يبيعها مرة أخرى للمجتمع. إن أي عملية إنتاج تحتاج إلى عملية إنتاج أولية تُهدر فيها البيئة وحيوات المجتمع. في سلسلة الإنتاج يبقى الهدر الحلقة الأولى في الإنتاج، وهو يلازم كذلك عملية إعادة إنتاج المجتمع في كل مراحل الإنتاج. هذا التسلسل أو التقدم التدريجي في الزمن الرسمي الذي تقول به النظرية السائدة هو أمر مضلل؛ فرأس المال، يبيع ما يَهدُر من حياة الناس ومن البيئة في كل لحظات سيرورته. يركز التنظير السائد على التدهور الطبيعي الأخير فقط الذي يجبر رأسُ المال مجتمعاتنا على استهلاكه ودفع ثمنه. لكن رأس المال لا يركز على الطريقة التي أهدر بها منذ ولادته قسمًا كبيرًا من أعمار الناس عبر حروبه وأنشطته التجارية والاستغلالية الفائقة. مع تحوُّل علاقات الإنتاج من الإنتاج من أجل الاستخدام إلى الإنتاج من أجل التبادل، كانت المنتجات الأولى لرأس المال هي في الأساس ضحاياه المستعمَرين، الذين هم أيضًا، كبشر، جزء من الطبيعة، والذين كان موتهم المبكر بمنزلة سلعة تباع بثمن. لا يُخرج رأس المال الهدر ليستدخله. أي أن الشركات الكبرى لا تنتج التلوث ثم تختزنه لتبيعه لاحقاً كما فعلت مع التلوث البيئي. فهي لوثت ثم استحوذت على التلوث وباعته. التسلسل في النظرية السائدة حالة افتراضية، في الواقع يبيع رأس المال ما لوَّث في الماضي وما سيلوِّث في المستقبل. أي أن عملية الهدر هذه كانت دائماً في صلب عملية الإنتاج ومسلعه ومسعره كذلك. لقد أنتج الهدر ولوّث في آن واحد، وهو بذلك لا يتماثل مع النظرية السائدة التي تتكلم فقط عن البيئة وتغفل هدر الإنسان؛ إن إهدار حياة الإنسان وبيعها لطالما كانت أمرًا مستدخلًا فيه منذ البداية. يمكن عكس فكرة “الاستدخال من أجل الإخراج”، فتصبح ذا صلة أكبر بالحقائق، حيث إن الهدر هو الأولي. إن زمن التاريخ متقاطع أو سببي بشكل دائري، واختيار ما هو أولي في الكل الاجتماعي منوط بسلَّم القيم الطبقي؛ فالزمن الاجتماعي غالبًا ما يكون طوَّاعًا للزمن المجّرد، أي زمن رأس المال؛ فلرأس المال زمنه، وهو ذلك الوقت الذي يُقلَّص فيه العمل الاجتماعي الضروري من أجل الربحية. وللطبقة العاملة زمنُها إذا ما تمكنت من بلوغ السلطة. وفي زمنها هذا تلغي تحكُّم الزمن المجرّد بالملموس، وهذه نقطة البداية في إعادة إنتاج المجتمع.

وعلى النقيض من منتجات التلوث، فإن منتجات الحرب، أي الهدر الخالص الذي تنتجه العسكرة، تباع بثمن منذ بداية الرأسمالية. إن أخذ التدمير الأخير للطبيعة في الحسبان في علاقات التبادل، التدمير المستمر منذ قرون للبشر في الجنوب العالمي، هو موقف محمّل بالتحيز. رغم أن القنبلة هي أنقى سلعة هدر تقاس إنتاجيتها بعدد الشخوص المقتولين، فإن جميع السلع تقريبًا تشتمل الآن على عنصر التلوث والحياة المهدورة قبل الأوان، الذي يباع مقابل الربح. كل سلعة هي في جزء منها قنبلة. لم يعد من المُرضي لرأس المال أن يدمج الاقتصادات الطرفية التي يستطيع أن يشتري ويبيع معها سلعًا صالحة أو مفيدة جزئيًا؛ فهناك أرباح يمكن جنيها من تدمير الدول الطرفية. لقد تبين أن إنتاج الحياة والطبيعة المدمرتين أهم للأرباح من بيع سلع الاستخدام اليومي. خلال دورة إعادة الإنتاج الاجتماعي، أي في إعادة الإنتاج الاجتماعي بوصفها مختلفة عن الإنتاج الاجتماعي لمرة واحدة، هناك من العمل الاجتماعي المستهلك في إنتاج الطبيعة المدمرة والموت المبكر للناس أكثر مما هو مستهلك في سواه. ومن نافل القول إن منظومة الأسعار لفئة مختلفة عن فئة القيمة. فالقيمة بشكلها النقدي غرضها محو القيمة الحقيقية أو تلك المجسدة بالسلعة أو العمل الاجتماعي الضروري. فمن الممكن مثلاً أن يعمل المجتمع على إنتاج سلعة ملوثة أو قاتلة وأن يضع ساعات من العمل في إنتاج هذه السلعة وأن يستهلك هذه السلع المضرة ويدفع ثمنها.

يسحق رأس المال، كعلاقة فاعلة، الجماهيرَ دافعًا إياها إلى الخضوع. بمجرد هزيمة الجماهير أو استدخالها للهزيمة، فإن تدمير الطبيعة الاجتماعية وبيعها يعزز مكانة رأس المال على قمة هرم الإنتاج الاجتماعي – الكل الاجتماعي. إن الطبيعة الاجتماعية هي وحدة الإنسان والطبيعة، حيث يكون الإنسان هو الفاعل في المادة، أي الطبيعة. إن خلق الطلب على الهدر، وبخاصة المنتجات العسكرية، هو أكثر فائدة لرأس المال من خلق الطلب عبر طبقة عاملة عالمية أفضل أجرًا وتعليمًا إلا في المركز حيث البنية الاجتماعية ككل تراكم بالعسكرة. تاريخيًا، كان استقلاب الطبيعة الاجتماعية عبر الإنتاج بوتيرة أعلى، أي تقليل تكلفة الظروف المعيشية للعمل على مديات حياة أقصر، يستهلك المزيد من العمل الحي ويقلل تكلفة إعادة الإنتاج الاجتماعي، وهو ما يترك المزيد لرأس المال في العمل الفائض. ومن الناحية المنطقية، فإن قناة التراكم الأخيرة، أي ارتفاع الأجور العالمية والطلب الفعّال، تقلِّل حصة الأرباح وتعيد تمكين العمل ضد رأس المال، بحيث تصبح الاشتراكية النهاية المنطقية للرأسمالية فلنسلِّم فَرَضًا أن لرأس المال مصلحةً في رفع الأجور كي يزيد معدل النمو، بما في ذلك معدل الأرباح. لكن معدل الأرباح لا يتكاثر إلا بالاستغلال وباضطهاد الطبقة العاملة. إذًا عندما ترتفع الأجور لتزيد النمو فهذا يعني أن الإنتاجية الإضافية كلها تذهب لمصلحة القوى العاملة، وهذا يعني بدوره أن الأرباح تختفي. وللتوضيح، لا يتغير منسوب الأرباح بتغير الفارق بين التكاليف والإيرادات. هذه المعادلة ترمز إلى الأرباح فقط ولا تمثِّل سببها، فسبب الأرباح هو الاضطهاد/الاستغلال الذي ينتزع من الطبقة العاملة سلطتها كي يخفض التكاليف على نحوٍ تنازلي. حتى إن كينز وصل إلى هذه النقطة.

إن الطبيعة المريضة عبر تأثيرات الطقس والجفاف تعمل كآلة تنتج الموت المبكر، وإن كان ذلك على حساب المجتمع. الأمراض الجديدة هي سلع إضافية يتم التربح منها. كما أن الطبيعة المريضة تسرّع تفكك العمل – فهي تتصرف مثل التراكم البدائي وتحول العمل الخاص إلى عمل اجتماعي محروم في وسائلَ الإنتاج. فهي تحمّل على الناس ضريبة المرض وتقلل من التكلفة الاجتماعية لإعادة إنتاج العمالة عن طريق تقصير الأعمار. إنها تقلل حرفيًا من جودة الحياة وطول العمر. وفي العصر المالي أو النقدي، فإنها تزيد من تكثيف المكان والزمان، أو نوعية الحياة وطولها، وفقًا لمتطلبات معدل الدوران المرتفع لرأس المال النقدي. إن أرباح رأس المال التمويلي تتسرع من ذاتها، المال يجني المال، بمعدلات سريعة من دون مراعاة ظروف الإنتاج الحقيقية. ترتبط أدوات الائتمان مثل بعض السندات الأمريكية بعوائد إيجابية ويمكن استردادها أو تسييلها في أي وقت. فالائتمان هو في المقابل دين، ورهن الدين هو إنتاجية المجتمع المستقبلية. وكلما زاد تواتر وحجم الائتمان الصادر، أجبر المجتمع على الخضوع لمعدل أعلى من الاستغلال لتلبية العائدات المستقبلية حيث العائدات هي الرهن. لقد افترض لينين أن ارتفاع إصدار الديون من جانب القوى الإمبريالية يؤشر إلى الاتجاه إلى الحرب. خلال دورة إعادة الإنتاج الاجتماعي، وعلى نحوٍ مختلف عن الإنتاج لمرة واحدة، فإن معدل الاستغلال الأعلى لا يمثل سوى نوعية حياة أقصر وأقل مقارنة بما يمكن أن تقدمه وفرة العلوم والتكنولوجيا في حينه. في عملية الإنتاج، يتـمثَّل فائض القيمة بالساعات المستلبة من العامل في يوم عمل ما. أما في إعادة الإنتاج، فإن فائض القيمة يشتد بمقدار خفض مستويات الحياة والأعمار على مدى الدورة الحياتية للمجتمع.

وعلى مدى دورة حياة أو متوسط عمر أقصر نسبة إلى الإمكانيات، فإن تكلفة إعادة إنتاج المجتمع تصبح أقل، وهذا يعني ترك المزيد من العمل الفائض والمتراكم للمجتمع يذهب إلى رأس المال. ليس هذا فحسب، بل إن عملية إفقار المجتمع بالتقشف أو بالنزعة العسكرية أو بالتدهور الطبيعي تصبح صناعة في حد ذاتها؛ صناعة يزداد فائض القيمة قوة فيها بمقدار إهدار رأس المال للمجتمع. يوظّف رأس المال الناس لشن الحرب والتلويث، بينما يدفع الناس ثمن الحرب والتلوث والأمراض التي يصابون بها. لم يكن من الممكن تصور هذه الأنشطة المبذّرة، التي تشكل جوهر الإنتاج، في أواخر القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين. اليوم يمثل الهدر، أي كل ما دُمِّر من بشر وبيئة، الظاهرة التي تحتاج إلى تفسير؛ فاذا قلنا إن العلاقة الرأسمالية الأولى، أي القيمة، هي التي تحكّمت في حقبة التاريخ الرأسمالية، وإن هذه العلاقة بتحريرها قوى الإنتاج كانت تقدمية، أي أننا في وضع أفضل مما كنا عليه، فنحن لسنا بذلك، مقارنة بما يمكن أن نكون عليه. الوضع كارثي. إذًا في علاقة القيمة هذه، وقد كان الهدر من صلبها منذ بدايتها. في الواقع، لا يمكن للرأسمالية اليوم أن تعمل من دون الهدر. علاوة على ذلك، بما أن القيمة تتحقق في أشكالها السلعية، وبما أن شكلها السلعي هو التبذير الهائل، فإن الأمر يتطلب إعادة التفكير في الرأسمالية بوصفها مرحلة تقدمية متجاوزة للبربرية. إن السؤال المطروح في بداية القرن الماضي، “البربرية أو الاشتراكية”، لم يعد ذا موضوع، لأن التفريق بين علاقات القيمة والهدر يعني أن القيمة كانت بالضرورة منذ بدايتها الأولى إهدارًا تمثل بالإبادة الجماعية للسكان الأصليين، ولا تزال كذلك حتى اليوم. مقارنة بالإمكانيات التي يمكن أن تحققها، لم تكن الرأسمالية تقدمية على الإطلاق، وذلك نتيجة مباشرة لتراجع العمال في الصراع الطبقي. طبعًا إذا أخذنا في الحسبان الكمَّ الهائلَ من الدمار البيئي والاجتماعي، والميل إلى كوكب غير قادر على إعادة إنتاج الحياة، تغدو الرأسمالية رجعية مطلقة.

  • في نيسان/أبريل 1915، بعد مرور عام على الحرب العالمية الأولى، كتبت روزا لوكسمبورغ في “أزمة الديمقراطية الاجتماعية” واصفة المجتمع البرجوازي الألماني بأنه: “دنس، مخزِ، غارق في الدماء، يقطر قذارة – هكذا يقف المجتمع البرجوازي، هكذا هو. عندما يدعي الثقافة والفلسفة والأخلاق والنظام والسلام وسيادة القانون – كوحش هائج، أو محفل للفوضى، أو وباء على الثقافة والإنسانية – فإنه لا يظهر نفسه في شكله الحقيقي العاري”. “غارق في الدماء، وحش هائج” – يبدو كما لو أنها تكتب عن غزة اليوم؟
  • في الآونة الأخيرة، أخذ العدوان المتزايد للإمبريالية في الجنوب يزيد من دمج الجنوب في موقع مجرد بلدان مستعبدة تنتج بتحللها و/أو تحويلها إلى مستودع لاستنزاف الموارد. إن سلسلة البلدان المدمّرة في الشرق الأوسط وأفريقيا ماثلة للعيان. في المقابل، تضخمت النزعة العسكرية حتى انعتقت من قيود الإنفاق العسكري، لتضم النظام الاجتماعي برمته في الشمال. لقد أصبحت البنية الاجتماعية للشمال صرحًا عسكريًا، إذ لا يتم توجيه الإنفاق على المجمعات العسكرية الصناعية وحده ونحو تعزيز جانب القدرة الاجتماعية الذي يعزز النزعة العسكرية، بل يتم توجيهه كذلك إلى الإنفاق على إنتاج المعرفة والرعاية الاجتماعية. في هيكل عالمي مقسم لمستويين، حيث ينهب الشمال الجنوب، فإن هدف الإنفاق الاجتماعي في الشمال هو إنشاء جنود أو شخوص أفضل وأكثر صحة يدعمون الحرب الإمبريالية.

علينا ألا ننسى أن الحرب الإمبريالية أصبحت أكثر فأكثر الوسيلة الأساسية لحل تناقضات الرأسمالية في زمن الاحتكار والأمولة. هذه هي النقطة الرئيسية في تحليل لينين للإمبريالية. ونظرًا إلى ظاهرة الهدر، فإننا نعلم يقينًا أن رأس المال يُسلِّع جميع أوجه الحياة، مثل المياه، والقمامة، وحتى حياة الإنسان. مع إهدار الكثير من الأرواح، وموت الناس قبل أوانهم، وإنتاج الطبيعة المهدرة، وتسليعها، وتسعيرها، وكذلك بيعها لتحقيق الأرباح وفق دورة حياة السوق الخاصة بها، تطورت العسكرة التي تحدثت عنه لوكسمبورغ كمجال للتراكم لتصبح المجال الأساسي للنظام الرأسمالي بأكمله. وفي حين افترضت لوكسمبورج أن رأس المال يصطدم بحده الأقصى عندما يتكامل مع العالم، لم يكن أحد يتخيل أن النظام الرأسمالي يمكن أن يبدأ بجني الأموال من تفكك الطبيعة الاجتماعية بذاتها. كما ذكرت، الطبيعة الاجتماعية هي الطبيعة المتوحدة مع الإنسان حيث يكون الإنسان الاجتماعي المشتق من الطبقة الاجتماعية الذات أو الفاعل في الطبيعة. إن تدمير الحياة والطبيعة، وبخاصة من خلال الحرب، أصبح يمثل غاية في حد ذاته. لا ترتفع الأرباح فقط نتيجة الموارد المستخدمة أو التي تم الاستيلاء عليها في الحرب أو من خلالها، ولكن أرباح العسكرة ترتفع أيضًا مع تدمير الطبيعة الاجتماعية في الحرب التي تباع بثمن في وقت أو آخر. تنتج الحرب أناسًا وطبيعة ميتين قبل الأوان، وهؤلاء يتم بيعهم، أو على الأقل، سيكون لهم ثمن وسيرتبطون بنظام التبادل والأسعار في وقت أو آخر، أي هم يتحققون في التبادل في وقت ما، لذا هم تحقيق لعلاقة القيمة التي لا تتبلور إلا في ظل الحقبة الرأسمالية.

يتطلب إنتاج السلع اليومية أيضًا مزيدًا من اضطهاد العمال مصحوبًا بمزيد من التلوث. إن السلع اليومية، تمامًا كسلع العسكرة، هي جزئيًا قنبلة تؤدي إلى تفاقم سوء حالة الحياة الاجتماعية. في نظام اجتماعي شديد الاضطراب أو التبذير، ترتفع الأرباح بينما يدفع المجتمع التكاليف الطبيعية والاجتماعية الحالية والمستقبلية التي خلقها رأس المال. فعندما يغيب العمال سياسيًا، فإن كل سلعة ستحتوي على المزيد من الهدر على حساب المجتمع. من الناحية النظرية، يلقي رأس المال تكاليف الإنتاج على عاتق المجتمع لتقليل تكاليفه وزيادة الأرباح. الجديد هنا هو أنه بينما يسيطر الهدر على الحياة الاجتماعية، يكون الموت المبكر للإنسان والطبيعة منتجات إضافية إما تباع وإما تكون مخصصة للبيع. إن هزيمة الطبقة العاملة العالمية تتحول إلى عملية من الالتهام الذاتي أو الاستهلاك الذاتي المسرف. حتى الآن، ولإعادة تأكيد ما هو واضح، هناك المزيد من النفايات المخزنة في هيئة تلوث وموت المبكر للبشر أكثر من كل الثروة المفيدة التي تم إنشاؤها في ظل الرأسمالية. إن الحضارة الغربية، أي حضارة رأس المال ممثلةً بإنجازاتها الروحية والمادية، تتجلى في نحو مليار قتيل في الحروب الاستعمارية والإمبريالية منذ عام 1500 وكوكب تضرر على نحو لا يمكن إصلاحه. ليس هناك ما يدعو إلى التفاخر في الحضارة الغربية، بل كل ما فيها يدعو إلى الخجل.

في كثير من الأحيان، تُقدَّم التفسيرات السياسية، كما هي الحال في أنماط الحكم الديمقراطية الشمالية، حول مدى جودة حياة الناس في العالم النامي مقارنة بالعالم المتقدم، كنتائج وأسباب للتخلف من دون الأخذ في الحسبان التاريخ السياسي للتنمية. في نظام مهيكل سياسيًا حيث يعيش الشمال على تخلف الجنوب، تمثل النماذج الديمقراطية للحكم الإجماع المطلوب في الشمال لتقاسم غنيمة الإمبريالية بين مختلف دوائر رأس المال، بما فيها الطبقة العاملة البيضاء التي تشكل حلقة من حلقات رأس المال. تاريخيًا، لطالما كانت الديمقراطية الاجتماعية في الشمال إمبريالية تمامًا مثل نظيرتها المحافظة. التفسيرات الأخرى للتخلف، مثل أخلاقيات العمل والتقاليد والفولكلور، تخدم أيضًا غرض عزو ثروة الشمال إلى عمالة الشمال، لا إلى الاستعمار. قد يكون هذا صحيحًا فقط إذا حسبنا أن الحروب الاستعمارية هي عمليات إنتاج اجتماعية تتطلب وقت عمل اجتماعي ضروريًا لإنتاج القيمة، فعندها يمكن القول إن ثروة الشمال هي حقًا نتاج القوى العاملة في الشمال المنخرطة في حروب عدوانية مستمرة ضد الجنوب. والقتل والدمار منتج غربي كذلك يسوق بسعر ما. ومع ذلك، فإن الثقافة، عند اختزالها في التقاليد، تصبح اسمًا آخر للتفوق العرقي خلال الحرب الأيديولوجية لرأس المال ضد العمال. وعلى وجه الخصوص، تم استهداف البلدان الإسلامية، على الرغم من كونها أممًا بروليتارية، بشدة كونها دونية ثقافيًا. لكن الثقافة هي مخزن المعرفة الإنسانية ولا يمكن اختزالها في التقاليد القومية. بناء على ذلك، لا يوجد ما يسمى الصدام الثقافي بين الحضارات؛ هناك حضارات العمال ورأس المال المتداخلة، التي يجب أن تتخذ أشكالًا ثقافية مختلفة في الصراع الطبقي.

إن الحضارة الغربية في جوهرها هي ثقافة إعادة الإنتاج عن طريق القتل الممنهج للطبيعة الاجتماعية من أجل الربح. ومن حيث المقاييس، فإن الفجوة في متوسط العمر المتوقع ونوعيته مقارنة بالإمكانيات القائمة بين الشمال والجنوب ربما تكون المقياس المناسب الوحيد لمعدل فائض القيمة، الذي يمثل الأساس الاجتماعي لمعدل الربح. مبنية على تقليل تكلفة إعادة الإنتاج الاجتماعي وعلى نحو متصل، فإن الأشكال الاجتماعية الأكثر تقدمًا للرأسمالية، وهي المرحلة التاريخية التي تحكمها العلاقة الرأسمالية، ليست ألمانيا أو الدنمارك مع اتحاداتهما الائتمانية العديدة هي التي تمول المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي يضفي نموها بعض الرفاهية؛ إن الرأسمالية الأكثر تقدمًا موجودة بالأحرى في أكثر المناطق التي دمرتها الحرب في العالم والتي تعد هزيمتها وتدميرها عملًا من أعمال الاستغلال الذي يعيد تأكيد قوة الناتو أو المثال الأكثر وضوحًا لقوة رأس المال. رأس المال بحكم تعريفه هو علاقة تنمو من خلال المصادرة العنيفة للثروة المنتجة اجتماعيًا. إن شبكة السلطة المولدة إمبرياليًا هي قوة الطبقة الرأسمالية التي تصادر ملكية العالم الثالث والتي تستمد منها ألمانيا حصتها من الثروة المولدة للإمبريالية. ويفهم دعاة الحرب مثل هذه العلاقات أكثر من بعض الماركسيين. يقول توني بلير في مقابلة تتعلق بصعود الصين إنه إذا خسرت الولايات المتحدة أمام الصين، فإن المملكة المتحدة ستخسر أيضًا لأن الناس في المملكة المتحدة يستمدون حصتهم من هيكل السلطة الذي تقوده الولايات المتحدة. ففي نهاية المطاف، فإن سلطة الطبقة الرأسمالية، أو أولوية السياسة، هي التي تضمن معدلات أعلى من الاستغلال، ومعدلات ربح أعلى عبر وساطة البنية الفوقية. باختصار، يدرك رأس المال أنه يجب أن يكون قويًا أولًا كي يربح لاحقًا.

وبناءً على ذلك، يجب النظر إلى الحرب على غزة من منظور توطيد القوة الإمبريالية في منطقة استراتيجية. إن تاريخ استعمار فلسطين كله هو تاريخ اعتداء على الجماهير الآسيوية وفصلها عن الجماهير الأفريقية، وترك الغنائم لأوروبا. هناك الكثير من المقولات التي طرح فيها هرتزل وجابوتنسكي فكرة أن الدولة اليهودية ستدفع الحضارة الغربية المتفوقة قدمًا، وأنها يجب أن تكون دائمًا في حالة حرب لإخضاع الجماهير العربية. إذا استحضرنا ليبكنخت، فإن عملية الحرب ذاتها كانت ولا تزال الصناعة الكبرى لرأس المال. فالعدوان الإسرائيلي، الذي يشكل في حد ذاته خطوة أولية في تراكم رأس المال العالمي، أي أنه يساهم في التراكم بوساطة العسكرة على نطاق عالمي، لن يتوقف. بل على العكس من ذلك، يجب أن يرتفع العدوان الإسرائيلي دائمًا لرفع قوة الطبقة الرأسمالية العالمية التي تفرض الاستغلال لتحقيق أرباح أعلى. إن الدمار الذي لحق بإفريقيا والعالم العربي يعود في جزء كبير منه إلى القوة العسكرية الأكبر لإسرائيل، وحروبها وتهديداتها بالحرب، التي تحوَّل الموارد بعيدًا من التنمية وتترك هذه المناطق عرضة للسيطرة. ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تُهزم جميع الجماهير العربية أو الأفريقية وتجبَر على الاستسلام، لأن النضال ضد الإمبريالية الصهيونية هو صراع طبقي ووجودي في آن. اعنى بالوجودي الصراع من أجل البقاء لاستعادة بضع سنوات أخرى من الحياة الكريمة، وهو ما لا يمكن أن يأتي إلا عبر سيادة الجماهير والتنمية السيادية.

إن فكرة إمكان وجود سلام أو عالم غير ملوث، في حين ينمو رأس المال عن طريق الحرب وعن طريق إلقاء التكاليف الاجتماعية للإنتاج على عاتق المجتمع، هي فكرة مثيرة للسخرية. وعلى نحو مماثل فإن فكرة أن الفلسطينيين سوف ينسون وطنهم القومي في فلسطين هي أيضًا فكرة سخيفة، حيث يتعين على إسرائيل أن تعتدي عليهم دائمًا، وكأنها تذهب للعمل في مصنع لإنتاج المزيد من السيارات للبيع كل صباحـ يتعين على إسرائيل أن تعتدي عليهم بانتظام مماثل. إسرائيل هي اقتصاد حرب، واقتصاد الحرب هو أصل رأس المال في مقابل الاقتصاد غير الحربي. الحرب هي السند العقلاني والتاريخي للتراكم وحجر الأساس في أي تراكم غير حربي. ومن دون الحرب لا يمكن أن تكون هناك أرباح لأن معدل استغلال الحرب، واستهلاكها للعمل الاجتماعي في مُدد حياة أقصر، وإن كان ذلك في اقتصاد عالمي متكامل، يمثل الحد الأدنى من ضروريات إعادة إنتاج العمالة (فهو يخصص للعمال أجورًا تمثل حصة صغيرة من إجمالي الناتج لأن الحرب تنهي الحياة بسرعة). تحدد الحرب الحد الأدنى من وقت العمل الضروري اجتماعيًا الذي يجب على جميع الصناعات الأخرى اتباعه إذا أرادت أن تحقق مستوى ربح أعلى من المتوسط. كما أنها تعيد معايرة موازين القوى في عالم مقسم إلى شريحتين، وهو ما يضمن أن الشريحة العليا تستهلك الشريحة حيوات الدنيا حرب الوجود هي الحرب من أجل استكمال وجود المجتمع في حياة أطول وأفضل.

من حيث إعادة الإنتاج الاجتماعي على نطاق عالمي، فإن العالم كله عبارة عن مصنع، والمجتمع العالمي كله ينتج كمجتمع واحد أو كقوة عمل اجتماعي واحدة. إن الجزء من المجتمع العالمي الذي يهلك قبل الأوان من جراء الحرب أو البؤس يكلف أقل على مدى عمره الأقصر ويترك لرأس المال المزيد من الثروة المولّدة. ما لم يلاحظ هو أن الحرب تحول جثث الموتى إلى سلعة. فلهذه الجثث قيمة نظرًا إلى أنه تم بذل جهد لإنتاج الموتى. إنهم النتاج المسعّر للحرب أو لمؤسسات رأس المال التي تروج للتقشف. فالإمبريالية لا تدفع لطيار F16 ليطلق النار على كوخ ولا يتسبب في مقتل شخوص تتراكم أسعارهم لتشكّل الريع المالي للحرب. إن الموت المبكر للإنسان والطبيعة هما سلعتان، وعلى هذا النحو يتم تحديد أسعار لهما، ضمنيًا أو صريحًا، وهما إما مندمجان في السوق ومحققان/مباعان أو ينتظران التحقق في وقت ما في المستقبل. في مثل هذه العملية، يتم استخراج الطبيعة بطرائق مدمرة، ولكن بما أن الإنسان والطبيعة متحدان، فإن تدمير الطبيعة يجب أن يتم لتقويض الإنسان كذات اجتماعية. وفي نهاية المطاف، فإن الإنسان/العامل هو الذي يتفاوض على الأسعار، وليس الطبيعة أو الأشجار الميتة. تستهدف الحرب العامل لعرقلة إمكانياته، أو لوقف صعوده لقيادة إعادة الإنتاج الاجتماعي.

وفي نظام استقلابي اجتماعي ينمو من خلال إهدار البشر، ساهمت إسرائيل وحلفاؤها الغربيون في مقتل نحو 4 ملايين شخص في الحرب على الإرهاب. إن إحصاء النتائج الجانبية للقوة الإمبريالية الناشئة عن الحرب ضد العرب على نطاق عالمي في الوفيات الناجمة عن الإبادة الجماعية الهيكلية (الوفيات المبكرة بسبب البؤس) من شأنه أن يضيف عشرات الملايين إلى هذا الرقم. ولهذا السبب فإن نضال الفلسطينيين من أجل العودة إلى وطنهم يحمل أهمية أكبر للصراع الطبقي العالمي من المناطق الأخرى: لأن إسرائيل، مثل تايوان، هي واحدة من اثنتين من القواعد العسكرية الإمبريالية الرئيسية. وفي حالة إسرائيل: فإن تفكيك مثل هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني يعني تفكيك ثقل الاستعمار الاستيطاني، الذي لا يمثل أيديولوجية إسرائيل فحسب، بل يمثل المنطق المهيمن أيضًا الذي يحكم الولايات المتحدة وأوروبا. إن التدمير من أجل الإبداع في الإنتاج يظل أمرًا طبيعيًا إلى الحد الذي يصبح فيه الإنتاج إحياءً للتدمير. إن الاستعمار الاستيطاني هو بالضبط الأيديولوجية التي تحولت إلى ممارسة التي تدمر أكثر كثيرًا مما هو مطلوب للحفاظ على نظام اجتماعي سليم. فعمليات الإبادة الجماعية التي ترتكبها تعزز القيمة التاريخية الفائضة، أو ثقل التاريخ، الثقيل بما يكفي لإجبار الناس على الاصطفاف تلقائيًا في انتظار إهدارهم، من دون التشكيك في الوضع الراهن. على سبيل المثال، على الرغم من أن ديون المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، تعني إخضاع الطبقات العاملة أولًا لسرقة منتجاتها لاحقًا، فإن الكثيرين حول العالم يعتقدون أنه يجب خدمة هذه الديون بأي ثمن يتحملونه، ويلتزمون على نحو أعمى بسياسات المقرضين عندما نقدر الدولة الإمبريالية إصدار النقد أو الاستدانة رهانًا بهيمنتها فهي لا تمد الاعتمادات إلى الدول النامية من أجل كسب الفوائد القليلة على الدين فقط، أنما تفعل ذلك من أجل تفكيك المجتمعات وإضعافها بحيث تصبح كل موارد البلد المديون عرضه للنهب والهدر. وهذا أهم كثيرًا من خدمة الديون. يبقى الغرض الرئيسي هو هزيمة الشعوب. وعلى هذا النحو، فإن النضال من أجل تحرير فلسطين هو بالضبط اصطفاف البروليتاريا العالمية لقلب ثقل التاريخ، أي هذه القدرة المتراكمة لرأس المال التي تجعل الناس يفعلون ما يريده رأس المال بالضبط، حتى عندما يمتنع رأس المال عن مطالبتهم بذلك.

إن الاستعمار الاستيطاني بوصفه أيديولوجية المركز يتفكك نتيجة الضغط الخارجي، أي نتيجة التحول في ميزان القوى ضد الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة، لا نتيجة ضغط الأقلية التقدمية المحتجة في المركز. إن النضال من أجل فلسطين هو موجّه رئيسي للقوة، ينسجم مع ضرورات الصراع الطبقي العالمي. إن فكرة اعتماد الفلسطينيين على هوية وتاريخ إسلاميَّين أو عربيَّين في النضال، هي فكرة حتمية، إذ لا توجد طبقة مستقلة عن ذاكرتها ورموزها الثقافية. وفي حركة التحرير الوطني التي تتناغم مع مناهضة الإمبريالية، يجب على جميع القوى أن تتضافر في النضال من أجل الأرض. ومع ذلك، فإن الانتصار على الإمبريالية الصهيونية سيؤدي، من خلال الارتداد الجدلي، إلى هزيمة رموز القوة والهويات التي خلقها رأس المال لتقسيم الطبقة العاملة. تفرض الإمبريالية الهويات المجزِّئة للطبقة العاملة، في حين ما يؤدي تراجعها إلى إسقاط الهويات الرمزية التي أقامتها لتعزيز سلطاتها.

  • في مقدمة كتابك الأخير “تراكم الهدر”، كتبت أن “الحرب الإمبريالية على وجه الخصوص، وهي أنقى أشكال النفايات، يُنظر إليها على أنها نشاط يخلق القيمة”، “منتجه القابل للبيع هو الموت المبكر للعمال”. إن الطبقات آكلة لحوم البشر (في الشمال) تستهلك الجماهير المتآكلة في الجنوب. أنت تصف “الوحش الهائج”، كما قالت لوكسمبورغ. لكن تحليلك جاء بعد أكثر من 100 عام. ما الذي تغير، أو بالأحرى، ما الذي بات أشد وضوحًا عما كان عليه قبل 100 عام؟
  • الحرب، كما أشار ماركس، هي هدر تام. تستثمر الأمم في الآلات والشخوص والمعرفة التي تتخلص منها أو تدمرها. في الحرب، كما هي الحال في أي نشاط ملوث يعتدي على الطبيعة الاجتماعية، هناك جنود مأجورون يعملون بآلات تنتج حياة مهدرة، تنتهي قبل وقتها المحدد تاريخيًا. وقد يكون من المفيد أيضًا أن نشير إلى أن الوقت هو أمر نوعي، وأن ما يمكن المرء أن يعيشه الآن ليس هو الوقت نفسه الذي كان يمكن أن يعيشه قبل ألف عام، بالنظر إلى قوى الإنتاج والتقدم العلمي. وبالتالي، فإن القول بأن الرأسمالية تسمح للناس بالعيش لمدة أطول مما كانت تعيشه في العصور السابقة هو أمر خادع، لأن الناس في العصور السابقة كانوا يعيشون تحت وطأة الجوع والمرض، في حين أن إمكانية الحياة الجيدة الآن كبيرة، ومع ذلك فإن الجماهير تموت قبل متوسط طول العمر الذي يمكن تحقيقه بسبب الجوع والمرض.

الحروب هي حجر الزاوية في نظام الإنتاج الرأسمالي. إن توأم التراكم عن طريق الحرب هو الطبقة العاملة الغربية المندمجة مع رأس المال، فهي تجسيد لرأس المال، تمتد أذرعه إلى الجنوب، ويفترس الجنوبيين. إن استهلاك الشمال الذي يطيل الحياة هناك يقوم على استهلاك الحياة في الجنوب قبل أوانها. إن إمكانيات هذه الطبقة العاملة الشمالية هي إمكانيات رأس المال، أو الفاشية. لذا، فإنها لا يمكن أن تصبح ثورية إلّا عن طريق الانتحار الطبقي. في نظام أكل لحوم البشر الطبقي، يكون الكوكب أسوأ حالًا لأنه يستهلك تلقائيًا عن طريق الإفراط في استهلاك/إهدار الطبيعة الاجتماعية لتحقيق أرباح أعلى؛ ومع ذلك، في مثل هذا النظام القائم على الربح، تتنامى الطبقات الغربية وملحقاتها عن طريق الحروب والتقشف ضد الجنوب. إن اتحادهم مجرد بنك استثماري آخر، أو بالأحرى، وعيهم المستمد من الاتحادات منفصل عن الممارسة الاشتراكية، كما تحدث لينين في كتابه “ما العمل؟”. بذلك، تبنت هذه الطبقات العاملة، البيضاء بشكل أساسي، دينامية رأس المال أو منطق السلعة كقائدة للتاريخ، الذي يتمثل بالقيام بأي شيء من أجل الأرباح، بغض النظر عن التكاليف الاجتماعية. تمامًا مثل الرأسماليين، يصبح مسار السلع من أجل الربح هو المسار التاريخي للطبقة البيضاء ومحدد إمكانياتها – يُستخدم البياض هنا كوصف أيديولوجي للشخوص البيض، بوجه خاص ولكن ليس حصريًا، الذين ولدوا في هيكل القوى التي تتكاثر عبر الإمبريالية. في الشكل البنيوي، تتجلى الطبقة البيضاء في مؤسسة السلطة التي تشكل البعد المنظم لرأس المال؛ بعبارة أخرى، تتشكل هذه الطبقة من الشخوص الملتزمين برأس المال عبر تجسيدهم لسبب وجود رأس المال. فرأس المال ليس فكرة فقط، رأس المال ممثل بشخوص يقومون بالعمل لإعادة إنتاج علاقة رأس المال على نحوٍ أقوى.

على صعيد ذي صلة، قد يقول البعض إن الافتقار إلى النظرية أو التنظيم الثوري هو أمر يمكن أن يوصف حالة الطبقة العاملة في الشمال تمامًا كما هي الحال في الجنوب؛ ومع ذلك، فإن الشكل الاجتماعي الرئيسي للتنظيم الطبقي، الدولة، لا يمكن فصله عن الطبقة، والدولة هي بوتقة السلطة وهي من يحدد ترتيبات التوزيع بحسب الطبقة. ومع ذلك، هناك تكتلات من الدول الإمبريالية لا يمكن لطبقاتها العاملة أن تصبح بروليتاريا، أي الطبقات العاملة التي تتبنى أيديولوجية ثورية لتحقيق إمكانيات ثورية، لأن القيام بذلك يعني الاعتداء على دولهم الإمبريالية التي ينخرطون معها في عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي نفسها من خلال الإمبريالية. تظهر هذه الطبقات كطبقات مأجورة فحسب، بينما هي في الواقع جيوش مجسدة للإمبريالية. إن القول بأنهم عمالة مأجورة ومن المحتمل أن يصبحوا عمّالًا كفاعل في التاريخ، ليس حجة صحيحة. وهذا ليس فقط لأن الرأسماليين يعملون ويأجرون أنفسهم أيضًا، ولكن لأن رأس المال أيضًا لا يمكن أن يوجد كعلاقة اجتماعية ميتافيزيقية من دون وجود هيئة سياسية فعلية تنفذ ولايتها. على أية حال، ليست الطاقة الحركية التي يتم صرفها في العمل من أجل الحصول على دخل نقدي هي محدد الطبقة الاجتماعية في ظل الرأسمالية. على مر العصور، يجب على الإنسان، أي الذات، أن يعمل في الطبيعة، أي الموضوع، من أجل البقاء. العمل الملموس أو المجسد كوني الطابع لكن في ظل الرأسمالية، فإن الإمبريالية هي الذات الإنتاجية التي تترجم إلى دخل أعلى من خلال وساطة بنى القوة الفوقية لرأس المال. تمنع الإمبريالية التنمية في الجنوب، وهو ما يجعل ازدهار العلم والإنتاجية ممكنًا فقط في الشمال. على هذا النحو، تعمل الطبقة المأجورة الشمالية على تحسين أحوالها من خلال استغلال الجنوب. إنها تجمع حصتها من الريع الإمبريالي عن طريق رفع وتيرة الاستغلال من الاستغلال الفائق أو التجاري إلى الاستغلال عن طريق إهدار إنسان الجنوب على نحوٍ كامل أي الاستغلال الهدري. ومع علاقات الإنتاج القائمة على الإنتاج من أجل التبادل بدلًا من الإنتاج من أجل الاستخدام الاجتماعي، فإن التناقض الرئيسي، أي تناقض العمل الرأسمالي، يصبح تناقضًا بين الأعضاء المشخصنين في الطبقة الرأسمالية الموسعة، أي العمال البيض المأجورين في الشمال الذين يشكلون جيوش هذه الطبقة والأشكال الاجتماعية للتنظيم التي تدعم الإمبريالية، ضد جماهير الجنوب التي تموت قبل الأوان. الأساس الاجتماعي لوعي الطبقة العاملة البيضاء المؤيد للإمبريالية هو إعادة إنتاجها الاجتماعي المبني على العدوان الإمبريالي. ليست حصتها الأعلى من الدخل المحققة في الشمال هي التي تؤكد أو تلغي فكرة أن الطبقات العاملة البيض جزء لا يتجزأ من رأس المال. إن الحصص المقدمة بالأسعار النقدية هي مقاييس إحصائية قد يمنحها الأقوياء أهمية أو لا، بناء على كيفية عمل شكل المال كصنم لاستنزاف المزيد من القيمة من الجنوب. بالتالي، فإن ممارسة الإمبريالية نفسها هي التي تشكل لبنة بناء نظام إنتاج رأس المال وإعادة الإنتاج الاجتماعي. وبدون القصف أو فرض التقشف على الجنوب، لن تكون هناك عمالة حية تنطفئ في سن مبكرة، مقارنة بإمكانيات العصر في الإنتاج الاجتماعي العالمي، من أجل ترك الكثير من فائض العمل لرأس المال.

في الواقع، دافعت الطبقات العاملة البيض في الشمال عن الإمبريالية إلى حد أنها أضرت نفسها في الحرب العالمية الأولى، وهي تدافع عن الإمبريالية التي تهدر الناس والطبيعة في الجنوب مما يضرها الآن، إذ إنها ردّت الكوكب كله إلى حالة لا يمكن إصلاحها. وبالنظر إلى الأمثلة الحديثة، فإن حقيقة انخراط الطبقة العاملة الأوروبية في حرب بالوكالة ضد روسيا في حين تتسبب مثل هذه الحرب في خضوع أوروبا للركود تعني ضمنًا أنها تتصرف تمامًا مثل رأس المال: فهي تعطي الأولوية للسياسة والسلطة التي تترتب عليها لتحقيق مكاسب اقتصادية لاحقة للهيمنة السياسية. مثل رأس المال، تقول هذه الطبقة العاملة لنفسها: “سوف نعاني قليلاً”، ولكن من الأفضل لألمانيا/أوروبا أن تكون أكثر قوة ضد بقية العالم، لأن دخلنا المستقبلي يعتمد على هذه القوة. مثل هذه الأولوية للسياسة، ومسار العمل الذي اتبعته الدول القوية تاريخيًا التي تجلس على قمة النظام الهرمي الرأسمالي وتنهب العالم الثالث، لا يؤدي إلا إلى إعادة تحصين العلاقة الرأسمالية على امتداد العالم والتي يستمد منها ريع رأس المال الإمبريالي وطبقته المجسدة في الشمال.

من الناحية المنطقية، هذا لا يعني أنه لمجرد اتخاذ الأحداث هذا المسار، أو بسبب حدوث ثورات ناجحة في الشرق وليس في الغرب، يمكن للمرء أن يصل إلى تعريف الطبقة العاملة الشمالية المأجورة بوصفها توأمًا لرأس المال. بعبارة أخرى، فكون الأشياء جرت على هذا النحو ليس هو سبب كونها على هذا النحو لا غيره. إن السبب الذي يجعل الاحتمالية (المصادفة) تتطابق مع الضرورة في هذه الحالة هو أننا نتعامل مع شكل أو مخلوق اجتماعي واحد، وهو رأس المال المتشابك مع جيشه المأجور، الذي يتكاثر عن طريق الاستغلال التجاري أو الاستعبادي واستغلال الهدر في الجنوب، وهذا معناه أن الطبقة العاملة الغربية هي تجسيد لرأس المال، وهي ليست بطبقة مأجورة له تكون شكلاً من أشكال رأس المال يمكن أن تخلعه يومًا ما بفعل الممارسة الثورية. قد يكون بين رأس المال وجيشه المأجور خلافات حول تقاسم الحصص من أرباح الإمبريالية، على سبيل المثال، بين مالكي رأس المال والمديرين والطبقة العاملة التي تتكاثر وجوديًا كرأس مال، أو العمال الذين تكون إنتاجيتهم ودخلهم المرتفع نتيجة للممارسة الإمبريالية. وهذه الكيانات هي دوائر رأس المال التي تختلف على حصص الدخل، ولكنها لا تختلف أبدًا على حقيقة وجوب الالتفاف حول راية حماية أسلوب حياتها. إن الاحتمالية التي تتوسط خلافاتهم حول الحصص لا يمكن أن تحل إلا بمزيد من العدوان الإمبريالي (إمكانياتهم هي العدوان). بمعنى آخر، لا يمكن أن تنفي دوائر رأس المال هذه ذاتيًا إلى فعل حل ذاتي أو تمزق يؤدي إلى تفككها. إنهم لا يثورون على أنفسهم. الطبقة العاملة البيضاء التي تدعم الناتو ضد ليبيا وروسيا هي نفس الطبقة العاملة التي صوتت لمصلحة رصيد الحرب واغتالت روزا لوكسمبورغ وتقيم لها النصب التذكارية وتسمي المؤسسات باسمها. كانت هذه الطبقة منذ بداية الرأسمالية هي التجسيد المنطقي والتاريخي لرأس المال وأيديولوجيته وجيشه في الوقت نفسه.

إن رأس المال لا يدفع ببساطة لنصف الطبقة العاملة لمحاربة النصف الآخر. هناك طبقة عاملة هي بطبيعتها شكل ثابت من أشكال رأس المال الذي يتقاسم معها فائض الإنتاج، وفي الوقت نفسه، قد يدفع لهذه المجموعة أو تلك من المجموعات الهوياتية في الجنوب للمشاركة في حروب التدمير الذاتي. يعني الشكل الثابت أن وعي هذه الطبقة محددٌ بسقف عناصرها الذين يكوِّنون مضمونها. بما أن عناصرها يمارسون الحرب على الجنوب في عملية إنتاج الذات، فإن ذاتية هذه الطبقة تتوافق مع – أو بالأحرى هي بالفعل – ذاتية رأس المال. كان رأس المال، منذ ولادته، مفترضًا سلفًا (Pre-supposed) من جانب قسم من الطبقة العاملة يمثله ويتقاسم معه الريع. في ظل مجموعة جديدة من علاقات الإنتاج، وتحديدًا عندما أطاحت قيمةُ التبادل قيمةَ الاستخدام في تحديد سيرورة إعادة الإنتاج، ظهر رأس المال كعلاقة اجتماعية وتم تمثيله/تجسيده من خلال جنوده البحارة المأجورين الذين كانت أجورهم بمنزلة الغنيمة الاستعمارية التي تقاسمها مع رأس المال (وهي نقطة أوضحها إنجلز). إن رأس المال كعلاقة اجتماعية لا يتماثل على نحوٍ مجرد مع طبقة عاملة هي نتاجه ضد رأس المال. إن الطبقة العاملة الخالية من الوعي الثوري هي شكل من أشكال رأس المال. فهي تعيد إنتاج رأس المال. ومع ذلك، يتم التعبير عن الطبقات العاملة في أشكال سياسية للتنظيم، مثل مؤسسات الشمال مقابل مؤسسات الجنوب. الشمال والجنوب عبارة عن تشكيلات طبقية شاملة، حيث يقع الشمال على قمة تسلسل هرمي للإنتاج الاجتماعي المنظم عبر الهيمنة. إن الإمكانيات الثورية للعمال لا توجد إلا ضمن حدود هذا التناقض بين الشمال والجنوب. فهذه الإمكانيات موجودة لأولئك الذين تعتدي عليهم الإمبريالية، أو أولئك الذين يجب أن تنتهي حياتهم على نحوٍ أقصر مقارنة بما يسمح به العصر. إن نضالهم من أجل البقاء يؤذن بهزيمة رأس المال، وخصوصاً عندما يتوقفون عن الالتزام بقاعدة السلعة كقيمة تتوسع ذاتيًا. وعلى نحو متصل، فإن الجيوش الشمالية وقواعد حلف شمال الأطلسي والمنظمات غير الحكومية في الخارج هم الشماليون الذين يهاجرون إلى الجنوب لانتزاع القوى العاملة والموارد الجنوبية من أرضها لتصبح فيما بعد عبدة مأجورة. بالتالي، فإحدى النتائج المترتبة على هذه المسألة هي: وقف هجرة الجنود الأوروبيين العسكريين والأيديولوجيين إلى الجنوب إذا كنت تريد وقف الهجرة إلى الشمال.

إن الطبيعة الملوثة التي تسبب الجفاف تعمل على تحقيق الغاية نفسها المتمثلة في إضفاء الطابع الاجتماعي على العمل عن طريق تهجير الأيدي العاملة. ومع ذلك، على عكس زمن التراكم البدائي الاستعماري، عند التقاطع الحالي، وفي الوقت الذي يستهلك الناس النفايات، فإن ثمن العبد المأجور، على عكس الرق، يصبح أعلى حين يكون ميتًا قبل أوانه لا حيًا. إن هزيمة العمال عميقة إلى درجة أن رأس المال لا يهتم بإنتاج أشياء مفيدة قد يوجد طلب عليها. في هذا العصر، حتى الطبيعة الاجتماعية المهدرة، بما في ذلك قتلى الحرب، يتم بيعها من أجل الربح أو الاندماج في سلسلة قيمة الإنتاج لبيعها كسلع غير مفيدة ولكنها لا تزال مطلوبة ومستهلكة. وما أصبح أكثر وضوحًا مع مرور الوقت هو أن رأس المال يجمع كل شيء ويسلّعه، بما في ذلك الهدر، ويخضع وعي العمال ليدفعهم إلى استهلاك نفاياته. قد تكون النفايات المنتجة هي قتلى الحرب في حروب الاستخراج، وقد تكون الفواتير الطبية الناتجة من التلوث، وما إلى ذلك. ويمكن تقدير تكلفة الهدر على أنها جميع التكاليف التي يجب أن يتحملها رأس المال، ولكن بدلاً من ذلك يتحمل المجتمع هذه التكاليف. يتم بيع الهدر، في بعض الأحيان بسعر إيجابي وفي أحيان أخرى بسعر سلبي (مثل الدفع لشخص ما ليأخذ القمامة الخاصة بك). وبما أن التسليع منتشر، فإن نظام الأسعار المرتبط به يجب أن يكون منتشرًا، مثل الحقل الكمي، فهو موجود في كل مكان. يجب أن تُنسب تكاليف رأس المال إلى المجتمع حتى يتم تحقيق الأرباح. تخيل لو دفعت شركة كوكا كولا تكاليف الحروب للحصول على القصدير الرخيص لعلبها، أو غطت الفواتير الطبية التي تسببها المواد الكيميائية التي تنتجها، فإن أرباحها قد تكون سلبية، إلا إذا فرضت سعراً مرتفعاً وغير تنافسي على منتجها. وقد يكون من المفيد أيضًا أن نلاحظ أن القوى العاملة الحية التي تم تقصير مدة حياتها هي التي تولد فائض القيمة، لا الطبيعة في حد ذاتها أو الأشجار الميتة. يتم تدمير الطبيعة لإعادة تعزيز قوانين رأس المال لتكثيف وقت العمل الضروري اجتماعيًا في مدد حياة أقصر. وتجدر الإشارة إلى أن المدد الزمنية لإعادة الإنتاج الاجتماعي ليست بالبني الخيالية لرأس المال، مثل الأسعار وأنظمة المحاسبة الوطنية، التي يحدد رأس المال زمانها ومكانها لإخفاء علاقات القيمة أو التكلفة الاجتماعية لإعادة إنتاج العمالة. إن زمان إعادة الإنتاج الاجتماعي ومكانها هما زمن اجتماعي حقيقي يشمل حساب القيمة المطلوبة، أي الأكل والشرب وهلمَّ جرًّا للحفاظ على المجتمع طوال دورة حياته.

  • على أية حال، فشلت الحركات والأحزاب الشيوعية الأوروبية والألمانية في قتل الوحش الذي تحدثت عنه لوكسمبورغ وتتحدث عنه أنت. لماذا؟ ما الخطأ الذي ارتكبوه، أو بالأحرى، ما الذي فشلوا في فعله؟

في نصف الكرة الغربي، حيث يتوافر وقت فراغ للتنظير حول الظروف الاجتماعية، انتبه البعد المنظم لرأس المال، أي مؤسساته، إلى أهمية حرب الأفكار، وتسخير شكل ملتوٍ من الماركسية بهدف التنظير النائي عن الواقع وإجهاض النشاط الثوري المحتمل. في مثل هذه المفاهيم الخاطئة، يتم تصوير العمال والرأسماليين على نحوٍ مثالي خارج ثقافة الأمم وذاكرتها. يتم تصور العالم من دون الهياكل الطبقية السياسية التي تمثل التشكيلات الاجتماعية في الشمال والجنوب، أو من دون الإمبريالية والفاشية التي تمثل الأشكال المكثفة لرأس المال. في الخطاب السائد، لا يوجد حلف شمال الأطلسي يهاجم ليبيا أو العراق لتدميرهما. وهذا، بالنسبة إلى التيار السائد، ليس سوى حالة للعراقيين والليبيين الذين يحكمهم استبداد القذافي مثلاً، في حين تتدخل إمبريالية الناتو لإنقاذهم. ويتم قياس مدى التدخل بمعيار الديمقراطية الغربية، التي ليست سوى وجه من أوجه السلطة البرجوازية التي يمارسها رأس المال والتي دفعت المجتمع العالمي حتى الآن إلى حافة الهاوية. علاوة على ذلك، يُنظر إلى العالم على أنه عالم تمثل فيه الدخول المالية للدول بدقة مقدار حصتها من المساهمة في القيمة، بينما يتم اعتبار قتلى الحرب المبكرين والتلوث الناتج من رأس المال على حساب المجتمع نشاطًا هامشيًا أو عوامل خارجية لا تقدم أي قيمة. ومن حيث الإنتاجية، فقد أنتج رأس المال الهدرَ، بما في ذلك الوفيات، أكثر من أي شيء آخر حتى الآن. في إنتاج الهدر، أثبتت اقتصاديات الحجم الكبير الرأسمالية تفوقها. إن الكفاءة التي يمكن ملاحظتها في إنتاج كل وحدة من الهدر هي أن رأس المال ينتج التلوث مقابل لا شيء، ومع ذلك يكسب من خلال تحويل الملوثات وآثارها إلى سلعة.

علاوة على ذلك، فإن الفاعل في إنتاجية الشمال ليس آلاته المتفوقة. الآلات لا تصنع الأشياء بدون العلاقات الاجتماعية أو الفاعلين الاجتماعيين الذين صنعوا الآلات. إن منع تنمية الجنوب كعلاقة اغتصاب للثروة هو الذي يضمن أن التطور العلمي والتكنولوجي لا يمكن أن يحدث إلا في الشمال. ومن ثم فإن مذبحة الجنوب هي الفاعل التاريخي للإنتاجية والثروة وأوقات الفراغ في الشمال. إن طبقة المثقفين المأجورين في الشمال الذين يتحدثون باللغة الماركسية لا يفعلون ذلك إلا من أجل تشويه وحدة الإنتاج العالمي؛ كما أنهم يريدون إخفاء حقيقة مفادها أن هيمنة الدولار لا تعتمد على القدرات الإنتاجية الأمريكية، بل على الهيمنة الإمبريالية الأمريكية. وعلى نحو غير عادي في التاريخ، ترتفع ثروة الولايات المتحدة بمقدار قدرتها على الاقتراض من بقية العالم. يمكنها أن تفعل ذلك لأن أسلحتها المتفوقة التي تتضافر مع أيديولوجيتها تفرض آليات التحكم في الموارد التي تضمن إصدار ديونها بالدولار.

إن مثقفي رأس المال المأجورين هم المستفيدون من نظامه الطبقي. فهم يخفون حقيقة أن رأس المال كعلاقة تاريخية هو الفاعل الاجتماعي في الإنتاجية والثروة من خلال إضفاء المثالية على الجنسية ورفعها إلى مرتبة الذات في التاريخي. وهم يعزون الارتفاع في الإنتاجية إلى الآلات، التي لم يكن من الممكن اختراعها إلا داخل الحدود الوطنية الغربية، لأن الجنوب مكتظ أو غير ديمقراطي كثيرًا بحيث لا يستطيع إنتاج أي آلات بنفسه. إن طرائق التفكير هذه غير تاريخية، أو لا تحتوي على تطور للفاعل الاجتماعي عبر الزمن، وبالتالي فهي غير واقعية. لم ينزل تطور الإنتاجية في الغرب من السماء. إن مثقفي رأس المال إما يستغلون وإما ينسون أن نظام حسابات رأس المال وأسعاره هو الصنم الذي يخفي به حقيقة الاستغلال، والذي يسلب جماهير الجنوب من خلاله. إن الوقت والحسابات التي يتم إنشاؤها بواسطة رأس المال، مثل الأرباح الفصلية والناتج المحلي الإجمالي السنوي، ليست عشوائية. وهي تنبع من المصالح الطبقية الراسخة التي أعادت الأجهزة الأيديولوجية للنظام تشكيلها، والتي اكتسبت قوى خيالية خاصة بها. إن رأس المال يشذِّب حياة المجتمع في الزمن الحقيقي من خلال حصره في زمن وهمي كرونولوجي موظَّف لخدمة الأرباح. زمن رأس المال هو الزمن المجرَّد، أي ما يتطلبه من عمل مجرَّد، أي من عمل اجتماعي ضروري كي يزيد أرباحه. فرضًا، أحتاج لخفض العمال وتكثيف ساعات عمل العامل الواحد بعد المضاربة، وهذا يفرض على المجتمع ساعات عمل أطول ويصبح بهذا الوقت الذي يعيشه المجتمع فعليًا ممليًا عليه من الوقت المجرد لرأس المال. وبالعودة إلى علب الكوكا كولا، على سبيل المثال، لا يدفع المرء دولارًا مقابل علبة الكوكا كولا فحسب، بل ينتهي به الأمر أيضًا إلى دفع تكاليف الحروب لإخضاع القوى العاملة، وتأثير التلوث الذي تحدثه الكوكاكولا في الصحة. على سبيل المثال، يتم الحديث عن أزمة غربية عندما ينخفض الناتج المحلي الإجمالي لمرحلتين متتاليتين، ولكن عندما مات ملايين الكونغوليين في الحروب بين عامي 1990 و2016، عُزي ذلك إلى القتال “القبلي” على الموارد – من المؤكد أن القبائل أنظمة علاقات اجتماعية أكثر تماسكًا وداعمة اجتماعيًا من أي أمرٍ آخر في ظل رأس المال. في الماضي، كانت الحروب القبلية تندلع بسبب أزمات نقص الإنتاج ونقص الاستهلاك. تخوض الدولة القومية البرجوازية في الشمال حروبًا بسبب أزمة فائض الإنتاج لديها، وهي أزمة ترجع إلى حقيقة أن السلعة كقيمة تتوسع ذاتيًا باتت خارجة عن السيطرة الاجتماعية، أو هي أزمة تنتهي بفرض نقص الاستهلاك على الجنوب. وحقيقة أن هناك وفرة من الغذاء تفرض سياسات الجوع. فليس لدى الإمبريالية قناة أفضل لنقص الاستهلاك وخلق فقر في الغذاء والموارد في الجنوب وإقامة هويات اجتماعية تتحارب على فتات رأس المال.

لكن مع ظهور ظاهرة الهدر البيئي، تحولت النغمة في الشمال نحو حماية الطبيعة المجردة مقارنة بالطبيعة الاجتماعية أو الإنسان في الجنوب. لقد عزلوا الطبيعة عن فاعلها الاجتماعي أو عن الطبقة الاجتماعية في بناء أي مفهوم عن الطبقة يجب الأخذ في الحسبان الفاعل الاجتماعي؛ فإذا نظرنا إلى كرسي من الخشب، من الممكن أن يكون مفهوماً عن الكرسي أنه من الخشب فقط. لكن هذا المفهوم غير متحرك وتجريبي. فالكرسي هي نتاج عمل ناس تعاملوا مع بعضهم البعض لإنتاج الكرسي، أي نتاج فاعل اجتماعي. ومع ذلك، بما أن فائض القيمة يرتفع عن طريق استقلاب المزيد من العمل الحي بوصفه فاعلًا في الطبيعة وفي الإنتاج، فقد يجوز القول بأن الدعوات إلى إعادة التدوير أو قطع عدد أقل من الأشجار مع الحفاظ على معدلات تراكم إيجابية في ظل مستوى أكسجين أفضل في الشمال تعني فعليًا أنه يجب أن يتم ذبح المزيد من الناس قبل الأوان في الجنوب. في إعادة الإنتاج الاجتماعي، حيث ينتج المجتمع من أجل البقاء على مدى جيل أو جيلين، يجب استهلاك العمل الحي في نشاط ذي فائض قيمة فائضة مطلقة مثل الهدر، أو الحروب بوصفها أشكالًا نهائية من الهدر، لمعالجة انخفاض الأرباح، وهو ما يعني أنه بما أن الأرباح لا يمكن أن ترتفع على نحوٍ كافٍ من خلال إعادة صوغ الطبيعة الرخيصة، إذًا يجب أن ترتفع الأرباح من خلال عمل الإنسان على الإهلاك المتسارع للإنسان نفسه.

على أية حال، فإن دفع تكاليف التلوث على النحو المنصوص عليه في مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين (كوب 28) لا يؤدي إلا إلى إعادة تدوير الدولارات إلى الشمال، حيث يكون الاحتفاظ بالدولار أكثر أمانًا. والأمر المؤكد أيضًا هو أنه عندما يُنظر إلى العالم على أنه يعاني ندرة الموارد والقدرة الاستيعابية (لا يوجد ما يكفي لبقاء الجميع في قيد الحياة)، فإن أخلاقيات طوق النجاة تترسخ؛ طوق النجاة بمعنى أن العالم يغرق، وأن أوروبا غير قادرة على استيعاب الجميع على متنها. عندها تصبح السياسة المضمرة لرأس المال هي سياسة تهجير أو افراغ السكان عن طريق الإبادة الجماعية المباشرة أو الهيكلية. يموت الناس في وقت مبكر جدًا في عمليات الإبادة الجماعية الهيكلية الناجمة عن المجاعة والبؤس حتى يخف الضغط عن نظام يفترض أنه يعاني ندرة الموارد. في مثل هذه الإبادة الجماعية الهيكلية، يصبح الموت الذي لا رجعة فيه للإنسان في البلدان المتخلفة إحدى الحقائق التي تشيدها القوة، والتي يجب على الناس أن يتكيفوا معها، على عكس الحقيقة الحقيقية أو المنجزة، أي حقيقة أن هناك الكثير من الإنتاج يمكن توفيره للجميع. إن حقيقة القوة هي مثل المستعمرات الاستيطانية الإسرائيلية التي تم بناؤها. رأس المال الصهيوني هو الذي بنى المستوطنات، ويجب أن تبدأ المفاوضات من كونها موجودة بالفعل. لا يمكن فعل الكثير لعكس هذه الحقائق، في حين أن النهاية المنطقية لمثل هذه العملية هي إبادة الجماهير. في ظل فائض الإنتاج الدائم، عندما تنصاع البروليتاريا إلى حقائق القوة، أو لا تتمرد على استبعادها من ناتجها الاجتماعي، فإن الفقر الذي لا رجعة فيه المفروض في ظل الندرة المزعومة (حقيقة القوة) يمهد الطريق لحقيقة القوة التالية، وهي المزيد من الفقر الذي تتم إدارته كأزمة دائمة في ظل ظروف العوز المدقع المتزايد. ومع ذلك، فإن الحقيقة أو الواقعية، أي حقيقة أن الجماهير يجب أن تبقى في قيد الحياة من خلال تدمير العلاقة التي تستبعدها، أي علاقة الملكية الخاصة، لن تزول لأن رأس المال يتراكم على نحوٍ لا يشبع ويجبر الجماهير على اتخاذ موقف الدفاع عن النفس.

  • هناك فصل في كتابك (تراكم الهدر) عن “الموقف الماركسي الغربي من الحرب” وأنت تتحدث عن “التيارات الماركسية الغربية المهيمنة المتحالفة مع الناتو”. من هم هؤلاء الماركسيون الذين اصطفوا مع الناتو؟
  • إذا استثنينا الأقليات غير البيض في الشمال التي تحول عنف النظام إلى نفسها، فإن المجتمعات الغربية تتبنى العقلية نفسها إلى حد أنه لم تعد هناك حاجة إلى وجود سجون لسجناء الرأي، وهذه درجة أعلى من الدكتاتورية البرجوازية من خلال الشكل الديمقراطي للحكومة. إن الديمقراطية البرجوازية هي بمنزلة آلية سياسية تعمل كمنصة لتقاسم مكاسب الإمبريالية. ومع ذلك، فإن الإجماع الشمالي حول قضايا مثل “دعونا نقصف الأفارقة أو العرب في العالم الثالث”، والعدوان المتكرر النابع من عقلية متجانسة تقريبًا نادرًا ما يشكك في الطريقة التي يعاد إنتاج الطبقات الشمالية عبرها. بكلمات أخرى، قلة في الشمال يتساءلون كيف نعيش بالطريقة التي نعيش بها، أي يتساءلون “ما هو تعريف الطبقة الاجتماعية”. كما ناقشنا، يعاد إنتاج الطبقات الشمالية عبر الحصول على أجر أساسه الحرب الإمبريالية، يتناسب مع طبقتها أو قوتها الإمبريالية في التقسيم الدولي للعمل. إن مثل هذا الأجر هو في الواقع عائد من الريع الإمبريالي. وحين أقول إن أساسه الحرب الإمبريالية، أعني أن عنصر العائد الإمبريالي في حصة أجور الطبقة الشمالية يتحدد من خلال اغتصاب الثروة في الجنوب. يتم إنشاء الثروة من خلال إضعاف الجنوب، في حين أن توزيع الثروة يستند إلى قوة كل طبقة داخل التكوين الاجتماعي ووظيفة الدولة في التوسط في خلافاتهم عبر ترتيبات التوزيع المتناسبة مع السلطة.

القيمة هي علاقة اجتماعية قائمة على الاستغلال. إنها الصلة الرائدة في نظام إعادة الإنتاج الاجتماعي الذي يقوده الشمال. تناضل جماهير الجنوب من أجل استعادة جزء من حياتها، في حين تعيد الطبقة العاملة في الشمال إنتاج نفسها من خلال علاقة العدوان الإمبريالي. كما ذكرت، فإن نزاعات الطبقة العاملة الشمالية مع الطبقة الإمبريالية في الشمال تتلخص في نزاعات بين الرأسماليين حول تقاسم الأرباح، على عكس الطبقة العاملة الجنوبية التي يعتمد بقاؤها على تدمير ظروف الإنتاج الرأسمالية. هذه الطبقة الأخيرة في الجنوب هي الطبقة التي تمتلك وجوديًا الإمكانيات الثورية، لأن عليها أن تحارب الإمبريالية حتى تعيش أطول أو أفضل. تاريخيًا، استهدفت الحركة النقابية في الشمال الخلافات حول “الأجور” بدلاً من تحقيق المساواة في ظروف الإنتاج مع الجنوب. إن استهداف رفع الأجور لا يثير قلق رأس المال لأنه يقع في نطاق التداول، وهو في التحليل النهائي مسألة خلق النقود التي تضمنها قوة رأس المال. يتم تقاسم كل من غنائم الحرب الإمبريالية المباشرة وإنتاجية الشمال المعززة بالإمبريالية، بين رأس المال وطبقته العاملة المجسدة له. إن المزيد من العدوان على الجنوب لن يؤدي إلا إلى زيادة الغنائم التي ينهب منها كل منهما، وتركيز الطبقة العاملة الشمالية على مجال التوزيع هو دليل بأثر رجعي على أن هذه الطبقة الشمالية هي شريك عضوي لرأس المال. إن استهداف مجال الإنتاج، أو المطالبة بتكافؤ ظروف العمل في الشمال والجنوب على أساس السيطرة السياسية للعمالة الدولية على دورة إعادة الإنتاج، يؤدي إلى تآكل قوة رأس المال. فالتركيز على مجال الإنتاج يثبت أن الطبقة العاملة ملتزمة استراتيجيًا بتفكيك رأس المال وملكيته الخاصة.

ومع ذلك، فإن الماركسية الغربية معلقة بالعنوان السابق (إعادة التوزيع)، وهي مستمرة في العمل يدًا بيد لدعم التوسع الإمبريالي. أظهر غابرييل روكهيل في مقابلة أجريت معه مؤخرًا في مجلة Monthly Review (2023)، مدى مشاركة الماركسية الغربية في الترويج للحرب الإمبريالية. [1] إن اتساق مثل هذه الممارسة، وتعاقب المواقف التاريخية المؤيدة للإمبريالية، وسلسلة الأفعال وردود الفعل التي خلقت وما زالت تخلق هذه المواقف، تظهر أن هذه الممارسة ليست حالة قصيرة الأجل تم فيها خداع العلماء الماركسيين في مثل هذا العمل، بل هي بالأحرى حالة ثابتة مستندة إلى تعزيز المصالح الطبقية البرجوازية.

  • تذكر أيضًا لينين حين قال إن انتصار الثورة في أوروبا الغربية يعتمد على اتصالها الوثيق بحركة التحرر ضد الإمبريالية في المستعمرات المستعبدة ومع المسألة القومية. بالنظر إلى هذا المنظور – التعاون والتضامن مع الشعوب المستعمرة – هل فشل الشيوعيون في أوروبا الغربية؟

الملاحظة في سؤالك أدلى بها توركيل لاوسن عندما علق على عمل أرغيري إيمانويل. تقسم الإمبريالية العالم إلى بنية مُخضِعة وبنية خاضعة، حيث يتم استنزاف الأخيرة من خلال علاقة نخرية تمارس في صورة الإمبريالية. يدور النضال ضد الإمبريالية على وجه التحديد حول بناء القدرات والدفاع الذاتي في الجنوب، وبالتالي، يتقدم هذا البناء عن طريق سد الخلافات بين الطبقة العاملة من خلال قرارات توسطية تضع النضال على مسار مناهض للمنظومة الرأسمالية. إن الطبقات العاملة التي تجسد رأس المال في الشمال وأقرانها في الجنوب تقمصت منطق رأس المال وأصبحت مشيّئة مثل الرأسماليين الذين تحدث عنهم ماركس، أي أصبحوا أشياء. هذه حال التوازن الطبقي والمؤسسات، التي تشكل أساس مرونة حكم رأس المال. ينسخ الناس دينامية السلعة كقيمة متوسعة في الفكر الذي يوجه أفعالهم، وبالتالي يصبحون مثل الأشياء.

ما تمت مناقشته كثيرًا هو أن انتصار الشمال في الحروب الإمبريالية، والدمار الذي لحق ببلدان الجنوب، يقلل أسعار الموارد إلى مستويات منخفضة تترجم إلى تكاليف أقل للسلع الاستهلاكية الباهظة في الشمال. يتطلب التراكم المتوسع تصاعديًا خفضًا مستمرًا في التكاليف، أي حروبًا. إن عملية الحرب هذه، إضافة إلى المصادرة الثقافية وما يرتبط بها من حرمان التنمية في الجنوب، تعمل تلقائيًا على نقل الموارد، بما في ذلك إنتاج المعرفة، إلى الشمال. لكن ما يندر الحديث عنه هو أن العملية الاجتماعية للعدوان على الجنوب من أجل الموارد الرخيصة تتطلب استخراج الأرواح البشرية قبل استخراج الموارد. نادرًا ما تكون هناك طبيعة وحدها من دون الإنسان كفاعل اجتماعي. على هذا النحو، يصبح انتزاع الأرواح البشرية في الجنوب لبنة بناء عملية إعادة الإنتاج الرأسمالية.

لكن المسألة ليست ما إذا كان الجنوب يساهم في هذه النسبة أو تلك من الثروة العالمية. إن مصطلح “لبنة البناء” أو “الأساس” يعني أنه من دون الجنوب لا توجد ثروة؛ في حين ما يتعلق بنسب المساهمة في الثروة كرموز للثروة، فإن أي فئة أقوى تؤهل نفسها للحصول على المزيد من الثروة و/أو لتصميم رموز تلك الثروة. وفي وسع المرء أن يخصص نسبة مئوية لمساهمة هذا البلد أو ذاك في صنع القيمة بما يتناسب مع دخله في شكل نقدي. يمكن المرء أن يفترض أن توغو أو بنين تشحنان مليار دولار إلى الولايات المتحدة في شكل هروب لرؤوس الأموال، وبالتالي فإن مساهمتهما في القيمة المغتصبة تبلغ نحو مليار دولار، أو على سبيل المثال 1 بالمئة من إجمالي تحويلات القيمة. لكن لا شيء يمكن أن يكون أبعد من الحقيقة، لأن قانون القيمة يخضع للسلطة الطبقية وهو يتوسط تمثيل القيمة في السعر بما يتناسب مع السلطة الطبقية وواجهات البنية الفوقية لرأس المال. القيمة، هذه الفئة الاجتماعية، هي نشاط اجتماعي، وأفضل مقياس لها هو معدل الدمار الذي يقلل من العمل الحي المنخرط في الإنتاج الاجتماعي. ومع تراكم الكثير من القوة في الشمال، تشير الأسعار أو النسب المئوية الضئيلة للجنوب إلى وجود معدلات استغلال عالية.

النسب المئوية المستندة إلى النماذج المالية هي مؤشرات على الثروة التي يحددها الأقوى. على سبيل المثال، مع تغير شروط القوة لمصلحة الجنوب نتيجة صعود الصين، فإن ظروف تطور الأسعار المواتية في شروط التجارة المحابية للجنوب ستتغير أيضًا. تبدأ البلدان النامية في التفاوض على شروط أسعار أفضل لمنتجاتها. المال، في النهاية، هو عرف اجتماعي. في أيدي الأقوياء، يكون الشكل المالي للقيمة بمنزلة سلاح لاستخراج المزيد من القيمة من الطبقة العاملة. على سبيل المثال، هناك آلات أفضل في الولايات المتحدة وتُباع منتجاتها بسعر أعلى؛ ومع ذلك، لكي تتجذر عملية مماثلة في الجنوب، أو لكي يحدد الجنوب قيمة موارده وفقًا لشروطه، عليه أن يمنع الحروب التي يشنها عليه الشمال التي تمنعه من بناء آلات مماثلة. إن براعة الشمال لا تكمن في قدرته على بناء آلات أفضل والإعلان بأن “هذه هندسة ألمانية أو أمريكية”، وهو ما يصبح بالمناسبة أساسًا لثقافة شوفينية وطنية. إن البراعة الحقيقية التي يتمتع بها الشمال تكمن في قدرته على تحقيق النصر في الحروب التي توقف تطور الآلات في الجنوب؛ فالحروب الإمبريالية تترجم إلى مصادرة التطور العلمي واحتكاره، وخصخصة المعرفة، وهو ما يدعم ارتداديًا تفوق الأسلحة الشمالية.

إن القول المبتذل “نحن أكثر ذكاءً لأننا نمتلك الآلات الأفضل” يخطئ في تحديد الفاعل التاريخي، وفي فهم علاقة الحرب الإمبريالية التي تستبعد الجنوب كمنافس للتفوق الثقافي أو العنصري للشمال. إنه يهمل نشاطًا إنتاجيًا عالميًا بدأت عقدته الأولية في سلسلة التوريد بالإبادة الجماعية الهيكلية أو المباشرة. فالذكاء، كما يقول فانون، لم ينقذ أحدًا قط، والغرب أفضل حالًا لأنه يشن حروبًا مستمرة ضد الجنوب لانتزاع قيمة متزايدة يحددها إزهاق حياة العمالة الاجتماعية في مدد زمنية أقصر. ومع ذلك، وفي ظل هذا القدر الهائل من الدمار على مستوى الكوكب، والذي يتحدد تفسيره بكل الأنشطة الاجتماعية التي سبقت الدمار، فإن كل اكتشاف علمي في الشمال كان بلا شك بمنزلة سلاح إضافي ضد الجنوب. كل جائزة نوبل يعزوها بنيامين نتنياهو إلى تفوق اليهود كانت، من وجهة نظر طبقية، بمنزلة مكافأة لكسب الحروب أو إنتاج الملوثات. عندما يكون الكل هو الصلة الحاسمة أو المبدأ الناظم للأجزاء، فإن كل رمز للمعرفة المتفوقة المزعومة، وكل علامة اسم مثل هارفرد، تصبح رمزًا للحرب ضد الطبقة العاملة.

تشبه الرأسمالية كمرحلة تاريخية طوفًا على نهر متجهًا نحو منحدر صخري، ومع ذلك يستمتع البعض الموجود على الطوف بالرحلة ويمتدحون النظام بوصفه تقدميًا. الأرباح مستمدة من نقل تكلفة الإنتاج إلى عاتق القوى العاملة، من الشخوص والطبيعة المهدرة التي تباع على حساب المجتمع العالمي. وبما أن إنتاج الهدر وإهدار البشر والطبيعة يقللان من التكلفة الاجتماعية لإعادة إنتاج الطبقة العاملة العالمية، فإن امتثال إرادة توليد الربح ينعكس في منظومة الأخلاق الطبقية الشمالية طبقيًا، وكل ما يُعقلن المزيد من التدمير يفسر على أنه أخلاقي. مع مثل هذا الواقع الزائف، تصبح مقولة “لا بديل للسوق” نظام اعتقاد، في حين تمثل خديعة من قبيل “ستالين طاغية” المحور الذي يدور حوله الصراع الطبقي. لقد دُست جريمة ستالين المزعومة لتقويض البديل لفوضوية السوق، وهو التخطيط، أو ضرورة إعادة تنظيم الإنسان والطبيعة. إن معيار عقلانية رأس المال هو البقاء في عالم الندرة المفتعلة، في حين أن أزماته المستمرة، كما هو معروف، تظل أزمات فائض الإنتاج. ورغم سخافة هذه الحالة من تزييف الواقع، فإن رأس المال لا يمكن أن يعترف بمثل هذه الحالة المتدهورة عالميًا لأنه يعيد إنتاج نفسه من طريق تراكم الهدر. فظروفه الاجتماعية، أو كيانه الاجتماعي، تحدد وعيه الاجتماعي. إن إدراك أن رأس المال يزدهر لأنه يبيع الأشياء الضارة، التي تتمثل قيمتها بالموت المبكر للإنسان الاجتماعي، من أجل الربح، هو عمل انتحار طبقي مستبعد.

  • إذا نظرنا إلى أوروبا والدمار الذي لحق بالشرق الأوسط، في غزة واليمن وسورية والعراق هل توافق على أن الشيوعيين في أوروبا ليس لديهم أي فكرة عما يحدث هناك؟
  • لا يتعلق الأمر بالشرق الأوسط فحسب، بل بظاهرة الهدر أيضًا، التي تمثل إبادة جماعية هيكلية يومية لا تحظى بالتحليل الجاد. ومع ذلك، فإن تكوين فكرة عما يحدث ليس أمرًا معقدًا. إن حقيقة أن فلسطين قد تم استعمارها وتطهيرها عرقيًا، وأن الصهيونية هي حالة حرب مستمرة لإعادة إنتاج رأس المال، هو أمر واضح. ومن الواضح أيضًا أن البلدان تتعرض للاعتداء على مواردها. إن كيفية صوغ فهم لهذا الوضع تتعلق بنهج التفكير السائد الذي يمتثل للأيديولوجيا السائدة. لا توجد نظرية مستقلة عن الأيديولوجيا، على الرغم من أنه في لحظة نقد الفكر المهيمن، يتقدم العمل النظري من تلقاء نفسه. إن المنهج الفكري السائد الذي يخفف من الواقع يمكن تلخيصه في مقولة تاتشر: “لا يوجد شيء اسمه مجتمع”، والتي تعني بوضوح أن الكل أو التاريخ غير موجود، وما هو موجود هو فرد مجرد يبحث عن رفاهيته، رغم كونه افتراضيًا أو مسلوخًا عن المجتمع والتاريخ. على الرغم من أن عملية التراكم العالمي مترابطة في مجال الإنتاج المتعدد الجنسيات والمجالات التي يهيمن عليها الدولار، إلى حد أن أدنى تغيير في سعر الفائدة في الولايات المتحدة قد يؤدي إلى أزمة جوع في أماكن بعيدة في العالم النامي، فإن الكل، بوصفه مجموع العلاقات الاجتماعية الذي يتقدم عبر الزمن كتاريخ، يُحذف عمدًا في الفكر السائد.

على سبيل المثال، أدى خفض بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة في منتصف عام 2000 إلى توجيه استثمارات المضاربة نحو سوق السلع الأساسية، الأمر الذي أدى إلى رفع أسعار المواد الغذائية وتسبب في الجوع. ومع ذلك، يركز التفسير السائد لمثل هذه الأحداث على سوء إدارة الإنفاق المالي في العالم النامي فقط، الذي يعيق العمليات المثلى للسوق الحرة، التي تسيء بدورها تخصيص الموارد، لا العكس. وعلى هذا النحو، تصبح مشكلة الدولة النامية المحددة معزولةً عن تاريخ الاعتداءات الإمبريالية الذي أدى إلى إنزال ذلك البلد إلى مرتبة أدنى. بهذا المعنى، يستقر الفكر على سلسلة من الحقائق الجزئية والملاحظات غير المترابطة، التي يمكن تجميعها معًا بأي ترتيب كحقائق أحادية الجانب لخدمة الموقف الطبقي الإمبريالي.

أما بالنسبة إلى لطبقات الشمالية التي تنمو بسبب تراكم الهدر والحرب والتلوث على نطاق عالمي، فيبدأ التاريخ والترابط من النقطة التي يتم فيها تجريم الضحية. أحد الأمثلة على ذلك هو سؤال “هل تدين حماس لهجومها في 7 أكتوبر؟” المتكرر إلى حد الغثيان، واختزال النضال من أجل التحرر الوطني إلى مسألة إنسانية. في نظام رأسمالي ملطّخ بالدم، لا أهمية للنزاعات الإقليمية خارج أولويات النضال ضد الإمبريالية. ليس هناك مجال للنزعة الإنسانية حين يرقى رأس المال إلى مستوى الإبادة الجماعية الهيكلية اليومية. على الرغم من أن عناصر من الطبقة الشمالية قد ترى التاريخ الأوسع وعلاقة الصهيونية بالإمبريالية، أي “نمط التراكم المتمثل بالهدر والتدمير من أجل الربح”، فإن تجريم الطبقة التي يتم إهدارها قبل الأوان، أي الشعب الذي يعيش في المتوسط إلى 50 عامًا بدلًا من 90 عامًا، سيظل هو الممارسة المعيارية للتحليل السائد. والسبب واضح ومباشر: بالنسبة إلى الطبقة الممثلة في الدول الإمبريالية، التي تعيد إنتاج نفسها على أساس أن الآخرين في الجنوب يجب أن يعيشوا حياة أقصر، لا يمكن هذه الطبقة أن تناضل من أجل إنقاذ الآخرين الذين يموتون باكرًا لأن هذه العملية هي مصدر ثروتها.

من أجل قلب الفكر السائد المجزأ وغير التاريخي، يجب على حرب أفكار الطبقة العاملة أولاً أن تحوّل الإنسان المجرد كما يقدّم لدى التيار السائد إلى إنسان اجتماعي، هو نتاج مجتمعه وتاريخه. إن عمل مثل هذا الإنسان الاجتماعي هو جهد بوساطة المجتمع، منتجُه هو المنتج الاجتماعي للمجتمع، ومجتمعه هو المجتمع العالمي المترابط، لا الحدود الوطنية الوهمية. إن تعريف الإنسان، أي رؤية الإنسان كما هو حقًا، كقسم فرعي من الجماهير وكنتاج للتاريخ، يقع في صلب تغيير أنماط التفكير السائدة. ومع ذلك، فإن التقدم في هذا المجال لن يتحقق من دون قلب ميزان القوى العالمي ضد الإمبريالية.

  • إذا نظرنا إلى الحروب اليوم، في غزة واليمن وسوريةا، فهي بربرية بكامل قوتها. ماذا تخبرنا هذه الحروب بالضبط؟
  • أينما توجد الموارد الطبيعية، يوجد البشر، وتبدأ عملية الاستخراج باستخراج حياة البشر. عند هذا التقاطع، حيث يكون الهدر هائلًا ويشكل الجزء الأكبر من الثروة، وحيث يتحول الموت والتلوث إلى شكل من أشكال الثروة المالية كما تفعل السلع المفيدة، يصبح إهدار الحياة في الجنوب سلعة وشكلًا من أشكال الثروة نفسها. وإجمالًا، فإن الأرواح والطبيعة المهدرة هي الجزء الأكبر من السلع المقومة بسعر أو بشكل نقدي من القيمة. يتم دمج منتجات الهدر، بما في ذلك الحياة البشرية المهدورة، بنظام الأسعار الأوسع لرأس المال، وهي موجودة ضمن مصفوفة أسعار تكرارية (أي أسعار معتمدة على بعضها حيث تؤثر الحركة في سعر في الأسعار الأخرى) ومترابطة إما صراحًة أو ضمنًا، و/أو مخصصة للبيع وفق دورة حياتها الخاصة. نظام الأسعار شامل تمامًا نظرًا لوجود عدد قليل جدًا من الأشياء التي لم تُسلّع. كل شيء يتم تسليعه، وهو ما يعني أن كل شيء مسعّر. يمكن أن يعبّر سعر السلعة عن أسعار أخرى مختلفة، ويمكن أن يتخذ أشكالًا مختلفة، وأن يكون ثابتًا عبر الزمن أو غير ثابت. ومن الأمثلة على ذلك الأسعار الفورية والأسعار المستقبلية للسلعة نفسها. تتأثر الأسعار الفورية للموارد الآن بارتفاع الأسعار المستقبلية حين تصبح ظروف الإنتاج أصعب في المستقبل نتيجة الكارثة الطبيعية. على هذا النحو، تعزز الطبيعة المدمرة القوة الاحتكارية لرأس المال. إن التلوث يباع وسيباع في المستقبل، في حين أن وفيات الحرب والتقشف هي أيضًا منتجات لرأس المال تباع وتتكامل مع الإنتاج الأيديولوجي الرأسمالي من خلال مشتقات قوتها.

علاوة على ذلك، يُدرج الدين الرأسمالي المستقبلي في مواجهة الخسائر المستقبلية المبكرة في الأرواح بسبب الاستغلال المفرط والحروب. يربح رأس المال مباشرة من عملية الحرب نفسها (عبر الطلب المتولد من العسكرة)، وعبر تداعيات القوة الناجمة عن الحرب، كذلك من تأثير الحرب في تقصير متوسط العمر المتوقع نسبة إلى إمكانياتها. في الاقتصاد المخصخص، إن الشخوص الذين يموتون مبكرًا يكلفون أقل للحفاظ على حياة أقصر ويتركون المزيد من الناتج الاجتماعي لرأس المال؛ أي أن الناس يعملون ويدفعون التكاليف التي تؤدي إلى وفاتهم المبكرة. على مدى مرحلة إعادة الإنتاج الاجتماعي، يصبح الموت المبكر للجماهير مصدرًا لفائض القيمة – لا النفط ولا النحاس، لأن هذه جمادات لا تشكل عنصرًا نشطًا في الإنتاج، إنها تمثل عمالة ميتة سلبية لا تتحدث للتفاوض على السعر. بل إن الجماهير أي العمل الحي المتمثل بالمجتمع التي يتم قمعها بعنف لخفض أجورها وأسعار الموارد هي التي تشكل فائض العمل. إن متوسط العمر المتوقع الأقصر في الجنوب مقارنة بالشمال، هو ما يصبح المعيار الذي يدل على التباين بين الشكل المالي للثروة الشمالية مقارنة بنظيره الجنوبي.

  • كما ذكرتُ في البداية، سيعقد مؤتمر روزا لوكسمبورغ التاسع والعشرون في برلين. في دعوة للمؤتمر، وفي إشارة إلى برتولت بريخت وأغنيته التضامنية قبل 90 عامًا، خرج رئيس التحرير بشعار: “غدًا سيكون غد من؟ هذا العالم عالم من؟” سؤالنا لك: عالم من هو العالم اليوم؟ وعالم من سيكون غدًا؟
  • من دون وعي ثوري ينبع من ممارسة النضال ضد النظام، فإن النهاية المحتملة أو التاريخية لرأس المال هي أن يدمر ذاته ويأخذ الكوكب معه. يلاحظ المرء قطاعات واسعة من الطبقة العاملة التي ينجرف وعيها الاجتماعي بعيدًا من كينونتها الاجتماعية: تعيش الجماهير في ظروف مزرية يتطلب تبنيها تنظيمًا ثوريًا لانتزاع منتجها الاجتماعي من رأس المال، ومع ذلك يبدو أنها تغط في النوم. كثيرون لا يسلمون منتجاتهم فحسب، بل يسلمون حياتهم طواعية لرأس المال. ورغم أن أزمات رأس المال تكشف هذا الصدع حتى يتمكن النشاط الثوري من سدِّه، فإن الأزمة الحالية للأيديولوجية الاشتراكية تبدو أعمق من الأزمة الاجتماعية والبيئية الحالية. هذه الحالة القاتمة هي نتيجة الهزائم المتتالية للطبقة العاملة، إلى جانب تحريف النظرية الثورية لتصبح جزءًا من الترسانة الأيديولوجية لرأس المال. ومع ذلك، فإن بريق رأس المال وحده لن يكفي لإقناع الطبقة العاملة بالعمل ضد مصالحها. تفقد الجماهير العاملة سنوات حياتها المحتملة حين تخضع لرأس المال، ولكي تعيش مدة أطول، عليها أن تحارب رأس المال.

تسيطر الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة على العالم، وبالتالي، تمتلك جزءًا كبيرًا من العالم. إن التملك، أي علاقة الملكية الخاصة، يعني استبعاد الجماهير من منتجها الاجتماعي، تمامًا كما تفعل علاقة رأس المال. يجب ضرب الجماهير باستمرار لإجبارها على الاستسلام للتخلي عن مشاعاتها وابتلاع القمامة الفعلية والأيديولوجية التي خلقها رأس المال. ومع ذلك، فإن صعود الصين وإعادة ثبات روسيا في وجه الناتو يخلقان حاجزًا يعيق العدوان الغاشم من قبل الإمبريالية الأمريكية، وهذه نقطة تحول تاريخية. إن الصين دولة نامية ذات سيادة، وقد تطورت بخطوات واسعة منذ حرب الاستقلال. وما يزال الشرق، بما في ذلك لاوس وكمبوديا وكوريا الشمالية وفيتنام، ملتزمًا بقيم الاشتراكية. إن الإرث الرئيسي للماركسية اللينينية، المتمثل برؤية ستالين للاتحاد السوفياتي الآسيوي، يقلب التاريخ رأسًا على عقب في هذه اللحظة. لقد انتقلت الصين من خوض حرب شعبها بالبنادق إلى شكل جديد من حرب الشعوب. فهي ترسخ نفسها بعمق في الاقتصاد العالمي، وتقفل حسابها الرأسمالي، وتعتمد على نجاح ثورتها الزراعية المبكرة في عهد ماو التي من خلالها تغذي السكان، وتؤمم التكنولوجيا للدفاع عن نفسها ضد الهيمنة العدوانية، التي تحمل ثقل التاريخ وراءها. وهذا هو الشكل الأكثر تطورًا لحرب الشعب. فالصين تبني القدرات في العالم النامي، في حين تعمل الولايات المتحدة على تدميرها. ولفهم سياسة الصين ودبلوماسيتها التي تبدو وكأنها تجابي أنظمة رجعية هنا وهناك، فهذا متعلق بجدل السياسة والتاريخ وكيف تتشكل السياسة لخدمة نزعه التاريخ التي تقوي صعود الصين. فكل توسط للسياسة أو الدبلوماسية التي تجذّر الصين في عملية التراكم الدولي، بما في ذلك بناء القدرات الوطنية والتمدد بالتجارة الخارجية يتجسد في قدرات الصين التنموية والدفاعية – وعندما التاريخ يحمل الصين إلى مرتبة أعلى يترتب على ذلك الانقلاب في موازين القوى الدولية التي بدورها تعيد تشكيل البنى في العالم الثالث على شكل أفضل. الأمم الكبرى كالصين والأمة العربية كانت وستبقى الآلية التي من خلالها تتحقق إرادة الجماهير. دور الطليعة هو الكشف عن الأزمة الوجودية للإنسانية بوصفها أزمة حكم رأس المال. وفقًا للينين، فإن إدراك أن رأس المال يعاني أزمة حكم هو نقطة الانطلاق للثورة. على الطليعة الشيوعية أن تستعين بجميع القوى البروليتارية وتعيد تنظيمها في النضالات المناهضة للإمبريالية والنظام. إن التضامن الأممي، وكشف النظرية الزائفة التي يربيها رأس المال، هو الطريق لتحقيق إمكانيات العمال كفاعل تاريخي.