مقدمة

مثّلت أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 منعطفًا حاسمًا في مسار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، إذ أحدثت زلزالًا سياسيًا وأمنيًا داخل إسرائيل، وأسقطت واحدة من أبرز الأساطير التي لطالما روَّجت لها تل أبيب، وهي «أسطورة الجيش الذي لا يُقهر». فقد نجحت المقاومة الفلسطينية، رغم محدودية إمكانياتها العسكرية واللوجستية، في توجيه ضربة مفاجئة ومؤلمة لإسرائيل، أربكت مؤسستها الأمنية والعسكرية، وكشفت عن هشاشة منظومتها الدفاعية.

وفي ردٍّ انتقامي، شنَّت إسرائيل عدوانًا غير مسبوق على قطاع غزة، استهدف على نحو ممنهج السكان المدنيين، فضلًا عن البنى التحتية الأساسية، كالمستشفيات والمدارس والمساجد، بل وصل الاستهداف إلى مقار وكالة «الأونروا»، في انتهاك واضح وصارخ لمبادئ القانون الدولي الإنساني[1]. وقد أثار هذا العدوان استياءً عالميًا واسعًا، وفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول مستقبل القانون الدولي الإنساني، وفعالية الأمم المتحدة[2]، ودور المنظمات الدولية[3]، بل حتى جدوى وجود جامعة الدول العربية.

كشفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، عن انتهاك سافر للقوانين الدولية، وارتكاب متعمّد لما تمنعه وتُجرّمه تلك القوانين من عقاب جماعي، وتطهير عرقي، وإبادة جماعية. ومن يُمعن النظر في حجم جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل هناك منذ السابع من أكتوبر، يُذهله حجم الفظائع والجرائم التي ارتُكبت، مثل: القتل الجماعي، والدمار الواسع النطاق للمنشآت المدنية، والمجاعة، والحصار، والتهجير، والرعب المستمر، وتلوّث البيئة… وغيرها من مظاهر الإبادة الجماعية[4].

تسبّبت الحرب في ضرر شديد لمعدلات النمو ولسوق العمل الضعيفة بالفعل في الأراضي الفلسطينية، وهو ما أدى إلى فقدان ما يقرب من نصف مليون وظيفة. بعد اندلاع الحرب، انخفضت مستويات المعيشة، وهو ما أدّى إلى تفاقم الفجوة الصارخة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، بحيث سجّل القطاع أدنى مستوى لنصيب الفرد من الدخل على الإطلاق في عام 2023، وأصبح جميع سكانه تقريبًا يعانون الفقر في عام 2024‏[5].

وصلت نسبة الفقر في «دولة فلسطين» إلى 74.3 بالمئة في عام 2024، ارتفاعًا من 38.8 بالمئة في نهاية عام 2023، وهو ما يرفع العدد الإجمالي للفقراء إلى 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون شخص أصبحوا فقراء حديثًا[6].

حدّد برنامج «اليونوسات» ما مجموعه 192,812 مبنى متضررًا، وهو ما يمثل نحو 78 بالمئة من إجمالي المباني في قطاع غزة. كما تعرّض نحو 91.8 بالمئة من المباني المدرسية (518 من أصل 564 مبنى) للقصف المباشر أو لأضرار جسيمة[7].

تشير التقييمات الأولية التي نُشرت في 18 حزيران/يونيو 2024 من جانب برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) إلى أن الآثار البيئية للحرب في غزة غير مسبوقة، إذ تُعرّض المجتمع لتلوث متسارع في التربة والمياه والهواء، إضافة إلى مخاطر حدوث أضرار لا رجعة فيها للنظم البيئية الطبيعية. كما أن 86 بالمئة من الأراضي الزراعية في قطاع غزة قد تضررت، ولم يتبقَّ سوى 1.5 بالمئة من الأراضي الزراعية التي يمكن الوصول إليها أو التي لم تلحق بها الأضرار حتى الآن. كما انخفض إنتاج المياه من الآبار الجوفية بنسبة 70 بالمئة[8].

وفقًا لوزارة الصحة في غزة، ارتفعت حصيلة الضحايا بين الفلسطينيين منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى 61,158 قتيلًا و151,442 مصابًا، في حين تم خلال شهر تموز/يوليو 2025 تحديد نحو 12,000 طفل دون سن الخامسة في غزة يعانون سوء التغذية الحاد. وذكرت منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 14,800 مريض بحاجة ماسّة إلى الإجلاء الطبي، في حين أفاد مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بأن ما لا يقل عن 1,373 فلسطينيًا قُتلوا بين 27 أيار/مايو و31 تموز/يوليو 2025 أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء[9].

في ظل هذا الوضع الإنساني الكارثي[10]، برزت الولايات المتحدة الأمريكية كأبرز داعم لإسرائيل، في حين اتّسمت المواقف العربية بالتشتّت والضعف.

تهدف هذه الدراسة إلى تحقيق جملة من الأهداف، من أهمها: توضيح أثر حرب غزة في إعادة تكوين التحالفات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط؛ وتسليط الضوء على دور المقاومة خلال حرب غزة؛ والكشف عن ملامح المشروع الأمريكي – الإسرائيلي وأثره في صوغ الشرق الأوسط الجديد.

تعتمد الدراسة المنهجين الوصفي والنسقي، إذ يتلاءم المنهج الوصفي مع طبيعة الظواهر الاجتماعية التي تتسم بعدم الثبات والتغيُّر وتعدد المؤثرات الفاعلة فيها، فيتعامل مع الواقع الاجتماعي كما هو، من خلال دراسة جزئياته والفاعلين فيه، والإحاطة بجميع أبعاده، وهو ما يتيح فهمًا أعمق له. أما المنهج النسقي فيساعدنا توظيفه على النظر إلى الصراعات الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط على أساس أنها نسق متكامل[11]، وهو يُستخدم لإبراز التفاعلات القائمة بين الصراعات الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط، بحيث الصراعات الدولية تؤثر في الصراعات الإقليمية التي بدورها تؤثر في الصراعات الدولية. يُعَدُّ النسق الإقليمي جزءًا لا يتجزأ من النسق الدولي، يتفاعل معه ويتأثر به في علاقة تأثير متبادلة، أحيانًا تأخذ طابع الفاعل وأحيانًا أخرى المفعول به، تختلف هذه العلاقة بحسب موازين القوى بين النسق الإقليمي والدولي. لذلك إذا حدث أي تغيُّر في أحد أجزاء النسق الدولي يؤثر في النسق الإقليمي والعكس صحيح. تتأثر التفاعلات في الكثير من المتغيِّرات في شكلها وطبيعتها، بعدد الأقطاب والأعضاء في النسق، وطبيعة العلاقات بين النسق نفسه، وما يغلب عليه إن كان طابعًا تعاونيًّا أم صراعيًّا، والتحالفات السائدة بين أعضاء النسق[12]. وبالتالي، فإن الموضوعات الكبرى في السياسة الدولية – طبقًا لنظرية النسق الدولي – هي تلك المتعلقة بالحروب والأحلاف الدولية، وسعي القوى الكبرى نحو الهيمنة بكل الطرائق[13].

تنطلق الدراسة من إشكالية تداخل المصالح الأمريكية والإسرائيلية في إطار مشروع مشترك يسعى إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما يتوافق مع استراتيجياتهما، متجاهلَتَين ما يترتب على ذلك من معاناة إنسانية متفاقمة في قطاع غزة، وما يخلفه الصراع من تداعيات إقليمية ودولية واسعة. من هنا ينبثق السؤال الإشكالي للدراسة: إلى أي مدى أسهم المشروع الأمريكي – الإسرائيلي في إعادة تكوين الشرق الأوسط؟

لقراءة الورقة كاملة يمكنكم اقتناء العدد 562 (ورقي او الكتروني) عبر هذا الرابط:

مجلة المستقبل العربي العدد 562 كانون الأول/ديسمبر 2025

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 562 في كانون الأول/ديسمبر 2025.

أحمد أهل السعيد: دكتور في العلاقات الدولية، جامعة محمد الخامس – المغرب.

[1] يحظر القانون الدولي الإنساني، وبخاصة اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، على نحو صريح استهداف المدنيين أو البنية التحتية المدنية، كما يُجرّم الاحتجاز التعسفي ومنع وصول المواد الأساسية كالغذاء والماء والدواء. وتنص المواد ذات الصلة، مثل المادة 3 المشتركة والمادتين 54 و55 من البروتوكول الأول، على ضرورة حماية المدنيين من كل أشكال الأذى البدني والنفسي، وضمان تدفّق المساعدات الإنسانية من دون عوائق، كون ذلك التزامًا قانونيًا على أطراف النزاع.

[2] منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، قُتل ما لا يقل عن 508 من العاملين في المجال الإنساني في غزة، بينهم 346 موظفًا في الأمم المتحدة، و51 من موظفي ومتطوعي جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وأربعة من موظفي اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إضافة إلى 107 من العاملين في منظمات إنسانية أخرى.

انظر: مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، آخر مستجدّات الحالة الإنسانية رقم 311، تاريخ الزيارة: 9/8/2025، الساعة العاشرة صباحًا، عبر الرابط الآتي: <https://www.ochaopt.org/ar/content/humanitarian-situation-update-311-gaza-strip>.

[3] تحذّر المنظمات الإنسانية من أنّ معظم المنظمات غير الحكومية الدولية الشريكة، التي يزيد عددها على 200 منظمة – دولية وفلسطينية – قد يُشطب تسجيلها بحلول 9 أيلول/سبتمبر أو قبله، الأمر الذي سيجبرها على سحب جميع موظفيها الدوليين ويمنعها من تقديم المساعدات الإنسانية الحيوية والمنقذة للحياة إلى الفلسطينيين. يأتي هذا الشرط ضمن جملة شروط تقييدية جديدة تُفرض على المنظمات غير الحكومية الدولية، وتنطوي على عواقب محتملة من جرّاء الانتقادات العلنية الموجَّهة لسياسات حكومة إسرائيل وممارساتها.

يحذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، من أن إسرائيل قد تشطب تسجيل معظم المنظمات غير الحكومية الدولية الشريكة في غضون الأسابيع المقبلة، إن لم يُتخَذ إجراء فوري، تاريخ الزيارة: 9/8/2025، الساعة السادسة مساءً، عبر الرابط الآتي: <https://www.ochaopt.org/ar/content/un-agencies-and-ngos-warn-without-immediate-action-most>.

[4] يوسف كامل خطاب، «انتهاكات إسرائيل للقوانين الدولية الإنسانية والعرفية في الحرب على غزة (ورقة تحليلية)،»، مركز الخليج للأبحاث (جدة) (2025)، ص 19.

[5] البنك الدولي، «الآثار الاقتصادية للصراع في الشرق الأوسط على الاقتصاد الفلسطيني،» واشنطن، أيار/مايو 2024، ص 2 – 3.

[6] United Nations Economic and Social Commission for Western Asia (ESCWA), Gaza War, Expected Socioeconomic Impacts on the State of Palestine (New York : ESCWA, 2024), p. 11.

[7] مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، آخر مستجدّات الحالة الإنسانية رقم 311، تاريخ الزيارة: 9/8/2025، الساعة العاشرة صباحًا، عبر الرابط الآتي: <https://www.ochaopt.org/ar/content/humanitarian-situation-update-311-gaza-strip>.

[8] UN Environment Programme (UNEP), «Damage to Gaza Causing New Risks to Human Health and Long-term Recovery,» Retrieved on August 7, 2025: <https://www.unep.org/news-and-stories/press-release/damage-gaza-causing-new-risks-human-health-and-long-term-recovery>.

[9] المصدر نفسه.

[10] إن مجلس الأمن «… يعرب عن بالغ القلق إزاء الحالة الإنسانية في قطاع غزة وآثارها الفادحة على السكان المدنيين، ولا سيّما الأثر غير المتناسب على الأطفال، وإذ يشدد على الحاجة المُلِحّة إلى وصول المساعدات الإنسانية بشكل آمن وسريع وكامل ودون عوائق، وإذ يؤكد على مبادئ العمل الإنساني المتمثلة في الإنسانية والنزاهة والحياد والاستقلال، وعلى الالتزام باحترام وحماية موظفي الإغاثة الإنسانية….». الأمم المتحدة، مجلس الأمن، القرار الرقم 2712، 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.

«… يعرب مجلس الأمن عن قلقه إزاء الحالة الإنسانية الكارثية في قطاع غزة ومعاناة السكان المدنيين الفلسطينيين، ويؤكد على وجوب حماية السكان المدنيين وفقًا لأحكام القانون الدولي الإنساني…». الأمم المتحدة، الجمعية العامة، القرار الرقم 10/22، 12 كانون الأول/ديسمبر 2023.

[11] علي شفيق علي العمر، العلاقات الدولية في العصر الحديث (الرباط: مطبعة المعارف الجديدة، 1990)، ص 32.

[12] خليل حسن، العلاقات الدولية: النظرية والواقع الأشخاص والقضايا (بيروت: منشورات الحلبي الحقوقية، 2011)، ص 303 .

[13] محمد السيد سليم، تطور السياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين (بيروت: دار الفجر، 2002)، ص 9.


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز