المؤلف: جورجيو أغامبين

ترجمة: ناصر إسماعيل

مراجعة: عدي برغوثي

الناشر: مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة

سنة النشر: 2015

 

مقدمة

حظيت أعمال الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين بردود فعل متنوعة حيث أثارت كتبه التي تناولها ضمن سلسلة كتبها أغامبين خلال حقبة امتدت على عقدين من الزمن. وبالرغم من تعدد مؤلفاته إلا أنه يجمعها خيط ناظم من الاستمرارية التنظيرية منطلقًا من الإنسان المستباح (المعرَّى) والتي نظّر لها من خلال فتوحاته حول حالة الاستثناء والملازمة للسيادة الحديثة والتي ينطلق منها كرافعة لنقد السلطة السيادية للدولة الحديثة كمشروع عريض حيث يعرّي الأفعال الشمولية داخل الأنظمة الديمقراطية الحديثة[1].

تنوي هذه المقالة النقدية مراجعة كتابه حالة الاستثناء التي أثارت اهتمامًا متزايدًا على الصعد الأكاديمية والثقافية والإعلامية، حيث مثّل الكتاب نقدًا ثوريًا لنظرية القانون في الدولة الديمقراطية الحديثة كاشفًا عن عنف متأصل في بنية القانون نفسه، متجليًا كما وصفه بحالة الاستثناء، حيث ينطلق الكاتب من مقولة أساسية ترتكز على حالة الاستثناء في سياقها الحداثي الأوروبي عبر تقصّي العلاقة بين النظام القانوني وحالة الطوارئ والتي يتم النص عليها في دساتير الدول الحديثة. ويستكشف الكاتب موضوع السيادة في الدولة الحديثة ومن يملكها الشعب أم الدولة، وكيف تكون العلاقة بين الفرد والدولة في حالة الاستثناء التي تتحول مع مرور الوقت إلى حالة دائمة؟ حيث يحاجج أغامبين بأن رجل السيادة هو خارج القانون وداخله ويستطيع تعليقه ليعطيه الحق الدستوري السلطات المطلقة والواسعة في حالات الأزمات.

يهدف أغامبين من مقولته الأساسية الكشف عن المخاتلة السلطوية في حالة الاستثناء وفضح الدكتاتوريات القابعة في النظم الديمقراطية الحديثة، لا خارجها، أي مساءلة الدولة الحديثة ومنظومتها السيادية حيث تتوغل السلطات التنفيذية على باقي سلطات الدولة فتصبح الحكومة هي المشرع والمصدر للقوانين.

وتكمن أهمية الكتاب في أن حالة الاستثناء اكتسبت أهمية إضافية في وقتنا الحالي والتي تتزامن مع الظروف التي نعايشها من هجرات ولاجئين ومعسكرات اعتقال واستشراء وسياسات الموت الممنهجة في ظل سيادة الدول الديمقراطية الحديثة في فضاء معولم.

أولًا: محاور الكتاب

يأتي كتاب حالة الاستثناء في ستة فصول، تقديم ساري حنفي. يحمل الفصل الأول عنوان «حالة الاستثناء كنموذج للحكم» يذهب فيه أغامبين إلى محاولة تأطيرية للتأسيس لحالة الاستثناء على أساس أن الحكم يتم من طريق استكشاف المساحة بين التنظير القانوني والشأن السياسي (دائمًا هناك سلطة سيادية تتوجس من الأخطار فتفترض بذلك حالات من الاستثناء)، مناقشًا بذلك أفكار كارل شميث[2] الفقيه الدولي وأبرز منظري نظرية السيادة. يذهب شميث إلى أن صاحب السيادة هو من يمتلك سلطة مطلقة تكاد تكون «إلهية» فصاحب السيادة هو من ينتج القانون وهو وحده من يملك تعليقه أي بحسب تعريف أغامبين هو من بيده «إقرار حالة الاستثناء». يذهب أغامبين إلى مقولة أن هناك أسبابًا كثيرة يمكن أن تؤدي إلى تعليق النظام القانوني مثال الحرب الأهلية. بمعنى آخر يعلق القانون وتفرض حالة الاستثناء في الحالات التي لا تخضع للنظام القانوني القائم، لأن الأخير غير قادر على التحكم بها وتقنينها وتأطيرها قانونيًا (ص 50-41). وعليه يمكن الإشارة هنا سريعًا إلى أن أغامبين طور حالة الاستثناء عند شميث عبر التأطير لها خارج المركب الثاني ما بين حالة القانون وانعدامه عند شميث ليركبها أغامبين عبر تنظيره لحالة «لمفهوم العتية» الذي تمثله حالة الاستثناء والذي سوف أتناوله لاحقًا في هذه المقالة. هنا تكمن القوة التنظيرية لنظريته وفتحه المعرفي الجديد، فحالة الاستثناء لا تكون داخل أو خارج القاعدة القانونية، بل أن تكون في داخلها وخارجها في الوقت نفسه؛ مثال على ذلك الإجراءات البيروقراطية المترافقة لعمليات الإبادة داخل معسكرات النازية.

يذهب أغامبين في الفصل الثاني الذي يحمل عنوان «قوة القانون» إلى صوغ أطروحته مستحضرًا شميث مجددًا حول تميز شميث بين «الدكتاتورية السيادية» والدكتاتورية المفوضة حيث يصف أغامبين تميزات شميث بأنها نبوءة، إذ إنها أصبحت نموذجًا للحكم في الديمقراطيات الحديثة، فتميز شميث بين الدكتاتورية السيادية التي قد تصل سلطتها إلى خلق دستور جديد بامتلاكها سلطة مؤسسة والدكتاتورية المفوضة التي تهدف إلى حماية الدستور. وعليه بنى أغامبين حالته الاستثنائية بأن حالة الاستثناء لا تلغي القانون بقدر ما «تصفره» (ص 107-95)، أي تصل به إلى حالة صفرية على الرغم من وجوده. وهنا يُظهر أغامبين حالة الالتباس التي تنتج في السلطات من حالة الاستثناء. يفصل أغامبين بين القانون وقوة القانون، إذ تفقد القاعدة القانونية قوتها لمصلحة حالات الاستثناء التي تكتسب قوة القانون، فيفصل بين القاعدة القانونية وتطبيقها لمصلحة حالة الاستثناء ويطابق بينهما، بعبارة أخرى يصهر ويذيب القاعدة في الواقع.

يؤطر أغامبين في الفصل الثالث تاريخيًا لحالة لاستثناء تحت عنوان «إيوستيتيوم»، وهو نظام كان سائدًا في الدولة الرومانية، حيث يقدم قراءة جديدة لذاك النظام في ضوء نظرية حالة الاستثناء، فكان يجري إعلان نظام «الإيوستيتوم» في الدولة الرومانية عندما كانت تتعرض لخطر داهم، وهو ما كان يجيز حالة تعليق النظام وفرض الطوارئ لمجابهة الحالة الطارئة؛ حيث أتاح استحضار هذا النظام عند أغامبين الكشف عن المناعة التي تتمتع بها هذه الآليات عقب إعلان حالة الطوارئ (ص 111). هنا تكمن خدعة السلطة في تعريف حالة الطوارئ والإجراءات المصاحبة لها وشرعنتها، وهنا تكمن جدلية قوة القانون وحالة الطوارئ حيث يتم الحفاظ على القانون وعدم انتهاكه من طريق تصفير القانون ووقفه فيتم التخلص من القانون بدلًا من انتهاكه في الحالات الخطرة التي يعجز القانون عن معالجتها. وعليه يعزز أغامبين نظريته في الفصل بين الدكتاتورية كحالة من القانون المطلق وحالة الاستثناء التي يتوقف فيها القانون. يذهب أغامبين إلى أن الأفعال التي تُرتكب في أثناء حالة الاستثناء لا يمكن توصيفها بأوصاف قانونية ولا تحمل أثارًا قانونية لأنها تمت في فضاءٍ من اللامعيارية.

يتناول أغامبين في الفصل الخامس الذي يحمل عنوان «صراع للعمالقة حول الفراغ» مجددًا المطارحات بين فالتر بنيامين (ص 132-130) وكارل شميث عبر مساجلة أخذت طابع الرسائل، إذ يصر بنيامين على وجود عنف نقي في حالة اللامعيارية بعد أن أصبحت حالة الاستثناء هي القاعدة، أما شميث فيصر على أن العنف ليس في حالة الاستثناء بل إن العنف مؤطر في المنظومة القانونية التي تشكل رافعة لحالة الاستثناء، ليخرج أغامبين من هذه المساجلة إلى التمييز بين القانون والعدالة؛ فإلغاء القانون هو بوابة العدالة. ويخلص أغامبين إلى مقولة مفادها بأن الإنسانية سوف يأتي عليها يوم تلعب بالقانون مثلما يلعب الأطفال بأشياء معطلة ومهملة ويعيدون استخدام تلك الألعاب بطرق ليست تقليدية، أي تحريرها من الطرق التقليدية. بمعنى آخر إعادة صوغ القانون بعيدًا من شبحيته وفضاءاته اللامعيارية من أجل حماية العدالة من القانون.

يعود أغامبين في نهاية الفصل الخامس مجددًا إلى حالة اللامعيارية التي تتحرك فيها حالة الاستثناء، مسلطًا الضوء على بعض الأنظمة القانونية الرومانية، وباحثًا في الفضاء اللامعياري في التاريخ الروماني القديم مثل (الحداد، العيد، الكرنفالات)، التي تجيز للسلطات تعليق القواعد القانونية، فيربط بين الحداد وتعليق القواعد حيث تنتشر الفوضى وتقبل بصفتها اللامعيارية ويعيش أفراد الشعب حالة من سقوط المعايير ويتم التعامل معها بأريحية بعيدًا من وخزات الضمير. فمع موت الحاكم تعلق الشؤون الاجتماعية والمدنية؛ فالحاكم هو الذي يجمع بين حالة القانون واللاقانون أو بين المعياري واللامعياري لتؤسس تلك الحالة للحالة الاستثناء التي تجمع ما بين المعيارية واللامعيارية، وبين القانون وتعطيل القانون.

أما الفصل الأخير تحت عنوان «أوكتوريتاس وبوتيستاس» فيعود للتعرض للمصطلحات المتجذرة في القانون الروماني حيث يميز بين سلطتي «الأوكتوريتاس»، أي سلطة الهيبة والبوتيستاس السلطة المدنية، حيث يخلص إلى استنتاج أن سلطة الدكتاتوريين بشكلها الحداثي تجمع بين هاتين السلطتين (ص 171 – 188). يمكننا القول إن الفصلين الأول والثاني يمثلان محور النظرية وتأطيرها الفكري لتمثل باقي الفصول الدعائم التاريخية لتطبيقاته التنظيرية منطلقًا من البحث التاريخي في جذور حالة الاستثناء متناولًا إياها من خلال سياقات تاريخية متعددة، أهمها ما تمثله حالة الاستثناء في الديمقراطيات الحديثة وخصوصًا إبان الحرب العالمية الأولى والثانية.

ثانيًا: مساجلة تنظيرية

الكتاب عبارة عن حقول متداخلة ما بين الفلسفة والقانون والسياسة والنقد الأدبي، حيث تتنافذ حقول معرفية كثيرة تفتح آفاقًا شائكة ومحفوفة بالمخاطر، إذ إن مقولاته التنظرية مكثفة وصعبة. يوجه أغامبين مقولاته التنظيرية إلى نخبة معرفية متخصصة، أو بعبارة أخرى، لا يكفي القارئ القراءة المستعجلة والمجزئة لمشروعه بل يجب الغوص المعرفي العميق داخل مشروع أغامبين التنظيري وتسليح الباحث بأدوات معرفيه نقدية.

استطاع أغامبين أن يطور نظريته (حالة الاستثناء) كأداة تحليلية لفهم ميكانيزمات السلطة، اشتغل عليها في مؤلفاته، حيث يتضح التماسك الصلب لنظريته التي استخدمها في فهم حالة المعسكرات الاعتقالية في سياقها الحداثي. فـ«المعسكر»، وهو نتاج السلطة السيادية للدولة وهو الحالة النموذج لحالة الاستثناء، أو بتعبير أغامبين «بردايم السياسات الحياتية الأساسي في الغرب» تشتغل ميكانيزمات السيادة واستثناءاتها في داخل المعسكر. وهذا ما طبقه على حالة معسكرات الإبادة النازية ومعتقل غوانتنامو التي مورس فيها على المعتقلين صنوف من التعذيب والوحشية. وهنا يفسر جانبًا من نظريته إنزلاق كثير من الديمقراطيات الليبرالية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر إلى أنظمة شمولية في عمليات الإقصاء والنبذ والطرد التي تصل إلى حد استباحة الدماء. عند تخليق فضاء مركب (حالة الاستثناء/المعسكر) يتاح للسلطة عمليات الإبادة للجماعات التي تعيش على عتبات المجتمع السياسي. بمعنى آخر، يتم خلق قطاعات عارية مستباحة تجرَّد من كينونتها السياسية وتقع في حظر السيادة. فالحظر والاستبعاد هما متلازمة السيادة، فسيادة الدولة هي قطار يطوي الحياة تحت جناحه ويتوغل في رسم سياسات الحياة والسيطرة عليها، وهذا ما سأتطرق إليه عند تسليط الضوء على سياسات الحياة والسلطة عند فوكو وأغامبين.

إضافة إلى كثافة المقولة الأغامبينية – إن جاز التعبير – في هذا الكتاب، يُظهر الكاتب مقدرة تثويرية في إطار التجديد المعرفي على صعيد نقض المقولة القانونية التقليدية، الذي يشكل فتحه المعرفي وأساس قاعدته التنظيرية فالسيادة هي أكثر أسسية للدولة من القانون، إذ إن السيادة هي التي تقرر متى يطبق القانون ومتى يرفع. وعليه تقوم السيادة عند أغامبين على قاعدة الاستبعاد أو الاستثناء لأنها تمثل الجسم السياسي. يسجل الكاتب مقولته الاحتجاجية على مناهج التنظير القانوني ويقلب الطاولة عليها معريًا بذلك سلطة السيادة وسيادة السلطة في الديمقراطيات الحديثة، وتمثل تنظيراته قاعدة للإنطلاق للكثير من المنظريين في نقد الحداثة ومقولاتها الأساسية. هنا يسجل أغامبين فتحه المعرفي الآخر باستفزاز الديمقراطيات الحديثة، إذ إنه لا توجد ضمانة وحدود آمنة تفصل الديمقراطيات البرلمانية عن الدكتاتوريات الشمولية وأنظمة الحكم الليبرالية والاستبدادية[3].

تأتي قدرة أغامبين على زحزحة ومساجلة نظريات السلطة وسياسيات الحياة ليدخل في مساجلة تنظيرية مع ميشيل فوكو الذي نظّر للسلطة بوصفها حالة غير قانونية تنتشر في الجسد الاجتماعي ولا يمكن حصرها في موقعية بعينها، وما طوره فوكو بما يُعرف بالبانوتيكون حيث ينطلق من السجن كنقطة ارتكاز كجزء من الحالة الطبيعية في عمليات الضبط والمراقبة التي تمارسها السلطة في إعادة تدميج قطاعات منبوذة مجتمعيًا لتصبح مقبولة مجتمعيًا ومن خلال نسيج شبكة سلطوية تتقن تطويع الأجساد وتذويت خطابات السلطة[4]. يرى فوكو أن ظهور آليات إخضاع السياسات الحياتية للسلطة في القرنين السابع عشر والثامن عشر وهذا الشكل من توغل السلطة في قطاعات الحياة هو شأن حداثي وانقطاع تاريخي لما سبقه. أما أغامبين فيرى أن سياسات الحياة وإخضاعها تمثل لب الممارسات السيادية للسلطة. فعصر الحادثة ليس انقطاعًا للتقاليد الغربية، بل هو تعميم وتجذير لما كان موجودًا في السابق. لذلك فهو يعود لأشكال الاستثناء في العصور الرومانية ليستكشف حالة الاستثناء والتحولات عليها في سياقها الحداثي.

هنا زحزح أغامبين مركزية السلطة عند فوكو وعارض مقولة السلطة المنبثة في ثنايا المجتمع كافة، وحصرها في المجال السيادي للدولة لمالك الحصري لقرار إعلان الاستثناء. فالسلطة عند أغامبين هي التي تملك إعلان حالة الاستثناء. وعلى الضد تمامًا من فوكو ينطلق أغامبين من المعسكر أو المخيم كفضاء أقصى ومطلق لحالة الاستثناء يتم فيه ليس ضبط المنبوذين وإعادة إدخالهم في الحالة القانونية أو الجسم السياسي وشرعيته، بل على الضد من ذلك تمامًا يتم تعرية وتهميش المنبوذين من حالتهم القانونية التي قد تصل في بعض الأحيان إلى تصعيد العنف حد الإبادة.

يقع المعسكر عند أغامبين خارج الترتيب الطبيعي، فهو مصفوفة الحياة السياسية الذي يكرر نفسه يوميًا. وعليه، فإن المعسكر ليس الحدود المرئية والمساحة المراقبة فقط بل هو عند أغامبين يذهب إلى مسافات أبعد حيث هو المساحة التي يمارس فيها حالة الاستثناء والعري. بعبارة أخرى، ليس السجن هو الفضاء الحيوي الذي تصلح معه دراسة حالة الاستثناء وما تخلقه من حالات إقصاء وتعرية، بل السجن الذي يتناوله فوكو كـ«برادايم حداثي» هو نظام من العقوبات القانونية في الإطار الحداثي هدفه التطويع وإعادة الإنتاج.

تتمايز السلطة الحياتية عند فوكو عنها عند أغامبين، ففوكو يفصل السلطة الحياتية أو السياسة الحياتية عن سيادة الدولة، أما أغامبين فيربط بين السلطة الحياتية وسيادة الدولة ويركزها فيها. فهنالك علاقة حميمة بين الحكم السيادي وحالة الاستثناء السياسي. ورغم الإضافة التي زادها أغامبين إلى تنظيرات فوكو إلا أنه يعتورها بعض الخلل في تركز السلطية الحياتية في سيادة الدولة حيث تغمض النظرية العين عن السيادات الفرعية لتي تؤدي دورًا سلطويًا في داخل الدولة بما تخلقه من حالات استثناء مغايرة لحالات الاستثناء التي تخلقها سيادة الدولة. فالسيادة ليست حكرًا على الدولة بل هي تسكن في سياسات الحياة. أفكر هنا، على سبيل المثال، بـ«سيادة الطبقة»، وبالمستبعدين اجتماعيًا أو الفائضين عن الحاجة وإن كانوا على خلاف ما نظر إليه أغامبين يتمتعون بحقوق سياسية ومدمجين في الجسم السياسي إلا أنهم يتعرضون لاستثناءات كثيرة على أطراف المراكز الصناعية نتيجة تراجع دولة الرفاه، فهم مستبعدون من العمل والسكن والحياة الاجتماعية[5]. يبقى مفهوم أغامبين للمستبعدين من السياسات الحياتية مقتصرًا على الحظر الملازم لسيادة الدولة من دون الأخذ في الحسبان معامل وآيات الاستثناء الأخرى على الصعيد الاستعماري والجندري والعنصري. فقد ارتكز أغامين على المركز الحداثي الأوروبي من دون اعتبار لحالة الاستثناء في الحالات الاستعمارية كفلسطين مثلًا أو دول ما بعد الاستعمار التي استقلت في منتصف القرن العشرين.

يتكئ أغامبين في فلسفة حالة الاستثناء على تنظيرات داريدا حول استمرارية الانتقال بين الصور والمادة عبر تداخل يتجاوز الثنائيات الجامدة بين المرئي واللامرئي والمعياري واللامعياري عبر تداخل ما سمّاه داريدا «العتبة»[6]، إذ طبقها أغامبين على نظرية القانون العام حيث تمثل حالة الاستثناء مركبًا يستدخل القاعدة والواقع في تركيب أعلى، لا هو بالواقع ولا هو بالقاعدة؛ هي حالة الاستثناء أو العتبة التي تمثل المزيج بين القاعدة والواقع، فهي داخل القانون وخارجه تكتسب شرعيتها منه لتقوم بأفعال غير شرعية، أي التبرير القانوني لأفعالها من خلال اتصالها بالقانون وفي الوقت نفسه القدرة على تعليقه، وهو بذلكَ التأطير الداريدي يعقّد حالة الاستثناء ويخلق مساحتها الخاصة التي تركب الفوضى في النظام.

بناءً عليه، تمثل العتبة حالة دمجية بين الواقع والقاعدة وتنتج حالة الاستثناء كحالة ملازمة في السياديات الحديثة، وهذا يؤدي إلى انزلاق الديمقراطيات الحديثة إلى حالات الدكتاتوريات المفوضة – أو حتى الشمولية – وهذه حالة ملازمة للديمقراطيات الحديثة تتحول معها الدولة إلى دولة انتحارية بتعبير جيل انجيار الذي طور تنظيراته بناءً على حالة الاستثناء مستفيدًا من فتوحات أغامبين في محاولته لفهم تحولات الدولة الديمقراطية الحديثة إلى مطحنة فرز سياسي عبر استحضار حالة الاستثناء كصنافية فرز جديدة تفرز الصديق والعدو والتي تحتكرها الدولة الحديثة وتتحول من عنف تصنيف وفرز الآخر إلى عنف إفنائه من خلال التصفية الجسدية ليس للخصوم السياسيين فقط بل لشرائح كاملة غير قابلة للدمج من وجهة نظر الدولة، أي تصعيد العداوة إلى درجة تمزيق الذات بدل حمايتها. فحالة الاستثناء تسمح وتشرعن للدولة القومية الحديثة تصعيد الإفناء الفيزيائي للمواطنين التي تصعب مكاملتهم بالنظام السياسي[7].

هنا تكمن الخطورة التي يثيرها أغامبين – كما اشرنا سابقًا – عبر فضح البنية العنفية داخل السياديات الديمقراطية الحديثة التي قد تتحول في لحظة الأزمات إلى معامل للإبادة وتحويل كمٍّ هائل من البشر إلى نفايات غير قابلة للتدوير وهنا يتم إقصاؤها في مخيمات مرور أبدية تمثل لحظة عري قانوني أو كائنات مستباحة قانونيًا حيث يجرَّد الناس من هوياتهم القانونية ويحيطهم الشك والكراهية، فهم الآخر المنبوذ قانونيًا[8].

يذهب زيغمونت في أزمنته السائلة إلى الاستفادة من الأداة التنظيرية لأغامبين في فهم آليات اشتغال النظام في المفهوم الحداثي أي «الوسواس التنظيمي»، ويتناول كل القطاعات، حيث يفتح على تنويعة في فهم مخيمات/المعسكرات وحالات اللجوء المعولمة التي يعدّها شكلًا من أشكال إبادة النفايات البشرية بالمفهوم الحديث التي يتوقف فيها الأفراد عن كونهم ذواتًا قانونية؛ فهم في اللامكان واللازمان، إذ تحولت الدولة الحديثة إلى معامل إلى إنتاج المنبوذين الذين لا يمكن إعادة تدويرهم أو حتى تصنيفهم قانونيًا، فحالة الاستثناء هي حالة السيولة بتعبير زيغمونت يذوب فيها القانون بتعليقه ورفعه مع استخدام أدوات الرقابة الجديدة التي تتعلق بهوس الدولة الأمني. وهكذا يذهب زيغمونت إلى دراسة السيولة والتي تخلق حالات استثناء بمستويات مركبة ولا يحصرها في المجال السيادي للحكم بل يطورها لتشمل مختلف مجالات النبذ والاستثناء الناعم والطوعي عبر سياسات الاستهلاك المعولمة والمرتبطة بنيوليبرالية السوق وما تخلقه من أدوات فرز وتصنيف وسياسات الإقصاء حتى إنه يرصد ظاهرة الفرز في ترسيم الفضاء المعماري المديني الحداثي.

تقدم تنويعية زيغمونت على نظرية أغامبين تركيبًا آخر حيث يكمل زيغمونت القصور في نظرية أغامبين المعرفية، إذ تتركز نظرية الأول حول حدود الدولة السيادية بمفهومها التقليدي من دون اعتبار للتحولات والزحزحة التي تعرضت لها السيادة وتأثيرات العولمة عليها، أو ما يسميه زيغمونت «انفكاك الزواج المقدس بين السيادة بشكلها التقليدي والدولة الحديثة، حيث تنسحب الدولة من مجالها السيادي وتفكك الدفاعات التي شيدتها الدولة والتعجيز المستمر لكيانات الدفاع الجمعي في حماية مواطنيها من ضربات قدر حركة رأس المال لمصلحة قوى السوق المتجاوزة لحدود السيادة التقليديةـ وبذلك تنتقل السيادة إلى القوى المتجاوزة للحدود السيادية للدولة، وكذلك إلى الأفراد في مواجهة مصائرهم ومواجهة قوى العولمة»[9].

ثالثًا: استنتاجات لا بد منها

1 – تناولتُ مقولات أغامبين محاولًا تتبع ذيول نظريته من خلال المراكمات المعرفية والتنويعات التي بنيت على هذه النظرية في محاولة الكثير من المنظّرين الإفادة منها لنقد مقولات الحداثة، إلا أنني سأشير إلى مجموعة من الخلاصات السريعة وعلى أكثر من صعيد. تكمن قوة النظرية في أنها تمثل استفتاحًا معرفيًا وخصوصًا على صعيد الفصلين الأول والثاني اللذين يمثلان رأس حربة الكتاب، ومناقشة مقولة السيادة في الدولة الحديثة من منظور مغاير فلسفيًا وقانونيًا لفهم حالات العنف التي تُرتكب في أكثر الديمقراطيات، حيث تمثل نظرية الاستثناء مفتاحًا مهمًا للفهم والتحليل وتفتح على ثيمات مهمة لم يكن مُفكرًا فيها أو أنه مستحيل التفكير فيها في ظل الوعي المتكون حول الأيديولوجيات الديمقراطية السائدة في الدول الحديثة، حيث طوّر أغامبين ثيمة مهمة حول حاجتنا إلى قواعد سياسية جديدية تلغي الفرق بين الإنسان والمواطن، بمعنى أن لا يختصر الإنسان إلى ذات قانونية تتعطل إنسانيته في حال قررت الدولة ذلك.

2 – لا بد من الإشارة إلى أن النظرية بتعميمها تخلق حالة من البلبلة المعرفية، إذ لا يمكن الذهاب إلى أن حالة الاستثناء يمكن تعميمها بوتيرة واحدة، فهي تتمايز من دولة إلى أخرى. وهذه النقطة ضاببية في مقولة أغامبين الأساسية، ولا يمكن اختزال حالة الاستثناء في مشهدية واحدة، إذ تختلف حالة الاستثناء من دولة حديثة إلى أخرى. بمعنى آخر، يغيب التمايز بين حالات الاستثناء المتعددة المستويات.

3 – غياب تنظيري واضح حول كيفية بلورة حالة دستورية للخروج من مأزق بنية الاستثناء القابعة في السيادة الحديثة وخلق مشروع تحرري أو غياب الاحتمالات التحررية التي تمكن الأفراد من الانفلات من قبضة سيادة الدولة في حالتها الاستثنائية، وكأن حالة الاستثناء قدر سرمدي يلاحق المهمشين، وهنا يتم تعطيل الذات الاجتماعية في مقاومة النموذج. فالفعل الاجتماعي السياسي يؤثر في مقاومة الدولة في حالات استثنائها؛ فالمعسكر ليس هو الفضاء الذي لا يمكن الخروج منه، إذ يمثل المعسكر بنية مضادة لحالات العري والاستباحة التي تصيب ساكنيه[10].

4- يمكننا مقاربة نظرية أغامبين لفهم حالة – أو حالات – الاستثناء في السياقات العربية. فلا يمكننا أن نعدّ النظرية مرتبطة بالديمقراطيات الغربية، ومن ينظر إلى ذلك فهو لا يفهم مقولة أغامبين الأساسية حيث يربط الاستثناء بسيادة الدولة الديمقراطية الحديثة وهي صنيعتها وليست صنيعة الاستبداديات. وعليه يمكننا فهم حالة الاستثناء في سيادات البلدان العربية الحديثة، ولا يمكننا قصرها على الأنظمة الاستبدادية العربية، وكذلك الأنظمة العربية التي تتمتع بمساحة من الديمقراطية، من خلال فهم حالات الطوارئ التي فرضت لسنوات طويلة في بعض البلدان العربية. إضافة إلى حالات الفرز داخل الأنظمة العربية والتصنيفات في تعاملها مع «الأقليات» أو الفئات المهمشة قانونيًا وسياسيًا وثقافيًا كحالة من حالات الاستثناء. أفكر مثلًا في البدون في الخليج العربي عمومًا والكويت خصوصًا، إضافة إلى الشكل البيروقراطي المزعج في البلدان العربية والتي تغيب عنها منظومة القواعد القانونية التي تحصر احتمالاتها. من هنا لا يمكن التنبؤ باحتمالاتها المتعددة فهي غير معقلنة أو مرشّدة.

5- بقي تنظير أغامبين داخل المركزية الأوروبية من دون الأخذ في الحسبان حالة استثنائية خارج المركزية الأوروبية. ولعل هذا أهم مأخذ تنظيرات أغامبين حيث تعلق تنظيراته حول حالة الاستثناء في الديمقراطيات الغربية من دون التطرق إلى حالات متعددة وشائكة في ما يسمى مناطق «الأطراف والهوامش». مؤخرًا أفادت دراسات مهمة من تنظيرات أغامبين بخصوص حالة الاستثناء في ظل الدولة الاستعمارية، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر دراسة أحمد سعدي عن الرقابة الشاملة التي يستفيد منها من تنظيرات أغامبين لدراسة الحالة الفلسطينية وتطبيق الرقابة العسكرية الشاملة بعد عام 1948 على من تبقى من السكان الأصليين حيث تحولوا تحت الحكم العسكري إلى ذوات عارية إلا من حالة الاستثناء. لعل ذلك يسد ثغر أغامبين المعلقة في الجغرافية المركزية.