المؤلف: عبد الحسين شعبان

مراجعة: شيرزاد أحمد أمين النجار(**)

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

سنة النشر: 2020

عدد الصفحات: 208

الطبعة: الثانية

 

تمهيد:

يمتد المسار المعرفي والفكري والإنتاجي للمفكر عبد الحسين شعبان إلى سنوات عديدة عابرة حيث غزارة الإنتاج والعمق المعرفي، ووصل هذا المسار إلى 2020 حيث صدرت الطبعة الثانية لكتابه الموسوم: الهويّة والمواطنة: البدائل الملتبسة والحداثة المتعثّرة (تعَدّ مقدمة الطبعة الثانية بذاتها إضافة نظرية مهمة للمفاهيم التي عمقها الباحث في الطبعة الأولى التي صدرت عام 2017) وقد توزعت محتويات الكتاب على الأقسام والفصول الآتية:

القسم الأول: الهُويَّة والمواطنة والمنفى واحتوى على الفصول الآتية:

الفصل الأول (في الهُويَّة) استهله المؤلف بوضع الأُطر المرجعية للهُويَّة، المتمثلة بالهُويَّة الثقافية، والهُويَّة والعولمة، والهُويَّة والأيديولوجيا.

الفصل الثاني (في المواطنة) بحث فيه الأطر المرجعية للمواطنة وهي: المواطنة تأريخيًا، المواطنة في الإسلام، المواطنة والدولة، المواطنة والتربية.

الفصل الثالث (الهُويَّة والمواطنة والمنفى) حاول فيه المؤلف إيجاد رابطة عضوية ما بين عناوين الفصلين الأول والثاني (أي ما بين الهُويَّة والمواطنة) والمنفى وتمثلت المحاولة بالمسائل الآتية: المنفى: اختيار أم اضطرار؟، الأدب ورحلة المنفى، الهُويَّة والذاكرة.

القسم الثاني: دراسات وحوارات في الهُويَّة والمواطنة، وتوزع على الفصول التالية:

الفصل الرابع العروبة: الهُويَّة، المواطنة، الدولة، ودخل فيه شعبان في الحقل التجريبي حيث الحوارات والنقاشات ركَزّت على العروبة: القومية، الهُويَّة، المواطنة، الدولة.

الفصل الخامس: الهُويَّة والحضارة وطرح فيه تساؤلًا جوهريًا: لماذا العراق؟.

الفصل السادس: الثقافة والمواطنة والهُويَّة في الوطن العربي، وركّز فيه على ثقافة المواطنة في مجتمعاتنا العربية؛ هل تتطابق العولمة والرأسمالية؟؛ كيف نفهم الحداثة؛ كيف ننظر إلى تأريخنا العربي والإسلامي؛ ما أسباب تعثُّر ثورات الربيع العربي؟

الفصل السابع: الهُويَّة والمواطنة والعدالة.

الفصل الثامن: الهُويَّة والمعرفة.

القسم الثالث: مقالات وآراء، تناول فيه ما يأتي:

الفصل التاسع: مقالات وآراء في معنى الهُويَّة، أوضح شعبان من خلالها مسائل متعددة منها: معنى الهُويَّة، ازدواجية الهُويَّة، تدمير الهُويَّة الثقافية العربية، العلاقة بين مفهوم الأقليات وحق تقرير المصير، ثم تناول موضوعًا مهمًا وهو: إشكالية الهُويَّة والمواطنة في العراق، ثم تطرق إلى: نعيم الهُويَّة وجحيمها في العراق؟ مدخلات الهُويَّة ومخرجات العولمة، ما بعد التعدّدية الثقافية وتضاريس التنوع الثقافي.

الفصل العاشر: مقالات وآراء معنى المواطنة حيث بحث فيه عن ثقافة المواطنة، الطائفة والطائفية وتشكيلات ما قبل الدولة، المواطنة الإلكترونية، المواطنة الافتراضية، وتساءل: هل تستقيم المواطنة مع الفقر؟

ويختتم الكتاب بخاتمة بعنوان: الهُويَّة والمواطنة بضدِهما!

إذًا، هذه هي الموضوعات التي طرحها عبد الحسين شعبان للنقاش ولمزيد من الحِوارات، مقتفيًا آثار العديد من المفكرين الكبار الذين تناولو مسألة الهُويّة بالتحليل (فقط نذكر كلًا من: صموئيل هنتنغتون في كتابه الشهير: من نحن؟ النقاش الأمريكي الأوسع (2004)، ويناقش فيه التحديات التي تواجه الهُويّة الأمريكية؛ تشارلز تايلر في كتابه الضخم: منابع الذات. تَكوّن الهُويَّة الحديثة (1989)، ويناقش فيه مسألة الهُويَّة كنقطة بداية لفهم الحداثة بشكل جديد وبالتالي فهم التحولات والتغييرات في الثقافة والمجتمع (يقصد المجتمع الغربي).

هنا سنناقش ونتحاور مع أهم الموضوعات التي طرحها شعبان متميزًا فيها عن المفكرين الآخرين في التشديد على مجتمعاتنا في العالم العربي والإسلامي، ولكن ابتداءً نؤكد ميزة مهمة للكتاب هي أن موضوعاته تراوحت ما بين الإطار النظري للهُويَّة والمواطنة والإطار التجريبي التطبيقي وتمثلت بالحوارات والنقاشات، وهذه من إيجابيات وأطروحات الكتاب.

إن مناقشة مسألة الهُويَّة تستلزم أساسًا الالتزام بالإطار العلمي للبحث حيث إن تلك المسألة مرتبطة ومحاطة وبشدة بـ «أفكار ثقافوية مُسبقة» كما يقول الباحث الفرنسي رينيه عُتيق في كتابه حول الهُويَّة والديمقراطية التي من الممكن أن تؤدي إلى صراعات الهُويَّة. ومع ذلك فإن النقاش العلمي بصدد الهُويَّة ينوء تحت افتراضات أكثر من أن يكون النقاش في إطار الحقائق. هذه المسألة أخذها شعبان في الحسبان وحاول أن يخرج من إطار الافتراضات ويناقش موضوع الهُويَّة في حقل الميدان العلمي أو ميدان الحقائق. لذلك ينطلق من مسألة التعددية الثقافية ويؤكد أن التجانس ليس شرطًا مسبقًا في هذا المجال، ويؤكد عدم وجود أمة أُحادية الثقافة. وفي هذا التوجه، ينطلق شعبان من سؤال مهم طرحه: هل يمكن الحديث عن هُويَّة ثابتة أو متكاملة أو من دون تغيير؟

أولًا: في الهُويَّة وأزمتها

بدأ الاهتمام بموضوع الهُويَّة والمواطنة في علم السياسة وعلم الاجتماع والفلسفة بصورة مُرّكَزة بعد انهيار الأنظمة الشمولية (هنتنغتون يؤكد في كتابه من نحن؟ أن نهاية الحرب الباردة والشيوعية السوفياتية كنظام اقتصادي سياسي قابل للنمو كان من الأسباب المهمة لبروز مسألة الاهتمام بالهُويَّة وأزمتها)، حيث انفجرت الهُويَّات الفرعية المهدِّدة للهُويَّة العامة المشتركة ولمفهوم المواطنة، وبالتالي شكّلت خطرًا جديًا لكيان الدولة، لإنها عبّرت عن نفسها في المطالبة بالاعتراف السياسي، كما يؤكد هنتنغتون.

ومنذ وقت مبكر تصدّى عبد الحسين شعبان لدراسة هذه الظاهرة الجديدة بما لها من إشكالات وامتدادات وتعقيدات على جميع مناحي التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والجيوستراتيجي. ففي مقدمته للطبعة الجديدة لكتابه هذا (الهُويَّة والمواطنة) يوضح بأنه انشغل بموضوع الهُويَّة والمواطنة منذ نحو 3 عقود من الزمان، ولا سيّما حين تناول موضوع «الجنسية واللاجنسية في القانونين العراقي والدولي» في كتابه من هو العراقي (2002) وجدل الهويّات في العراق – المواطنة والدولة الذي صدر في عام 2009، إضافة إلى الطبعة الأولى من الكتاب الذي نحن بصدده (2017 – مركز دراسات الوحدة العربية) وذلك في إطار جامع ومترابط بين الهُويَّة والمواطنة. فإضافة إلى الجوانب الفكرية والنظرية، فقد عالج الموضوعين بطائفة متنوّعة من المقالات، تعَدّ إضافة مهمة وعملية لا غنى عنها لتحليل الظاهرة من جميع جوانبها. وقد كان انفجار موضوع الهُويات قد أدى إلى تغيير في كثير من المسلّمات والفرضيات المتعلقة بالنظرة السابقة، الأمر الذي تطلّب إعادة النظر فيها فرديًا وجماعيًا وعلى الصعيدين الخاص والعام.

رافقت هذه الظاهرة مسائل خطيرة تتعلق بالتعصّب والانحياز الطائفي والتطرّف الأيديولوجي، بحيث وصل الأمر إلى حد العنف وتبرير استخدام القوة في فرض هُويَّة معيَّنة على هُويَّات أخرى، وصولًا إلى الإرهاب، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الدَولي، وهو ما سيؤثر في الانتماء الوطني وفي علاقة الفرد بالدولة. وهنا مكمن الخطورة التي تستوجب الحذر والحيطة. وتجربة القاعدة وداعش، ناهيكم بتوجهات وممارسات عنصرية متنوّعة وفي العديد من البلدان خير دليل على ذلك.

لذلك كان موضوع الهُوية الوطنية ولا يـزال يمثـل إحـدى المسـائل التي أثارت – ولا تزال تثير – الكثير من الجدل والمناقشات الحادة والعميقة، لكونه يؤدي إلى جملـــة من الإشـــكاليات الفكرية والسياســـية والاجتماعيـة والاقتصـادية فـي معظـم الـدول والمجتمعـات الانتقالية المضـطربة، وخصوصًا تلـك الـتي تعيـش أوضـاعًا غير مستقرة بسبب التنوّع القــومي والمــذهبي والــديني والعشــائري، وعدم التوصل إلى تفاهمات لإدارته بصورة سليمة.

ينطلق شعبان في معالجة موضوع الهُوية والمواطنة من الإنسان ولمصلحته، حيث إن الإنسان هو المقياس لكل الأشياء: الكائنة والتي تكون، وغير الكائنة والتي لا تكون (بروتاغورس، 485 ق.م. – 410 ق.م.)، ولذلك يدعو إلى البحث عن المشتركات الإنسانية التي تربط بين ثقافة المجال العام المشترك (بالمفهوم الهابرماسي) وبين ثقافة المجال الخاص.

والسؤال كيف يحصل هذا، وكيف يمكن للفرد أن يحافظ على هُويّته الخاصة ويتفاعل مع الهُويّة العامة المشتركة، وكيف يمكن للمواطن أن يشعر بمواطنيته على الرغم من أنه يحتفظ بالانتماء إلى مجال فرعي ضيق؟ ذلك يعتمد على إدارة التنوّع والحلول التي يمكن التوصل بقناعات جميع الأطراف.

إن ذلك هو الهدف الجوهري الذي يطرحه شعبان في مقاربة مع تشارلز تايلر الذي يرى أن الناس يعرفون هُويَّتهم جزئيًا بالتزام أخلاقي أو روحي، وتلك «أزمة هُويَّة» ولا سيّما العجز عن معرفة الهُويَّة الذاتية، حيث على المرء أن يكون مخلصًا لها، ولكن يمكن أن يفشل في دعمها أو التعبير عنها، وعند الوجوب يمكن أن يتنازل عنها، وهنا تؤدي العوامل السياسية وطبيعة النظام السياسي دورها في بلورة وتعزيز الهويّة الوطنية أو إضعافها أو تغييبها لمصلحة هويّات فرعية، سواء كانت قومية أو دينية أو مذهبية أو مناطقية.

في رأي هنتنغتون، إن الأسباب العامة لأزمة الهُويَّة تتجلى في النقاط الآتية: ظهور اقتصاد عالمي، تحسينات هائلة في الاتصالات والنقل، ارتفاع مستويات الهِجرة، التوسع العالمي للديمقراطية، انتهاء الحرب الباردة وانحلال النظام الشيوعي السوفياتي.

وعندما نربط بين رأيَيْ تايلر وهنتنغتون نلاحظ أن شعبان قد انطلق منهما في تبيان أسباب أزمة الهُويَّة حيث كتب: «ومنذ انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات بدأت قضايا الحق في الاختلاف والهُويَّة والتسامح والمواطنة تظهر على خارطة السياسة الدولية ارتباطًا بحقوق الإنسان، وارتفع رصيد فكرة المساواة في الحقوق، وبين الهُويَّات صغيرها وكبيرها، على أساس احترام الخصوصيات، وهكذا بدأت ملامح جديدة داخل المجتمعات الأوروبية والغربية تبرز بحكم وجود مشكلات قائمة…»

فإذًا كان شعبان دقيقًا جدًا في تحديد أسباب أزمة الهُويَّة التي بدأت تعصف بالمجتمعات وبدأت بفعل التحديث، كما يقول هنتنغتون، الهُويَّات الفرعية، الثقافية، المحلية تتقدم على الهُويَّات الوطنية الأكثر اتساعًا، وينتبه شعبان إلى مسألة التضاد ما بين الهُويَّات الكبرى الواسعة والهُويَّات الصغرى الثانوية حيث يؤكد أن الأزمات تولد الانتماءات الضيقة وتقدّمها على الانتماءات الواسعة، والهُويَّات الجزئية على الهُويَّات العامة أو الكلية.

وعليه فإن الهُويَّة بحد ذاتها مشكلة تدور حولها صراعات، حيث «تقع الهُويَّة في قلب الصراع الهادف إلى صوغ تعريف نهائي للإنسان» حسب عبد الغني عماد، فقد كان سؤال الهُويَّة وبالتالي الثقافة والمعرفة فلسفيًا بالأساس، محط انشغال لعدد من المفكرين والباحثين منذ بدء التفكير بالذات والجوهر والماهية والكينونة… ونشأت حولها مدارس واتجاهات ومناهج للنظر والتحليل، ومع ذلك بقينا على هامش تلك المناظرات، نكتفي بالقليل الذي يصل إلينا… لم ننتبه إلى أن المكتبة العربية تكاد تكون خاوية إلّا من  بعض المؤلفات… التي اكتفت في الغالب، بالعرض دون التحليل والنقد… ودون أي ربط أو تشبيك معرفي أو تكييف فكري لها مع البيئة الثقافية العربية التي كانت ولا تزال بأمسِّ الحاجة إلى البحث النظري والأكاديمي الهادئ والعقلاني في مسائل وإشكاليات الهٌوية وأبعادها المختلفة.

يحدد عالم السياسة الأمريكي الشهير لوشيان باي الأزمات السياسية المواجهة للنظام السياسي بكونها تتكوّن من عِدة أزمات، أهمها أزمة الهُويَّة. وعليه، فإن الهُويَّة كمفهوم وكواقع تُناقش وتُحلل ليس فقط على الصعيد الفلسفي فحسب، بل كذلك على الصعيد الواقعي كظاهرة تبرز خلال التطورات السياسية في بلد ما وتُطرح (وعلى الأخص في البلدان الأقل نموًا) بكونها تُشكل أزمة تحيط بالنظام السياسي (أي الدولة عمومًا) ويجب معالجتها.

أخذ عبد الحسين شعبان هذه المهمة الصعبة والمعقدة على عاتقه عندما طرح رؤية جديدة ومهمة تتمثل بقوله إن «المفاهيم الحديثة التي جرى الاعتقاد أنها العلاج الشافي لمسألة انبعاث هوّيَّة عصرية جديدة، أساسها الديمقراطية، فإن هذه القيم لوحدها غير جديرة ببناء هُويّة موحّدة»، إذن لبناء «هُويَّة موحدة» فإننا بحاجة إلى استنهاض القيم التاريخية والثقافية المشتركة والذاكرة الجماعية العابرة للأيديولوجيات والطوائف والقوميات والإثنيات واللغات، سواء على المستوى الجمعي أو على المستوى الفردي، فللفرد مثلما للمجموعة أكثر من هوّية…»، يحددها بكونها «هُويَّة مُركبَة»، تلك التي ترتبط بالوطن ولكنها في الوقت نفسه مرتبطة باعتبارات فردية محلية تتفاعل فيها عوامل متعددة قومية ودينية ولغوية وسلالية واجتماعية وثقافية وتاريخية وغيرها.

ويجب أن تكون الهُويّة «مفتوحة تتطور مع تطور الزمن» وتحتاج إلى عملية بناء مشتركات من بين الهُويّات الفرعية التي قد تسيطر عليها «ردود فعل دفاعية» ضد التسيّد أو الهيمنة أو رفض الاستتباع وقد تندفع مرغمة على الانعزال، سواء على المستوى الفردي أم على «المستوى الجماعي»، ولكنها في الوقت نفسه قد تكون مدفوعة نحو التفاعل مع الهُويَّات المحلية الآخرى للبحث «عن تكافؤ الفرص لمواطنة متساوية ومتكافئة».

ولكن ليـس بمقـدور الهُويـّات الفرعيـة فـي مثـل هـذه المجتمعـات بنـاء هُويـَّة وطنية، لأن مجال عملها واهتمامها يـدور ويتفاعل فقط في الميدان الاجتمـاعي الضيق وليـس في الميدان الواسع: الميدان السياسي أي الدولة في الأساس، التي جوهرها هو الوطنية الشاملة متجاوزة الجزئيات الفرعية. وحسب تعبيره: الهُويَّة أرخبيل مفتوح وليس بركة مغلقة، أي أنها قابلة للإضافة والحذف والتطوير والتغيير، وليست جامدة أو سرمدية.

إن الثقافة الفرعيـة أو الولاءات الجزئية لا تسـتطيع بنـاء المواطنـة لكونهـا ضـيقة ومحصـورة ضـمن ميدان فئتهـا الاجتماعيـة الـتي تمثّلهـا وتقيـد خيـارات الفـرد وتؤسس أحزابـًا تعكس تلك الثقافة أو الولاء الضيق.

هنا يحاول شعبان الجمع ما بين الهُويَّة والمواطنة حيث يكتب: «وقد حاولت معالجة موضوع «الهُويَّة والمواطنة» من زوايا مختلفة، سواءٌ هُويّة الجماعة الثقافية أم هُويّة الفرد الثقافية آخذًا بنظر الاعتبار التحوّلات والتغييرات التي شهدتها هُويّة الجماعة أو الفرد كجزء من صيرورة تاريخية دينامية متعدّدة ومتنوّعة ومفتوحة وقابلة للإضافة والحذف بما يتناسب مع درجة التطور في كل مجتمع وكل مجموعة بشرية وكل فرد، بلحاظ القواعد القانونية العامة في الدولة العصرية، تلك التي تتيح الإمكانات لمواطنة سليمة ومتكافئة».

ثانيًا: المواطنة

حين يبحث شعبان في مفهوم المواطنة، فلأنه شاع استعماله في علم السياسة وعلم القانون وغيرها للدلالة على ضرورة ضمان حقوق الأفراد والجماعات وتحديد واجباتهم، ولكن لم يُعطَ لها توضيح أو تفسير واضح. فإنه يعالج ذلك بتقديم ضروري في محاولة لسد النقص بتحديد مفهوم المواطنة بكونه يتعلق بـ «مسألة سلوكية تعني كل فرد من أفراد المجتمع وهي تتألف من اتحاد مواطنين، وكل مواطن له حقوق وعليه واجبات، وهذا الفهم يختلف عن «الرعايا» أو «التابعين»، أي أن الأخيرين ملحقان في حين أن الأول يعد مصدر السلطة إذا ما جمعنا المواطنين إلى بعضهم وهو ما يتم التعبير عنه بالصياغات الدستورية «الشعب مصدر السلطات».

إن هذا يعني أن المواطنة تعتمد على وجود قناعة فكرية وقبول نفسي والتزام سياسي بها وبالتالي تصبح المواطنة بمنزلة قيمة اجتماعية، وقد ذهب عامر حسن فياض إلى ذلك حين قال: لا يمكن الحديث عن المواطنة من دون شروطها الموضوعية وهي: الدولة، المجتمع المدني، المؤسسات، الفردية، وهذا يصبح وهمًا، بما يتطابق مع ما طرحه شعبان عندما أكد أن «المواطن أي مواطن مَعنيُ بثلاث قضايا: علاقته بالدولة كيف تؤطر، ثم مشاركته في اتخاذ القرار، أي وفق أي صيغة دستورية، وأخيرًا مسؤوليته كعضو فاعل في المجتمع ودوره في المشاركة الحيوية، باعتبار أن كل ما يدور في الدولة والمجتمع أمور تعنيه. وتتكوّن هويّة المواطنين من السمات المشتركة…»

عند ربطه ما بين الهُوية والمواطنة يحاول شعبان أن يؤسس أفكاره في إطار دولة المواطنة، ولذلك يقول: «المواطنة التي تقوم على مرتكزات أساسية قوامها: الحرية والمساواة والعدالة، ولا سيّما الاجتماعية والشراكة والمشاركة في الوطن، لا يمكن أن تعتمد على التلقين أو تمرّ من قنوات أيديولوجية أو تخضع لتقسيمات دينية أو طائفية، بل تحتاج إلى ممارسة حقوقية وحوار مستمر قطاعي ومجتمعي وقواعد قانونية تحمي المواطن الفرد مثلما تحمي حقوق المجموعات الثقافية وهُويَّاتها الفرعية ذات الخصوصية التي ينبغي احترامها».

هذه الأُسس (الحرية والمساواة والعدالة) لا تتوافر إلا في دولة تحترم الحقوق والحريات وهي دولة المواطنة، أي دولة القانون أو دولة الحق، أو حسب التعبير الألماني: Rechtstaat.

إن هذه الدولة هي تلك الدولة التي فيها تتطابق وتتداخل فكرتا الحق والواجب، وهذه الفكرة طرحها الفيلسوف الألماني هيغل في كتابه فلسفة الحق وكتب: «كيف ما كانت الطريقة التي يحقق بها الفرد واجبه فإنه لا بد في الوقت نفسه أن يجد فيها منفعته وأن يبلغ بواسطتها إشباعه ومصلحته الشخصية، فلا بد أن ينشأ حق – من خلال وضع الفرد في الدولة – تتحول بواسطته الشؤون العامة لتصبح شؤونه الخاصة. وبمقدار ما يحقق (الفرد) واجباته تحقيقًا كاملًا بإنجازه للمهام والخدمات التي تتطلبها الدولة، فإن وجوده يتدعم ويبقى، أما إذا ما أخذ الواجب على نحو مجرد فإن المصلحة العامة سوف تعتمد على إتمام المهام والخدمات التي تنتزعها بوصفها واجبات فحسب».

حينما ينقل شعبان هذه الفكرة إلى التطبيق العراقي، يجد أن هناك ظاهرة ضعف ثقافة المواطنة وخصوصًا في الناحية القانونية، وأنه وحسب تقسيمات الاحتلال لا توجد أغلبية في العراق، بل الجميع موجودون في خانة الأقليات، وهذا الوضع أدى إلى حالة الصراع في النصوص الدستورية في دستور جمهورية العراق 2005. وعليه، لمعالجة الموضوع يرى شعبان أن المواطنة ليست مجرد إجراء الانتخابات أو فسح المجال لحرية الرأي والتعبير… بل إن الشرط الجوهري هو تثبيت أركان الدولة وهيبتها، ويعدّ هذا مقدمة ضرورية لهُويَّة مشتركة أساسها الوطنية والمواطنة والبعد الإنساني، ولا سيما في احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية واحترام الخيار الديمقراطي.

ثالثًا: مسألة الهُويَّة والمواطنة في العراق

أبدع شعبان في تحليله لمسألة الهُويَّة والمواطنة في العراق عندما أوضح أن الانتماء في وطننا العربي له أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية وهو يبقى مسألة معقّدة وشائكة أحيانًا، وأنه إذا أخضعنا الوضع العراقي للمقاييس الخاصة بتلك الأبعاد لوجدنا أن الانتماء يتراوح بين الانتماء إلى الوطن والأرض وبين الانتماء إلى العشيرة والنسب (إضافة إلى الانتماء إلى القومية والطائفة)، بحيث تتقدم الأخيرة على الأولى، في غياب الدولة وضعف مؤسساتها وقدرتها على فرض النظام العام وحكم القانون. ويحدث الأمر في ظل الأزمات وتراجع مرجعية الدولة وانكفائها.

أمام مشاكل من هذا النوع، طرح هنتنغتون الفكرة التالية: «ومع هذا، فإن بعض المجتمعات، التي تواجه تحديات خطيرة لوجودها، قادرة على تأجيل فنائها وإيقاف تفسخها، بتجديد إحساسها بالهُويَّة الوطنية وهدفها الوطني، وقيمها الثقافية المشتركة».

فهل حقق العراق مثل هذا التجديد في الإحساس بالهُويَّة الوطنية والهدف الوطني والقيم الثقافية المشتركة؟

طرح شعبان هذه المسألة في كتابه: من هو العراقي؟ (2002) وجدد الرأي في الكتاب الذي نستعرضه، حيث تساءل: ما هي هُويَّة العراقي وما هو المشترك الإنساني الذي يجمع المواطنين العراقيين بمختلف انتماءاتهم؟ يجيب شعبان أن ثمة هُويَّة عراقية لها ملامحها تمثّل قاسمًا مشتركًا للفسيفساء العراقية وللموزاييك العراقي، الذي يمكن أن يتعزّز ويتعمّق بالمواطنة الكاملة والمساواة التامة واحترام حقوق الإنسان، وجعل الولاء الأول والأخير للوطن والشعب، عبورًا على الطوائف والأديان والإثنيات، مع تأكيد احترامها وخصوصياتها، كهُويَّات فرعية، في إطار الهُويَّة الوطنية.

هذه الرؤية العميقة لمسألة الهُويَّة الوطنية في العراق التي طرحها المفكر شعبان تستوجب الانتباه لها في الخطوات الإجرائية للسلطات العراقية لبناء الإحساس بتلك الهُويَّة وترسيخ القيم الثقافية المشتركة للعراقيين وقبل أن تصبح مسألة الهُويَّة جحيمًا، حسب تعبير شعبان.

رابعًا: الهُويَّة والتعددية الثقافية والعولمة

كانت السنوات الأخيرة من القرن العشرين حاسمة حيث شهدت تحولات بنيوية في السياسة الدولية وتغيير طبيعة النظام العالمي. فقد شهد العالم أُفول نظام الثنائية القطبية وبروز قوى عظمى وحيدة، حسب تحليل هنتنغتون، وهي الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت بدعم وتشجيع ظاهرة العولمة للتوغل في داخل بيئة الدول والمجتمعات لأجل فرض الهيمنة الأمريكية. وهكذا بدأت ظاهرة الهُويَّة الوطنية تبرز كرد فعل لها كدليل على اختلافات في الثقافة الإنسانية وبالتالي نشوء الهُويَّة الثقافية الخاصة بمجموعة معينة. وقد وصف الأنثروبولوجي شتراوس توجه العالم نحو ثقافة واحدة بأنه «شيء مزعج». إذًا، في ظل العولمة تبرز ظاهرة «مثاقفة قسرية» تراعي مصلحة مجموعة واحدة وتخلق لدى المجموعات الأخرى شعورًا قلقًا بأن هُويتها أصبحت مهددة بالتلاشي. وهكذا فإن ترسيخ «ثقافة واحدة» يعني اختراق مكونات الثقافة الأساسية لشعب ما ومحاولة اجتثاث تلك الثقافة. هذا الوضع أدى إلى مزيد من التشبث بالهُويَّة والخوف من ضياعها وذوبانها.

في مواجهة هذه الأخطار، يدافع شعبان عن الهُويات الخاصة ويكتب: «لا يمكن الحديث عن هُويَّة كبرى وهُويَّة صغرى، … هُويّة أغلبية وهُويّة أقلية، …، لأن ذلك سيعني هُويَّة خارج إطارها الإنساني، وستكون محاولة أي هُويَّة للتسيّد منطلقة من ثقافة لاإنسانية، وهذه ستؤدي بالضرورة إلى التصادم مع الآخر، وفرض الهيمنة عليه، يقابلها ردّ فعل ورفض، وقد يؤدي ذلك أيضًا إلى الانكماش والانكفاء». ولذلك يدعو شعبان إلى الهُويَّة المفتوحة لأنها ترفض الصهر والتبعية وترفض الهيمنة والتسيّد، وبالتالي رفض العولمة التي تسعى لفرض ثقافة الأقوى، التي يصفها عالم الاجتماع غيدنز بأنها «الإمبريالية الثقافية».

هنا يتم الحديث عن التعددية الثقافية كمخرج من هذه الإشكالية، ولكن هذه التعدّدية ليست بمسألة لا نقاش عليها، حسب رؤية عُتيق، ولا تحظى بالإجماع. ومن خلال النقاشات حولها يبرز اتجاهان هما:

(1) اتجاه يتبنى الإدماج والاستيعاب واعتبار التعدّدية الثقافية بمثابة «بوتقة» تذوب فيها كل الهُويَّات الأصلية، (2) الاتجاه المدافع عن هوية تذوب فيها كل الهُويَّات الأصلية، أي الاتجاه المدافع عن إلغاء الحواجز المتعلقة بالهُويَّة لمصلحة حرية الفرد في اختيار هُويَّة رمزية خاصة به. في خضم هذا النقاش يؤكد شعبان أن الثقافة هي متعددة المشارب والتوجهات بفعل تعدّد الهُويَّات، وهذا يقودنا إلى مفهوم التعدّدية الثقافية حيث يتساءل شعبان هل أن ظاهرة التعدّدية الثقافية جديدة على المجتمعات أم أنها قديمة؟ وهل لا تزال هذه التعدّدية محتفظة برصيدها السابق في الغرب أم طرأت عليها تغيّرات بنيوية؟

تأريخيًا، يؤكد شعبان أن التعدّدية الثقافية كفكرة تمتد إلى حقبٍ قديمة وتطورت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية لكي تأخذ بُعدًا أيديولوجيًا وسياسيًا إضافة إلى البعد القانوني وصدرت العديد من المواثيق والإعلانات ومن ضمنها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. ولكن كل هذا لم يرتقِ، كما يقول شعبان، إلى مفهوم التعدّدية الثقافية التي تستند إليها الدول العصرية والمبادئ الدستورية والمواطنة المتساوية. هذه التعدّدية كانت إلى وقت قريب ظاهرة مقبولة من حيث إقرار التنوع في الأديان والأعراق والثقافات، الذي أدى في النهاية إلى هجرة واسعة من المستعمرات القديمة ومن المجتمعات المتخلفة الاستبدادية. وعملت تلك الدول العصرية إلى اتباع سياسة الإدماج وتكونت، كما يرى شعبان، تعدّدية ثقافية جديدة، ولكن في الوقت نفسه اتبعت بعض الدول (منها فرنسا) سياسة صهر المهاجرين. لذلك يستنتج شعبان أن الديمقراطيات الغربية هي الآن أمام مفترق الطرق، إما احترام الخصوصيات والهُويَّات الفرعية، وإما العمل على الصهر والدمج. الباحثة السوسيولوجية الفرنسية دومينيك شنابر (وهي ابنة المفكر الفرنسي ريمون آرون) في كتابها مجتمع المواطنين: حول فكرة الأمة الحديثة (1994) ترفض فكرة التعدّدية باسم أهلية وكفاءة ومقدرة دولة القانون الديمقراطية الجمهورية لأنها تسمح بالتعبير عن وتنظيم الخصوصيات في الحياة الخاصة في المجتمع، ولكن بشرط أن لا تتحول تلك الخصوصيات إلى «هُويَّة سياسية خاصة مُعترف بها على هذا الأساس في الحياة العامة. وفي رأي الباحثة الفرنسية لوريسير أن سياسة الاندماج هي «تركيبة مستحيلة»، كون الانتماء إلى الأمة يتطلب «تدمير الأنظمة الأنثروبولوجية» للهُويَّات الخاصة. وفي هذا التوجه يجب الرجوع إلى رأي المفكر الفرنسي رينان المختص بمسائل القومية الذي يتكلم على «النسيان التاريخي كعامل أساسي في بناء الأمة»، وأن جوهر الأمة يكمن في وجود أشياء كثيرة مشتركة وفي الوقت نفسه على الجميع نسيان أشياء كثيرة.

أمام هذه الإشكاليات الجدّية والحساسة يدعو شعبان إلى معالجة هذا الواقع من طريق «تسيير التعدّد وإدارة الاختلاف والتنوع للجماعات الإثنية والثقافية وتقنين الأسس والقواعد الناظمة للعلاقات، بإقرار حق كل جماعة في التعبير الحر وواجب الدولة حماية وتنمية وتطوير هذا الختلاف والتنوّع…» ويضيف: «ولعل عدم الاعتراف بحقوق المجموعات الثقافية سيكون فادحًا، بارتفاع منسوب اللجوء والهجرة… وهذا سيضع مسألة التعدّدية الثقافية في الميزان على نحو جديد».

في الختام، يُعَد هذا الكتاب مدخلًا أساسيًا لفهم إشكاليات الهُويَّة والمواطنة ويثير في الوقت نفسه مجموعة من التساؤلات حول تلك الإشكاليات وكيفية وضع حلول واقعية تؤدي إلى خلق شروط موضوعية لتأسيس هُويَّة وطنية مشتركة شاملة تمثل الهدف المركزي للكتاب.

جدير بالقول إن هذا الكتاب أصبح منذ صدوره مصدرًا مهمًا وأساسيًا لكل من يريد البحث عن الهُوية والمواطنة وإشكاليتهما، وهذا يستدعي الرجوع إليه كمرشد أساسي في موضوع شائك ومعقدٍ، وخصوصًا أن الباحث يتناوله من زواياه المختلفة، وامتاز أسلوبه بالسلاسة وجمال اللغة. إنه كتاب يحتاج إليه الباحث المتخصص والناشط المدني والقارئ بوجه عام، لأنه إضافة مهمة إلى المكتبة والثقافة العربية.