مقدمة:

خلال اجتماع الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي في بيروت في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي قدّمنا قراءة عن المشهد الدولي والإقليمي والعربي حاولنا من خلالها إبراز تقدير موقف لموازين القوة التي تتحكّم بمسار الأمور في الوطن العربي والمتأثرة بنسب متفاوتة بالتحوّلات الدولية والإقليمية. ونعتقد أن ما أتينا به في تلك الدراسة ما زال صالحاً في معظمه وبالتالي تصبح ورقة مساندة لمقاربتنا اليوم.

المنطقة العربية من مشرقها إلى مغربها، مروراً بالجزيرة العربية، مسرح لصراعات مختلفة؛ منها طابعها دولي، ومنها طابعها إقليمي، ومنها طابعها عربي، وكثير منها مزيج من الداخلي والإقليمي والدولي. وهذه الصراعات معظمها مزمن في الجوهر وإن تغيّرت إلى حد كبير أدوار اللاعبين الدوليين والإقليميين والعرب منهم من منتصف العقد الماضي (أي بعد حرب تموز/يوليو على لبنان عام 2006) حتى اللحظة الراهنة.

تعكس التغييرات في الصراعات الراهنة تغييرات في موازين القوة على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي. وتعكس التغييرات في موازين القوة، بدورها، تغييرات جوهرية في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسكّانية والثقافية، عرضناها في ورقتنا السابقة ونكتفي بالإشارة إليها فقط. هذه التغييرات في موازين القوة على المستويات الثلاثة، الدولية والإقليمية والعربية، أتاحت الفرصة للاعبين إقليميين وعرب في توسيع رقعة تحرّكهم ورفع سقف ذلك التحرّك وفقاً لتقديراتهم في تراجع فعّالية القوى الدولية الأساسية التي كانت تتحكّم بمسار الأمور وإيقاعها. من هنا يمكن فهم بعض مسارات الصراعات القائمة في المنطقة العربية التي يعتبرها البعض بشكل آلي نتيجة لتصّور أمريكي – صهيوني ينفّذه لاعبون عرب.

وإذا كنا لا ننكر دور الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في تأجيج صراعات قديمة وخلق صراعات جديدة إلا أن الفكرة الأساسية التي نطرحها في هذه الدراسة، والتي نعرضها للنقاش، وهي غير مُنزلة أو منحوتة في الصخر، هي أن القسط الأكبر من الصراعات العربية – العربية هو من صنع عربي؛ وأن مستقبل هذه الصراعات يتوقف على اللاعبين العرب في المرتبة الأولى، آخذين بعين الاعتبار عامـلاً جديداً دخل على المشهد هو ما يمكن تسميته التنسيق الروسي – الأمريكي. فهناك سلسلة أحداث ومواقف وقرارات ترجمت ميدانياً في عدد من ساحات الصراعات القائمة كسورية واليمن وليبيا والعراق تدلّ على أن التنسيق الروسي – الأمريكي هدفه في الحد الأدنى ضبط إيقاع حركة الأحداث وفي الحد الأقصى تفاهم أشمل. لكننا لسنا متأكدين من مدى صمود هذا التنسيق ومدى فعّاليته – على المديين المتوسط والطويل – على سلوك اللاعبين العرب في المشهد السياسي.

لذلك، فإن هذه الدراسة ستتناول حركة الصراعات القائمة التي منها دولية في الساحات العربية؛ ومنها عربية – إقليمية؛ ومنها إقليمية – إقليمية؛ ومنها عربية – عربية. لكن المفتاح الرئيسي لمعظم هذه الصراعات – كي لا نقول جميعها – هو القضية الفلسطينية التي كانت وما زالت وستستمر إلى يوم الحسم أو النصر النهائي في استرجاع فلسطين، ونعني هنا كامل فلسطين، وحقوق الشعب الفلسطيني في العودة والاستقرار والتعويض المادي والمعنوي لما تحمّله هذا الشعب من وزر الاحتلال والتشرّد. فلا الحرب على العراق واحتلاله وتدمير بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وذاكرته العلمية والثقافية والتاريخية، ولا تدمير ليبيا وتمزيقها، ولا العدوان الكوني على سورية، ولا العدوان العربي غير المبرّر على اليمن، ولا حتى استمرار الأزمة في لبنان، ولا حتى نشأة وتشجيع حركات الغلو والتوحّش، ولا استمرار الحصار على غزة والتنسيق الأمني بين السلطة والكيان؛ تبرّرها الأسباب التي تروّجها وسائل الإعلام الغربية والعربية المملوكة من دول النفط إلّا والقضية الفلسطينية هي الحاضرة والسبب الحقيقي المباشر وغير المباشر لمختلف ألوان العدوان. لا ننفي وجود أسباب أخرى خاصة بكل قطر لكن السبب الرئيسي في رأينا هو الصراع العربي – الصهيوني يليه العمل على إجهاض أي حراك نهضوي وحدوي. هكذا كان التدخّل الدولي والإقليمي في السابق، وهكذا هو تدخله اليوم. كما أن محاولات استبدال العداء للجمهورية الإسلامية في إيران بالعداء للكيان الصهيوني هو الوجه الحقيقي لمسار الصراعات في المنطقة العربية.

أولاً: الصراعات الدولية في الوطن العربي

التدخلات الخارجية في الوطن العربي ناتجة من الصراعات الدولية. ويمكن اختزال الصراعات الدولية بالصراع بين روسيا والولايات المتحدة نيابة عن صراع بين محور الدول الصاعدة المتمثلة بمجموعة دول البريكس والتي قد تنضم إليها في وقت لاحق الجمهورية الإسلامية في إيران وبين المحور الغربي الأطلسي بما فيه الاتحاد الأوروبي وطبعاً الكيان الصهيوني.

الصراع بين روسيا والولايات المتحدة ليس جديداً بل متجدّداً بعد حقبة تفكّك الاتحاد السوفياتي. كما أن هذا الصراع لن يفضي بالضرورة إلى توافق أو تسويات مشابهة لتسوية يالطا. فالتسوية الأخيرة كانت بين حلفاء منتصرين على عدو مشترك – أي النازية – بينما سمة العلاقة الحالية هي سمة التنافس بين قوة صاعدة وقوة متراجعة وإن كانت الأخيرة في حالة إنكار ومكابرة. فالتسوية قد تكبح وتيرة الصعود لما يرافقها من تنازلات أو تأخير لأولويات، كما أنها عند الطرف الثاني قد تكبح فرصة إعادة تحسين الظروف وإلغاء التراجع. نستطيع أن نقول – إلى حد ما – إن كلاً من روسيا والولايات المتحدة تسعى فقط إلى الوصول إلى تفاهمات تضبط إيقاع مسار الصراع وليس بالضرورة إلى توزيع مناطق النفوذ بينهما. ففي ما يتعلّق بـ «التفاهمات» التي يمكن أن تكون قد تمّت بين روسيا والولايات المتحدة، لا بد من الانتباه إلى النقاط التالية:

أولاً، إن أي «تفاهم» لا يعني نهاية الصراع بل فعلياً متابعته بوتائر مختلفة وبوسائل متعدّدة كمحاولات الالتفاف على مقرّرات جنيف أو فينّا أو نيويورك. فما شهدناه من قرارات صادرة عن جامعة الدول العربية من توصيف المقاومة إرهاباً تشكّل تمهيداً لضرب المقاومة في سورية على قاعدة أن التسوية التي يروّج لها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا تتضمّن بنداً بمحاربة الإرهاب! قد يكون ذلك النزع للغطاء العربي عن المقاومة تمهيداً لعدوان صهيوني على لبنان ومقاومته، سواء في لبنان أو في سورية، هذا إذا ما كان الكيان الصهيوني واثقاً من نجاح سريع وحاسم. فالحرب المرتقبة هي الوجه الآخر للصراع بين المحورين عبر الأدوات الإقليمية والعربية.

ثانياً، للولايات المتحدة تاريخ حافل بنقض الاتفاقات التي تعقدها على قاعدة أن «استثنائيتها» تعفيها من المساءَلة والمحاسبة. كما أنها تعتبر أن العقد الذي يشكّل شريعة المتعاقدين يعكس موازين قوة في لحظة معيَّنة. وبما أن سنَّة الحياة هي العمل على تحسين موازين القوة لمصلحة كل طرف يستطيع ذلك، وإن كان على حساب الاتفاق المعقود، فإن الولايات المتحدة سعت في السابق، وستسعى في كل لحظة تعقد فيها أي اتفاق، ومنذ اللحظات الأولى للتوقيع على العمل على نقض الاتفاق إذا ما توافرت لها الظروف. فلا قدسية للمعاهدات والاتفاقات إذا ما اقتضت في تلك اللحظات المصلحة الأمريكية كما تحدّدها هي وإن كان على حساب الآخرين. فالتفاهم مع الروس وقبل ذلك الاتفاق على الملف النووي مرشح بقوّة للنقض أو التخلّي إذا ما شعرت أنها تستطيع أن تقوم بذلك حتى مع عقوبات إذا استطاعت أن تستوعبها. لكن هذه القدرة رهن التحوّلات الداخلية السلبية التي تشهدها الولايات المتحدة والتي قد تحدّ من فاعليتها.

في هذا السياق، علينا أن ننتبه إلى أن التحوّلات التي حصلت وما زالت تحصل داخل هذه المجتمعات الدولية وحتى في سائر الدول أدّت وتؤدّي إلى تناثر مراكز القوة والنفوذ (Dispersion) ما يحول دون إمكان أي طرف أن يفرض سلطته أو رأيه. لكن هل بإمكان التفاهم بين القطبين أن يحقق ذلك ويؤدّي إلى فرض تسويات على سائر الأمم؟ هذا ما لا نعتقد أنه ممكن في الظروف الراهنة لأن الأمم بشكل عام وخاصة الدول المعنية في الوطن العربي وفي الإقليم لديها من القوة الذاتية ما يسمح لها بتعديل أو تأخير التفاهمات أو ابتزاز وانتزاع بعض المكاسب، أي بمعنى آخر هناك قدر من الاستقلالية لدى الدول العربية الوازنة يجعلها تتخذ قرارات وإن كانت غير صائبة في بعض الأحيان إلّا أنها ليست بالضرورة تنفيذاً لإملاءات خارجية. كما أن «التمرّد» على الإرادة الدولية و/أو الإقليمية هي التي تفسّر منطق المقاومة للاحتلالات المتعدّدة، وتفسّر عند حلفاء الولايات المتحدة رفع سقفها السياسي في الملفات الساخنة التي تحاول الولايات المتحدة إطفاءها. فليست كل القرارات العربية من صنع الولايات المتحدة وإن كانت لا تمانع هذه الأخيرة هذه القرارات العربية المدمّرة للأمة. كما أن المقاومة ليست تنفيذاً لإرادة دولية أو إقليمية في العراق أو في سورية أو طبعاً في فلسطين. هذا الأمر، أي تناثر النفوذ، قد يؤدّي بدوره إلى إطالة الأزمات إن لم تحسم ميدانياً أو إن لم يحصل توافق داخلي بعيداً من الأجندات الخارجية. وليس كل شيء يسير في مصلحة القوى الدولية في المنطقة مهما كانت.

1 – المسرح السوري للصراع الروسي – الأمريكي

من الواضح أن المسرح السوري ساحة تنافس شديد القسوة يعكس مدى تصادم المصالح الروسية مع المصالح الأمريكية، إضافة إلى المصالح الإقليمية المتصادمة. لكن نلاحظ حرص الطرفين على عدم التصادم المباشر والاكتفاء بالتصادم عبر الحلفاء/الوكلاء على الأرض. فلروسيا استراتيجية واضحة المعالم والأهداف بينما للولايات المتحدة مواقف تتميّز بطابع رد الفعل وليس الفعل رغم كل ما يمكن أن يتصوّره المرء من إمكانات وقوة نارية واقتصادية ومالية لديها. ونفسّر ذلك بمنحى التراجع المزمن الذي عرفنا عنه منذ عام 2003 وما زلنا، أي أننا نعيش حقبة الأفول الأمريكي في المنطقة وحتى في العالم. ويعود ذلك لأسباب داخلية أمريكية في المرتبة الأولى تتمثل بانسداد أفق النظام السياسي والتراجع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتحوّلات في البنية السكّانية وانعكاسها على مراكز القوة والقرار وثقافة العنف لحل المشكلات في زمن التراجع. ونكرّر أن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة أصبحت دولة متخلّفة أو فقيرة أو ضعيفة في القدرات العسكرية والاقتصادية لكن كل رصيدها لا يمكنه أن تصرفه كما تريد سياسياً واقتصادياً في الساحات الدولية بشكل عام وفي المنطقة العربية بشكل خاص. ومن هنا نعتبر أن مقاومة الاحتلال الأمريكي في العراق كانت بمنزلة الضربة القاضية لتقدم الولايات المتحدة، فأوقفت مشروعها في المنطقة العربية وفتحت الأبواب على مصراعيها لجميع احتمالات «التمرّد» على الإرادة الأمريكية.

أ – روسيا

في الميدان السوري تتبع روسيا استراتيجية لاعب الشطرنج الذي يسعى، بعد عمليات الافتتاح في حركات البيادق، إلى توضيع القطع الأساسية من فرسان وأفيال وقلاع وملكة في الأماكن التي تعتبرها استراتيجية على طاولة المربعات الأربعة وستين. فهي تقضم وتقوم بتراكم الإنجازات الصغيرة التي تتحوّل إلى كتلة حسّاسة لا يستطيع الخصم أن يقاومها فيستسلم. وإذا حلّلنا مسار سلوك روسيا منذ خريف 2012 حتى الساعة نرى كيف استطاعت استعمال حق النقض في مجلس الأمن؛ إلى الإمداد العسكري؛ إلى التفاوض في جنيف واحد ثم اثنين ثم فينّا وموسكو ونيويورك في مجلس الأمن؛ في مراكمة المكاسب السياسية تُوّجت بمساندة عسكرية واسعة في أيلول الماضي فانتزعت من خلالها معظم الأوراق التي كانت بيد الولايات المتحدة.

ليس هدف هذه الدراسة البحث في المحطّات المختلفة ولا سرد التطوّرات على المسرح السوري بل التركيز على أن لروسيا استراتيجية واضحة تسعى إلى فرض تسوية وفقاً لمصالحها. فهي تسعى إلى إيقاف النزيف في سورية الذي يؤجّج تنامي قوى التعصّب والغلو الذي يشكّل تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي لما لها من جاليات مسلمة في دول الاتحاد الروسي. كما أن تقليص نفوذ الولايات المتحدة في المشرق العربي يساعدها على تحقيق هدف استراتيجي مزمن منذ حقبة القياصرة وهو الدخول إلى البحر المتوسط وإن كانت فاعلية ذلك الدخول محفوفة بالقيود كضرورة المرور بمضيق البوسفور الذي يتحكم به الحلف الأطلسي عبر تركيا. من هنا نفهم قيمة المشروع الإيراني لحفر قناة تربط بحر القزوين بالخليج العربي. وأخيرا تسعى روسيا إلى تأمين الجنوب الغربي للكتلة الجغرافية لأوراسيا التي تشكّل في رأينا الهدف الأساسي للعبة الأمم في هذه الألفية. ولنا رأي في هذا الموضوع عرضناه بشكل سريع في الدراسة التي قدمناها في شهر تشرين الأول/أكتوبر للأمانة العامة للمؤتمر.

إن الإنجازات العسكرية الميدانية للجيش العربي السوري تؤهّل روسيا لفرض تنازلات على الولايات المتحدة خلال المفاوضات. فمن جهة، استطاعت روسيا فرض تصنيف العديد من المنظّمات المقاتلة على الأرض السورية كتنظيمات إرهابية غير مؤهّلة للدخول في مسار التفاوض والحل السياسي، كما فرضت عدم اختزال المعارضة السورية للحكومة في المجموعة التي ترعاها حكومة الرياض، كما أنها تسعى حتى هذه الساعة إلى إدخال أطراف جديدة إلى طاولة الحوار ككرد سورية. والإنجاز الأكبر هو التسليم بوحدة الأراضي السورية وعدم تقسيمها، رغم الالتباس في دعوات إلى «فدرالية» تصدر من وقت إلى آخر عن بعض المسؤولين في روسيا سرعان ما يتمّ التراجع عنها، وكأنها نوع من وسائل الضغط على بعض الأطراف في الدولة السورية لإبداء بعض «المرونة» في ملفّ المفاوضات. أما بالنسبة إلى مصير الرئيس السوري بشّار الأسد فاستطاعت روسيا إقناع الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي أن المسألة تُترك للشعب السوري وأن لا شروط مسبقة لتنحّيه وعدم ترشّحه.

ب – الولايات المتحدة

اعتبرت الولايات المتحدة، منذ اندلاع الحراك الشعبي العربي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، أن روسيا إما لا تستطيع التدخّل في مسار الأمور وإمّا ليست لديها أي رغبة في ذلك بسبب فقدان نفوذها في المنطقة منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي. هذا دليل قاطع على سوء تقدير فادح تدفع ثمنه الولايات المتحدة، كما أنه يدّل على ترهّل القدرات على التقدير والتخطيط، سواء بسبب الغطرسة أو بسبب رداءة النخب الحاكمة. وبالتالي اعتبرت الولايات المتحدة أن الساحة السورية خالية من أي منافسة دولية لها وتستطيع أن تتحكم بمسار الأمور إلى أن أتت الخدعة الغربية بقيادة الولايات المتحدة في تحوير قرار مجلس الأمن بحق الأزمة في ليبيا. واعتقدت الولايات المتحدة أنه يمكنها تجاوز روسيا في الملف الليبي وحتى في سائر الملفات، وبخاصة في الملف السوري، إلى أن أقدمت روسيا ومعها الصين على استعمال حقهما في النقض في مجلس الأمن في أواخر 2011، وذلك بعد أن ثبت صمود سورية دولة وقيادة ومؤسسات ولا سيَّما المؤسسة العسكرية. فكان تعطيل دور مجلس الأمن كأداة للسياسة الخارجية الأمريكية.

هنا لا بد من توضيح بعض الأمور على موقف الولايات المتحدة في الملف السوري. لا نقاش حول رأي ورغبات الإدارة الأمريكية تجاه طبيعة الدولة السورية وقيادتها. لكن سورية لا تشكّل بالنسبة إلى الولايات المتحدة أولوية جيوسياسية بل مدخـلاً لابتزاز الجمهورية الإسلامية في إيران في مرحلة المفاوضات معها على الملف النووي. كما أنها تعارض وجوداً إيرانياً على شواطئ البحر المتوسط بعد الوجود غير المباشر للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان عبر محور المقاومة وحلفائها. لذلك تجنّبت الولايات المتحدة الانخراطَ المباشرَ عسكرياً في الأزمة السورية، وإن كانت المسؤولة الأولى عن عسكرة الحراك الشعبي وتفاقم استمرار القتال والدمار. فالحرب بالوكالة وعبر التحريض الفئوي من أفتك وأرخص الأسلحة في الترسانة الأمريكية، فكان ما كان. في المقابل نفهم عدم تمسّك الإدارة الأمريكية بوكلائها وحتى ببعض التنظيمات التي أوشكت أن تهدّد مصالحها في العراق وفي دول الجوار. لذلك كان الدخول في مفاوضات للتسوية مع روسيا في الشأن السوري، بعد فشل تحقيق أهدافها عبر وكلائها، ورقة تستخدمها سواء بالتمسّك بها أو بالتفسير الملتبس لما يمكن أن يصدر عنها. فخسارتها محدودة في سورية حيث لا مصالح حيوية لها بينما خسارة حلفائها أكبر كثيراً وتفوق قدرتهم على التحمّل. مرّة أخرى تتحقّق المقولة أن مخالفة الولايات المتحدة أمر مكلف لكن مهادنتها أو التحالف معها أمر قاتل!

اعتبرت الولايات المتحدة أنها تستطيع تحديد وتيرة الأحداث في سورية عبر التحريض المباشر من قبل وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلنتون، المرشحة المرتقبة للرئاسة الأمريكية عن الحزب الديمقراطي. فهي التي حرّضت على استمرار حمل السلاح وعدم القبول بالعفو الصادر عن الدولة. كما أنها دعت وما زالت في خطابها السياسي إلى مقاربة سورية من زاوية التجمّعات الطائفية والمذهبية والعرقية مع إغفال متعمّد للهوية الوطنية وللهوية القومية العربية لسورية. فليس هناك سوريون بل طوائف ومذاهب وأعراق، كما حصل تماماً في العراق.

التحريض الأمريكي واللامبالاة للتحوّلات السياسية على الصعيد الدولي والإقليمي وصل إلى ذروته في صيف 2013 مع افتعال أزمة السلاح الكيميائي. نتذكر جميعاً الكلام الكبير للرئيس الأمريكي عن «الخط الأحمر» الذي تخطّته الدولة السورية – على حسب زعمه – في استعمال السلاح الكيميائي، ما يستدعي التدخل العسكري الأمريكي المباشر. غير أن الرسائل الإقليمية (إيران) والدولية (روسيا) وحتى داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية كانت واضحة للغاية أي أن التدخل العسكري الأمريكي كان سيؤدّي إلى انفجار واسع في المشرق يصيب بشكل مباشر ليس المصالح الأمريكية فقط بل حلفاءها أيضاً، كالكيان الصهيوني وتركيا وحتى دول مجلس التعاون الخليجي. فكانت الهندسة الروسية في إيجاد المخرج اللائق للولايات المتحدة عبر قرار تسليم المخزون الكيميائي لدى الدولة السورية.

المحطة التالية في الأزمة السورية من زاوية الولايات المتحدة كانت استمرار المواجهة مع الدولة السورية ولكن عبر منظّمات التشدّد والغلوّ والتعصب. فالتغاضي عن نمو ما يسمّى الدولة الإسلامية في العراق والشام، أي داعش، لم يكن ليحصل لولا التسهيلات التركية (بموافقة أمريكية صريحة) والدعم اللوجستي لها في العراق من قبل بلاد الحرمين وفي ما بعد تمدّدها في شمال سورية. الحرب عبر داعش وجبهة النصرة كانت البديل من الارتكاز على «معارضة معتدلة» أظهرت فشلها بعد لجوء العناصر التي درّبتها الاستخبارات الأمريكية إلى صفوف داعش أو النصرة. عندما خرج التنظيمان عن السيطرة – وبخاصة داعش – كان لا بد للولايات المتحدة من الظهور بالموقف المناهض لداعش، فكان «التحالف الدولي» لضرب داعش التي استفادت منه من جهة العتاد والعداد والتمدّد الجغرافي في العراق ومن بعد ذلك في سورية. وبعد حوالى سنة من المسرحية لإيقاف داعش كان التدخل الروسي بناء على طلب رسمي من الدولة السورية، الذي غيّر من موازين القوة على الأرض لمصلحة الدولة السورية والجيش العربي السوري. فهذه المتغيّرات أجبرت الولايات المتحدة على ضرورة التفاهم الجدّي مع روسيا.

نقول «التفاهم الجدّي» لأن التفاهم الروسي – الأمريكي بدأ عام 2012 في اجتماع الرئيسين بوتين وأوباما في كانكون. غير أن الظروف الموضوعية داخل الولايات المتحدة لم تسمح للرئيس الأمريكي في السير في ذلك الاتجاه إلى أن أتت أزمة صيف 2013 والتي تمكّن من خلالها الرئيس الروسي من تثبيت حضوره الدولي كشريك أساسي في أي تطوّر ممكن. في المقابل، استطاع الرئيس الأمريكي أن يقطع الطريق أمام صقور الإدارة والكونغرس للمطالبة بالتدخل العسكري المباشر في سورية، المطلب الذي ما زال قائماً لدى الكيان الصهيوني وحكومة الرياض وأنقرة، وطبعاً أتباعهما في الساحات العربية.

أسهَم التفاهم من خلال أزمة 2013 في تفعيل المفاوضات على الملف النووي في إيران. ففي إثر إنجاز الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران، وفي ضوء المتغيرات الحاصلة في موازين القوة على الأرض وفي الميدان، كانت الأرضية لتسوية سياسية بين القوتين الدوليتين ممهَّدة، فنحن نعيش هذه اللحظة دون التنبؤ بنجاحها أو إخفاقها. لن نسارع إلى القول إن التسوية تحصيل حاصل، كما لا نقول إنها غير قابلة للتنفيذ. لكن استمرار إنجازات الجيش العربي السوري في ميدان المواجهات مع كل من داعش والنصرة سيجعل من فرص تسوية ترضي إلى حدّ ما حكومتي الرياض وأنقرة تتراجع. فما على حكومة الرياض وأنقرة إلّا أن تعدّلا في طموحاتهما وتتكيّفا مع المستجدات الميدانية. حتى اللحظة لا نستطيع القول إنهما وصلا إلى تلك القناعة رغم بعض التباشير الصادرة عن حكومة أنقرة بالسير في ذلك المنحى.

ج – معالم التسوية الروسية – الأمريكية في سورية

ليست لدينا معلومات غير ما نقرأه في مختلف وسائل الإعلام والمحطات الفضائية التابعة لمختلف الفرقاء المتصارعين في الساحة السورية وعليها. فعلى ما يبدو فإن ملامح هذه التسوية يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

أولاً، الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومؤسسات الدولة وفي مقدمها الجيش العربي السوري خلافاً لما حصل في العراق و/أو في ليبيا.

ثانياً، تشكيل حكومة «انتقالية» أو «وحدة وطنية» (يبدو أنَّ هناك تبايناً على تسمية هذه الحكومة) من خلال الدستور الحالي تقوم بالإعداد لانتخابات برلمانية جديدة ورئاسية وتحضّر التعديلات المطلوبة التي سيتم التفاوض عليها. التشديد على تشكيل الحكومة من خلال الدستور الحالي هو إنجاز لكل من سورية وروسيا إذ إن البديل من ذلك هو تحديد مرجعية خارجية تكون وصية على سورية، وهذا ما لم ولن تقبله الدولة السورية قيادة وحكومة وشعباً. ما هو مسكوت عنه هو توجّهات الحكومة الجديدة والتعديلات المقترحة للدستور التي ستحدد طبيعة الدولة (دولة اتحادية أو لامركزية إدارية نسبية؟) وهويتها (عربية؟؟؟) ودورها في شتى الميادين، وبخاصة في الصراع العربي – الصهيوني.

وهنا تقفز إلى الواجهة عدة أسئلة: كيف ستتعامل كل من روسيا والولايات المتحدة مع الانتخابات التي حصلت في نهاية الأسبوع الثاني من شهر نيسان/أبريل 2016؟ أليس هذا مؤشراً على مدى حرص الدولة السورية وقيادتها على تثبيت استقلاليتها وسيادتها؟ أليس إصرار الموفد الأممي دي ميستورا على تأجيل الانتخابات بحجة أن هناك مناطق سورية خارج سيطرة الدولة (و/أو النفوذ الدولي؟!) تجعل إجراءها في اللحظة تجاهـلاً لرأي المواطنين السوريين فيها، واستطراداً رأي السوريين في الشتات؟ أليس الحرص على ذلك دليـلاً على أن تلك القراءة تفترض أن السوريين الموجودين في مناطق خارج سيطرة الدولة يعارضون الدولة ونظام الحكم القائم، ضاربة عرض الحائط كل المؤشرات (ككثافة المشاركة الشعبية) التي تقول عكس ذلك؟

ثالثاً، استطاعت الدبلوماسية الروسية انتزاع تنازل كبير من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول ضرورة استمرار الرئيس الأسد في موقعه وأن مصيره يحدّده الشعب السوري بعد أن كانت تنحيته شرطاً أساسياً لأي حل سياسي. لكن حلفاء واشنطن في المنطقة ما زالوا متردّدين (حكومة أنقرة) أو مكابرين (حكومة الرياض) حيال هذا الأمر، وهذا ما نعيشه في اللحظة الراهنة عند كتابة هذه السطور.

رابعاً، استطاعت الدبلوماسية الروسية وضع جبهة النصرة على قائمة الإرهاب واستبعادها من المشاركة في أي حل سياسي، وكذلك الأمر بطبيعة الحال لداعش. أما المجموعات المسلّحة التابعة لحكومات إقليمية (أنقرة والرياض) فما زال الجدال قائماً حول إدخالها في إطار وفد المعارضة. أوكلت هذه المهمة على ما يبدو إلى الدبلوماسية الروسية. في هذا السياق يمكن قراءة التطوّرات الأخيرة كإعادة تموضع القوات الروسية أو سحب الجزء الأكبر من قواتها من سورية على هذه القاعدة. وهناك قراءات متعدّدة لتلك الخطوة الروسية. القراءة الأولى تعتبرها خطوة تكتيكية تربك الخصوم وبخاصة الولايات المتحدة وتفقدها ورقة انتقادية لروسيا، كما يمكن قراءة الخطوة كضغط على الحكومة السورية لإبداء «مرونة» أكثر في التسوية. لسنا متأكدين أن التصلّب السوري هو في موضوع المعارضة ولا حتى في الصلاحيات الدستورية بل في التوجّهات السياسية الإقليمية والدولية للحكومة المرتقبة كخطوة أولى للحل. فما يلي يعبّر عن بعض هواجسنا تجاه ما يمكن أن ينتج من «التسوية».

فإذا كنا نعتبر أن هذه الحلول من خلال «التسوية» – وإن كانت ضرورية لإيقاف النزيف والدمار في سورية – إلّا أنها ما زالت غامضة تجاه ما نعتقد حول الأهداف البعيدة و/أو غير المعلنة لهذه «التسوية». فمنذ بداية الأزمة وما رافقها من أحداث دامية ودمار شامل اعتبرنا أن الحراك الشعبي في سورية هو حراك لمطالب مشروعة، غير أن جهات خارجية إقليمية ودولية منخرطة بشكل مباشر وغير مباشر في الميدان السوري ولها أجندات مشبوهة حرّضت على تفاقم القتال واستمراره. الحرب الكونية التي شُنّت على الدولة السورية شعباً وأرضاً وحكومة وقيادة لم تكن لإنجاز الإصلاحات المطلوبة بل لتغيير دور سورية. فمن الصعب قبول أن بعض الدول العربية المنخرطة في الحرب على سورية حريصة على حقوق الشعب السوري أو إرساء الديمقراطية فيها وهذه الدول لا دستور لها ولا برلمان ولا حقوق سياسية أو غيرها لرعاياها. فالهدف من الحرب على سورية كان في رأينا – ولا يزال – إدخال سورية في «التسوية الكبرى» للقضية الفلسطينية. لذلك تراودنا شكوك عميقة حول يقين «التسوية» المتداولة من ناحية دور سورية في الصراع الأم بين العرب والصهاينة. هذا ملف يستحق النقاش ولكن في ضوء معلومات مؤكدة وليست فقط على قاعدة التقديرات.

نشير في هذا السياق إلى أن روسيا غير معنية بموقف محور المقاومة تجاه الصراع مع الكيان الصهيوني. فدبلوماسيتها تركّز على ضرورة اللجوء إلى الشرعية الدولية، أي إلى قرارات مجلس الأمن، التي تقرّ بحق بقاء الكيان الصهيوني وبضرورة تنازل الشعب الفلسطيني عن حقه في الجزء الأكبر من فلسطين. كما أن لروسيا مصالح مهمّة في الكيان كجالية روسية قوامها مليون نسمة أو أكثر، إضافة إلى مصالحها الغازيَّة في حقول الغاز الممتدة من شواطئ غزّة إلى الحدود اللبنانية. أما الولايات المتحدة فموقفها من حماية الكيان الصهيوني من الثوابت في السياسة الخارجية الأمريكية وإن كانت في رأينا بعض المؤشرات تنبئ بتحوّلات في هذا الموقف وإن لم تتبلور وتصبح موقفاً رسمياً.

هناك على ما يبدو توافق روسي – أمريكي حول حل للقضية الفلسطينية. فمواقع عدة في الولايات المتحدة تعتبر أن الرئيس الأمريكي يفكّر جدّياً في إعادة الاعتبار إلى حل الدولتين وإيقاف الاستيطان واعتبار القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية. حتى هذه الساعة لم تصدر أي مبادرة قد توافق عليها روسيا. كما أن هناك شكوكاً حول قدرة الرئيس الأمريكي على تسويق تسوية كهذه تدخله في التاريخ كصاحب الإنجازات السياسية الخارجية الكبرى؛ كالاتفاق مع الجمهورية الإسلامية والتطبيع مع كوبا والاتفاق حول المناخ، وربما أخيراً تسوية النزاع المزمن في المشرق العربي. ففي جو المزايدات الداخلية في الحزب الجمهوري وقطاعات واسعة داخل الحزب الديمقراطي تجاه التأييد المطلق للكيان وسلطة اللوبي الصهيوني على الإعلام الأمريكي فمن الصعب أن يحقق الرئيس الأمريكي أي نجاح في هذا الموضوع وإن كانت هناك قاعدة شعبية أمريكية متنامية حتى داخل الجالية اليهودية الأمريكية تسعى إلى حل الدولتين.

2 – المسرح العراقي للصراع الروسي – الأمريكي

ما زال الحضور الأمريكي في العراق أقوى من الحضور الروسي. استطاعت الولايات المتحدة استغلال لحظة الضعف الروسي للدخول إلى العراق والهيمنة عليه. أما وقد خرجت القوات الأمريكية من العراق باستثناء بعض التشكيلات العسكرية الصغيرة الحجم فإن نفوذ الولايات المتحدة تراجع تراجعاً كبيراً، وإن كان لم يزل يحظى بقدر كبير من التأثير في قطاعات واسعة ووازنة بين النخب السياسية التي أفرزتها ما تُسمّى العملية السياسية.

تحاول الحكومة العراقية الحالية إيجاد بعض التوازن مع الولايات المتحدة عبر نسج علاقات مع روسيا. من هنا نفهم زيارة رئيس الوزراء العبادي إلى روسيا وإنجاز بعض الاتفاقات العسكرية والاقتصادية. وزيارة وزير الخارجية الأخيرة لبغداد محاولة لتجديد وتوثيق العلاقة مع واشنطن. الملف الأوّل المشترك بين الحكومتين العراقية والأمريكية وإلى حدّ ما روسيا هو ملف داعش. فما زالت الولايات المتحدة تضغط على الحكومة العراقية لمنع اللجوء إلى المساعدة الروسية أسوة بما حصل في سورية. لكن الوقائع الميدانية في سورية قد تفرض مراجعة لموقف الولايات المتحدة وضرورة التفاهم مع روسيا ليس فقط في سورية ولكن أيضا في العراق.

الملف الثاني المشترك بين روسيا والولايات المتحدة هو الملف الكردي. فإذا كانت الولايات المتحدة داعمة للإقليم الكردي إلّا أن هذا الدعم لم يترجم إلى دعم النزعات الانفصالية. كذلك الأمر بالنسبة إلى روسيا. فالانفصال في العراق له تداعيات كبيرة على كل من الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا وسورية. والعدوى الانفصالية إن انتقلت إلى تركيا تؤثر في الأمن القومي الروسي. من هنا نفهم التعاون الضمني الروسي – الأمريكي في الملفات العراقية الساخنة وإن كان لا يخلو من تباينات في وجهات النظر. الداعم الأول للنزعة الانفصالية في العراق هو الكيان الصهيوني الذي يشجع أيضاً على تجزئة العراق إلى كيانات عرقية وطائفية وفقاً لرؤية برنارد لويس. يحذّر هذا الأخير من أي نزعة وحدوية في المشرق العربي الذي يريده تجمّعاً للأعراق والطوائف فقط لا غير.

3 – الصراع الروسي – الأمريكي في ليبيا

كانت الخدعة الأمريكية في الموضوع الليبي نقطة انطلاق التحرّك الروسي على الصعيدين الدولي والإقليمي لردع الهيمنة الأمريكية والتعالي والغطرسة – إن لم نقل البلطجة – في سياساتها الخارجية تجاه الحلفاء والخصوم. أما اليوم فبعد تدهور الوضع الليبي حيث أصبحت ليبيا نقطة تجمّع القوات العائدة لداعش وحلفائها من التنظيمات المتشدّدة، وبالتالي مصدر خطر مباشر على أوروبا والمصالح الغربية بشكل عام، والأمريكية بشكل خاص في ما يتعلّق بالنفط والأمن المتوسطي، كان لا بد من التفاهم مع روسيا لوضع تسوية للأزمة الليبية. ما زلنا في هذه اللحظة بانتظار نضوج تلك التسوية. ولكن بات واضحاً أن الخروج المرتقب لقوات داعش من سورية اليوم وغداً من العراق قد تجعل من ليبيا نقطة انطلاق للتمدّد في المغرب العربي وجنوباً إلى دول الساحل الأفريقي وصولاً إلى وسط أفريقيا.

إن التسوية المرتقبة في ليبيا لا تعني نهاية الصراع بين الدولتين فيها بل فقط ضبط إيقاع التنافس لمنع التدهور والخروج عن السيطرة. طالما كانت الإرادة العربية مغيّبة فالتدخّل الخارجي أمر طبيعي لأن الطبيعة لا تتحمّل الفراغ.

كانت هذه قراءة سريعة للصراع الروسي – الأمريكي في المناطق الساخنة في الوطن العربي. فالمواجهة السياسية المباشرة بينهما كانت واضحة خلال السنوات الخمس الماضية في سورية وليبيا تتحوّل بوتائر مختلفة إلى تفاهمات ضمنية وأو صريحة ليس لإنجاز تسويات تقسّم النفوذ بينهما في المنطقة العربية بل في رأينا لضبط إيقاع المواجهة لعدم تفاقمها وصولاً إلى مواجهة مباشرة عسكرية سواء في أوروبا الشرقية أو في مشرق الوطن العربي. الدليل على استمرار الصراع ولو بوسائل مختلفة مسرحية تسريب «أوراق بناما» التي تصيب بشكل عام خصوم الولايات المتحدة وبشكل خاص الرئيس الروسي بوتين. إن الصراع، إن لم نقل الحرب بين الولايات المتحدة وروسيا، وإن تخلله بعض «التفاهمات» هو قاعدة العلاقات بينهما وإن تعدّدت الوسائل. بات واضحاً أن الإعلام الذي تسيطر عليه مؤسسات قريبة من المجمع العسكري الصناعي الأمني المالي الغربي هو سلاح تحريض ودمار شامل.

 

ثانياً: الصراع الإقليمي – العربي

يتمحور الصراع الإقليمي – العربي في عدد من الساحات. الساحة الأولى هي الصراع الأم وهو الصراع العربي – الصهيوني. أما الصراع الثاني فهو الصراع العربي – التركي في ساحات متعدّدة كالساحة المصرية والساحة السورية، وساحة الجزيرة العربية. أما الصراع الثالث فهو صراع بلاد الحرمين مع الجمهورية الإسلامية في إيران في كل من الساحات العراقية والسورية واللبنانية واليمنية وما يرافقه من محاولات نسج تحالفات بين مصر وبلاد الحرمين والكيان الصهيوني كمشروع الجسر الذي يربط «آسيا بأفريقيا»!

1 – الصراع العربي – الصهيوني

كانت القضية الفلسطينية وما زالت القضية المركزية للأمة العربية. والصراع العربي – الصهيوني مرّ بتحوّلات حيث خرج زمام المبادرة في مواجهة الكيان من أيدي النظام الإقليمي – العربي إلى ما يمكن تسميته الحراك الشعبي وبخاصة عند الشعب الفلسطيني. ما زال هذا الشعب العظيم يسطّر الأساطير في مواجهة غير متكافئة على الورق وفي الميدان ولكنه يسجّل نقاطاً في منتهى الأهمية رغم تخاذل الحكومات العربية وفقدان بوصلتها السياسية ورغم تواطؤ الغرب المستند إلى تخاذل العرب وأخطاء القيادات الفلسطينية في خيارات المواجهة مع الكيان.

في الدراسة السابقة، اعتبرنا أن الحراك القائم في كل فلسطين، ضفة وأراضي 1948، انتفاضة من نوع فريد وليست «هبَّة» كما لا يزال يصفها البعض. فالتفلسف في التسميات لذلك الحراك لا يغني من جوع ولا يسمن، بل يعكس فقدان الإرادة للانخراط الفعلي في مواجهة العدو. صحيح أن كوادر وعناصر الفصائل الفلسطينية منخرطة في الصراع ولكن لم نشهد تشكيل قيادات موحدة وغرفة عمليات تنسق وتدعم المبادرات الإبداعية للشعب الفلسطيني من شبَّان وصبايا استطاعوا تحدّي حاجز الخوف فأظهروا عدم المبالاة للحسابات الضيّقة أو العريضة التي تقوم بها «القيادات»!

قراءتُنا المشهدَ في فلسطين تفيد أن الكيان في حال تراجع وإرباك أمام إبداع الشعب الفلسطيني. لكن هذا لا يعني أنه توقف عن عملية تهويد القدس والضفة الغربية مستفيداً من الصمت العربي الرسمي والإعلامي التابع لمصالح النفط باستثناء بعض الوسائل التي يتجرأ ذلك النظام على إسكاتها بدون خجل أو خوف من محاسبة. وليست محاولات إسكات محطتي «الميادين» و«المنار» إلّا دليـلاً قاطعاً على أن النظام العربي الرسمي أصبح شريكاً فاعـلاً وفعّالاً في تصفية القضية الفلسطينية، ناهيك بالسكوت عن استمرار الحصار على غزّة المقاومة بحجج لا تصمد أمام خطورة ما يصيب أهلنا في القطاع. وما يعزّز ذلك الشعور بتواطؤ النظام العربي الرسمي في تصفية القضية تنامي خطوات التطبيع في بعض الدول العربية. فبعد اللقاءات «العفوية» وفتح المكاتب التمثيلية التجارية نشهد طرح المشاريع المشتركة كمشروع الجسر بين الجزيرة العربية ومصر الذي لا يمكن أن يتحقّق من دون موافقة ومشاركة الكيان الصهيوني.

غير أن نبض الشارع العربي ما زال مناصراً للشعب الفلسطيني ولقضيته ما يجعل طبيعة المواجهة مواجهة قومية في الدرجة الأولى مساندة لحراك الشعب. الأمثلة عديدة منها الهتافات لحوالى مئة ألف مشاهد في مباريات كرة القدم بين المنتخب الجزائري والمنتخب الفلسطيني نذكر منها أن الفريق الفلسطيني لن يخسر في الجزائر. كما نذكر الطفل التونسي الذي رفض مصافحة منافس صهيوني له في مباراة الشطرنج فخسر اللقب وعندما سئل عن الخسارة أجاب بأن هذه الخسارة لا تساوي خسارة أطفال غزّة. وأخيراً موقف مجلس الشعب المصري الذي صوّت لطرد أحد النواب الذي تباهى في استقبال سفير الكيان الصهيوني في منزله. نعم، ما زال الموقف الشعبي العربي سليماً وعظيماً في نصرة قضية فلسطين وإن تراجعت مكانة فلسطين في الاهتمام الرسمي العربي والاعلام الذي يدور في فلكه.

فلسطين توحد الجماهير العربية. فلسطين أصبحت حاجة عربية لإنقاذ العرب بعد أن كانت وحدة العرب حاجة فلسطينية لاسترجاع فلسطين. الانتفاضة تسهم في تفاقم الانفصام بين الجماهير والنخب الحاكمة في الوطن العربي. إن استمرار الانتفاضة من العجائب وبخاصة أن التنسيق الأمني بين سلطات الاحتلال والسلطة الفلسطينية تحول دون توسيع رقعة الانتفاضة وانتزاع المزيد من الإنجازات المعنوية لمصلحتها. فخيار السلطة واضح وهو نقض الانتفاضة والاستمرار بالحوار العبثي مع الكيان.

2 – الصراع العربي – التركي

كما تقدم ذكره، فإن الصراع العربي – التركي يتجلّى في أربع ساحات: الساحة السورية، والساحة العراقية، وفي ساحة الجزيرة العربية، والساحة المصرية. وهذا الصراع يعكس طابع العلاقات الملتبسة بين الدولة التركية والدول العربية. هذه العلاقة الملتبسة لها جذور تاريخية تعود إلى حقبة السلطنة العثمانية في العقود الأخيرة من عمرها ونظرتها إلى الولايات العربية. كما أن ردّة فعل تلك الولايات تجاه السلطنة إبان الحرب العالمية الأولى خلقت بيئة حاضنة لنظرية قطع العلاقة مع تركيا.

أدارت تركيا الكمالية ظهرها للوطن العربي وللعرب عموماً وتوجّهت في محاولة بائسة نحو الالتحاق بالغرب. لكن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة شكّل منعطفاً كبيراً في التوجّه التركي نحو الشرق بشكل عام، والوطن العربي ودول جواره بشكل خاص، عبر سياسة «صفر مشاكل» التي تمّ الترحيب بها عربياً عندما أطلقت. لسنا في إطار مناقشة محاولات تركيا بنسج علاقات مع الغرب إلّا أن ما يهمنا هو موقفها من الصراع العربي – الصهيوني في المرتبة الأولى ومشاريع إحياء الدور العثماني في الهيمنة على الوطن العربي عبر جماعة «الإخوان المسلمين».

فبالنسبة إلى العلاقة مع الكيان الصهيوني هناك تباين بين القاعدة الشعبية التركية التي تتعاطف مع القدس وفلسطين وبين الحكومة التركية وقيادتها. إذ إن التطوّرات الأخيرة من إخفاقات تركية على الصعيد الدبلوماسي، وبخاصة مع روسيا، دفعت الحكومة التركية إلى رفع درجة التنسيق مع الكيان إلى مستوى التحالف الاستراتيجي. هل يصمد ذلك على الصعيد الشعبي في تركيا؟

أ – الصراع في الساحة السورية

إنَّ قراءتنا الدور التركي في الصراع في سورية مبنية على اعتبارين: يندرج الاعتبار الأول في إطار طموحات الرئيس التركي أردوغان ووزير خارجيته داوود أوغلو في إحياء مشروع العثمانية الجديدة واستعادة بعض المناطق في سورية وحتى العراق من تقسيمات سايكس – بيكو. كما أن فرض النفوذ على مختلف الأقطار العربية عبر توكيل جماعة الإخوان المسلمين قد يحقّق ذلك المشروع. أما الاعتبار الثاني فيعود إلى الطموح لتأدية دور الوسيط في تسوية الصراع العربي – الصهيوني عبر عقد اتفاقية سلم في الحد الأقصى أو تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني في الحد الأدنى.

لم تتحقق طموحات تركيا مع الدولة السورية. لذلك انقلبت بشكل مفاجئ في ربيع 2011 على الدولة السورية قيادة وحكومة وشعباً، وحتى أرضاً، بعدما تبيّن لها أن كل محاولاتها التي دعمتها الدولة القطرية للتطبيع مع الكيان الصهيوني قد فشلت، كما أنها فشلت في حثّ الدولة السورية على مناهضة حكومة نوري المالكي في العراق لمصلحة أياد علاوي. والمعلومات المتوافرة حول تجهيز مخيمات للاجئين السوريين في تركيا قبل اندلاع الأحداث الدامية تؤكّد ضلوع تركيا في تفاقم الأزمة في سورية مسبقاً لترويض الدولة في الحد الأدنى – أو تغييرها في الحد الأقصى – بعدما تهاوت رموز دول عربية كتونس ومصر وليبيا بشكل سريع، ما عزّز وهْم تكرار السيناريو في سورية. الحجة التي تقضي بضرورة إجراء إصلاحات جذرية بمنزلة كلام حق يراد به باطل. المفارقة تكمن عندما تطالب قطر، شريكة تركيا في الأزمة السورية منذ البداية، بإصلاحات دستورية نحو المزيد من الديمقراطية! دعم تركيا للإخوان المسلمين في سورية هو قرار بقلب النظام القائم في سورية.

السياسة الأمريكية لاستنزاف سورية طبّقتها تركيا عبر فتح الحدود للمجموعات المتشدّدة معتبرة أن تلك المجموعة تحت السيطرة. لكن حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر في ما يتعلق بداعش. أما جبهة النصرة فما زالت تركيا تعتقد أنه بإمكانها السيطرة عليها وكذلك المجموعات الأخرى. الضغط الروسي والأمريكي على تركيا لضبط الحدود ما زال قائماً. وتركيا تنظر بارتياب إلى إمكانية الجيش العربي السوري في إحلال السيطرة الكاملة على حلب واستعادة إدلب والرقة. نحن في هذه اللحظة.

استفادت تركيا بشكل كبير من سياسة الانفتاح الاقتصادي وفتح الحدود للبضائع التركية التي أطلقها الرئيس بشار الأسد. كان الوفاء لهذه الاستفادة بتفكيك أكثر من 6000 معمل في حلب وريفها ونقلها إلى تركيا.

ب – الصراع في الساحة العراقية

ما زالت تركيا تسعى إلى تصحيح نتائج الحرب العالمية الأولى وما زالت تطالب بالموصل. كما أن إقليم كردستان يشكّل بالنسبة إلى تركيا خطراً على وحدة تركيا وبخاصة إمكانية انفصال كرد تركيا عن الدولة المركزية التركية وتشكيل كيان كردي على أطراف تركيا وسورية والعراق وربما إيران. فالمسألة الكردية مسألة مشتركة بين العرب والإيرانيين والأتراك من جهة، والكرد من جهة أخرى، وإن اختلفت المقاربات لها.

سياسة الحكومة التركية في العراق مبنية على قاعدة أن إقليم كردستان سيكون دائماً تحت مظّلة تركية وخصوصاً أن تركيا تعتبر الإقليم امتداداً لفضائها الاقتصادي ولا سيَّما الثروات النفطية الموجودة فيه التي لا يمكن لإقليم كردستان تصريفها خارج الإرادة التركية إذا ما أرادت قيادات الإقليم الانفصال النهائي عن الحكومة المركزية في بغداد. فالتناقض بين المصالح وخطر الانفصال الكردي هو سمة العلاقة بين تركيا وكرد العراق والحكومة المركزية في بغداد.

كما أن المطالبة بالموصل هي مصدر آخر للتوتر وقد يتفاقم بين الحكومة التركية والحكومة المركزية في بغداد.

ج – الصراع في ساحة الجزيرة العربية

الصراع في الجزيرة العربية هو مع دولتين من مجلس التعاون: بلاد الحرمين والإمارات العربية المتحدة. الصراع مع بلاد الحرمين وبخاصة أسرتها الحاكمة تعود إلى عهد السلطنة العثمانية حيث أوكلت لمصر محمد علي مهمة تدمير الدولة الناشئة في الجزيرة العربية. الصراع على ترؤّس العالم الإسلامي ما زال قائماً. تبنّي تركيا تنظيم الاخوان المسلمين من أسباب الخلاف مع الأسرة الحاكمة في بلاد الحرمين، وإن جرى بعض التراجع عن العداء للجماعة مؤخراً بسبب الارتكاز عليهم في الحرب التي شنتها حكومة الرياض على اليمن. الضرورة وتقاطع المصالح في الملف السوري وخاصة في دعم التنظيمات المتشدّدة في مواجهة الدولة في سورية جعلت ممكناً إجراء تحالف بين تركيا وحكومة بلاد الحرمين غلب عليه طابع الموقت. لكن التناقض مع تركيا ما زال قائماً وخصوصاً أن الأسرة الحاكمة تسعى مجدّداً إلى التحالف مع مصر لإقامة توازن عربي في وجه الجمهورية الإسلامية في إيران. كما أن المصالح المشتركة بين تركيا والجمهورية الإسلامية سبب آخر للتوتر مع الأسرة الحاكمة في الجزيرة العربية. ونضيف أيضاً أن العلاقات الحميمة بين قطر الدولة الوهابية الأخرى في الجزيرة العربية والمنافِسة لزعامة آل سعود في الجزيرة وتركيا واحتضان جماعة الإخوان المسلمين سبب آخر لجعل العلاقة متوترة مع تركيا.

إن النموذج التركي الذي يعرض محاولة تمازج الإسلام مع النظام الديمقراطي يزعج معظم الأسر الحاكمة في مختلف دول الجزيرة العربية. لكن النفوذ التركي في دول الجزيرة العربية ما زال ضعيفاً بسبب ثقل الإرث السياسي الموروث من الحقبة العثمانية. كما أن المشهد السياسي الداخلي التركي قد يؤثرّ في فعالية السياسة التركية وبخاصة بعد الإخفاقات التي منيت بها في مختلف الساحات الساخنة في المشرق العربي.

د – الصراع التركي – المصري

التأزم في العلاقات بين تركيا ومصر أكثر وضوحاً بسبب ثورة 30 يونيو 2013 التي أطاحت الرئيس محمد مرسي وأدّت إلى إخراج الإخوان المسلمين من السلطة ومطاردتهم. كان الموقف التركي واضحاً في إدانة التغيير القسري الشعبي في مصر ليس بالضرورة دفاعاً عن «الديمقراطية» بل بسبب تبخّر أحلام إحكام النفوذ على المنطقة العربية عبر حكم الإخوان المسلمين. ففي ما يتعلّق بالإخوان المسلمين أصبحت تركيا مع حزب العدالة والتنمية الدولة القاعدة لذلك التنظيم. وليست محاولات التقارب بين بلاد الحرمين وتركيا إلّا لتمهيد مصالحة أو هدنة بين الحكومة المصرية وجماعة الإخوان. هل تنجح دبلوماسية الرياض وأنقرة؟ ما زال الوقت مبكراً ولكن الضغط الاقتصادي على مصر والتلويح بالمساعدة لن يوقف الحكومة المصرية عن ملاحقة الإخوان، مما سيطيل الأزمة مع أنقرة. في هذه النقطة بالذات ندعو قيادات الإخوان المسلمين إلى مراجعة سياساتها وسلوكها ووقْف الهجوم على رموز الدولة في مصر، كما ندعو الحكومة في مصر إلى مراجعة سياساتها أيضاً تجاه الإخوان المسلمين تمهيداً لإعادة السلم الأهلي إلى مصر.

والتنافس بين تركيا ومصر مزمن أيضاً وذلك منذ حقبة محمد علي. وإذا أردنا الذهاب أبعد من ذلك فنعود إلى حقبة الحثّيين في هضبة الأناضول في التاريخ القديم وما شكّلوه من تهديد للأمن القومي لمصر الفرعونية. أما في العصر الحديث فالتنافس على الزعامة الإسلامية من قبل دولة عربية (مصر) وسلطنة غير عربية (عثمانية في الشكل وتركية في المضمون) حقيقي وخصوصاً أن تركيا تستعيد توجّهها للشرق بعد خيبات الأمل التي حصدتها من المراهنة على الغرب على قاعدة وهْم تلازم العصرنة والحداثة مع التغريب المصطنع. هذا ما يجب تشجيعه لأن تركيا المسلمة تشكل عمقاً للأمة العربية وفقاً لنظرية الدوائر الثلاث التي تحدّث عنها وسعى إلى تحقيقها الرئيس جمال عبد الناصر إذا ما صحّت المقاربة والممارسة لهذا المحور. فالطرفان لهما المقومات للمطالبة بالزعامة سواء الحجم البشري أو الجغرافي أو السياسي مع الكفة الراجحة عربياً لمصلحة مصر طالما لم تجرِ مراجعة تركية لسياسات الحقبة الأخيرة من السلطنة تجاه العرب. كما أن العرب عليهم أن يراجعوا سياسات مبنية على التحالف مع الأجنبي المستعمر على حساب الوحدة السياسية والثقافية التي كانت تشكّلها السلطنة العثمانية وما تلاها من عدم استقرار ما زلنا نعيشه حتى الساعة. للمزيد في الموضوع نشير أن مركز دراسات الوحدة العربية أقام حلقة نقاشية في أواخر شهر آذار/مارس هذا العام تناولت مختلف القضايا بين العرب وتركيا، وقد نشرت الأوراق المقدمة والنقاش في عدد أيار/مايو لمجلّة «المستقبل العربي».

نعتقد أنه من الضروري إجراء مراجعة مزدوجة عربية وتركية لتصحيح مسار الأمور على قاعدة أن العرب عرب والأتراك أتراك وأن المصالح مشتركة وغير متناقضة إذا ما نظر إليها من زاوية التكامل والتعاون لا من زاوية التنافس والقوّامة لطرف على الطرف الآخر.

3 – الصراع العربي – الإيراني

الصراع العربي – الإيراني هو في الدرجة الأولى صراع بين محور تقوده السعودية ومحور تقوده الجمهورية الإسلامية في إيران المتحالفة استراتيجياً مع كل من الجمهورية العربية السورية والمقاومة اللبنانية. وهناك العديد من الانتقادات للجمهورية الإسلامية عند بعض الدول العربية وحتى في المحافل الشعبية والقومية أخذت الطابع الحاد بالنسبة إلى العراق واليمن.

يتخذ الصراع حالياً وفي الإعلام طابعاً مذهبياً مدمّراً للمسلمين وللأمة العربية. نلفت النظر إلى أن شاه إيران (الشيعي) كان حليفاً لحكومة الرياض، كما أن الشاه هو الذي استولى على الجزر الثلاث في الخليج ولم يرف جفن حكومة الرياض ولا حكومة الاتحاد الإماراتي صاحبة السيادة عليها. فالحقيقة هي أن الصراع العربي – الإيراني هو صراع سياسي أولاً وأخيراً بين محورين واضحين: محور يضم كلاً من الجمهورية الإسلامية في إيران وسورية والمقاومة وحلفائها ومعهم العراق، ومحور تقوده حكومة الرياض ويضم عدداً من دول مجلس التعاون الخليجي باستثناء سلطنة عمان التي حرصت وما زالت على أن تكون خارج المحاور العربية المتصارعة. أما لبنان، فحكومته أعلنت النأيَ بالنفس عن الانخراط في المحاور، وإن كان قسم وازن من داخل الحكومة اللبنانية متعاطفاً مع سياسات حكومة الرياض. ويلتحق بهذا المحور أيضاً كل من الأردن والسودان وموريتانيا وجيبوتي . مصر ليست طرفاً في ذلك الصراع، وإن كانت الحكومة المصرية تراعي إلى حد كبير حساسيات حكومة الرياض. كذلك حكومة تونس في موقف مشابه. حكومة الجزائر خارج المحور ومتفهمة لموقف سورية. حكومة المغرب تتماهى مع حكومة الرياض من دون المزايدة. أما ليبيا فأصبحت ساحة قتال عبثي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اليمن علماً أن قسماً من القوى في اليمن منخرط مع حكومة الرياض ويدّعي أنه يمثّل الشرعية وإن كانت هناك وجهات نظر مناقضة لها، وقوى سياسية شعبية تدعمها الجمهورية الإسلامية في إيران.

أما موضوع الصراع فهو صراع على النفوذ في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي كما هو صراع بين مشروعين: مشروع تحريري لفلسطين ومشروع يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية. جذور الصراع تعود إلى قيام الثورة في إيران وإطاحة حكم الشاه. تبنّي تصدير الثورة الإسلامية إلى دول الجوار كان السبب الرئيس للحرب العبثية بين العراق وإيران. أما السبب الثاني للتنافس بين بلاد الحرمين وإيران هو تبنّي الأخيرة القضية الفلسطينية سياسياً ومادياً (تسليح وتدريب وإمكانيات مالية رغم الحصار المفروض على الجمهورية الإسلامية)، بينما تراجع الدعم العربي الرسمي بوجه عام والجزيري بوجه خاص للقضية الفلسطينية. تذكرة دخول الجمهورية الإسلامية إلى عقول وقلوب العرب كانت وما زالت الالتزام والدعم للقضية الفلسطينية إلى أن أتت الورقة المذهبية التي لعبتها ببراعة حكومة الرياض ومعها بعض دول مجلس التعاون والأردن وتركيا وقطر. ويبرز هذا الصراع في عدد من الساحات العربية كالساحة العراقية والساحة السورية والساحة اللبنانية والساحة اليمنية.

في هذا السياق كنّا قد أعددنا مداخلة في حوار حول العلاقات العربية – الإيرانية طرحنا من خلالها عدة قضايا نعتبر معالجتها أولوية:

تتعلّق القضية الأولى بالملف العراقي حيث الفتنة التي تعم المنطقة العربية بدأت في العراق مع الاحتلال الأمريكي وعملية سياسية مبنية على قاعدة طائفية مذهبية تغذّي العصبيات الفئوية. والفتنة القائمة في المنطقة لن تنتهي إلّا عند القضاء عليها في العراق. للجمهورية الإسلامية في إيران دور كبير في التأثير في عملية لمّ الشمل العراقي وإعادة تشكيل السلطة السياسية على قاعدة أكثر توازناً بين المكوّنات السياسية والاجتماعية في العراق. كما لا بد من تثبيت مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية العراقية كمساهمة في إعادة التوازن ورفع الغطاء عن كل من يمارس الفساد المستشري بين مقوّمات السلطة في العراق.

القضية الثانية، هي اليمن التي أتت لتعزّز شعوراً عند العديد من النخب العربية وحتى الشعبية بأن لإيران «مطامع» في جنوب الجزيرة العربية. تستطيع الجمهورية الإسلامية في إيران أن تسهم بشكل فاعل في إنهاء القتال وإعادة المبادرة السياسية لإنهاء النزاع الداخلي في اليمن. نعتقد أن إقفال الملف اليمني يساعد على إقفال الملف العراقي والسوري واللبناني للتفرّغ لمواجهة الكيان الصهيوني الذي ما زال يشكّل التهديد الأول.

القضية الثالثة هي في ضرورة الحوار السياسي مع مصر ومع حكومات الجزيرة العربية. بالنسبة إلى التفاهم مع مصر فهو ضرورة لاستقرار المنطقة وأمنها. والحوار مع حكومة بلاد الحرمين هو ضرورة لاستقرار الخليج وأمنه. نعي أن الوضع الداخلي في بلاد الحرمين لا يسمح في اللحظة الراهنة المباشرة بالتفاهم ولكن نعتقد أن هناك بعض الخطوات من جانب الجمهورية الإسلامية في إيران قد تسهم في كسر الجليد منها التفاهم حول الملف اليمني.

القضية الرابعة هي أمن الخليج الذي يقلق دول مجلس التعاون. فجميع الدول في منطقة الخليج بما فيها الجمهورية الإسلامية محكومة بالواقع الجغرافي والتاريخي الذي يحتم التفاهم على قاعدة الندّية لا على قاعدة القوّامة. فلا نرى أي مبرّر لاستمرار النزاع على الجزر. فهناك حلول دبلوماسية قد ترضي جميع الأطراف.

في المقابل، هناك قضية القواعد العسكرية الأمريكية والأجنبية الأخرى (فرنسية وبريطانية وحتى تركية مؤخراً في عدد من دول الخليج) التي تشكّل حزاماً يهدّد الأمن القومي الإيراني وبالتالي الاستقرار في المنطقة. فلا بد من صيغة مشتركة بين دول مجلس التعاون من جهة، يساندها النظام الإقليمي العربي والجمهورية الإسلامية من جهة أخرى، حول أمن الخليج من دون الخضوع للابتزاز الأمريكي أو الغربي. فالأحداث الأخيرة تشير بوضوح إلى أن تلك القواعد الأمريكية موجودة لا لأمن الخليج واستقراره بل لمصلحة الولايات المتحدة التي قد تختلف مصالحها من مصالح دول المنطقة.

القضية الخامسة هي سياسية ونفسية في آن واحد. نعلم أن بعض الأخوة في الجمهورية الإسلامية في إيران يعتبرون العروبة مصدر تهديد لأمنهم. طبعاً، لا نرى ذلك، ونعي أنه مهما قلنا فلن يختفي ذلك الشعور عندهم. لكن نعتقد أن هذا الهاجس هو ما يفسّر العديد من السياسات والمواقف الإيرانية تجاه العرب بوجه عام وخاصة تجاه التيّار العروبي. نذكّر هنا أن مؤسس حزب البعث اعتبر أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران هو انتصار للقومية العربية في إيران كما أن القائد جمال عبد الناصر هو من ناصر الإمام آية الله روح الله الخميني ونهجه الثوري. فرمزان أساسيان للفكر السياسي العروبي اعتبرا في مراحل مختلفة أن الثورة الإسلامية في إيران نصر للعروبة. في المقابل لا يمكننا أن نغفل هواجس محقة لقطاعات واسعة من العراقيين تجاه ما يعتبرونها تدخّلاً في الشؤون الداخلية العراقية وهيمنة إيرانية على مقدّرات البلاد. وما التظاهرات الشعبية في جنوب العراق إلّا خير دليل على التململ المتزايد عند العديد من العراقيين تجاه سلوك الجمهورية الإسلامية، وهو ما يقوّي حجة بلاد الحرمين في صراعها معها.

نفهم مخاوف الإخوة في الجمهورية الإسلامية الذين لحقهم الأذى الكبير من جرّاء الحرب العراقية التي نعتبرها عبثية وأضرّت بكل من العراق وإيران والعلاقات بين العرب والإيرانيين، ولكن يجب أن لا تتحوّل إلى حجة لتبرير مواقف سلبية تجاه العروبة والعراق والعراقيين. نلفت النظر إلى أنه خلال الهجمة الكونية على الجمهورية الإسلامية فإن التيّار العروبي الذي يمثّله المؤتمر القومي العربي وشبكة المؤتمرات والمنتديات الشعبية العروبية هي التي وقفت دائماً إلى جانب الثورة والجمهورية الإسلامية بينما تيّارات إسلامية كانت قد دعمتها إيران لم تقف بجانبها وقت الضيق والحصار السياسي والإعلامي عليها.

في هذا السياق، نلفت النظر إلى أن الشعور بفائض القوة قد يؤدّي إلى سوء تقدير في الموقف عند البعض ويسيء بالعلاقات. فبعض التصريحات المنسوبة إلى شخصيات قريبة من صنع القرار في إيران ألحقت ضرراً كبيراً في الثقة بين العرب والأخوة في إيران فأثارت مخاوف وشكوكاً متبادلة.

كانت المؤسسات الشعبية العروبية كالمؤتمر القومي العربي تسعى دائماً، وما زالت، إلى مد الجسور مع الجمهورية الإسلامية في إيران لإجراء حوارات حول النقاط المذكورة في ما تقدم. كما علينا أن نذكّر أن المؤسسة الركيزة الفكرية للعمل العروبي، ألا وهي مركز دراسات الوحدة العربية، كانت دائماً المبادر إلى مد الجسور مع الجمهورية الإسلامية في إيران. وليست الحلقة النقاشية الأخيرة التي أقامها المركز في بداية شهر نيسان/أبريل إلّا دليـلاً آخر على القرار الاستراتيجي في ضرورة خلق كتلة تاريخية عربية وتركية وإيرانية لأنه يعتبر إيران وتركيا عمقاً استراتيجياً للأمة رغم كل الملاحظات التي يمكن إبداؤها تجاه سياسات وسلوك الحكومة الإيرانية و/أو التركية الإيرانية في مختلف الملفات النزاعية كالعراق واليمن أو مصر، على سبيل المثال وليس الحصر.

ثالثاً: الصراعات داخل البيت العربي

الصراع العربي – العربي (أو الصراعات العربية – العربية) هو انعكاس لصراعات دولية وإقليمية في الساحات العربية كما هو أيضاً صراع ذاتي. فالصراع القائم هو النسخة المحدثة لصراعات الخمسينيات والستينيات بين محور حركة التحرّر العربية بقيادة – آنذاك – الرئيس جمال عبد الناصر وبين من كنّا نسمّيه الرجعية العربية. أما اليوم، الصراع هو بين محور عربي مقاوم رافض للتبعية للخارج ومناصر لقضية فلسطين وطامح إلى إقامة وحدة عربية وبين محور دول تريد تصفية القضية الفلسطينية وبعيدة من الشأن القومي الوحدوي والمنغلقة في قطرية دولها ولا ترى أي حرج من التبعية للخارج الذي يحميها في هدر الثروة الريعية سواء كان الغرب أو اليوم الكيان الصهيوني.

كما أن المنطقة العربية تشهد تحوّلات لا يمكن التقليل من أهميتها، كالحراك الشعبي في عدد من الأقطار العربية الذي يثير حفيظة النظام العربي الرسمي بكل تشكيلاته المتناقضة. ليس هدفنا في هذه الدراسة مقاربة الحراك الشعبي في هذه الأقطار وردود الفعل والتدخلات العربية في الساحات المشتعلة بل الإشارة إلى أن الصراعات العربية سببها أيضاً سياسات عربية خاصة بالدول والحكومات ليست بالضرورة خاضعة للعامل الدولي أو الإقليمي. فالحفاظ على الوضع القائم في كل قطر هو المحرّك لهذه السياسات التي أدّت إلى تدخلات عربية – عربية مدمرة في مصر وليبيا وسورية واليمن والعراق ولبنان وحتى تونس بعد نجاح الحراك الشعبي فيها.

1 – اليمن

فالحرب المدمّرة على اليمن من أسبابها العلاقة الملتبسة بين الأسرة الحاكمة في الرياض واليمن. وهذه العلاقة الملتبسة تعود إلى تأسيس المملكة والنزاعات حول مناطق في الجنوب الغربي للجزيرة التي لم تحسم إلّا نظرياً وفق موازين القوة التي كانت وما زالت لمصلحة حكومة الرياض. لكن لا يمكن تبرير تدمير البنى التحتية وبخاصة تلك العائدة للخدمات الاجتماعية من مدارس ومستشفيات ومحطات كهرباء والحصار التجويعي على اليمنيين كافة على قاعدة أن فريقاً من اليمنيين يريد الهيمنة وفرض سلطته على جميع اليمنيين بغض النظر عن أحقية الادعاء أو عدمه. فلا يمكن تبرير أي عدوان عربي على قطرٍ وشعب عربي شقيق. فالخلافات السياسية المشروعة تُحلّ بالحوار وليس بالقتال العربي – العربي. القتال هو مع العدو الصهيوني وأي محتل خارجي.

عند كتابة هذه السطور تنقل وسائل الإعلام أخباراً عن مفاوضات ترعاها الكويت والتي رعتها في مرحلة أولى سلطنة عمان. من إفرازات تلك المفاوضات إقرار هدنة صامدة حتى كتابة هذه السطور. استمرار المفاوضات بين الأطراف المتصارعة في اليمن يمهّد إلى إقرار تسوية ما وهذا ما نتمنّاه. والعبرة طبعاً ستكون في التنفيذ وصموده.

2 – سورية

أما الحرب الدائرة في سورية فهي متعدّدة الأبعاد، ولكن لا يمكن إغفال الدور العربي في إطالة عمر الحرب بغض النظر عن الادعاءات المتناقضة بين الأطراف المتصارعة. الإصرار على إطاحة نظام الحكم وقيادته بحجة مشروعية المعارضة جعل المعارضة لنظام الحكم تسلك مساراً لتدمير الدولة. والدور العربي الذي تقوده كل من حكومة الرياض وقطر والأردن في الحرب على سورية ليس فقط بدافع إقليمي ودولي بل أيضاً بحافز الخوف من السقوط بعد تبيّن أن الرهانات السياسية لهذه الدول تناقضت مع مصالح شعوبها ومزاجها السياسي في مختلف القضايا القومية. هذه الحروب العربية هي صراع للبقاء في حقبة أصبحت الجماهير عامـلاً مؤثراً في تقرير المصير.

فالمعادلات التقليدية؛ من تحالف المؤسسة العسكرية و/أو الأمنية مع الفساد والإنفاق المالي لحلقة ضيّقة من الموالين والمنتفعين من الاقتصاد الريعي الذي تغذّيه سياسات وفساد النخب الحاكمة؛ لم تعد كافية لضبط إيقاع الحراك الشعبي. كما أن الرهان على تدخّل أجنبي (أمريكي في هذه الحال) كان خاطئاً كما تبيّن في الساحتين التونسية والمصرية. فنجاح وبقاء المؤسسة العسكرية في مصر يعود إلى قدرتها على استمالة المزاج الشعبي وقراءتها الجيّدة له.

3 – لبنان

أما في لبنان فالصراع القائم متعدّد الأبعاد؛ فبالإضافة إلى البعدين الدولي والإقليمي هناك بعد بعدٌ داخلي لا يمكن تجاهله. الطبقة السياسية الحاكمة بكل أطيافها التقليدية والمقاوِمة تعاني انقطاع الثقة في ما بينها ومع جماهيرها وبخاصة في القضايا الحياتية. الشلل القائم في مختلف المؤسسات الدستورية يعكس نتائج قاعدة اللعبة الصفرية المتبعة بين مكوّنات السلطة السياسية والمجتمعية. «التركيبة» في لبنان جعلت السياسة المعتمدة في القضايا المصيرية التي تتحكم بطبيعة الدور الوظيفي للبنان وهويته، جعلتها تابعة للقرار الخارجي لحسم الخلافات الداخلية. فبمقدار ما تكون الخلافات الداخلية اللبنانية خلافات داخلية، فهي أيضاً مرآة لخلافات عربية – عربية. من هنا يمكن القول إنه إذا أردت أن تفهم ما يحصل في المنطقة العربية فما عليك إلّا أن تنظر إلى ما يحصل في لبنان، وإذا أردت أن تفهم ما يحصل في لبنان فما عليك إلّا أن تنظر إلى ما يحصل في الوطن العربي. هذا لا يعفي الطبقة السياسية من مسؤوليتها في استمرار وتفاقم الشلل في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي ينذر بانفجار شعبي رغم قوة المجتمع الطائفي العميق الحريص على التوازنات القائمة.

رابعاً: دول مجلس التعاون

ليست الحال على ما يرام في قراءتنا المشهدَ الخليجي. فمن جهة تنعم دول مجلس التعاون بإمكانيات مالية ونفطية وغازية ولكن من جهة أخرى تعاني تحوّلات في بنيتها السكاّنية تجعل السلطات السياسية القائمة في موقع الأقلية. وليست لدى هذه الدول رؤية مشتركة لمقاربة هذا الموضوع وكأن السلطات السياسية تقلّل من أهمية تلك التحوّلات أو معتمدة على أجهزة أمنها لقمع أي تحرّك مطلبي أو على الحمايات الخارجية. لم تستوعب هذه القيادات أن صاحب الحماية الخارجية لن يتحرّك إلّا إذا وجد مصلحة واضحة استراتيجية له. فدرس مصر وتونس أثار الحذر عند حكومات مجلس التعاون تجاه الدور الأمريكي في المنطقة ولكنه لم يرتقِ حتى الآن إلى مقاربة أمنها القطري والإقليمي الذي لا يتحقّق إلّا بقوى ذاتية عربية مبنية على التفاف الشعب حول قيادته على قاعدة التكامل الأمني العربي والقوة العربية المشتركة. نلفت النظر إلى «نصيحة» الرئيس الأمريكي باراك أوباما في ضرورة الإصلاح الداخلي في بلاد الحرمين وسائر دول مجلس التعاون كما شدّد على ضرورة «التفاهم» مع الجمهورية الإسلامية في إيران التي لا تشكّل في رأيه مصدر قلق لأمن دول الخليج العربي. من هنا يمكن فهم مدى أهمية الحراك الشعبي في البحرين وعدم تجاوب الحكم مع أبسط مطالب التغيير إلّا خير دليل على مستقبل الصراعات التي يمكن أن نشهدها في المستقبل في هذه الدول بما فيها بلاد الحرمين.

من الصعب التكهن حول مسار سياسة حكومة الرياض في الملفات الساخنة. فعند كتابة هذه السطور تقود حكومة الرياض حملة شرسة على سورية والمقاومة في لبنان تجلّت في سلسلة قرارات فرضتها على الجامعة العربية. وتعتمد الرياض على سلاح المال لفتح ثغر في مواقف مبدئية في عدد من الدول العربية والإسلامية لكنها تجاهلت الوقائع الجيوسياسية التي هي أقوى من الدافع المالي.

أما في الملف اليمني، فنسجّل لحكومة الرياض اتخاذ مسلك المفاوضات لإنهاء الحرب العبثية على اليمن ما يؤشّر إلى إمكانية مد الجسور مع الجمهورية الإسلامية في إيران، وما يمكن أن ينعكس على الملفّات الساخنة في كل من العراق وسورية وحتى لبنان. هذا إذا ما استمرّت المفاوضات وتجلّت جدّية القرار بإنهاء الحرب كانت إرهاصتها قرار الهدنة التي على ما يبدو صامدة عند كتابة هذه السطور.

ليست جميع دول مجلس التعاون على صفحة واحدة مع حكومة الرياض، وإن كانت في آخر المطاف لا تعارضها على نحوٍ واضح وصريح. لكن لا بد من تشجيع المبادرات الخليجية التي تهدف إلى مد الجسور سواء مع الجمهورية الإسلامية في إيران أو إلى إنهاء النزيف في سورية والمساهمة لإعادة تشكيل السلطة في العراق على قاعدة المشاركة الفعلية للمكوّنات السياسية والمكوّنات الاجتماعية. ونثمّن المفاوضات التي رعتها في البداية سلطنة عمان والتي تستضيفها الكويت لحل النزاع في اليمن قد تثمر وتعيد السلام.

من جهة أخرى، يشكل تنامي الحركات الجهادية تهديداً واضحاً لهذه الدول وفي مقدمها بلاد الحرمين. البديل من الأسرة الحاكمة في غياب إصلاح نوعي يعيد العقد الاجتماعي والسياسي بين مكوّنات الجزيرة العربية هو داعش أو مشتقات عنه. الحفاظ على بلاد الحرمين أولاً والأسرة الحاكمة ثانياً قد يصبح واجباً قومياً إذا ما تفاقمت الأمور في الجزيرة العربية. فالبديل هو داعش أو مشتقاته. وهنا نعتقد أن وجود القواعد العسكرية الأمريكية في عدد من دول مجلس التعاون لن يسهم في كبح تنامي الحركات المتشدّدة بل العكس، فهي حافز في استقطاب شباب لتحقيق أهداف تلك الجماعات. نشير هنا إلى مقال مثير في مجلّة فورين أَفيرز الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية نشر في موقع المجّلة عنوانه «لا يوجد حلفاء للولايات المتحدة في الخليج»! فبغض النظر عن مضمون المقال الذي يميّز بين التحالف والشراكة فإنه ينذر عن يقين رؤية الولايات المتحدة للمشهد الخليجي.

1 – ليبيا

المشهد العبثي في ليبيا سببه الاقتتال الداخلي على قاعدة قبلية ومناطقية بتشجيع وتمويل عربي ورضى دولي وبخاصة أمريكي. لا ندري عند كتابة هذه السطور مدى جدّية «التفاهم» الدولي الجديد لحل الأزمة في ليبيا ولا ندري كيف يمكن تمكين الحكومة التي ستنبثق عن تلك التسوية في إخضاع الميليشيات المسلحة إلى سلطان الدولة وكيف يمكن وقْف القاعدة واشتقاقاتها في ليبيا. فما زالت بعض مراكز الأبحاث الأمريكية كمعهد بروكنز في واشنطن تعتبر أن حال الفوضى في ليبيا هي حال أفضل من استمرار حكم القذّافي وأن الحل لإنهاء الفوضى هو حملة عسكرية جديدة للحلف الأطلسي! فلا ننسى أن دولاً وازنة في جامعة الدول العربية ساهمت في اختطاف الجامعة لتشرعن تدخل الحلف الأطلسي لمصلحة «الثوّار» ما حوّل ليبيا من دولة فاشلة إلى دولة ساقطة فإلى لادولة. كان الأمل في دور مصري فاعل في حلّ الأزمة غير أن التطوّرات الأخيرة التي أرست «تفاهماً» مع بلاد الحرمين وربما مع تركيا قد يُفقد مصر «خصوصيتها» وإمكانيتها في حل الأزمة الليبية.

2 – مصر

الحالة في مصر مقلقة. القلق ليس فقط بسبب التوتر الداخلي ولكن أيضاً بالمنحى السياسي الذي تتخذه السلطة تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة مع دور بلاد الحرمين المتنامي في مصر. زيارة الملك سلمان إلى القاهرة وما نتج منها من اتفاقات طابعها اقتصادي قد تهدف إلى جذب مصر تجاه سياسة بلاد الحرمين. فمشروع الجسر بين الجزيرة العربية وجزيرة سيناء لا يمكن أن يتم إلّا بموافقة صهيونية وفقاً للاتفاقيات المعقودة بين مصر والكيان. فمضمون المشروع جيوسياسي بامتياز غير أن الوقت ما زال مبكراً لتقييم مفاعيله. لكن ما لاحظناه من ردود فعل أولية في الشارع المصري هو الغضب العارم الذي واكب الموافقة على تسليم جزيرة تيران وجزيرة صنافير لحكومة الرياض ونعتقد أن على الدولة العميقة وفي طليعتها المؤسسة العسكرية أن تقرأ جيداً المزاج الشعبي المصري الذي أعرب عن عدم تقبّله تلك الخطوة وعن شكوكه في التعاون مع حكومة الرياض. أما الجسر بحد ذاته فقد يكون مشروعاً تاريخياً بمثابة حفر قناة السويس. لكن في الظرف السياسي القائم في المنطقة العربية وعلى خلفية الصراع العربي – الصهيوني فإن مشروع الجسر قد يشكّل منعطفاً خطيراً عبر إدخال بلاد الحرمين إلى دائرة التطبيع الرسمي مع الكيان الصهيوني.

أما التوترات في مصر، سواء مع جماعة الإخوان المسلمين أو مع الجماعات المتشدّدة والمتوحشة فإطالتها تشير إلى رغبة عند أطراف إقليمية في استنزاف مصر وترويضها بعدما أظهرت السلطة المنبثقة عن 30 يونيو نزعة استقلالية غير مرغوبة في دول الجزيرة العربية وبطبيعة الحال غير مرغوبة أيضاً أمريكياً وصهيونياً مستفيدة من الضيق الاقتصادي في مصر. من الصعب الاعتقاد أن تلك المشاريع الطويلة المدى للتحقيق قد تسهم في تخفيف الضغط الاقتصادي على مصر بشكل فوري أو سريع. لذلك نعتقد أنه يجب تقييم المشهد بشموليته وليس بجزئياته للحكم على مسار الأمور. فلسنا متأكدين أن القوى التي صنعت 30 حزيران/يونيو قد توافق على منحى مخالف لتطلّعاتها، لذلك فالتريّث هو الأفضل قبل إصدار الأحكام الجارفة.

المطالبة العربية، نخباً وجماهير ونحن منها، بعودة مصر لتسنُّم دور ريادي في الشأن العربي يدلّ على مكانتها في وجدان أبناء الأمة العربية. ولكن لهذا الدور في رأينا مستلزمات أولها تثبيت استقلالية قراراها السياسي داخلياً وخارجياً. هناك مؤشرات تدل على ذلك المنحى ككسر أحادية مصادر تسليح الجيش المصري وتنويع المصادر والنجاح في عدم اللجوء إلى المؤسسات المالية الدولية لتمويل توسيع قناة السويس على سبيل المثال. ولكن هناك أيضاً أحداث وتطوّرات تثير التساؤل كمشروع الجسر. المستلزم الثاني، هو مراجعة سياسة مصر تجاه قطاع غزة بغض النظر عن الاعتبارات الأمنية. فلا يجوز أن تكون مصر طرفاً ضد الشعب الفلسطيني. فبعض الفضائيات المصرية تحرّض على الفلسطينيين وهذا ما لا يليق بتاريخ مصر ودورها دون دورٍ ضابطٍ لها من قبل الحكومة. المستلزم الثالث هو مراجعة سياسة الحكم وسياسة جماعة الإخوان المسلمين على حد سواء لتثبيت السلم الأهلي والمطلوب مبادرات من طرف الجماعة تقابلها مبادرة من قبل السلطة في مصر في هذا الاتجاه ذلك لأنه لا الجماعة تستطيع إسقاط الحكم ولا الحكم يستطيع إلغاء الجماعة؛ فالصراع يصبح عبثياً ومضرّاً بمصر وبطبيعة الحال لمجمل الأمة العربية. أما المستلزم الرابع والأخير وربما الأهم في نظرنا فهو ضرورة التخلّي عن كامب دايفيد وما نتج منه من اتفاقيات تمس السيادة المصرية وتقيّد قدرتها على تحقيق أمنها القومي وأمن الأمة.

فمهما كانت الاعتبارات القائمة للالتزام بمعاهدة أبرمتها حكومة سابقة واحترمتها حكومات متتالية فإن الحصيلة السياسية والاقتصادية لتلك المعاهدة سلبية لمصر ولأمنها القومي؛ فخروج مصر من دائرة الصراع العربي – الصهيوني سهّل تفاقم الأزمات في مختلف الساحات وما أفرزتها من إرهاب تهدّد الأمن القومي العربي. قد يكون للقيادات المصرية رأي مخالف ونحترم ذلك، ولكن لنا أيضاً رأي في الموضوع. فإذا كانت مصر جزءاً من هذه الأمة فلها واجبات تجاهها لا تستطيع القيام بها ولمصلحة أمنها القومي وهي مكبّلة بكامب دايفيد. فالكيان الصهيوني كان وما زال وسيستمر، العدو الوجودي لهذه الأمة ولكل من يعتبر نفسه جزءاً منها. فلا أمن قومياً يسلم لا في مصر ولا في أي بقعة من الوطن في ظل وجود الكيان.

3 – دول المغرب

تشهد دول المغرب التي تنعم باستقرار نسبي مقارنة مع ما يحدث في سائر أنحاء الوطن العربي تنامياً في التوترات مصدرها نشاط الجماعات المتشدّدة التابعة لتنظيم القاعدة واستمرار الخلاف المزمن بين المغرب والجزائر. أما قضية نشاطات الجماعات المتشدّدة فمقاربتها تتطلب معالجة متكاملة عسكرية وأمنية وسياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية. وهذه المقاربة تصلح في المشرق العربي وفي كل مكان حتى عند الجاليات العربية والمسلمة في الغرب.

الملف الذي يشكل مصدر توتر شديد بين كل من المغرب والجزائر هو ملف الصحراء. مقاربة الملف تكون من منطلق قومي ومن منطلق الإقرار بالحقوق لسكّان المناطق الصحراوية. المفاوضات بين كل من حكومتي الرباط والجزائر لإعادة إحياء الاتحاد المغربي يشكّل الإطار الأصحّ لحل النزاع. لسنا بحاجة إلى زيادة عدد الدول العربية ولسنا بحاجة إلى قمع طموحات الشعب الصحراوي. الصيغة الاتحادية أصبحت ضرورة ملحّة تحفظ حقوق جميع الأطراف وإن استلزمت تنازلات متبادلة. البديل هو استمرار الخلاف فالصراع فالنزيف والمدخل إلى التدخّل الخارجي الغربي والصهيوني.

4 – الصراع مع جماعات التوحّش والغلو والتعصّب

هناك سيل كبير من الكتابات والتعليقات حول هذه الظاهرة. نتائج هذه الظاهرة هي تشويه صورة العرب والمسلمين والإسلام. تقاطع المصالح مع أجهزة استخبارات إقليمية وعربية ودولية أتاحت الفرصة لهذه الجماعات للتمدّد الجغرافي والإعلامي والسياسي. الزعيق الذي نسمعه عن محاربة هذا الظاهرة ما زال زعيقاً، على الأقل على الصعيد الدولي أو الإقليمي أو العربي. فما زالت هناك آراء تعتبر أن لهذه الظاهرة دوراً وظيفياً يمكن الاستفادة منها وأن ضبطها ممكن متى أرادت. هذا السوء في التقدير مرعب لأنه مبني على فرضيات لم تكن صحيحة منذ البداية حيث تمويل وتسليح هذه المجموعات من أجهزة الاستخبارات وأن باستطاعتها إيقافها متى شاءت.

ما لم تنتبه إليه هذه التقديرات هي أن ظاهرة التعصّب والغلو والتوحّش استفادت من الفراغ السياسي. هذه الظاهرة قلبت موازين القوة ومختلف الاعتبارات الجيوسياسية. لسنا في صدد التنبؤ عن استمرارها أو اختفائها لكن نعتقد أن المزاج العام عند الشباب العربي والمسلم هو قابل لتلك الطروحات لم يتم تقديم نموذج نهضوي يحاكي طموحاتهم وهواجسهم. المعركة الفكرية يخسرها النظام الرسمي العربي بسبب رداءة التقدير والعقم في التفكير. في المقابل فإن المعركة قد تخسرها تلك الجماعات عندما يتكرّس المشروع النهضوي العربي. المواجهة العسكرية والأمنية شرط ضرورة ولكن ليست شرط كفاية. المعركة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية في آن واحد. إن ترهّل النظام الرسمي بعد تراجع المشروع القومي وظهور خطابات التفتيت والتمزيق على قاعدة الطائفية أو المذهبية أو القطرية أوجد البيئة الحاضنة لمشروع يشمل الجميع وفي الأقطار وإن كان مبنياً على أسس غير سليمة ومناهضة لمقتضيات العصر. المشروع النهضوي العربي هو البديل والمؤسس لنظام عربي جديد.

خامساً: نحو نظام عربي جديد

الصراعات العربية القائمة منها مزمن ومنها حديث العهد ولكنّها في آخر المطاف ستنتهي. من ضمن أسباب تفاقم الأزمات المزمنة وظهور أزمات حديثة الفراغ القائم في النظام الإقليمي العربي. فبعد خروج مصر من الصراع العربي – الصهيوني حاولت بعض الدول العربية ملء الفراغ الذي أحدثته مصر بعد اتفاقية كامب دايفيد. المحاولة الأولى كانت للدولة المرشحة لذلك الأمر وهي العراق بسبب موقعه الجغرافي الاستراتيجي، والثروات البشرية قبل المادية من نفط ومياه وزراعة ونهضة علمية واقتصادية نموذجية؛ لكن سرعان ما تبدّدت عن سوء تقدير بسبب الحرب العبثية على إيران. هذه الحرب التي دفع بها منظومة عربية لإلهاء العراق وإنهاك إيران وثورتها الصاعدة كانت الرد على «ترشيح العراق» لسد الفراغ الذي أوجدته مصر. كما أن إجهاض محاولة إقامة وحدة بين كل من العراق وسورية أسهم في تعميق الفراغ وإنهاك الدول التي حملت لواء العروبة. والفرقاء المعنيون في السلطة في العراق وفي سورية يتحمّلون المسؤولية في تبديد الفرصة التاريخية لإقامة دولة الوحدة.

المحاولة الثانية كانت الجزائر لأسباب مشابهة لكن طريقة الرحيل المشبوهة للرئيس هواري بومدين أدخلت الجزائر في ما بعد في دوّامة أنهكتها سياسياً وأمنياً واقتصادياً، لكنها بدأت تتعافى تدريجياً في السنوات الأخيرة.

المحاولة الثالثة كانت وما زالت لبلاد الحرمين حيث ما تملكه من قدرات مالية وموقع الحرمين الشريفين يجعلها تطمح إلى قيادة الأمة العربية والعالم الإسلامي على حد سواء. وقد قطعت أشواطاً كبيرة نحو تحقيق هذين الهدفين وإنْ ما زالت تواجه إخفاقات تحول دون تمكينها من التكلّم بشكل منفرد وأحادي عن العرب وعن المسلمين. المهم في رأينا أن ما يمنع بلاد الحرمين من تحقيق أهدافها هو تقديم مشروع نهضوي يحاكي مصالح ووجدان الشعب العربي والشعوب المسلمة في العالم؛ كما أن موقفها من القضية المركزية العربية، أي قضية فلسطين، يحتاج إلى مراجعة لإرساء المصداقية والطمأنينة عند الجماهير العربية، كذلك فإن النموذج الاجتماعي – الثقافي الذي تقدمه يصطدم مع التراث والمضمون الانفتاحي في الإسلام. لكن في الوقت الحاضر، فمن الصعب تجاهل فاعلية ذلك الدور الذي يتراوح بين السلبية في معظم الحالات والإيجابية في بعض الحالات.

في رأينا لا بد من إبراز المشروع النهضوي العربي كبديل من المشاريع التي تقسّم الأمة وتفتّتها. فالخطاب العروبي يجمع بينما الخطاب السياسي الديني لن يكون إلّا مذهبياً وبالتالي تفريقياً. وتجسيد العروبة كما نفهمها لن يكون إلّا عبر إعلان إقامة دولة الوحدة العربية وإن كانت فقط على شبر من أرض الوطن العربي. فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة. ومن هنا نقترح استبدال مؤتمر الوحدة العربية بالمؤتمر القومي العربي.

وإلى أن تتحقق تلك الدعوة فلا بد من نظام إقليمي عربي يجمع أطياف الأمة ويقيم التوازن بين التجاذبات الإقليمية والدولية التي تريد إلغاء هويتها وتطمع في أرض الأمة وثرواتها. عناصر ذلك النظام في المشرق العربي هي عبر تفاهم أربع عواصم عربية: دمشق، بغداد، القاهرة، والرياض. أما على صعيد الأمة فالجزائر والرباط يكملان المشهد. ووحدة الأمة تتحقق عبر وحدة بلاد الرافدين وبلاد الشام من جهة، ووحدة دول الجزيرة العربية من جهة أخرى تلاقيها وحدة دول بلاد النيل والقرن الإفريقي ودول الاتحاد المغربي. عبر هذه التكتّلات الجغرافية نتجاوز الخلافات والصراعات المدمرة ونقوم بنهضة الأمة عبر تنمية متكاملة ومتوازنة بين مكوّنات الأمة كافة وعبر تحقيق مجتمع الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص الذي يجسّده مشروعنا النهضوي العربي.

 

قد يعجبكم أيضاً  نظام دولي جديد: عوامل التغيير والتعرية

قد يهمكم  مستقبل أنظمة ما بعد الاستعمار في الوطن العربي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الصراعات_في_المنطقة_العربية #الحروب_في_الشرق_الأوسط #الحروب_الدولية #الحروب_الإقليمية #البيت_العربي #الصراعات_العربية_العربية #الصراع_العربي_الإسرائيلي #الحرب_في_المنطقة #المشهد_السياسي_العربي #حال_الأمة #البلدان_العربية