مقدمة

تعدّ دراسة خصوصيات التنظيم الحرفي التقليدي من الدراسات التي أصبحت تلقى اهتماماً كبيراً من جانب علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ، باعتبارها من الدراسات الهامة ذات الأبعاد الثقافية والاجتماعية والحضارية والتاريخية والاقتصادية، التي شكلت (ولا تزال تشكل) قاعدة أساسية للبحث داخل الحقل السوسيو ـ أنثروبولوجي الذي يهتم بدراسة الحرف التقليدية كتنظيم اجتماعي وثقافي يعبر عن عادات وتقاليد ومعتقدات وأعراف ومختلف المظاهر التي تمكن من فهم نمط عيش وحياة الجماعة الحرفية.

لعل من أبرز التنظيمات الحرفية التقليدية بالمغرب، حرفة النحاس بمدينة فاس، التي مثلت منذ القدم مصدر افتخار لسكان المدينة العتيقة، حيث تميزت بتعدد أشغالها وحرفييها، وهو ما تطلب تعدد تخصصات الحرفيين ومساعديهم، التي شملت النقش والخرط والتلحيم والتلميع، فضلاً عن «تطويع المعدن بالضرب بالمطارق الذي كان يخص الأواني ذات الحجم الكبير كالمستعملة في الطبخ على النار» (الخلابي، 2008: ١٩٢).

على هذا الأساس، سأحاول، في هذا المقال، كشف خصوصيات هذا التنظيم التقليدي ودورها في تنظيم العمل الحرفي، اعتماداً على معطيات التحقيق الميداني وبعيداً من أنماط التفكير الجاهزة والأحكام المتسرعة والقيمية.

أولاً: الإطار المفاهيمي والتاريخي

1 ـ مقاربة مفاهيمية

تعتبر عملية تحديد المفاهيم محطة أساسية في البحث العلمي، لكونها تعكس توجه البحث على الصعيد النظري والمنهجي. لذلك، حاولت تحديد بعض المفاهيم المعتمدة داخل هذا المقال، على الصعيد النظري والمجرد، ثم بعد ذلك، تحديد معناها العملي والإجرائي الذي يعكس الأهداف العلمية لهذا المقال.

أ ـ مفهوم العمل الحرفي

يعتبر مفهوم العمل الحرفي من المفاهيم التي لقيت اهتماماً عميقاً وعريقاً داخل الفلسفات الاجتماعية القديمة، وعرفت جدالاً حاداً بين مختلف الحقول المعرفية والمرجعيات النظرية. فهناك من اعتبر العمل الحرفي آلية من آليات تحقيق ماهية الإنسان وتأسيس النظام الاجتماعي، في حين اعتبره آخرون فاعلية محتقرة من نصيب العبيد.

من أجل ذلك، حاولت البحث أولاً في ماهية العمل، باعتباره مطلباً فكرياً متشعباً، ومجالاً لاختلاف الاجتهادات في تعريفه، لأخلص في الأخير إلى تعريف إجرائي للعمل الحرفي مع إبراز أهم خصوصياته.

مفهوم العمل، من الناحية اللغوية، من «عمل ـ عملاً والجمع أعمال، يقصد به المهنة والفعل، والعامل من يعمل في مهنة أو صنعة» (مصطفى [وآخرون]، [د. ت.]: ٦٢٨).

أما في الاصطلاح، فالعمل هو «شرط أولي للوجود الإنساني، وبفضله خلق الإنسان نفسه وحقق وجوده» (كرم، 1987: ٣١٤).

في هذا المنحى، أعطى «ابن خلدون» لمقولة العمل أهمية خاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي، حيث أكد في مقدمته على ضرورة العمل، باعتباره ظاهرة اجتماعية لازمة للعمران البشري، واستناداً إلى أن «الإنسان لا بد له من القوت الذي لا يحصل إلا بالتعاون الجمعي»[1].

العمل بهذا المعنى، هو بمنزلة منشّط للإنسان العقلاني الواعي، الهادف إلى تحويل مواد الطبيعة بغية تكييفها مع الحاجات البشرية، وبفضله تمكن الإنسان من تخطي العالم الحيواني، ومن «السيطرة على طبيعته وعلى قوى الطبيعة واستخدامها لمصالحه» (خليل، 1989: ٢٤٦).

لم تكن هذه النظرة الإيجابية حول ماهية العمل موجودة في العهود القديمة، وبخاصة عند الإغريق والرومان، إذ كان ينظر إلى العمل بوصفه استعباداً للإنسان وأصل بؤسه، وعقاباً كذلك من الآلهة مسلطاً على الجنس البشري. فقد اعتبر الرومان العمل اليدوي عذاباً يصيب العبيد، وعلى المواطنين أن «يستغلوا أوقاتهم في السياسة ووضع القوانين وإتقان فنون الحرب وممارسة الرياضة» (الجابري [وآخرون]، 1971: ٥٢٩).

فالعمل في مفهومه القديم، لم ينفصل عن الإكراه، ولم يخرج عن مراتب العبودية واسترقاق أوضاع المسخّرين لمباشرته. تلك كانت ماهيته في مختلف الحضارات القديمة: الفرعونية والإغريقية واللاتينية، التي اعتبرته «ضرورة اجتماعية مرتبطة بوجود الأرقاء» (الفيلالي، 2006: ٧٩).

هذه النظرة السلبية للعمل نجدها حاضرة حتى في الفلسفة اليونانية، حيث تم احتقار العمل من طرف مجموعة من الفلاسفة أمثال «أفلاطون» و«أرسطو». ولعل هذا الاحتقار يجد تبريره في طبيعة المجتمع اليوناني الذي كان يتميز بتراتبية صارمة: العبيد في أسفل السلم الاجتماعي بجانب الصنّاع والحرفيين، بينما احتلت الفلسفة والتأمل النظري مرتبة رفيعة، باعتبارهما «عملاً فكرياً خالصاً غايته تفسير الكون والحياة الإنسانية» (مطر، 1998: ٢٣).

في الفلسفة الحديثة كذلك، واصل «ديكارت» تلك النظرة التحقيرية للعمل (وبخاصة العمل اليدوي) باعتباره لا يرتقي إلى مستوى العمل الفكري. بالتالي فهو ينعكس سلباً على ماهية الإنسان «كعقل يمتلك صفة التفكير» (رايت، 2010: ١٠٣).

إلا أنه مع قيام الثورة الصناعية والعلمية والتقنية، وما أحدثته من تحولات عميقة عاشتها المجتمعات الغربية في العصر الحديث، تم تجاوز تلك الصورة التحقيرية للعمل وذلك التقدير السلبي الذي طبع ماهيته.

فقد اعتبر «هيغل» (١٧٧٠ ـ ١٨٣١)، العمل، نشاطاً اجتماعياً ينجزه الناس بعضهم لمصلحة بعض من أجل التلبية المتبادلة لحاجاتهم، ولحمة حقيقية للعلاقات الاجتماعية واستمرارها. بمعنى، أن أهمية العمل تأتي من خاصيته الجمعية، فالفرد لا يعمل وحده، بل هو في علاقة دائمة مع الآخرين (الجابري [وآخرون]، 1971: ٥٤٣). وهذا يؤكد فكرة «علاقة الكل بأجزائه» التي برزت في فلسفة «هيغل»، فأي جزء من الكل (حسب هيغل) «هو على ما هو عليه بفضل علاقته بالنسق ككل وبالأجزاء الأخرى» (رايت، 2010: 312).

في المنحى ذاته، يرى «كارل ماركس» (١٨١٨ ـ ١٨٨٣) بأن العمل «يبدع نظاماً من التضامن ويتخذ شكلاً من أشكال التعاون تتحقق به ماهية الإنسان» (ماركس، 1947: ٢٨٦).

غير أن «ماركس» يعتبر العمل استلاباً في ظل النظام الرأسمالي، حيث تتركز ملكية وسائل الإنتاج في أيدي عدد قليل من الرأسماليين، وحيث يضطر العامل إلى بيع شغله وقدرته الإنتاجية لقاء أجر زهيد مستهلك. وفي هذا الوضع الاستلابي الاستغلالي، لا يستطيع العامل تحقيق ذاته كفرد وإنسان (الجابري [وآخرون]، 1971: ٥٣٧).

يلاحظ إذن، أن مفهوم العمل، سواء عند «كارل ماركس» أو «آدم سميث» (أحد مؤسسي الليبرالية الاقتصادية المعاصرة، يرى بأن الطاقة البشرية هي أساس القوة الاقتصادية)، له صبغة اقتصادية لأنه مرتبط دائماً بالإنسان كعامل في الإطار الاجتماعي ومحصور في دائرة الإنتاج. فالعمل بهذا المعنى، هو ذلك «المجهود الذي يبذله الإنسان لاستهلاك قوة العمل في عملية الإنتاج» (الوكيلي، 2009: ٥١).

بالتالي، ومن خلال رصد المواقف السابقة، تتأكد صعوبة تحديد مفهوم العمل، وذلك راجع لتعدد زوايا الرصد واختلاف المرجعيات الفكرية والأيديولوجية في تناول هذا المفهوم. إلا أن ما يهمنا نحن في هذا البحث، هو مفهوم العمل الحرفي وأهم خصوصياته، أي تبيان العنصر الإنساني والثقافي داخل العمل الحرفي، والتأكيد أن الحرفي لا يحقق مهمته على نحو أفضل إلا في حياة جمعية يسودها التضامن والتعاون والامتثال للقيم والمعايير الحرفية.

على هذا الأساس، فالعمل الحرفي (كتنظيم اجتماعي وثقافي)، إضافة إلى كونه فضاء للإنتاج، فهو أيضاً فضاء للتعلم والابتكار، لاكتساب الهوية وتحقيق الذات، لإنتاج القيم والمعايير الحرفية، أي «فضاء لتلك العمليات الاجتماعية التي تساهم في بناء الهوية الاجتماعية للأفراد» (امعمري، 2006: ١٩٧).

ومن أهم خصوصيات العمل الحرفي، أنه يعتمد في تنظيم سير العمليات الإنتاجية على الأعراف والتقاليد المتوارثة وليس على التعليمات والقوانين الرسمية القابلة للتغيير. وكما يقول «روجي لوطورنو»: يرتكز العمل الحرفي «على عرف غير مكتوب، ولعله عرف أشد قوة من الأنظمة القانونية، إذ كان يعرفه الجميع ويقبله بدون نقاش» (لوطورنو، 1992: ٥٢٦).

ب ـ مفهوم التنظيم الحرفي

يشير مفهوم التنظيم الحرفي إلى مختلف القيم والمعايير والمعتقدات والأعراف المشتركة بين الحرفيين، والتي تحدد توجههم وسلوكهم التنظيمي وتضمن أداء العمل الحرفي بشكل منتظم ومتناسق. وحتى يتضح هذا المفهوم، في معناه الإجرائي، لا بد في البداية من تحديد مفهوم التنظيم وإبراز أهم خصائصه ووظائفه. فالتنظيم (Organisation) حسب موسوعة لالاند الفلسفية، له أربع تفسيرات (خليل، 2001: ج 3، ص ٩٢٢):

(1) سمة ما هو منتظم؛

(2) مجموعة مكونة من أجزاء مختلفة، متعاونة؛

(3) الطريقة التي يجري هذا التعاون بموجبها؛

(4) فعل التنظيم.

يفسر هذا التعريف غلبة الطابع الاجتماعي والإنساني على فعل التنظيم، باعتباره يقوم أساساً على التعاون والانسجام بين أعضائه. هذا البعد الإنساني والاجتماعي في التنظيم، حاضر في السوسيولوجيا الصناعية وسوسيولوجيا الشغل وسوسيولوجيا التنظيمات كذلك، التي ركزت دراستها على «المظهر الإنساني أو المظهر المرتبط بسلوك الإنسان المنخرط في العملية التنظيمية» (امعمري، 2006: ١45).

في هذا السياق، يعرّف «تالكوت بارسونز» (talcot parsons) (من أبرز علماء الاجتماع المعاصرين في الولايات المتحدة الأمريكية ـ ١٩٠٢ ـ ١٩٧٩)، التنظيم على أنه وحدة اجتماعية تقام وفقاً لنموذج بنائي معيّن لكي تحقق أهدافاً محددة. وقد انطلق «بارسونز» من تصور التنظيم بوصفه «نسقاً اجتماعياً يتألف من أنساق فرعية مختلفة كالجماعات والأقسام والإدارات، وأن هذا التنظيم يعد بدوره نسقاً فرعياً يدخل في إطار نسق اجتماعي أكبر وأشمل كالمجتمع» (لطفي، 1993: ٩).

نفهم من هذا التعريف (تعريف ت. بارسونز)، أن التنظيم مرتبط بالنسق الاجتماعي (أي المجتمع)، فهو ليس شيئاً جديداً ابتدعه الإنسان الحديث، لأن التاريخ يشهد على أن الحضارات القديمة أقامت تنظيمات مختلفة لكي تحقق أهدافاً متعددة. فالفراعنة أنشؤوا تنظيمات مكنتهم من إقامة الأهرامات، وأباطرة الصين استعانوا منذ آلاف السنين بتنظيمات عاونتهم على بناء مشروعات ري هائلة، والرومان أقاموا تنظيمات تجارية معقدة حققت الأهداف التي كانوا يصْبون إليها حينئذٍ (الحسيني، 1994: ١١).

فالتنظيم، بهذا المعنى، يقوم أساساً على التعاون بين أعضائه، القائم على الانسجام بين الأهداف الشخصية والأهداف الجماعية المتمثلة بالغايات التي يسعى التنظيم لتحقيقها.

بناءً على ما سبق، يبقى التنظيم الحرفي هو ذلك الوسط الاجتماعي الذي يكتسب فيه الفرد هوية اجتماعية، من خلال ثقافة التعاون والالتحام، وعن طريق الامتثال لمعايير وقواعد وأعراف الحرفة، والتضامن بين الحرفيين، والخضوع لسلطة «المعلم».

فالتنظيم الحرفي، بالنسبة إلى حياة الحرفيين، ليس فقط ورشة للعمل والإنتاج، بل هو عبارة عن وسط يتم داخله بناء التمثل حول الذات وحول الآخرين. فهو، إن صح التعبير، «تنظيم إيديولوجي»، لأنه عالم من الأفكار والمعتقدات والقيم والمعايير، التي يتم التعبير عنها عن طريق الرموز، والتي تحدد وتضبط سلوك الفرد أثناء العمل الحرفي.

ج ـ مفهوم التراث الحرفي

قبل تحديد مفهوم التراث الحرفي، لا بد في البداية من أن نقارب مفهوم التراث من الناحية اللغوية والاصطلاحية، لأن مفهوم التراث، في الأصل، يعاني غموضاً والتباساً دلالياً بسبب تعدد زوايا الرصد واختلاف التوجهات التي يسلكها كل باحث في محاولة لتعريف هذا المفهوم والإحاطة به في شموليته.

فهناك من يحدد التراث في ما هو « ثقافي من قيم وسلوكات وأنماط عيش… وآخر في ما هو معماري من بنايات وقصور… وآخر في ما هو إبداعي وفني من نقش وفكر وحكاية وأمثال» (أبو زيد، 2007: ٢٠٠٧: ٣٥).

أما في اللغة، فالتراث من مصدر الفعل ورث، «وهو ما يخلّفه الرجل لورثته، ويقال ورث وإرث وإراث ووراث وميراث وتراث، وهو ما يخلّفه الميت من مال فيورث عنه» (ابن منظور، ([د. ت.]): ج 2، ص ٢٠٠).

التراث بهذا المعنى، إذن، هو كل ما ورثناه وكل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، إنه قضية موروث، وفي الوقت نفسه، قضية معطى حاضر على عديد من المستويات (الثقافية، الاجتماعية، والاقتصادية…).

إن مفهوم التراث، في المغرب، الذي كان سائداً منذ الفترة الكولونيالية، هو التراث بمفهومه الأوروبي (Patrimoine)، الذي يعكس التصور المادي العمراني الغربي للتراث (بنايات، أنماط معمارية…)، وهو ما جعل مجموعة من الباحثين والمختصين يؤكدون ضرورة تجاوز التراث المرتبط بما هو مادي، إلى «تصور أنثروبولوجي يربط التراث بما هو شفهي ولامادي» (Berriane, 2010: 11).

بناء على هذا التصور، يمكن القول، إن كلمة «باتريموان» (Patrimoin) وكلمة «تراث»، ليس لهما الشحنة الدلالية نفسها. فالأولى (باتريموان) تشير إلى «منحى التعبير عن ميراث مادي مجسّد في أشكال وأنماط عمرانية ملموسة، بينما توحي دلالات «التراث» على كونه يحيل على تصورات لامادية» (الناصري، 2010: ١٥).

وقد أصبح الاهتمام الحالي منصباً في اتجاه الدراسة والبحث حول التراث اللامادي، الذي يتمثل بالتشبث بالتقاليد والعادات والتعلق بالسلوكيات الموروثة. وهذا يؤكد أن علاقة الإنسان (العربي) بتراثه اللامادي، علاقة عضوية، إذ إن «هويته القومية برمتها تتغذى من هذا التراث، لارتباطه في وعيه بأبعاد حضارية وتاريخية ودينية وسياسية على حد سواء، كما أن حياته المعاصرة مبنية على هذه المعادلة الموروثة والمعيشة في آن» (معتوق، 2010: ٢١).

لذلك، يتم التعامل مع مسألة التراث على أساس لا يفصل فيه الفرد بين الماضي والحاضر، بحيث تبقى مفاهيم التراث ومفاهيم المعاصرة تنتمي كلها إلى بنية واحدة، يسودها قانون واحد. وهذا ما ينطبق عليه ما نعته الأمريكي «توماس هوبز» (Thomas Hobbes) بـ «التفكير الدائري»، الذي يدور ضمن أنموذج إرشادي واحد، وقدرته على الإقناع كبيرة جداً لدرجة الإلزام. إذ عندما يتصل الماضي بالحاضر، من دون فواصل نظرية أو فكرية، ويسكن منطق الموروث في الممارسات والخيارات الراهنة، «يسترشد الفرد بما عاشه أسلافه كما لو أنه ما زال قائماً اليوم» (معتوق، 2010: 17).

التراث إذن، قيمة حية في وجدان الفرد، ومرجعية تاريخية وثقافية حاسمة في تقوية شعور الانتماء. لذلك، فالبحث في هذا التراث ضرورة واقعية، ورؤية صائبة للواقع، باعتباره جزءاً من مكونات الواقع المعيش، لا دفاعاً عن موروث قديم فقط. فالبحث في التراث هو انطلاق لطاقات مختزلة عند الجماهير، بدلاً من وجود التراث كطاقة مختزلة لا تستعمل أو «تصرف بطرق غير سوية في سلوك قائم، إما على التعصب أو الجهل أو الحمية الدينية والإيمان الأعمى، أو يستعملها أنصار تثبيت الأوضاع القائمة لحسابهم من أجل الدفاع عن الثبات الاجتماعي» (حنفي، 1980: ١٦).

فقد ظل مصطلح التراث لفترة معينة من الزمن، ينطلق من مفهوم سكوني يكرس النزعة الماضوية التي تخدم المشاريع التجميدية. وهذا يترجم عملياً كما يقول محمد بزيكا إلى التقييم المتحفي للتراث، وهو «تقييم ينطوي على أيديولوجية تسعى إلى تحنيط تراث وثقافة الشعب وتطويقهما ومنعهما من الامتداد في الحاضر والمستقبل» (بزيكا، 1982: ١٧).

من هنا، فإن المطالبة بإعادة إحياء التراث وتوجيه أنظار الباحثين والدارسين والقارئين إليه، ليس من أجل التقليد، بل للاستلهام وكسب الخبرة والمعرفة وتقدير الذات المبدعة، فالتراث ليس مجرد تراكم خبرات ومعارف، ولكنه اعتراف أمام الذات والعالم، واعتراف أيضاً بما حققه الماضي وما يمكن أن يحققه الحاضر والمستقبل، وباعتباره كذلك تاريخ الأمة السياسي والاجتماعي والثقافي، ومجموع خبراتها المكتسبة بالممارسات اليومية والعلائق الاجتماعية، التي كثيراً ما تصاغ في حكايات وخرافات وأمثال وحكم ونكت تجري على ألسنة الناس بأساليب تعبيرية متنوعة تعكس «خبراتهم النفسية والوجدانية ونشاطاتهم التخييلية ومواقفهم الاجتماعية والسياسية» (الكبيسي، 1987: ٦)…، فهو بهذا المعنى (أي التراث)، يمكننا من «الإحساس بالتضامن بين الأجيال ومن الشعور بالاستمرارية بين العصور والتأكد من الثوابت بين المجموعات الإنسانية» (الناصري، 2010: ١4).

في هذا السياق، يعتبر تراث مدينة فاس بمنزلة «جسر بين ماضٍ مجيد (Passé Glorieux) وحاضر مثقل بجذور حضارة عريقة» (Mezzine, 2010: 35)، وبخاصة تراثها الحرفي (باعتباره موضوع الدراسة)، حيث يعتبر الصانع التقليدي من أكبر مروّجي هذا التراث، وأكبر حافظ للتقاليد الثابتة (Tradition Immuable).

إن التراث الحرفي كمفهوم إجرائي داخل هذا المقال، وكنوع من أنواع التراث، نقصد به مختلف أنماط السلوك والمهارات التي يكتسبها الفرد باعتباره عضواً داخل الجماعة الحرفية، وكذلك الأساليب والأدوات المستخدمة في العمليات الإنتاجية، وباقي الأعراف والمعايير والعادات الاجتماعية والرموز التعبيرية والقيم الموجهة للسلوك داخل التنظيم الحرفي وخارجه.

بالتالي، لا بد من فهم وجهات النظر المختلفة التي تنظر إلى التراث الحرفي انطلاقاً من أيديولوجيات متعددة. فالدولة تسخّر هذا التراث الحرفي ليكون أداة من أدوات الثقافة الوطنية ورهاناً للتنمية السياحية، في حين أن النخب تنظر إليه من منطلق الحنين إلى الماضي، وتعتبره مرجعاً لهويتها، أما لبقية سكان المدينة فيشكل بالنسبة إليهم فضاء معيشياً معترفاً به (Kurzac-Souali, 2010: 117)، وهو كذلك بالنسبة إلى الباحث الأكاديمي مجالاً خصباً للبحث والدراسة لفهم خصوصياته السوسيو ـ ثقافية وقيمته ومدى انعكاسه وتأثيره في الأفراد.

2 ـ خصوصيات المجال المدروس: مدينة فاس

أ ـ الإطار التاريخي

إن تاريخ مدينة فاس، تاريخ معقد، يصعب التحكم في خيوطه الباطنية والظاهرية، لأنه صعب الإدراك لتشابك قضاياه وارتباط بعضها ببعض في ظرفيات متغيرة ومتطورة، وخصوصاً أن بداية هذا التاريخ لا تزال محطة للبحث والتنقيب ومحل نقاش الباحثين، بينما لا يزال تاريخها الراهن صعب الإدراك، ولا تزال «الخيوط المتحكمة فيه متشابكة ولا تزال المصالح المؤثرة فيه حية، تتفاعل وتتناقض مرة لتتوافق مرة أخرى» (مزين [وآخرون]، 2010: ٣١٣).

وفي كل محاولة للحديث عن تأسيس مدينة فاس، يجب التمييز بين جانبين، جانب أسطوري وآخر تاريخي:

  • الجانب الأسطوري: إن أهم ما اشتهر من الأساطير التي تناولت تاريخ مدينة فاس، الأسطورة التي تقول بأن الإمام إدريس بن إدريس لما وقف بموضع مدينة فاس، عازماً على بنائها، صادف هناك راهباً ناسكاً متعبداً، «فكان بينهما من المحادثة والحوار ما استبشر به المولى إدريس خيراً، فقوّى عزيمته على البناء وسارع له إلى الشروع في حفر الأساس» (مزين [وآخرون]، 2010: ٢٢).

أما في ما يخص أصل تسمية المدينة بفاس، فقيل إن الإمام إدريس لمّا شرع في بنائها كان يعمل فيها بيده مع الصنّاع، فصنع له بعض خدمه فأساً من ذهب فكان يمسكها بيده ويبدأ بها الحفر ويختط بها الأساسات، فكثر ذكر تلك الفأس على ألسنتهم في طول مدة البناء، فكان الناس يقولون: «هاتوا الفأس، خذوا الفأس، احفروا بالفأس، فسميت مدينة فاس لأجل ذلك» (الجزنائي، 1991: ٢٣).

  • الجانب التاريخي: يذهب «حسن بن محمد الوزان الفاسي» في كتابه وصف إفريقيا، إلى أن المدينتين المتميزتين اللتين تكونت منهما فاس، «أسسهما إدريس بن إدريس: الأولى على الضفة اليمنى الشرقية للنهر في يوم الخميس ٣ ربيع الأول عام ١٩٢هـ/٦ كانون الثاني/يناير ٨٠٨م، والثانية على الضفة اليسرى الغربية أوائل ربيع الثاني عام ١٩٣هـ/آخر كانون الثاني/يناير ٨٠٩م» (الفاسي، 1980: ١٧٣).

وعموماً، تجمع المصادر التاريخية المغربية التي اهتمت بتاريخ مدينة فاس، مثل روض القرطاس، وجنى زهرة الآس، وجذوة الاقتباس، أن مؤسس المدينة بعدوتيها هو الإمام إدريس بن إدريس.

أما المصادر الأندلسية، فإنها تتفق على أن مدينة فاس مدينتان، وإن إحداهما بناها «إدريس بن عبد الله سنة ١٧٢هـ/٧٨٩م، وتعرف بعدوة الأندلس، وأن الثانية بناها إدريس بن إدريس سنة ١٩٣هـ/٨٠٩م، وتعرف بعدوة القرويين» (مزين [وآخرون]، 2010: ٢٣).

من خلال ما سبق، يتضح أن المصادر المغربية والأندلسية تتفق جميعها أن إدريس بن إدريس هو مؤسس عدوة القرويين سنة ١٩٣هـ/٨٠٩ م، وتختلف حول مؤسس عدوة الأندلس، إذ تؤكد المصادر المغربية أن تأسيس عدوة الأندلس «فاس» كان قبل ذلك بسنة واحدة عام ١٩٢هـ/٨٠٨م، على يد إدريس بن إدريس كذلك؛ وتؤكد المصادر الأندلسية أن تأسيس هذه العدوة «كان قبل أختها بنحو إحدى وعشرين سنة عام ١٧٢هـ/٧٨٩م، على يد إدريس بن عبد الله» (مزين [وآخرون]، 2010: ٢٣).

من خلال ما سبق، تتبين صعوبة الخروج بخلاصات نهائية حول تاريخ تأسيس مدينة فاس، وخصوصاً أن تاريخها لا يزال يعرف نقاشاً حاداً وجدلاً واسعاً بين مجموعة من الباحثين والمتخصصين. لذلك، يصعب الجزم بأن المصادر والوقائع التي تعتمد في تأريخ مدينة فاس تمكننا من الخروج بخلاصات نهائية. كل ما يمكن الحديث عنه هو أن فاس بلورت نمطاً متجدداً للمدينة المغربية، تجلّى في انتظام تطورها بناء على نظام عمراني متنامٍ، وعلى دورة وإيقاع يتحكمان في صيرورة تاريخها، «يبرزان بوضوح في تشكل مجتمعها وفي نضج اقتصادها، مما يدفعنا إلى الاقتناع بأن ذلك أهّلها لأن تصبح نموذجاً حضارياً في بلاد المغرب» (مزين [وآخرون]، 2010: 314).

ب ـ الإطار الجغرافي

تحتل مدينة فاس موقعاً استراتيجياً مهماً، فهي تقع في ملتقى الطرق، رابطةً بين شمال المغرب وجنوبه، وشرقه وغربه، كما يحد إقليم فاس جغرافياً إقليم تازة في الشرق، وإقليم مكناس وإفران في الغرب، وإقليم تاونات في الشمال، وبولمان في الجنوب (خالص، 2010: ١٠).

تتميز بمناخ معتدل تغلب عليه طابع القارية، يمتاز بانخفاض درجة الحرارة شتاءً، وارتفاعها صيفاً، وهو ما يساعد على تباين المحاصيل الزراعية، إضافة إلى توافر تربة غنية صالحة لزراعة الحبوب بهضبة سايس، وتنتشر أيضاً على ضفاف واد سبو وروافده (تلوزت، 2001: ١٦٩).

إن الموقع الجغرافي لمدينة فاس، وكذا قربها من الأطلس المتوسط وغاباته الغنية بالأخشاب، جعل هذه المدينة تعرف نشاطاً حرفياً مزدهراً، حيث اشتهرت بجودة صنائعها ووفرة منتجاتها، إذ إن «للحرف والصنائع دوراً كبيراً في تحريك الدورة الاقتصادية بالمدينة ومحيطها القريب والبعيد، وانعكست آثارها إيجابياً على الأنشطة الفلاحية والمبادلات التجارية» (مزين [وآخرون]، 2010: 131).

لقد تميزت مدينة فاس، بأنشطتها التجارية والحرفية، واحتضانها أسواقاً مرتبة بطريقة دقيقة، الأمر الذي يدل على حرص شديد في تنظيم المجال العمراني وتوزيع الأنشطة الاقتصادية. كما تميزت، عبر مشوارها الحضاري، بأدوارها السياسية والدينية من جهة، وبمستوياتها الثقافية والفنية من جهة أخرى، فجسدت، بكل ذلك، وعلى امتداد الحقب والأزمان منذ نشأتها «هوية المغرب الثقافية والحضارية وقطبه الجامع للتراث والعلم والمعرفة والفكر والإبداع» (مزين [وآخرون]، 2010: 33).

ثانياً: نتائج الدراسة الميدانية

1 ـ الجماعة الحرفية: قراءة في تنظيم حرفة النحاس

كشفت الدراسة الميدانية[2] التي أجريتها على عينة من حرفيي النحاس بمدينة فاس، أن التنظيم الحرفي، في الأصل، هو عبارة عن تنظيم اجتماعي، يحتضن في نظامه الداخلي أنماطاً من العلاقات الاجتماعية بين الحرفيين، ينبغي تحليلها وكشف مضامينها وخصائصها ذات البعد الإنساني بدرجة أولى.

يتمثل هذا البعد الإنساني في التنظيم الحرفي، حسب تجربة الحرفي «أحمد»[3] التي دامت ٣٨ سنة من العمل بحرفة النحاس، بثقافة الالتحام والانصهار داخل ما أسماه «جماعة الصناع»[4]، التي جعلت من التنظيم الحرفي ذلك الوسط الذي يكتسب فيه الفرد (الحرفي) هويته الاجتماعية، ويحقق ذاته، سواء كحرفي داخل بيئة العمل الحرفي، وهذا ما عبر عنه أحد الحرفيين المستجوبين بقوله: « أكون مرتاحاً وفي قمة السعادة عندما أمارس حرفتي» [5]؛ أو كفرد داخل المجتمع، وهذا ما أكده حرفي آخر بقوله: «جميع الناس يحترمون حرفتي، ومكانتي وسط العائلة والأصدقاء مهمة وتزيد من حبي للحرفة وأنا وأولادي فخورون بعملنا الحرفي»[6].

تؤكد هذه الشهادات، إحدى فرضيات هذا المقال، التي تقول إن حرفة النحاس (كتنظيم اجتماعي) ليست فقط مجالاً للإنتاج، بل هي كذلك مجال لإبراز هوية الحرفي وتحقيق ذاته كفرد داخل الجماعة الحرفية من جهة، وداخل المجتمع من جهة أخرى.

أ ـ البناء التنظيمي للجماعة الحرفية

لقد شكل مفهوم «الجماعة الحرفية» أحد أهم المحاور التي ارتكزت عليها دراستي الميدانية، قصد فهم النظام الداخلي لهذه الجماعة، وكشف خصوصياته ومضامينه ومحدداته الاجتماعية والثقافية.

على هذا الأساس، وبناءً على المعطيات الميدانية، تبين أن جماعة حرفيي النحاس «جماعة مرجعية»[7] بدرجة أولى، بمعنى يرجع إليها الحرفي في تقييم سلوكه وقياس مدى امتثاله للمعايير والقيم الحرفية، حيث يقول أحد المستجوَبين في هذا السياق: «لا يخرج من الجماعة إلا الشيطان، وجماعتنا الحرفية كلها أعراف تعلمناها من الحرفيين القدماء لا يمكن الخروج عن ضوابطها»[8]. معنى هذا القول، أن تنظيم العمل الحرفي يعتمد على قوانين وأعراف جماعية متوارثة من جيل حرفي إلى آخر، وأي خرق لهذه الأعراف يؤدي إلى الطرد من الجماعة الحرفية.

إن مفهوم «الجماعة المرجعية» مفهوم هام ومفيد في شرح قوة المعايير الجماعية وتأثيرها في تنظيم السلوك والعمل الحرفي. ويفيد هذا المفهوم في أبسط معانيه، أن سلوك الإنسان يتأثر بالناس الآخرين بطرق مختلفة، وبدرجات مختلفة. على سبيل المثال، نجد أن الشخص يقارن بين نجاحه ونجاح الآخرين، وكثيراً ما تؤدي هذه المقارنة إلى الشعور بالرضا أو عدم الرضا. هذه الجماعات التي يرجع إليها الفرد في تقييم سلوكه قد تكون «جماعة اجتماعية أولية مثل الأسرة، وقد تكون فئة اجتماعية ينتمي إليها الفرد» (لطفي، 2007: ٩٠)، مثل الجماعة الحرفية التي نحن بصدد دراستها لفهم خصوصياتها.

أما مفهوم الجماعة الحرفية، كما تتمثله عينة الدراسة، فمرتبط، في أغلب المقابلات التي قمت بإجرائها، بالزمن الماضي الذي كانت تسوده قيم التضامن والتعاون والإخلاص داخل العمل الحرفي. في السياق ذاته، أكد لنا الحرفي أحمد أن النظام الحرفي في العهود السابقة، كان يسوده التضامن والتعاون بين الحرفيين والصدق والإتقان في العمل، حيث كانت القيم والأعراف المتوارثة جيلاً بعد جيل تشكل ضابطاً من أهم الضوابط التي ساهمت في استمرار نظام حرفة النحاس، والامتثال لمعاييره المتفق عليها بين أفراد الجماعة الحرفية.

إن مصطلح «النظام» الذي جاء على لسان الحرفي أحمد أكثر من مرة في حديثه عن سيرته الحرفية، دفعني إلى طرح مجموعة من التساؤلات على باقي الحرفيين (عينة الدراسة) حول هذا النظام، قصد كشف خصوصياته ودعاماته الأساسية، وأبعاده العملياتية والاجتماعية والثقافية داخل تنظيم حرفة النحاس.

في ذات المنحى، وبعد تحليل مضمون المقابلات الميدانية، توصلت إلى فكرة أساسية مفادها، أنه إذا كان «ماكس فيبر»‏[9] في نموذجه المثالي حول التنظيم البيروقراطي قد أكد أن هذا التنظيم يركز على عدة خاصيات أهمها: «وجود درجة عالية من التخصص؛ بناء رئاسي للسلطة؛ نسق غير شخصي للعلاقات بين أعضاء التنظيم؛ وتحديد العضوية وفقاً للمقدرة والخبرة الفنية…» (لطفي، 2007: ٩٧)، فإنني وجدت في التنظيم الحرفي بعضاً من أهم خصائص هذا التنظيم البيروقراطي، باعتباره يتسم بطابع عقلاني في تنظيم العمل بين أعضاء الحرفة، يشبه إلى حد كبير التنظيم البيروقراطي، ويعارض بشكل مطلق «التنظيم المشكلن» الذي دافع عنه «فريدريك تايلور»‏[10]. بمعنى أن العمال الذين ينظر إليهم «تايلور» كشكل من العضلات المجردة من الأحاسيس، يكونون، داخل التنظيم الحرفي، مجموعة متفاعلة تحركها دوافع أخرى غير تلك التي اهتم بها «تايلور».

لمعرفة هذه الدوافع التي تتحكم في التنظيم الحرفي، كان لا بد من دراسة البناء الداخلي لحرفة النحاس وكشف خصوصياته وأبعاده المختلفة.

يتكون هذا البناء الداخلي، كما أكدت أغلب المقابلات الميدانية، من خمس مجموعات أساسية هي:

١ ـ المحتسب؛

٢ ـ أمين الحرفة (أو الصنعة)؛

٣ ـ المعلمين؛

٤ ـ الصناع (الصنايعية)؛

٥ ـ المتعلمين.

يمارس كل عضو داخل هذه المجموعات الحرفية عمله وفق نظام يرتكز على عرفٍ غير مكتوب، «ولعله عرفٌ أشد قوة من الأنظمة القانونية، إذ كان يعرفه الجميع ويقبله بدون نقاش» (لوطورنو، 1992: ٤٢٦).

إن التحليل السوسيولوجي لهذا البناء التنظيمي، وهذا التراتب المهني داخل حرفة النحاس، يكشف لنا مميزات هذا الترتيب، الذي ساهم (كما جاء في سيرة الحرفي أحمد) في خلق نوع من الانضباط والتفاعل، ونوع من المسؤولية الجماعية وتقسيم العمل في إطار جماعة حرفيي النحاس. كما أن النسق القرابي الذي يغلب على هذه الحرفة ساهم في استمرار هذا التنظيم الحرفي وضمان فاعليته جيلاً بعد جيل.

ب ـ النسق القرابي داخل الحرفة: الخصوصيات والأبعاد

اهتمت مجموعة من الباحثين الأنثروبولوجيين والسوسيولوجيين بعنصر القرابة وأهميته في توجيه العلاقات الاجتماعية.

في المنحى ذاته، أستحضر نموذج الباحث الأنثروبولوجي الأمريكي «ديل إيكلمان» (Dale Eickelman)، الذي خلص في دراسته حول «الزاوية الشرقاوية بأبي الجعد»، إلى أن العلاقات الاجتماعية في المغرب، هي بالدرجة الأولى علاقات ثنائية بين الأفراد أو بين مجموعات من الأفراد، وأنها « تبنى على قواعد متعددة منها رابطة القرابة الدموية ورابطة الجوار ورابطة العلاقات الزبونية والعلاقات الناتجة من المصالح المشتركة. وقد اصطلح على مجموع هذه الروابط بمصطلح القرابة» (إكلمان، 1989: ٧).

على هذا الأساس، وبناء كذلك على قول أحد المبحوثين: «أبناء الحرفيين هم فقط من يتحملون صنعة آبائهم ويصبرون على مشقتها»[11]، سأحاول في هذا المقال فهم خصوصيات النسق القرابي داخل حرفة النحاس، وما مدى مساهمته وفاعليته في خلق نمط من العلاقات الاجتماعية داخل التنظيم الحرفي، يسوده الاحترام المتبادل والطاعة وروح التعاون والامتثال للقيم والمعايير الحرفية.

تبين من خلال المعطيات الميدانية، أن لعامل القرابة دوراً بارزاً وأساسياً في توارث حرفة النحاس. فالأب الحرفي، تدفعه انتمائيته وحبه للعمل إلى الحرص على تعليم ابنه أو أحد أقربائه فنون الحرفة. لذلك، يقوم بتدريبه عملياً على تعلُّم الحرفة مع متابعته المستمرة لهذا الابن حتى يكتسب المهارة اليدوية ويقف على كل أسرار الحرفة. وقد يحدث في بعض الأحيان «أن يقوم الأب الحرفي بدفع مبلغ من المال مقابل تعليم ابنه فنون الحرفة لدى أحد المعلمين الآخرين» (علام، 2004: ١١٢).

كما تتحدد أهمية العنصر القرابي، في نظر أغلب حرفيي النحاس المستجوَبين، في ترسيخها لمجموعة من أخلاقيات الحرفة والحفاظ على استمرارها، نذكر أهمها:

ـ ضمان الطاعة والامتثال لمعلم وأمين الحرفة؛

ـ ضمان عدم إفشاء أسرار المهنة خارج محيط الحرفة، بهدف المحافظة على جودة المنتجات الحرفية؛

ـ ضمان توارث أسرار وفنون الحرفة من جيل لآخر.

كانت هذه أهم العوامل التي ساهمت في انتشار العنصر القرابي داخل الحرفة، وهي مسألة أكدت أهميتها أغلب المقابلات الميدانية وبررت انتشارها داخل تنظيم حرفة النحاس.

لقد ساهم العنصر القرابي داخل حرفة النحاس، في بروز جو من التضامن بين أعضاء الجماعة الحرفية، حيث تذوب فردية الفرد (الحرفي) داخل هذه الجماعة، بمعنى أن الحرفي يتبنى ـ لاشعورياً ـ ثقافة الجماعة الحرفية وقيمها ومعاييرها، ويتقبل أهداف التنظيم الحرفي باعتبارها جزءاً من أهدافه الشخصية، على اعتبار أن القيم والمعايير الحرفية هي جزء من القيم والمعايير السائدة داخل أُسَر حرفيي النحاس بفاس، وأن نظام العمل الحرفي هو امتداد للنظام الأسري. فأبناء حرفيي النحاس تربوا على هذا النظام، واكتسبوا خصوصيات ومحددات الثقافة الحرفية منذ الصغر داخل البيئة الحرفية.

من هذا المنطلق، يتبين دور التنشئة الاجتماعية التي بمقتضاها يبني الفرد (الحرفي) هويته وشخصيته، عبر تعلمه وتفاعله مع أسرته الحرفية، التي تتيح له استدخال نسق القيم والمعايير الحرفية، بهدف تحقيق اندماجه وتوافقه مع بيئة العمل والتنظيم الحرفي.

فعملية التنشئة الاجتماعية، بشكل عام، هي سيرورة لاكتساب المعايير والرموز، وللمعارف والنماذج، أي «طرق الفعل والإحساس والتفكير الخاصة بالفرد، والتي تضمن تكيف الفرد مع محيطه الاجتماعي، أي أنه يتماهى نفسياً وذهنياً مع النحن» (إدريسي، 2008: ٤٠).

يمكن لهذه المتغيرات والمحددات السابقة (القرابة، التنشئة الحرفية)، أن تفسر لنا رضا حوالى 80 بالمئة من العينة المستجوبة عن العمل داخل حرفة النحاس بفاس، بسبب مناخ التفاعل والاندماج والدعم الاجتماعي الذي يميز العلاقات الاجتماعية داخل التنظيم الحرفي، والذي تؤدي فيه القرابة دوراً أساسياً في استمراره والحفاظ عليه؛ أما 20 بالمئة من العينة المتبقية، فهي غير راضية عن العمل الحرفي، باعتباره ـ كما أبانت بعض المقابلات ـ لا يوفر لقمة العيش الضرورية، ولا يسد حاجات العصر الحديث ومتطلباته، كما أن الدخل المادي الذي توفره الحرفة غير مستقر ويعرف انخفاضاً كبيراً نتيجة لانخفاض الطلب على منتجات النحاس التقليدية، بسبب غزو المنتجات الأجنبية ذات الثمن المنخفض.

وتؤكد مجموعة من الدراسات، أن الرضا عن العمل يزيد لدى أولئك الذين يتمتعون بشعبية في بيئة العمل، والذين «ينتمون إلى جماعة عمل صغيرة ومتجانسة، ومن تتاح لهم فرص أكثر للتفاعل الاجتماعي أثناء العمل» (أرجايل، 1993: ٣٥).

عموماً، نستخلص مما سبق، أهم خصوصيات النسق القرابي داخل حرفة النحاس، نعرضها كالآتي:

ـ يساهم عنصر القرابة في بناء نمط من العلاقات الاجتماعية داخل تنظيم حرفة النحاس، يشبه نمط العلاقات الأولية السائدة داخل الأسرة المغربية؛

ـ ساهمت المعايير والقيم الحرفية المتوارثة في تنظيم أساليب العمل الحرفي؛

ـ تميزت طبيعة العلاقة الاجتماعية داخل التنظيم الحرفي بغلبة روح التعاون والصداقة وأواصر المحبة والاحترام المتبادل بين المعلمين والمتعلمين؛

ـ ساهمت القرابة في ضمان سيرورة التنشئة الحرفية وترسيخ قيمها ومعاييرها للجيل الصاعد. وهذا ما أكده «ماكس فيبر» في كتابه: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، حينما أشار إلى أن اختيار القطاع الوظيفي أمر تحدده «خصوصيات الذهنية التي تتأثر بظروف الوسط المحيط، أي نمط التربية التي يرسخها المناخ الديني لدى الطائفة أو الوسط العائلي» (فيبر، 1990: ١٨).

2 ـ الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لحرفة النحاس

أ ـ عادات الحرفة وتقاليدها

من البديهي أن الفرد (الحرفي) لا يتحدد فقط بالعناصر الوراثية والقرابية، ولكن أيضاً، بمتغيرات «البيئة السيوسيو ـ ثقافية التي ينحدر منها والتي تدخل في تشكيل شخصيته عبر عملية التنشئة الاجتماعية» (إدريسي، 2008: ٣٧).

وتعتبر العادات والتقاليد الحرفية، واحدة من أهم هذه المتغيرات التي يكتسبها الحرفي من بيئة العمل وطبيعة التنظيم الحرفي، والتي شكلت أسلوباً رئيسياً لتحقيق الضبط وممارسة نوع من الإلزام والإكراه على الحرفيين.

على هذا الأساس، ورغم اختلاف مفاهيم العادة والتقليد باختلاف المرجعيات الفكرية والحقول المعرفية وكذا بتعدد زوايا الرصد، فإن ما يهمنا في هذا المقال دراسة عادات وتقاليد حرفة النحاس، المرتبطة بالحياة الاجتماعية داخل التنظيم الحرفي، والتي تساهم في تعزيز وحدة هذا التنظيم وتقوية الروابط بين أفراده. إلا أنه من خلال الدراسة الميدانية، تبينت صعوبة دراسة عادات وتقاليد حرفة النحاس وتحديدها تحديداً مطلقاً، لارتباطها دائماً بتاريخ حرفي قديم أصبح مختزناً فقط في ذاكرة كبار السن، وبسبب ديناميات العولمة والتغيير التي عرفتها الحرفة وما صاحب هذه التغيرات من اندثار لبعض العادات والتقاليد الحرفية.

لكن عموماً، كشفت لنا مقابلات ميدانية بعضاً من عادات وتقاليد الحرفة، منها ما هو مرتبط بتوقيت العمل الحرفي، حيث يصرح أحد الحرفيين المستجوَبين بأن نظام العمل داخل الحرفة لديه أوقات محددة جرت بها العادة: «نبدأ العمل بعد صلاة الفجر وتناول الفطور، ومع آذان صلاة الظهر نتوقف عن العمل لكي نصلي ونتناول الغذاء، ثم بعد ذلك، نستأنف العمل حتى بعد صلاة العصر، وفي بعض الأحيان نجبر للعمل ليلاً عندما يكون الطلب على المنتجات كبيراً»[12].

يفهم من خلال هذه الشهادة، أن أوقات الصلاة كانت تشكل عادة ومناسبة للشروع والتوقف عن العمل داخل الحرفة. فقد كان العمل الحرفي يمتد طوال أيام الأسبوع إلا يوم الجمعة، وبخاصة في النصف الثاني لليوم، حيث كان يخصص لأداء صلاة الجمعة وما يليها من ممارسات اجتماعية، وهو ما عبر عنه أحد المبحوثين قائلاً: «العادة عندنا يوم الجمعة أن نوقف العمل، ونذهب لصلاة الجمعة وزيارة الأقارب والأصحاب بعدها، أو التنزه مع الأسرة»[13].

إن حرفة النحاس (كغيرها من الحرف) كانت تعرف مجموعة من فترات الراحة السنوية تتوزع كالآتي:

ـ تخصص سبعة أيام بمناسبة عيد الفطر؛

ـ تمنح سبعة أيام بمناسبة عيد الأضحى؛

ـ وتخصص سبعة أيام بمناسبة عيد المولد النبوي؛

ـ أما بمناسبة ذكرى عاشوراء فكانت تخصص يومان فقط (الحسيني، 1976: ٣٠٤).

وخلال هذه الأيام، كانت تمارس مجموعة من العادات، كتنظيم زيارات إلى المنتزهات الموجودة في محيط المدينة، كما كانت تقام ولائم لأفراد الحرفة في مجموعة من الأعياد والمناسبات الاجتماعية مثل الزواج أو الختان أو زيادة مولود…

إضافة إلى هذه العادات، يرى الحرفي أحمد أن من أهم عادات وتقاليد حرفة النحاس، ذلك التجمع الذي كان يقام يومياً بعد صلاة العصر بين الصناع والحرفيين داخل مسجد القرويين (هذه العادة تراجعت نسبياً، إذ أصبح يلتزم بها الحرفيون فقط خلال شهر رمضان). حيث شكلت هذه العادة متنفساً لحرفيي النحاس، يتبادلون من خلالها الخبرات والمهارات الحرفية، كما شكلت فضاء لحل المشاكل العائلية والمهنية التي تخص حرفيي النحاس بمدينة فاس.

وكانت لحرفيي النحاس بفاس عادات وتقاليد أخرى مرتبطة بموسم «مولاي إدريس»[14]، الذي كان يقام في فصل الخريف من كل سنة، أبرزها كما يؤكد أحد المبحوثين: «كانت العادة المعروفة لدى حرفيي النحاس في موسم مولاي إدريس، صنع التفاحات النحاسية الموجودة فوق صومعة الزاوية»[15]. وكان يعتقد حرفيو النحاس بأن صنعهم لهذه التفاحات النحاسية التي تزين الضريح، يجلب لهم البركة والرزق الوفير، ويصرف عنهم جميع المصائب التي قد تصيبهم وتصيب حرفتهم، لاعتقادهم بأن مولاي إدريس من أولياء الله الصالحين، وهم بالتالي يسعون لإرضائه وطلب بركته بصنع هذه التفاحات النحاسية.

على العموم، يتبين من خلال المقابلات الميدانية، أن عادات وتقاليد حرفة النحاس، تعتبر بمنزلة قوانين غير مكتوبة، تطاع بطريقة مرغوب فيها وإرادية من قبل الحرفيين، لأن قوة العادة، ورهبة الأوامر التقليدية، والشعور المرتبط بها، والرغبة في إرضاء المحيط المشترك، كل هذه الأمور تجعل من عادات وتقاليد حرفة النحاس (كقانون عرفي) موضوع «امتثال من قبل الأفراد» (جابر، 1991: ٤٩)، وأي عصيان أو تمرد على هذه العادات يعاقب عليه الشخص بالطرد من الجماعة الحرفية والحرص على عدم امتهان أي حرفة بعد ذلك.

ب ـ المعتقد والحرفة: رصد بعض مظاهر الاعتقاد الحرفي

إن البحث في موضوع المعتقدات من أصعب المواضيع وأشقها في البحث والدراسة، لأنها مختزنة في صدور الناس، وهي لا تلقن من الآخرين ولكنها «تختمر وتتشكل بصعوبة، يلعب فيها الخيال الفردي دوره ليعطيها طابعاً خاصاً» (الجوهري، 1978: ٤٣).

كما أن أغلب المعتقدات السائدة بين أفراد حرفة النحاس، تفصح عن نفسها في شكل عادات وممارسات شعبية، جعلت من الفصل الذي قمت به في هذا المقال بين المعتقد والعادة، فصلاً نظرياً فقط لأغراض الدراسة العلمية ولا وجود له في الواقع المدروس.

فدراسة المعتقد والحرفة إذن، تبقى رهين طبيعة وأهداف المقاربة العلمية التي أتبناها، والتي تنشد الكشف عن معتقدات حرفة النحاس وأشكال اشتغالاتها الوظيفية في تمثلات وطقوس وسلوكيات الحرفيين، أي، بالمنطق الأنثروبولوجي، دراسة علاقة المعتقدات الحرفية بمنطق التجربة السوسيو ـ ثقافية لخيال وتمثلات الحرفيين.

هذا التفاعل بين الفرد الحرفي والمعتقد، الذي نطمح إلى دراسته وفهمه، ليس ظاهرة مرتبطة بالتنظيم الحرفي فقط، ولا هي ظاهرة محدثة تاريخياً، بل إنها قديمة قدم الوجود البشري. ولقد تعرضت أغلب مصنفات التاريخ والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والفلسفة والفكر لهذه التجربة الإنسانية، وحاولت دراسة «أبعادها ومسبباتها وتمظهراتها وفهم منطقها الداخلي» (بوادر، 2003: ٢).

وغير خافٍ على دارسي العلوم الاجتماعية، أن مصطلح «المعتقد»، قد استخدم على نطاق واسع ومهم في «الأنثروبولوجيا الثقافية» و«الأنثروبولوجيا الاجتماعية»، حيث تمت دراسته بوصفه ظاهرة اجتماعية تنتج من تفاعل الأفراد في علاقاتهم الاجتماعية وتصوراتهم حول الحياة والوجود لأسباب عديدة أهمها: «التراكم الاجتماعي للعادات والتقاليد والأفكار، فيصبح المعتقد ذا قوة آمرة قاهرة» (طه، 2001: ١٥).

فمن خلال تحليل مضمون المقابلات الميدانية، تبين أن الواقع الاجتماعي والسيكولوجي للفرد داخل الجماعة الحرفية، يتأطر بمنطق منظومة من الأفكار والتصورات والمعتقدات ذات طابع غيبي بالأساس، تؤدي دوراً أساسياً في تحديد وتوجيه سلوكيات الحرفيين، وفي تبرير بعض أنماط الفعل والممارسات الشعبية أثناء العمل الحرفي.

في هذا السياق، أكد «روجي لوطورنو» (Roger Le Tourneau) أن المعتقدات (والخرافات) في الحرف التقليدية غير منعدمة، وهي أشياء لا يتحدث عنها ويصعب اكتشافها، غير أنه بعد كثير من التحفظات، ينتهي بعض الحرفيين إلى الاعتراف بأنهم يتخذون (في بعض الحرف على الأقل) احتياطات ضد الجن، «فيبدأ عدد كبير من «الفرانين» عملهم بدعاء حتى يتركهم الجن في أمان، وتحرق البخور يوم الجمعة في كل فرن، وليس من النادر، إذا اضطر «الدباغون» إلى أن يشتغلوا ليلاً، أن يترددوا في المجيء وحدهم ويحدثوا كثيراً من الضجيج لإرغام العفاريت على الفرار» (لوطورنو، 1992: ٥٢٨).

أما بالنسبة إلى حرفيي النحاس، فالاعتقاد بوجود الجن في محل العمل، أقر به جل المبحوثين، وكانت تقام بذلك مجموعة من الممارسات الشعبية والسلوكيات للوقاية من مس وأذى الجن وطرد الأرواح الشريرة (كما يعتقد الحرفيون). من بين هذه الممارسات الشعبية سكب الحليب على أركان محل العمل وإطلاق بعض البخور التي يتم شراؤها غالباً من الزوايا والأضرحة.

وقد تبين من خلال الملاحظة المباشرة، أن جل حرفيي النحاس بفاس يخزنون في محل العمل مجموعة من الأحجبة، ومنهم من يعلق على باب المحل يد خميسة أو صفيحة حصان، لاعتقادهم بأنها ستطرد العين والنحس الذي قد يصيبهم من طرف باقي الحرفيين المنافسين.

وفي حديثي مع أحد الحرفيين، تبين أن من يكتب ويصنع الأحجبة والتمائم هم فقهاء الزوايا المنتشرة بالمدينة القديمة لفاس، وكذلك بعض طلبة وفقهاء جامع القرويين، وذلك مقابل أجر بسيط لم يتم الإفصاح عنه من قبل الحرفيين، وإنما فقط تم الاكتفاء بالقول: «نعطيهم بركة قليلة فقط[16]. يقصد بـ «البركة»، ثمن رمزي يعطى من قبل حرفيي النحاس لطلبة جامع القرويين وفقهاء الزوايا مقابل صنع وكتابة الأحجبة والتمائم، وقد تم تحديد هذا الثمن الرمزي كما جاء في بعض المقابلات الميدانية ما بين ٥٠ درهماً و١٥٠ درهماً.

كما أظهر تحليل المعطيات الميدانية، أن عدداً قليلاً من الحرفيين من يعيش دون حماية التمائم والأحجبة، ولم لا وهم (الحرفيون) جزء من المجتمع المغربي (أي جزء من نسق الاعتقاد العام داخل المجتمع المغربي)، الذي قال عنه «بول باسكون»‏[17] في دراسته عن الأساطير والمعتقدات بالمغرب، بأنه «مجتمع مركب ومزيج»[18]، فيه قليل من الناس من يعيش دون حماية التمائم، فحيثما توجه الفرد وسط الشعب سيرى صغار الأطفال والنساء الحوامل والمرضى والمعاقين وحتى الأشخاص العاديين، يعلقون بأعناقهم تمائم صغيرة الحجم تتضمن بعض الطلاسم الوقائية، «فحيثما يكون الخطر واقعياً حقاً وذا احتمالية عالية، يربط المغاربة بالاحتياطات المادية والضمان المالي، وقاية دينية وحماية سحرية» (باسكون، 1986: ٩٠).

كانت هذه أهم المعتقدات والممارسات الشعبية التي أفصحت عنها عيّنة الدراسة، فأي سؤال أو استفسار كان يطرح حول مسألة المعتقد، كان يقابل دائماً في أغلب المقابلات إما بالصمت أو بإعطاء إجابات مراوغة وخارجة عن سياق الموضوع.

لكن عموماً، تبين أن الواقع السيكولوجي والاجتماعي للفرد الحرفي داخل الجماعة الحرفية، يتأطر منذ المرحلة الأولى (مرحلة المتعلم) بمنطق منظومة من المعتقدات والأفكار، ذات طابع غيبي ميتافيزيقي، تتعدى الحكم القيمي الذي يعتبرها مجرد خرافات (أو خزعبلات)، إلى حكم موضوعي وواقعي يمثل منظور الجماعة الحرفية ونسق تفكيرها واعتقادها، يترجم إلى سلوكيات وممارسات وطقوس يصعب اكتشافها وفهم مضامينها، فهي تتطلب مزيداً من البحث والتنقيب لتفسير هذه الظاهرة وفهم طبيعة الحياة الحرفية وتنظيمها في ظل أنساق الاعتقاد السائدة بين حرفيي النحاس، بعيداً من الحكم القيمي والأيديولوجي الذي يعتبر المعتقدات مجرد خرافات لا تتطلب عناء البحث والدراسة.

خلاصة

يتبين من خلال ما سبق، أن تنظيم حرفة النحاس بالمدينة العتيقة لفاس، يتميز بمجموعة من الخصوصيات الثقافية والاجتماعية ميزت طبيعة العمل الحرفي وساهمت في انتظامه واندماج الحرفيين وتكيُّفهم مع البيئة الحرفية. لذلك، حاولت في هذا المقال، فهم تنظيم حرفة النحاس كوسط اجتماعي وكواقع تنظيمي يتميز بخاصية جوهرية تتمثل بوجود مظهر ثقافي واجتماعي في طرق اشتغال هذا التنظيم الحرفي، وأيضاً تأكيد دور الخصوصيات الثقافية والاجتماعية في تنظيم العمل بحرفة النحاس، والتشديد كذلك على ضرورة النظر إلى الإنتاج الحرفي بوصفه تعبيراً عن الأعراف والتقاليد والقيم وباقي الخصوصيات الاجتماعية والثقافية، لا تعبيراً ذاتياً عن مزاج الشخص الحرفي.

أشير، في الختام، إلى أن هذا التنظيم التقليدي بدأ يتعرض، بسبب العولمة ومختلف التحولات السوسيومجالية والاقتصادية، إلى مجموعة من التغييرات والتعديلات التي تفككت معها روابط العمل الحرفي التقليدي، وتقنن المشترك الاجتماعي الحرفي المتمثل بالجماعة الحرفية، وتحللت بذلك قيم التآزر وأشكال التضامن الميكانيكي والتعاون، وسادت الفردانية والغش وبعض القيم والسلوكيات التي جرّدت حرفة النحاس من خصوصياتها التقليدية المتميزة.

فمن خلال الملاحظة المباشرة لسلوكيات بعض الحرفيين أثناء العمل الحرفي، ومن خلال بعض المقابلات الميدانية، تبين أن المعايير الحرفية من تقاليد وعادات وأعراف وقواعد الأخلاق والسلوك الحرفي، التي كانت تتميز في السابق بالضرورة والتلقائية والإلزامية، أصبحت اليوم تتميز بالنسبي والجزئي والاختياري، بسبب القيم الجديدة التي غزت التنظيم الحرفي، وغزت كذلك الأسر الحرفية من طريق وسائل الاتصال والتواصل، حيث لحقها تغير كبير مثل قيم التعاون والتضامن بين أفراد حرفة النحاس، كما حدث كذلك تغير في المشاعر الجماعية الموحدة والموقف الجمعي الصادر عن روح الجماعة الحرفية.

كتب ذات صلة:

أوراق في التاريخ والحضارة: أوراق في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي