مقدمة

يعَدّ المجتمع التونسي مجتمعًا فتيًا يحتل الأطفال والشباب فيه نسبة مهمة (30 بالمئة)، ومن أجل ذلك كان الاهتمام بالطفولة ورعايتها أمرًا ضروريًا، لكن اعترضت هذه الأخير الكثير من المشكلات الاجتماعية في ولاية القصرين التي يرتفع فيها الفقر المدقع، إضافة إلى غياب بعض المنتوجات الاستهلاكية، وارتفاع أسعارها، وتراجع القدرة الشرائية، فهذه العوامل ساهمت في تأزيم الوضع الاقتصادي، وجعل بعض العائلات تضطر إلى تشغيل أبنائهم رغم صغر سنهم في أعمال خطيرة كالتهريب، أو شاقة كالفلاحة، وهو ما أثر في شخصية الطفل نفسيًا وجسديًا.

لم تجد ظاهرة تشغيل الأطفال، رغم الانتشار الكثيف في تونس، العناية الكافية من جانب الدولة رغم إقرار المشرّع بتجريم هذه الممارسات.

تقصّينا هذه الظاهرة فوجدناها منتشرة في الأسواق، وبخّاصة في المناطق الداخلية، ونذكر هنا ولاية القصرين مثالًا حيث تتكاثف فيها هذه الظّاهرة نظرًا إلى ارتفاع حالة الفقر المدقع فيها، وهذا ما أثر في العائلة القصرينية ودفعها إلى تشغيل أبنائها.

إشكالية البحث: عمّق تفاقم الفقر والتفاوت الجهوي انتشار عمل الأطفال، «فهذا العالم الذي لا يتقيّد بضوابط قانونية، يستمد شرعيته من القبول الاجتماعي ويميل إلى التفاعل مع النسيج الاجتماعي بوصفها نابعة منه»‏[1].

إن عمل الأطفال هو من أهم القضايا التي تواجه المجتمع اليوم لتداخل أبعادها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية ولتزايدها في البلدان النامية والمتقدّمة على حد سواء، لكنها تمثل أسوأ المشاكل التي تعانيها المجتمعات النامية ومنها ولاية القصرين مثالًا، وبخاصة من ناحية تأثيرها في الفرد والأسرة والمجتمع، ويمكن وصفها باستغلال الطفولة بأوجه مختلفة وأهمّها ظاهرة تشغيلهم وتسخيرهم في أعمال غير مؤهلين جسديًا ونفسيًا للقيام بها.

بناءً على ما سبق ذكره يمكن تحديد مشكلة الدراسة في السؤالين الآتيين: ما تداعيات تشغيل الأطفال الاجتماعية في ولاية القصرين؟ وفيمَ يتجلى الأثر الاقتصادي في الفقر في هذه الولاية؟

وضعنا لهذا البحث جملة من الفرضيات المتصلة بالإشكالية المركزية لاختبارها عبر الدراسة الميدانية وهو ما أفضى إلى الفرضيتين الآتيتين: الفرضية الأولى، لا يساهم تشغيل الأطفال في ولاية القصرين في تحسين الظروف الاجتماعية؛ الفرضية الثانية، يساهم تدهور الوضع الاقتصادي في ارتفاع الفقر وظاهرة تشغيل الأطفال.

المنهجية المتبعة: تطرقنا في هذه الدراسة إلى الملاحظة «بالانتباه المقصود والموجَّه نحو سلوك فردي أو جماعي معيّن بقصد متابعة ورصد تغيراته ليتمكن الباحث من وصف السّلوك أو وصفه وتحليله أو وصفه وتقويمه»، فهي إذًا تساعد على مراقبة التحّركات الاجتماعية وبناء فهم حول الظاهرة المدروسة. كما تساعد الباحث على الوصول إلى فهم أعمق للظروف المحيطة بالسلوك وعلى رصد ألوان متعددة في السلوك الخفي غير الظاهرة عادة، لذلك، هي «تعين الباحث على أن يصل إلى مصادر المعلومات وإلى إخباريين أكفاء أكثر مما يستطيع باحث عابر».

وفي هذا السياق بالذات ستسهل تقنية الملاحظة معرفة مدى تأثير الوضع الاقتصادي والفقر في تشغيل الأطفال.

ولقد آثرنا الاستعانة بتقنية الملاحظة لجدواها من طرف روّاد متن التفاعل الرمزي الذي تستند إليه هذه الدراسة، وسنحاول استخدامها انطلاقًا من جملة من الجوانب يمكن حصرها كما يأتي: (1) أماكن تمركز الأطفال للعمل (في التهريب، في الفلاحة، في السوق، في المحلات الصناعية والتجارية..)؛ (2) أثر الفقر في سمات سلوك الأطفال الجسدية في ولاية القصرين (اللباس مثلًا): (3) أنواع الأعمال التي يقوم بها الطفل: عمل فردي أو جماعي أو بائع متجول؛ (4) الغلاء المعيشي في تونس ولاية القصرين مثالًا.

الجدول الرقم (1)

العيّنة المعتمدة

عدد المشغولين اقتصاديًا في ولاية القصرين

ولاية
القصرين
عدد المشغولين اقتصاديًانسبة
الذكور
نسبة
الإناث
ذكورإناث
3600390034 بالمئة36 بالمئة

 

عدد العاملين في الأعمال الخطرة

ولاية
القصرين
عدد الأطفال المشغولين اقتصاديًاالنسبة
320031.5 بالمئة

 

نسبة تشغيل الأطفال في ولاية القصرين

النسبة المئوية لتشغيل الأطفال في ولاية القصرين
في الفلاحة36
في الصناعات التحويلية1.2
في البناء1.8
في التجارة، تصليح السيارات والدراجات0.5
في الإقامة والنزل والمطاعم1.1
في نشاط الأسرة المعيشية كمنتج للسلع والخدمات للحساب الخاص0.4

 

تشغيل الأطفال في ولاية القصرين

نسبة تشغيل الأطفال في ولاية القصرين
في الفلاحة1875
في الصناعات التحويلية1100
في البناء1300
في التجارة، تصليح السيارات والدراجات1450
في الإقامة والنزل والمطاعم600
في نشاط الأسرة المعيشية كمنتج للسلع والخدمات للحساب الخاص1175
المجموع7500

 

المصدر: وزارة الشؤون الاجتماعية الهيئة العامة للنهوض الاجتماعي سنة 2022

المجتمع الأصلي 7500 هامش الخطأ 5 بالمئة نسبة الإجابات المؤمّنة 40 بالمئة وسنقوم بتوزيع 194 استبيانًا حسب تطبيق شاك ماركت سنقوم بتوزيعها حسب نظرية كرة الثلج باختلاف مجالات العمل في الولاية.

إضافة إلى ذلك، اعتمدنا focus group من خلال مقابلة الكثير من الأطفال العاملين ومعرفة أهم التداعيات الاجتماعية للطفل العامل في ولاية القصرين.

أولًا: تشغيل الأطفال في تونس

يعَدّ تشغيل الأطفال من أهم المشاكل التي تعانيها الشعوب، إذ بلغت نسبة الأطفال الذين يعملون حول العالم 160 مليون طفل منها 79 مليون طفل يمارسون أعمالًا محفوفة بالمخاطر‏[2].

ارتفعت ظاهرة تشغيل الأطفال في السنوات الأخيرة، وبخاصة بعد جائحة كورونا. وكانت نسبة تشغيلهم سنة 2017 قدّرت بنحو 158 مليونًا‏[3]، وبعد الجائحة ازداد العدد مليوني طفل عامل، وهذا كان له أثره السلبي في الطّفل عمومًا، فلا شك أن الطفل الذي يجد نفسه بين أسرة فقيرة تعاني حرمانًا اقتصاديًا كبيرًا، كما يتعرض لبعض الظروف التي تتميز بها الحياة في أسرة فقيرة، يتأثر بالعلاقات الاجتماعية ويندفع إلى الشعور بالحرمان المادي الذي قد يغذي اتجاهات ومشاعر خاصة كالشعور بالكراهية بالإضافة إلى مشاعر النقص‏[4].

ويعدّ الفقر من بين هذه الأسباب التي ساهمت في ارتفاع هذه الظّاهرة، إذ انتشر في المجتمعات النامية، وهذا أمر له بدوره تبعات جمّة، كالتأثير في العلاقات الاجتماعية في الأسرة نفسها، كما يقود إلى شعور الطّفل بالحرمان لأبسط الضروريّات ويغذّي الكراهيّة والنّقص واللاتوازن النفسي.

تبرهن الإحصاءات التي لدينا على ارتفاع مستوى استغلال الطفل في العمل على مستوى دولي، ويعدّ تشغيله في الأعمال الخطرة من الانتهاكات الجسيمة التي تمارس ضدّه، وبخاصّة في الدول النامية، وهو ما يفسّر بمحدودية الدولة في حماية أطفالها نظرًا إلى تردّي الأوضاع وهشاشتها فيها.

هذه مشكلات متعددة، ولا سيَّما في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك من جانب احترام حقوق الإنسان التي انتهكت في مجال رعاية الطفولة. وفي هذا الصّدد تشير المنظمات الدولية المعنية بالطفولة إلى أهمية الخطورة التي تواجه ملايين الأطفال في العالم.

ساهمت عدة عوامل في تعريض الطّفل للخطر، ومنها بخاصّة التوترات العائلية وعدم الاستقرار وظاهرة الطلاق والفقر، «فالعمل في سنّ مبّكرة له آثاره الصحية والجسدية السيّئة بما أنّه أكثر تأثّرًا بالعوامل التي تؤثر في اختلال الوظائف الجسدية»‏[5].

في هذا السياق بالذات ساهمت جائحة كورونا في فقدان الكثير من العائلات وظائفهم، وهو ما أدّى إلى ارتفاع الفقر المدقع الذي بلغ سنة 2022 عددًا تقلّب من 75 مليونًا إلى 95 مليون شخص‏[6]. أما في أفريقيا فهي تحتل المرتبة الأولى عالميًا من حيث تشغيل الأطفال، إذ بلغ عدد من يعملون منهم 92 مليون. أي بمعدل طفل من كل 5 أطفال، منهم 80 بالمئة يعملون في مجال الزراعة»‏[7]، ويعيشون أسوأ مراحل الاستغلال. وقد وصفوا بـ«البؤساء الساعين وراء رغيف خبزهم مقابل الرأسماليين الساعين وراء تراكم ثرواتهم»‏[8].

أما في شمال أفريقيا فقد بلغ عدد تشغيل الأطفال مليونين و492 ألف عامل أغلبهم في مصر (نحو مليون و800 ألف عامل) وتونس (نحو 215 ألف عامل)‏[9].

أما على المستوى العربي فتبلغ ظاهرة تشغيل الأطفال 10 ملايين و200 ألف طفل عامل تتصدرها اليمن بمقدار مليون و900 ألف طفل والعراق بنحو مليون طفل عامل‏[10].

يتعلّق ارتفاع تشغيل الأطفال عربيّا أساسًا بتردّي الظروف الاجتماعية والاقتصادية وتبعًا أيضًا للثقافة السّائدة والعوامل التي دفعت إلى بروزها في مجتمع ما، فالأوضاع العامة لأيّ مجتمع هي التي تحدّد عوامل انتشار نمط محدّد، أو مجموعة من الأنماط، في ذلك المجتمع، في ربما لا توجد العوامل نفسها في مجتمع آخر‏[11].

تؤكد دراسات متخصّصة كثيرة أنّ تشغيل الأطفال ناجم عن عدّة أسباب، أهمّها الفقر وتدنيّ الدّخل الأسري وبطالة الأبوين أو المعيل بسبب المرض أو العجز. فماذا عن نسبة الإشعارات؟

الجدول الرقم (2)

نسبة الإشعارات حول تشغيل الأطفال بحسب السنوات

1990 – 20002001 – 20102011 – 2022
8000 ألف طفل عامل10600 ألف طفل عامل15202 ألف طفل عامل

 

المصدر: تقرير المندوب العام للطفولة وزارة المرأة والأسرة والطفولة تونس.

الشكل الرقم (1)

نسبة الإشعارات حول تشغيل الأطفال بحسب عدد السنوات

تشغيل الأطفال وعلاقته بالواقع الاقتصادي والفقر: ولاية القصرين مثالًا

نلاحظ من خلال الجدول الرقم (2) والشكل الرقم (1) أن عدد الإشعارات تزداد كل عشرين سنة، أي زادت من سنة 1990 إلى حدود سنة 2010 بنسبة 2600 أي نحو الربع، وهو مرتبط بخاصة «بتشبع الأسرة بالحاجيات الإنسانية للطفل التي كانت جذورها في حالة تصدع وتفكك فيصبح الطفل يعاني من جملة من ضغوط نفسية واجتماعية بما يجعله يفقد توازنه النفسي خاصة إن لم يستطع التكيف معها»‏[12].

أثّر ارتفاع معدل الطلاق في تونس، الذي بلغ سنة 2021 أكثر من 17306‏[13] حالة طلاق، في الحياة الأسريّة، وهذا ما يؤدّي بدوره إلى الانقطاع المبكّر للطفل عن الدّراسة، «فيقضي وقت الدراسة، وهو وقت مهم وحساس بين الأزقة والشوارع»، فيغدو الطفل معرضًا «لكثير من المتاعب والمشاكل ورفقاء السوء ومغريات الطريق التي تدفعه إلى السلوك المنحرف والأفعال المضادة داخل المجتمع»‏[14]. وهذا ما يساهم في لجوء الكثير من الأطفال إلى العمل على الرغم من صغر سنهم، فيصبح الشارع هو وسيلة الطفل للتعلم، حيث «تؤدي البيئة دورًا مهمًا في عملية التعلم، إذ إن فيها عوامل ومقومات من شأنها تقوية، وتوسيع، وتوجيه التعلم الوجهة الإيجابية، كما أن فيها من العوامل ما يدفع التعلم إلى الوراء، ويجعل أفقه ضيقًا وبالتالي يعرقل عملته»‏[15].

يرتبط ارتفاع عدد الإشعارات حول تشغيل الأطفال بين عامي 2001 و2022 إلى 4602، أي نحو 1/3، أساسًا بالوضع الاقتصادي في البلاد، وبخاصة في السنوات الأخيرة وما خلفته جائحة كورونا من ارتفاع، فبلغت 9.1 بالمئة في شهر أيلول/سبتمبر بعدما كانت 8.6 بالمئة خلال شهر آب/أغسطس. وتلاها ارتفاع في نسبة التضخّم في المواد الغذائية بنسبة 13 بالمئة‏[16] وهو ما أثر سلبًا في العائلات وتراجعت فيها الطبقة الوسطى وازدادت الطبقة الفقيرة فقرًا و«ظلّت روحه رهينة تحكّم الرأسماليين»‏[17].

لذلك يلجأ الكثير من الأطفال إلى العمل لمساعدة عائلاتهم على المعيش اليومي، وفي هذا يتعرّض الطّفل للكثير من الصعوبات والمشاكل؛ أهمّها عدم التوفيق بين العمل والدراسة حيث يساهم في الانقطاع المبكر عن الدراسة.

وقد أثبتت الدراسات أنّ «نحو 69 ألف تلميذ ينقطعون عن الدراسة في نهاية السنة الدراسية 2020 – 2021، أي 300 تلميذ طفل يغادرون المدارس يوميّا»‏[18].

ثانيًا: تشغيل الأطفال في القصرين

تعرف ولاية القصرين ارتفاعًا كبيرًا لظاهرة تشغيل الأطفال، إذ بلغت نسبة الإشعارات فيها نحو 1037 طفلًا عاملًا سنة 2022، وهذا ما يفسّر ارتفاع معدل الفقر في الولاية. ونجد معتمدية حاسي الفريد متصدّرة، إذ تبلغ نسبة الفقر المدقع فيها 3.5 بالمئة والفقر 53.5 بالمئة‏[19] .وهذا ما دفع الأطفال إلى العمل. وقد أدى هذا إلى اكتساب الطفل سلوكية سيّئة وبخاصّة مع حرمانه التمّتع بطفولته‏[20].

الجدول الرقم (3)

نسبة تشغيل الأطفال في تونس بحسب عدد السنوات

1990 – 20002001 – 20102011 – 2022
150 ألف طفل عامل169 ألف طفل عامل215 ألف طفل عامل

 

المصدر: منظمة العمل الدولية.

الشكل الرقم (2)

نسبة تشغيل الأطفال في تونس بحسب عدد السنوات

تشغيل الأطفال وعلاقته بالواقع الاقتصادي والفقر: ولاية القصرين مثالًا 

نلاحظ من خلال الجدول الرقم (3) والرسم البياني الرقم (2) ارتفاع نسبة تشغيل الأطفال كل عشرين سنة، إذ زادت بنسبة 19 ألف طفل عامل من سنة 1990 إلى سنة 2010، وهذا نتيجة للأزمات المالية التي عرفتها تونس وبخاصة في المدة الأخيرة قبل الثورة.

وقد أظهرت الإحصاءات ارتفاعًا في حجم أُسر الأطفال العاملين، ويعني ذلك الارتفاع أنّ لعدد الأفراد في الأسرة الواحدة دورًا في عمل الطّفل لأنّه كلما زاد عدد أفرادها زادت الحاجة إلى المال لسدّ ضرورياتها المعيشية، «ومع المسكن المزدحم يصبح من العسير على الوالدين الرقابة والإشراف على الأولاد بشكل كافٍ»‏[21].

يمثّل الفقر قاسمًا مشترًكا بين جلّ الأسر التي تدفع بالطّفل إلى العمل، ولكن يوجد «قاسم مشترك آخر يتمثل ببنية الأسرة التي غالبًا ما تكون ذات عدد أفراد مرتفع، لذلكّ فإنّ اتّحاد الفقر مع زيادة نفقات الأسرة، نظرًا إلى كثرة أفرادها، يدفع بالطفولة إلى الولوج مبكرًا عالم الشّغل، إلّا أنه ليس كل الأطفال المنتمين لأسر عدد الأفراد يشتغلون، وإنما لا بد من توفر أسباب أخرى اقتصادية وثقافية تدعم قرار تشغيل أطفالها»‏[22].

من هنا نستنتج أن الوسط العائلي يؤدي دورًا في دفع الطفل إلى العمل، ويمكن أن يكون إهمال الأسرة لطفلها وعدم إشرافها على تعليمه سببًا في انحرافه وخروجه إلى العمل في سنّ مبكرة، وهذا ما يخلق شخصية مضطربة وغير سويّة بحيث يفقد فيها الإدراك الإيجابي للذات والمجتمع، «فالحدث يتأثر بالجو الأسرة وبتقاليدها وعاداتها وسلوكها»‏[23].

نلاحظ أيضًا أن عدد الأطفال العاملين زاد عددهم 44 ألف طفل من سنة 2011 إلى سنة 2022، عقب جائحة كورونا، التي أثرت في الوضع العام وزادت في نسبة الفقر المدقع الذي بلغ سنة 2022 مقدار 3.4 بالمئة‏[24].

أضف إلى ذلك أن «علاقة الآباء بأبنائهم لها دور من دون شك التأثير الفعّال على تكوين الطّفل الانفعالي والعقلي وأنّ مستقبل الأجيال القادمة والاستفادة من خبراتها مبني على طبيعة التفاعل بين الآباء والأبناء»‏[25]، وعلى هذا الأساس يجب إيلاء أهمية كبرى لتلك المرحلة وأقصى درجات الرعاية والحماية، وإحاطة الطفل بمناخ ملائم لتنشئته على أسس سليمة.

تبادر في بعض الأحيان لدى الأُسر أنّ خروج الطفل إلى العمل يساهم في اكتسابه الخبرة ويساعده على النموّ والنضج، وكسبًا للمال في سن مبكرة وتكوين ثروة وأيضًا مساعدة العائلة الفقيرة لسدّ حاجاتها الضرورية، ولكن هي تفكر بالنقيض وتضعه في «عالم خارجي عدواني قائم على الجنوح»‏[26].

تعدّدت أنماط سوء معاملة الطّفل منذ القدم، نذكر منها التخلّي على الطفل أو الإهمال، كالإهمال الصحّي والتربوي والنفسي والجسمي، إضافة إلى تعرضه للعنف اللفظي والجسدي والإهانة والتحقير وتشغيله في سن مبّكرة في الفلاحة والمصانع.

يضع الوضع الاجتماعي ملايين الأطفال في العالم داخل دائرة الخطر، ويجبرهم على الخروج إلى العمل في سنّ مبّكرة في ظلّ ظروف شاقة وصعبة ومحفوفة بالمخاطر وتكون سببًا لحرمانهم التعليم والترفيه واللّعب بالرغم من «اعتراف المنّظمات والهياكل الدولية والقانونية بواجب حماية الطفولة ورعايتها»‏[27].

أصبحت هذه الظاهرة ملموسة في الدول المتقدمة والنامية على حدّ سواء، وبقدر سرعة وكمّية القلق الكبيرة لدى المنظمات تتغلغل هذه الظاهرة في المجتمعين معًا.

إجمالًا، تبين الإحصاءات الارتفاع الكبير لظاهرة تشغيل الأطفال في تونس، وهي تحل بالمرتبة الثانية في شمال أفريقيا، وهذا يمثل خطرًا كبيرًا على الطفولة التي تحتاج إلى تنشئة اجتماعية، وللأسرة الدور الكبير فيه من خلال تعليم طفلها وتربيته لاكتساب أنماط سلوكية إيجابية وبيان دوره في المجتمع، وهذا ما يمكَّنه من التفاعل مع أفراد أسرته ومع المجتمع، وهذا ما يشبع حاجات الطّفل المتعددة، وبخاصة في سن المراهقة التي يتفاقم فيها عمل الأطفال، وهذه المرحلة تتطلب وعيًا من جانب المحيطين بالمراهق لفهم ما يطرأ على طباعه وسلوكاته، ومساعدته على تجاوزها والتغلب عليها.

تعود معظم حالات عمل الأطفال إلى البيئة الأسرية بوصفها المؤسسة الاجتماعية الأولى المسؤولة عمّا يصيبه، سواء خروجه إلى العمل أو إلى ما يمكن أن يتّعّرض له من انحراف «لأنّه عن طريقها يتلّقى القيم والعادات والنظرة إلى المجتمع»‏[28].

هنا يمكن أن نشير إلى أنه في توزيع الاستمارة في ولاية القصرين كانت ردود أبرز المستجوَبين كالآتي:

الجدول الرقم (4)

مدى تحسن الظروف الاجتماعية للعائلة التي لديها طفل يعمل

تتحسن الظروف الاجتماعية للعائلة بسبب عمل إبنها في سن مبكرة
 FrequencyPercentValid PercentCumulative Percent
Validغير موافق بالمرة4724.224.224.2
غير موافق11659.859.884.0
لا رأي عندي21.01.085.1
موافق2914.914.9100.0
المجموع194100.0100.0 

 

نلاحظ من خلال الجدول الرقم (4) أن 59.8 بالمئة، أي أكثر من نصف المستجوبين، عبّروا عن عدم تحسن الظروف الاجتماعية لعائلتهم رغم خروجهم للعمل.

الجدول الرقم (5)

مدى قدرة العائلة على تلبية حاجاتها المعيشية إذا كان لها طفل يعمل

ساهم عملك في تحسّن الظروف المالية لعائلتك وتوفير الحاجات الأساسية
 FrequencyPercentValid PercentCumulative Percent
Validغير موافق بالمرة73.63.63.6
غير موافق7739.739.743.3
لا رأي عندي52.62.645.9
موافق9247.447.493.3
موافق تمامًا136.76.7100.0
المجموع194100.0100.0 

 

نلاحظ من خلال الجدول الرقم (5) أن نحو نصف المستجوَبين (47.4 بالمئة) يرون أن العمل ساهم في تحسن الأحوال المادية لعائلتهم وتوفير الحاجات الأساسية، لكن هذا لا يخفي علينا أن نسبة 39.7 بالمئة من المستجوَبين أي أكثر من ثلث المستجوبين عبّروا لنا عن عدم تحسن الظروف المالية وتوفير الحاجات الأساسية، وبخاصة بارتفاع الأسعار وأجرهم الزهيد الذي «الذي لا يوفر لهم حاجاتهم الخاصة»[29].

الجدول الرقم (6)

مساهمة الطفل العامل في مصاريف عائلته بصفة منتظمة

تساهم في مصاريف العائلة
 FrequencyPercentValid PercentCumulative Percent
Validغير موافق بالمرة10.50.50.5
غير موافق2110.810.911.5
لا رأي عندي21.01.012.5
موافق12463.964.677.1
موافق تمامًا4422.722.9100.0
المجموع19299.0100.0 
Missing921.0  
المجموع194100.0  

 

نستنتج من خلال الجدول الرقم (6) أن أكثر من نصف المستجوبين (63.9 بالمئة) يساهمون في مصاريف عائلتهم بصفة منتظمة، لكن رغم ذلك بقيت عائلاتهم بحاجة إلى أكثر من المساهمات المادية، كما أكدته الباحثة مفيدة عبشة «نتيجة لارتفاع عدد أفراد العائلة وما يحمله من مصاريف إضافية»‏[30]، وهذا ما يجعل أطفالهم يعملون ويساهمون في مساعدة عائلتهم رغم ارتفاع الأسعار والتدهور الاقتصادي وتراجع المقدرة الشرائية مقابل ارتفاع الخصاصة والفقر المطلق والمدقع.

نستنتج من خلال هذه الجداول والرسوم البيانية أن العائلات التي لديها أطفالٌ يعملون معظمُها لم تتحسن ظروفه الاجتماعية، وهو ما أكده الأطفال في المقابلة، وبخاصة بسبب أجورهم الزهيدة ونوعية أنشطتهم الخطرة التي تؤثر في صحتهم النفسية والبدنية، فرغم مساهمتهم في مساعدة عائلاتهم فإن تدهور الأوضاع الاجتماعية للأسرة يبقى دائمًا عائقًا أمامها لتحسين الأوضاع الاقتصادية وتوفير الحاجات الأساسية. وهذا ما تؤكده نتائج التعداد العام للسكان لسنة 2014 و2021 في ولاية القصرين من حيث القدرة الشرائية، فمثلا في «توفر المكيفات نجد في معتمدية حاسي الفريد 0.76 بالمئة من الأُسر التي تملك مكيفًا هوائيًا ونجد مثلًا الأسر المرتبطة بشبكة الإنترنت 0.38 بالمئة فقط في معتمدية ماجل بالعباس‏[31].

أما القدرة الشرائية في ولاية القصرين فقد أبرز المعهد الوطني للإحصاء صعوبة حصول العائلات على كل ما تحتاج إليه، وبخاصة أن «العائلات الفقيرة في ولاية القصرين تعيش على أقل من 5 دينارات في اليوم»‏[32] وهو ما يساهم في ارتفاع الفقر في الولاية.

ثالثًا: الأثر الاقتصادي في الفقر

تبرز المعطيات الأخيرة للمعهد الوطني للإحصاء، بالأساس تسارع نسق ارتفاع أسعار مجموعة التغذية والمشروبات لتسجل «13 بالمئة في سبتمبر [أيلول] 2023 بعد أن كانت 11.9 بالمئة في أوت [آب/أغسطس]، وأسعار السكن والطاقة المنزلية بسبة 6.4 بالمئة في أيلول/سبتمبر بعد أن كانت 6.2 بالمئة في شهر آب/أغسطس.

كما ارتفعت أسعار النقل بنسبة 8.3 بالمئة في أيلول/سبتمبر 2023 بعد أن كانت 8.1 بالمئة في شهر آب/أغسطس‏[33] أي زادت خلال شهر واحد بنسبة 0.2 بالمئة.

وهذا ما أكده البنك الدولي حول الآفاق الاقتصادية لتونس، إذ من المتوقع أن يصل معدل الفقر إلى 3.4 بالمئة، كما أبرز ارتفاع فقر الأطفال في تونس سنة 2020 إلى 29 بالمئة بعد أن كان في حدود 19 بالمئة في سنة 2013‏[34].

وفي هذا السياق يعدّ الفقر من «التحديات الرئيسية التي تواجه العالم اليوم. ويمكن تبيانه بعدم قدرة الفرد على التزوّد بالحاجات الأساسية أو تحقيق الحد الأدنى من مستوى المعيشة»‏[35].

وقد أكدت دراسات كثيرة في العالم ومن بينها البنك الدولي حول تفشي ظاهرة الفقر أن نحو 734 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر ولا يتجاوز دخلهم اليومي 1.90 دولار‏[36].

وتؤكد تقارير الأمم المتحدة «أن ما يقرب من 1.3 مليار فرد يعانون فقرًا متعدد الأبعاد والحرمان من التمتع بالصّحة والتعليم وتدني المستوى المعيشي»‏[37].

لذلك يعدّ الاقتصاد الركيزة الأساسية التي تبنى عليها المجتمعات، ومن خلاله يتم تحقيق التنمية المستدامة، ويقع الحد من ظاهرة انتشار الفقر المطلق والمدقع، وعليه تخلق مَواطن الشغل. لكن ما نلاحظه هو ارتفاع «العمالة الناقصة التي تعني حالة يكون فيها الفرد منخرطًا في عمل منخفض الأجر، ووظيفة لا تستخدم مهاراته وقدراته الكاملة»‏[38]. وهذا ما نجده منتشرًا في ولاية القصرين بكثافة حيث يجد العامل نفسه في وظيفة غير رسميّة وأجور زهيدة لا تلبي حاجاتهم اليومية ولا تخرجهم من مستنقع الفقر.

وقد لاحظنا من خلال التقصّي الميداني وإجابات الأطفال أنّ «الفقر» هو الدافع الرئيسي الذي جعلهم يخرجون إلى العمل في الميدان الفلاحي، وبخاصة عند النساء وورش تصليح وغسيل السيارات والمحال التجارية والتهريب.

إن تردي الوضع الاقتصادي هو السبب الكبير في الفقر، وهو ينعكس سلبًا على المجتمع والأسرة ثم ينتقل إلى الطّفل «ويورث عند البعض وهن الشخصيّة وضعف العزيمة»‏[39]. وعليه يمكن أن نقول إن الفقر هو العامل الأساسي في خروج الطّفل إلى العمل لتوفير حاجاته الخاصة ومساعدة الأسرة التي لم تعد تحتمل الغلاء المعيشي.

يلجأ البعض من خلال هذه الرهانات إلى تشغيل أبنائهم دون السّن القانونية، واتجه المشغلون بدافع الاستغلال في تحقيق أكبر أرباح طائلة، وذلك بسبب الأجر الزهيد الذي يتقاضاه الطفل.

إن للعلاقة الرابطة بين الفقر والبطالة وتدّني «دخل الأسرة وعمل الأطفال للضائقة المالية دور مهم في خروج الطّفل لسوق الشغل مبكرًا وانقطاعه عن الدراسة للبحث عن قوت يومه»‏[40].

هنا نستنتج أنّه كلّما ازداد الفقر ازدادت معه ظاهرة تشغيل الأطفال، ومثالنا هنا ولاية القصرين التي تعاني التهميش والفقر والحرمان وتبلغ فيها نسبة الفقر 32.8 بالمئة وترتفع فيها نسبة البطالة 23 بالمئة مقابل نحو 15.3 بالمئة وطنيا‏[41] وسبب هذا أيضًا تردي الوضع الاقتصادي، ولكن هذا لا يعني أن الفقر يؤدي بالضرورة إلى عمل الأطفال «فالفقر يمكن أن يكون حافزًا على البلوغ والتّفوق»‏[42].

إنّ الاستقرار المادي للأسرة هو دافع معنوي جيّد لتحفيز الطّفل وإبعاده من الشوائب التي تفسده لكن في ولاية القصرين عدد الأُسر المعوزة مرتفع ويبلغ عددها 8975‏[43] وهذا يعني خروج نسبة مهمة من الأطفال للعمل بسبب تردّي الأوضاع الاقتصادية.

إن انتشار الأمية والفقر من العوامل الأساسية لخروج الطّفل إلى العمل حيث بلغت نسبة الأمية في ولاية القصرين 30.2 بالمئة، وهي تحتل المرتبة الثانية في تونس بعد ولاية جندوبة التي تبلغ هذه النسبة فيها 31.6‏[44] بالمئة. وعند رؤية العائلة عدد المعطّلين من العمل ترى أنّه لا جدوى من تعليم أبنائهم.

يحظى الفقر باهتمام عالمي، وبخاصة من منظمة العمل الدولية واليونيسيف. وقد نلمس في التقارير الدولية خطرًا كبيرًا من خلال تأكيدها تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمعظم البلدان النامية وتزايد عدد الجياع والمحرومين الذين يفتقرون إلى أبسط الأشياء كالغذاء والمأوى والتعليم والرعاية الصحية.

«ويعد الفقر من الظواهر الاجتماعية الخطيرة ذات الأبعاد المتعددة والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتنمية، وممّا لا شك فيه أنّ تقليل الفقر أو الحدّ منه هدف لا تختلف حوله المجتمعات والدول، وكذلك المنظمات الدولية العاملة في مجال التنمية»‏[45].

من هذا المنطلق فإن العلاقة وثيقة بين الفقر والسياسات العامة في مختلف النواحي والمجالات، اقتصادية وصحية وتعليمية وبيئية.

إنّ تزايد عدد الفقراء هو أزمة أخلاقية واجتماعية للإنسانية جمعاء، ويرى مالتوس‏[46] أحد رجال الدّين واجبًا عليه من حيث المبدإ حبّ الآخر والتضامن معه، فقد عبر عن رأيه صراحة قائلًا إن «الرجل الذي ليس له من يعيله والذي لا يستطيع أن يجد له عملًا في المجتمع سوف يجد أنّ ليس له نصيب من الغذاء على أرضه، فهو عضو زائد في وليمة الطّبيعة حيث لا طبق له بين الأطباق، وبالتّالي فإن الطبيعة سوف تأمره بمغادرة الزمن»‏[47].

الفقر إذن نتيجة حتمية لنظام اقتصادي، وهو مكروه أخلاقيًا ودينيًا، وقد عرّفه الاقتصاد الإسلامي بأنه «فقد ما يحتاج إليه»‏[48]، وهو «عدم القدرة على تحقيق مستوى معيّن من المعيشة المادية أي انخفاض مستوى المعيشة»‏[49].

نرى، من خلال السياق، تعدد التعريفات حول الفقر وطرائق قياسها، فهناك من يرى فيه تدنيًا للمستوى المعيشي الذي يتبعه التدهور الاقتصادي «وهناك من يتحدث عن فقر القدرات ويقصد بذلك افتقار الفرد القدرة على توفير غذائه وصحته وسلب تعليمه واكتساب المعارف»‏[50]. ويمكن أن نمّيز هنا بين الفقر المطلق والفقر المدقع، ويعني الأول الحالة التي يستطيع فيها الإنسان الوصول إلى إشباع حاجاته من مأكل، وتعليم، ومسكن، ونقل، ويعبّر مفهوم الفقر الثاني عن وضع الإنسان الذي لا يستطيع عبر التصرف بدخله الوصول إلى إشباع حاجاته.

ويعبّر الفقر عن الحاجة أو انعدام أو انخفاض الدخل الفردي، وهو ما ينجم عنه مستوى معيشي منخفض، لذلك تطور «مفهوم الفقر بالنسبة إلى العالم الثالث في القرن العشرين وبخاصة في القارة الأفريقية. فالثروات تقاس في هذا العالم حسب مقياس اقتصادي بالضرورة وهو مزيد تراكم الأموال والممتلكات وامتصاص الفقراء»‏[51].

يجدر بنا أن نشير إلى أننا لم نعد نتحدّث عن الفقراء في ولاية القصرين، بل أصبحنا نتحدث عن «البؤساء الساعين وراء رغيف خبزهم وعن الرأسماليين الساعين وراء تراكم ثرواتهم»‏[52]، لأن «البؤساء في شدّة الفقر أي الفقر المدقع»‏[53]. فالفقير ازداد بؤسًا وضيمًا إزاء انتهاكات الرأسمالية أو النظام الاقتصادي في الدولة التونسية لأبسط حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، وفي هذا السياق بالذات أصبحت طبقة الشغيلة في تونس تصنّف ضمن الفقراء.

هذا وتشير دراسات متعددة إلى أنّ «نسبة كبيرة من المشتغلين الفقراء في الحضر يعملون بين قطاعات غير نظامية وعمل غير مهيكل»‏[54]، في غسل السيارات وتصليحها، أو باعة متجولين أو في الأسواق أو في تهريب السلع، أو في الدكاكين والفلاحة. وعلى الرغم من مهنة الطفل الشاقة فهو لا يتمتع بالتغطية الصحية، الأمر الذي يؤدي إلى «ظهور طبقة اجتماعية غير مهيكلة في العالم الثالث»‏[55]، «يصعب قياسها بشتّى الآلات الصناعية»‏[56]، لأنه من كثرة الفقر لا توجد لهم معادلة في كيفية احتسابهم وفقًا للمعادلة التنموية.

ونتيجة لهذه الظروف القاسية يصبح الطفل ضحية الفقر، إذ يرغم أغلبهم على التخلّي عن الدراسة، وخصوصًا مع ارتفاع مصاريف التعليم رغم أنه مجاني، إلا أنه باهظ التكاليف لمثل هذه الأُسر، ففي سنة 2022 مثلًا لم يلتحق نحو 400 ألف تلميذ بمقاعد الدراسة في المدرسة العمومية‏[57]، مقابل التمدرس في المدرسة الخاصة. وهذا أبرز مثال على تكريس الرأسمالية.

وعلى الرغم من وجود تشريعات تجرم عمل الأطفال، إلا أن «الواقعين تحت وطأة الضغوط الاقتصادية لا يلتزمون بهذه القوانين، وهذا ما يزيد الوضع تعقيدًا، بعدم مراقبة الدولة ميدانيًا»‏[58] وهذا ما يدفع بالمزيد من الأطفال إلى الخروج إلى العمل.

رغم الإقرار بالتمييز الإيجابي بعد الثورة وبخاصة في المناطق الداخلية عبر السياسات والبرامج فإن الواقع يبين لنا أنّ المناطق الداخلية لا تزال تعيش في الفقر ولم تتمتع بحقها في التنمية وبقيت على الهامش.

وغالبًا ما يكون الفقر مصحوبًا بالبطالة والأميّة، فالفقر «ظاهرة معقدة ذات أبعاد متعددة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وتاريخية، ويختلف هذا المفهوم باختلاف المجتمعات والثقافات، وحتى الأزمنة، لذا يصعب إعطاء تعريف موحد له، والفقر له أبعاد وأشكال متعددة، هناك بعد اقتصادي، إنساني، سياسي، سيوسيوثقافي، وقائي»‏[59].

لذلك فالفقر ظاهرة مركبة تجمع بين أبعادها ما هو ذاتي (أسلوب الحياة، ونمط الإنفاق والاستهلاك) وما هو موضوعي كالدخل والملكية والمهنة والوضع الطبقي. هذا ويعبّر الفقر عن صورة للتمايز الاجتماعي واللامساواة، فالفقير «ظلت روحه رهينة تحكم الرأسماليين في كمية الاحتباس الحراري»‏[60]، فالمناخ مثلًا أصبح في المناطق الداخلية ملوثًا نتيجة لاستغلاله من طرف بعض المصانع من دون وضع أسس الوقاية لحمايته.

إن الأثر الاقتصادي في الفقر متعدد الأبعاد، وبخاصة عدم الاستثمار في التعليم الذي يعيش أزمات هيكلية في قطاعيه وبخاصة العمومي، إضافة إلى «نقص الاستثمار في الخدمات العامة والبنى التحتية الاقتصادية… والممارسات الثقافية التي تثبت الحضور الرسمي للتعليم»‏[61] .

تجدر الإشارة هنا إلى أن «المستوى العالي من عدم المساواة والفساد والبطالة والنمو السالب هي بعض القضايا التي أعاقت ترجمة النمو الاقتصادي إلى الحد من الفقر بدرجة كبيرة»‏[62]. وقد «يكمن في تنويع الأنشطة الاقتصادية التي تساعد على خلق الفرص للأفراد وضمان الاستقرار الاقتصادي»‏[63].

وكي يعود النمو في الاقتصاد بالنفع على الفقراء، يجب أن يكون هذا النمو «مناصرًا للفقراء». فيكون «النمو الاقتصادي لصالح الفقراء عندما يكون مصحوبًا بالسياسات والبرامج التي تساعد الفقراء من خلال التخفيف من أوجه عدم المساواة، وتسهيل الدخل، وتوليد فرص العمل، وبخاصة للأشخاص في المجموعات المستبعدة تقليديًا»‏[64]. وهو ما يتمظهر في الوسط التونسي، وبخاصة في ولاية القصرين التي تعيش التهميش والحرمان رغم مرور عشر سنوات على الثورة.

أهم الاستنتاجات

– رغم إقرار المشرع بتجريم تشغيل الأطفال فهو مرتفع في تونس.

– أدى تراجع القدرة الشرائية إلى لجوء بعض العائلات التونسية إلى تشغيل أبنائهم في أعمال خطرة كالتهريب، أو شاقة كالفلاحة أو في الأسواق.

– ساهم الوضع الاقتصادي المتدهور في انتشار الفقر المطلق الذي وصل إلى الطبقة الوسطى وتزايد تهميش الطبقة المحرومة في الدولة وبخاصة بانتشار الفقر المدقع في ولاية القصرين.

– أهمية النمو الاقتصادي للحدّ من هذه الظواهر السلبية التي تؤثر في الطفولة نفسيًا وجسديًا.

خاتمة

يعَدّ تشغيل الأطفال من أهم المشكلات التي أصبحت تعانيها الدول وبخاصة العالم الثالث ومنها تونس، وقد اخترنا ولاية القصرين لارتفاع الفقر فيها، وهذا ما أثر في العائلة التي تلجأ إلى تشغيل أطفالها رغم صغر سنهم.

كما ساهم الوضع الاقتصادي والضائقة المالية التي تعيشها تونس في تزايد نسبة الفقر وتفقير المجتمع نتيجة لسياسات فاشلة أدت إلى تدهور القدرة الشرائية وتضاعف الأسعار التي أثرت في الطبقة المتوسطة التي تضمحل تدريجًا لتصل إلى الفئة الفقيرة.

كتب ذات صلة:

السبل والمنى في صناعة الفقر والغنى

التنمية والفقر: مراجعة نقدية للمفاهيم وأدوات القياس

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 552 في شباط/فبراير 2025.

أحمد البلالي: باحث في الطفولة والوساطة الفنية في المعهد العالي لإطارات الطفولة، جامعة قرطاج – تونس.

[1] حافظ مداني، «أنشطة الاقتصاد اللاشكلي في تونس بين المقبولية الاجتماعية، والفساد المبرر،» (أطروحة دكتوراه علم الاجتماع، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس، 2011)، ص 93.

[2] حسب اليونيسيف سنة 2021.

[3] حسب اليونيسيف سنة 2017

[4] نجيبة الشريف، الطفل والطلاق وبعد؟، ط 3 (تونس: الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، 2013)، ص 130.

[5] Racine Jean Baptiste, Le Droit et les droits de l’enfant: Champs libres, études interdisciplinaires, la problématique du travail des enfants à l’épreuve de la mondialisation, (Paris: Centre d’étude et de recherches sur le contentieux, université du sud-Toulon Var; L’Harmattan, p.54.

[6] بحسب اليونيسيف سنة 2022.

[7] بحسب منظمة العمل الدولية لسنة 2021.

[8] Jean Labbens, Sociologie de la pauvreté: Le Tiers-monde et quat-monde (Paris: Editions Gallimard, 1978), p. 103.

[9] بحسب منظمة العمل الدولية سنة 2022.

[10] بحسب منظمة العمل الدولية سنة 2022.

[11] مجموعة باحثين، أعمال ندوة سوء معاملة الأطفال واستغلالهم غير المشروع (الرياض: أكاديمية نايف، مركز الدراسات والبحوث، 2001)، ص 9.

[12] الشريف، الطفل والطلاق وبعد؟، ص 127.

[13] وزارة العدل التونسية، حالات الطلاق في تونس سنة 2021.

[14] المصدر نفسه، ص 132.

[15] عبد اللطيف فؤاد إبراهيم، المناهج، ط 4 (القاهرة: مكتبة مصر، 1975)، ص 276 – 278.

[16]  Statistiques Tunis, Institut National de Statistique, 2022.

[17]  Labbens, Sociologie de la pauvreté: Le Tiers-monde et quat-monde, p.104.

[18] وزارة التربية، تونس، 2020 – 2021.

[19]  Calcul des auteurs à partir des données du Ministère de l’éducation, 2015.

[20] خالد محمد الزواوي، البطالة في الوطن العربي المشكلة والحل (القاهرة: مجموعة النيل العربية، 2004)، ص 131.

[21] محمد جعفر علي، حماية الأحداث المخالفين للقانون والمعرضين لخطر الانحراف: دراسة مقارنة (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2004)، ص 82.

[22] نعيم حبيب جعنيني، علم اجتماع التربية المعاصر بين النظرية والتطبيق (بيروت: دار وائل للنشر، 2009).

[23] علي، المصدر نفسه، ص 86.

[24] البنك الدولي، 2022.

[25] عبد الله خوج وفاروق عبد السلام، الأسرة العربية ودورها في الوقاية من الجريمة والانحراف (الرياض: المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، 1979)، ص 32.

[26] محمد باشوش، «أطفال الشوارع،» المجلة التونسية للعلوم الاجتماعية، العدد 109 (1992)، ص 91.

[27] مجموعة باحثين، أعمال ندوة سوء معاملة الأطفال واستغلالهم غير المشروع، ص 39.

[28] علي، حماية الأحداث المخالفين للقانون والمعرضين لخطر الانحراف: دراسة مقارنة، ص 75.

[29] مقابلة مع الأطفال focus group في ولاية القصرين في مقهي في 20 كانون الأول/ديسمبر 2023، على الساعة العاشرة صباحًا.

[30] مفيدة عبشة، «عمل الأطفال بالسوق الموازية: التنظيم الشبكي والاستراتيجيات مثال ولاية مدنين تأطير الأستاذ عبد الستار السحباني،» (أطروحة لنيل الدكتوراه في علم الاجتماع، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس، 2016).

[31] المعهد الوطني للإحصاء، تونس 2014 – 2021.

[32] المعهد الوطني للإحصاء، تونس 2021.

[33] المعهد الوطني للإحصاء، تونس 2023.

[34] تقرير البنك الدولي حول تونس، سنة 2020.

[35] Tikristini Olasode, Chukwuemeka Eke and Olalekan Oluwabunmi Olaleye, «Has Economic Growth Reduced Poverty in Nigeria?: A Critical Analysis of the Last Two Decades,» Journal of Enterprise and Development (JED), vol. 4, no. 2 (December 2022), p. 233.

[36]  Ibid., p. 233.

[37]  Ibid., p. 233.

[38] «Poverty and Inequality in Nigeria: Executive Summary,» National Bureau of Statistics (NBS) -2019.

[39] علي، حماية الأحداث المخالفين للقانون والمعرضين لخطر الانحراف: دراسة مقارنة، ص 85.

[40] عبشة، «عمل الأطفال بالسوق الموازية: التنظيم الشبكي والاستراتيجيات مثال ولاية مدنين تأطير الأستاذ عبد الستار السحباني،» ص 156.

[41] المعهد الوطني للإحصاء، 2022.

[42] عبد اللطيف مصلح، مشاكل الوسط الأسري وعلاقتها بالانحراف الأحداث في المجتمع المغربي (عمّان: دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2004)، ص 53.

[43] وزارة الشؤون الاجتماعية، تونس، 2022.

[44] المعهد الوطني للإحصاء، تونس، 2022.

[45] عبشة، «عمل الأطفال بالسوق الموازية: التنظيم الشبكي والاستراتيجيات مثال ولاية مدنين تأطير الأستاذ عبد الستار السحباني،» ص 158.

[46] هو رجل دين وأستاذ جامعي، ولد في 14 شباط/فبراير 1766 وتوفي في 23 كانون الأول/ديسمبر 1834 وهو باحث واقتصادي سياسي إنكليزي، كان مشهورًا بنظرياته المؤثرة حول التكاثر السكاني في العصر الحديث وتتم مناداته توماس مالتوس رغم أنه في حياته استخدم اسمه الأوسط، روبرت.

[47] Mounir Bakouche, Petite histoire d’une grande revendication de la révolution du 14 janvier: Le Droit au travail, préface de Alain Lipietz (Tunis: Edition Latrach, 2012), p. 36.

[48] حسن محمد الرفاعي، مشكلة الفقر في العالم الإسلامي (دمشق: دار النفائس، 2006)، ص 13.

[49] حسين عبد الحميد أحمد رشوان، الفقر والمجتمع: دراسة في علم المجتمع (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 2008)، ص 2.

[50] عبشة، «عمل الأطفال بالسوق الموازية: التنظيم الشبكي والاستراتيجيات مثال ولاية مدنين تأطير الأستاذ عبد الستار السحباني،» ص 159.

[51]  Labbens, Sociologie de la pauvreté: Le Tiers-monde et quat-monde, p. 77.

[52]  Ibid., p. 103.

[53] رشوان، الفقر والمجتمع: دراسة في علم المجتمع، ص 2.

[54] المصدر نفسه، ص 26.

[55]  Labbens, Ibid., p. 103.

[56]  Ibid., p. 104.

[57] وزارة التربية والتكوين، تونس، 2022.

[58] Organisation international de travail (OTT), Le Travail des enfants, traduire l’engagement en action (2012), p. 9.

[59] عبشة، «عمل الأطفال بالسوق الموازية: التنظيم الشبكي والاستراتيجيات مثال ولاية مدنين تأطير الأستاذ عبد الستار السحباني،» ص 158.

[60]  Labbens, Sociologie de la pauvreté: Le Tiers-monde et quat-monde, p. 104.

[61] Olasode, Eke and Olaleye, «Has Economic Growth Reduced Poverty in Nigeria?: A Critical Analysis of the Last Two Decades,» p. 249.

[62]  Ibid., p. 250.

[63]  Ibid., p. 250.

[64]  Ibid., p. 250.


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز