المؤلف: حسن مسكين

مراجعة: عبد الهادي أعراب

الناشر: مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت

سنة النشر: 2017

عدد الصفحات: 128

مقدمة

يقع المؤلف في 125 صفحة مقسمة إلى فصلين، تتصدرهما مقدمة، وينتهيان بخاتمة.
يعرض الفصل الأول، «النخب العربية والإسلامية وأسئلة الحرية والديمقراطية» لقضايا كثيرة تتعلق رأساً بالديمقراطية مثلما يتم فهمها بين الإسلاميين والحداثيين، مبرزاً أهم الانحرافات التي شابت تأويل هذا المفهوم المطّاط. منتقـلاً إلى «الحرية» كمطلب أساسي، مبيّناً التعارض القائم بين الدولة «الدينية» والدولة «المدنية»؛ ليحضر بعدها مفهوم «العلمانية» التي لا تفهم عادة بعيداً من الديني. يطرح الباحث، غير مكتفٍ بالتشخيص، ممكنات الخروج من هذا المأزق، لتحقيق المشروع الديمقراطي والتحديثي، فهل الأمر موقوف على بروز نخب جديدة للحاجة الماسة إليها؟ أم على الدخول إلى مستوى من التوافق فيما بين النخب، التقليدية منها والحداثية؟
الفصل الثاني «المثقف والسلطة، إدوارد سعيد ناظراً ومنظوراً»: وفيه يطرح علاقة الثقافة بالسلطة، حدّاً وتقاطعاً، متوقفاً عند منطق ومرجعيات كل منها. منتقـلاً إلى صلة المثقف بالحزب السياسي وبالطبقة الاجتماعية وعلاقته بقول الحقيقة، منتهياً إلى مناقشة قضايا فلسفية، من قبيل المثقف والمنفى، كتجربة ذاتية تحمل من الألم والغربة والحرية ما تحمله، مبيِّناً أن واحدة من الأثمنة التي قد يدفعها المثقف نفيه وإبعاده، على أن المنفى الحقيقي أو المجازي، قد يتحول إلى مساحة أثيرة للإنتاج والعطاء، مثلما تتحول الكتابة نفسها إلى وطن جديد.
ويختم الباحث بتساؤلات كبرى تفتح أبواب التأمل في واقع الثقافة والمثقفين العرب في أوطانهم، ومصيرهم في سياق الشروط الاجتماعية الاقتصادية والسياسية القائمة.

أولاً: الإشكالية المركزية للمؤلف

يدور مدار الكتاب على النخب العربية والإسلامية، ودورها في التنوير والتنمية، في غير انفصال عن الديمقراطية والتحديث. والسؤال: لماذا أخفقت النخب العربية والإسلامية في تأسيس مشروع للديمقراطية والتحديث؟ ولئن هو غلّب فكرة الديمقراطية، فلأنها في نظره جوهر إقامة المشروع المتكامل بعد الحرية والدولة والدين والسلطة والثقافة والمعرفة والمواطنة… إلخ.
يتساءل تحديداً حول طرائق تدبير النخب لمسؤولياتها حول القضايا المصيرية، منطلقاً من أنها مسؤولة بمقدار، عن الأوضاع الراهنة ما دامت معنية بشكل أساسي بالمشكلات الكبرى: الحريات، العدالة، الديمقراطية، الحكم، الدين، التعليم والهوية، التنوع الثقافي… إلخ. ومن ثم يتساءل عن مسارات ومآلات النخب، مثيراً قضية «صمت المثقفين» أو «موت المثقفين»، ومستعيداً السؤال: ما علاقة المثقف بالسلطة السياسية وما مسافته منها؟ أما زال قادراً على توجيه الرأي العام أم تنافسه قوى أخرى؟ ماذا عن الالتزام والنضال الثقافي؟ أمِنَ الممكن في عالم اليوم الحديث عن المثقف الملتزم والمثقف المناضل؟

ثانياً: المنهج المعتمد

بالعودة إلى المتون التي تعامل معها الباحث في مؤلفه، نجد أنها من التنوع والتعدد بما يجعلها تنفلت من بين الأصابع، نصوص كثيفة بين الاستشراق والفلسفة والنقد الفكري والسياسة والتاريخ والتراث، سواء عبر مؤلفات أصيلة أو أخرى وسيطة وثالثة تتعلق بمعاجم ومقالات فكرية.
منهجياً ألزمه هذا المتن المتعدد بحيل الانتقاء، فانتقى ما يناسب الفكرة الرئيسية التي دافع عنها، وهذا حقه المنهجي في التخلص من الكم الهائل للقضايا المطروحة. لن نطلب منه أن يعمل عمل الموثق، لأنه تخصص قائم بذاته، كما لن نطلب منه أن يؤرخ للقضايا المعروضة، لأنها ليست منتهى عمله. ولئن هو اكتفى بالتفاعل مع كبرى القضايا المتصلة بالنخبة والمثقف والسلطة، فقد وُفّق في خوض مغامرة دقيقة لا تخلو من صعوبة.
وُفِّق أيضاً في طرح الأسئلة الحارقة حول أوضاع المجتمعات العربية والإسلامية، بتنوعها وتعدديتها، فلم يقف عند نموذج، ولم يقصر بحثه على مجتمع بعينه، بل آثر أن يتحدث عن التقاطعات والنقاط المشتركة الكبرى والمصيرية للمثقف والنخب.
هكذا يحمل المؤلف أبعاداً تشخيصية قوية، لكونه سلط الأضواء على الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية للأعطاب الكبرى للمجتمعات العربية والإسلامية، ومنها العجز عن تنزيل الديمقراطية وتمثلها على نحو صحيح. فانحازت لغته قصداً إلى صنف التعابير الأدبية سواء في العناوين أو في صوغ الفقرات والخلاصات؛ فبعد الذات قوي في المؤلف، يعكس انتماء صاحبه إلى حقل «الأدب»، دفعه إلى التصريح بمواقف وتصريف مجموعة من الآراء في بعد مباشر، يشي بقدر مهم من تفاعل صاحبها مع القضايا المطروحة.
زاوج المؤلف أيضاً بين البعد النقدي بالكشف عن انحرافات فهم الديمقراطية، وانتهازية بعض المثقفين الانتهازية، وبين طرح البدائل الممكنة. فلم يكتفِ بتوزيع الانتقادات، بل سعى إلى طرح بدائل منها مراجعة مفهوم الديمقراطية وتوافق النخب وتجديد الخطاب الديني والابتعاد من المسكّنات والأجوبة المؤقتة والوصول إلى الرشد السياسي والوعي بشروط التحديث.
وفي عرض الرؤى والطروحات المتقابلة تغيّا قدراً من التوازن؛ فلم ينجرّ وراء طرح دون آخر أو إجابة فكرية دون أخرى، وخصوصاً في مسألة سوء التأويل لمفهوم الديمقراطية والعلمانية والحرية. ولعل حرصه على الموازنة في المواقف، دفعه إلى القول بالتوافق كمفهوم يضمن للأطراف المتنازعة فكرياً، الوقوف عند نقطة تلاقٍ يمكن التوافق عليها.

ثالثاً: مناقشة وتقييم

1 – أشاد الباحث بأهمية الديمقراطية والرهان عليها، لكنه انتقد استعمالاتها وتحويلها إلى صنم، متحدثاً عن «الأصولية الديمقراطية» و«أمراض الديمقراطية». وهنا نتفق معه، لأنه ثمة فاصل ما بين الديمقراطية كأداة وبين روحها، بوصفه فلسفة وقيمة تتجاوز الآليات التي تخضع لحركة التاريخ. ونختلف معه في أن الديموقراطية متضمنة في الإسلام، مستعيداً الطرح الذي يصر على هذا الامتداد التأصيلي كجزء من النزعة التأصيلية لمجموعة من المفاهيم الغربية. فمن الممكن وجود قيم ديمقراطية، كالعدل والإنصاف والمساواة، لكن الآليات الديمقراطية ومنطقها ومساراتها وتعديلاتها المفتوحة، لا يمكن بأي حال عدّها مؤصلة في التعاليم الإسلامية. فهل الديمقراطية – كما أكد الريسوني مثـلاً – تنزيل وتنظيم لمبدأ «الشورى» الإسلامي؟ ثم كيف يمكن ترشيدها، كما رأى بذلك «حسن الترابي» ولا سيّما أن الترشيد الذي يطرحه له معنى الحد منها أي «عقلها وربطها»؟ كيف يمكن ترشيد الديمقراطية في مجتمعات تعاني التخلف والأمية والجهل؟ هل سنرشّدها بما نسبغه عليها من خصوصيات لنكتفي بما يسميه البعض ديمقراطياتنا «الخاصة»؟
2 – أتفق مع ما ذهب إليه الباحث من ضرورة التجديد الديني وتجديد الاجتهاد، بعيداً من الأجوبة التلفيقية والمسكّنات المؤقتة، لأن السؤال الراهن هو كيف يمكننا تطوير فرص استفادتنا من العصر وروحه، وليس الاقتصار فقط على تكريس ثنائيات تعيد إنتاج حيرتنا ومراوحتنا لذواتنا؟ فالحاجة ماسة إلى نخب قادرة ومؤهلة أيضاً لطرح بدائل ممكنة بعيداً من أنصاف الحلول.
3 – انتقد المؤلف الحداثيين والإسلاميين، مبيناً أن كـلاً منهما أخفق في بناء مشروع ثقافي وسياسي قوي، لكن نقده كان أقوى لليسار الحداثي، مقارنة بالإسلاميين. بدليل أنه أكد أكثر من مرة تطور المواقف لدى هؤلاء، في مقابل ثبات وجمود أفكار الحداثيين. فهل سنعدّ تغير مواقف الإسلاميين، حقاً تطوراً أم براغماتية واستراتيجية للوصول إلى أهداف أخرى؟
إن دعوة الأحزاب الإسلامية «الحاكمة» أو المشاركة في الحكم، إلى الموازنة بين حريات الأفراد والحريات العامة، لا تمثل ثابتاً في مواقفهم، بل مجرد استراتيجية، بدليل تهديد بعضهم باستمرار بالعودة إلى الشارع وما قبل 20 شباط/فبراير. المسألة إذاً هي في تمييز المنطقين، لا في الحكم أو تقييم مواقف معزولة، لأن الإسلاموية عموماً لا تستسيغ عقلنة مساحة الدين في الدولة ولا تتجاوز عن ضبط الحريات باسم الأحكام الشرعية، وهذا يجعلها على طرف نقيض مع القول بضرورة تقليص سلطة الدين داخل الدولة المدنية. فولاؤها ليس للوطن وللمواطنة، بل للجماعة وللأمة، وهو ما يعد ضرباً لمفهوم الدولة وتهديداً لتعاقداتها.
4 – حول الدين والعلمانية، نؤكد أن موقعها في المجتمعات العربية والإسلامية، محفوف بالالتباس وسوء الفهم، بل إنها في الثقافة السائدة، حبيسة ثنائيات صراعية قوية. ويحق للمرء أن يتساءل: لِم الخوف من العلمانية؟ ولِمَ التوجّس من كل محاولة لعقلنة مساحة الدين داخل الدولة؟ ألا تمثل العلمانية فضاءً أرحب للممارسات الدينية ولكل الأديان؟ ألا تمثل حـلاً إجرائياً للنزاع الديني؟ ألا تمثل حـلاً أيضاً لاستغلال الدين في السياسة ولاستغلال الشعب باسم الدين؟
5 – أورد الباحث مسألة فهم الديمقراطية وذكر سوء تأويلها من جانب أطياف مختلفة، وهو قول صحيح، لكن نتصور أن الأمر راجع كذلك إلى غياب ثقافة ديمقراطية. فماذا عن تنشئتنا الاجتماعية؟ فهل بغياب تنشئة ديمقراطية نستطيع أن ننعم بأخرى فكرية وسياسية؟ ثم هل نملك ديمقراطية في البيت؟ وفي الشارع؟ في المدرسة؟ وداخل الأحزاب؟
إن الديمقراطية ليست كنبات الفطر؛ بل هي حصيلة لبذور لا تحوزها بيئاتنا الاجتماعية والأسرية والثقافية. من هنا فكبرى الفجوات التي نعانيها ليست تلك التي تفصلنا عن التكنولوجيا العصرية، بل عن مقومات الحداثة الفكرية، كالديمقراطية وقيم الإنسان والفرد… إلخ. فالمجتمعات التي تذيب الفرد ولا تعدّه صانعاً للتاريخ ولمصيره، لا يسعها التحرك إلى الأمام. مثلما أكد الباحث في بيانه عجز جامعاتنا عن إنتاج نخب حقيقية، لأن تعليمنا، شكـلاً ومضموناً لا يرقى إلى بناء نخب، ولا إلى أداء هذه المهمة المفقودة.
6 – طرح الباحث مسألة التوافق كحل للصراع بين مختلف أطياف النخب بمرجعياتها المختلفة. لكنه أغفل الكيف؛ فما هي الآلية التي تحقق هذا التوافق؟ لا شك في أن التوافق لن يكون إلا ديمقراطياً؛ فهل سيكون ذلك داخل سياق علماني حداثي؟ أم داخل سياق آخر؟ ما هو وما طبيعته؟
اقتصر أيضاً على القول بضرورة وجود مثقف ديمقراطي متجدد، لكنه لم يوضح هذه الفكرة كفاية وربط بين الصراع الهوياتي وتلاشي دور النخب. لكن إلى أي حد يمكن تحميل النخب كل عناصر التخلف؟ فهل النخب مسؤولة أيضاً عن تردي أوضاعها؟ أليس الأمر نوعاً من جَلد الذات، لأن النخب بدورها وليدة وصناعة مجتمعاتها.
7 – في علاقة المثقف بالسلطة، أوضح الباحث توترها على مر التاريخ السياسي، بسبب تبادل الصراع والإقصاء والحذر…، لكن إشارته إلى التاريخ العربي – الإسلامي، تدفعنا إلى التساؤل: أمِن الممكن الحديث عن مثقف في الجاهلية أو حتى في بداية الإسلام؟ هل السلطة المعرفية للشاعر أو للفقيه تجعل منه مثقفاً؟
بالنسبة إلى شهادة ميلاد المثقف لدى الغرب نؤكد أن لها مرجعيتها وسياقها. ففي فرنسا مثـلاً، كانت مع قضية الضابط ألفريد دريفوس (Alfred Dreyfus) المنحدر من أصل يهودية والمتهم بتسريب معلومات عسكرية 1894؛ وبانفجار الصراع بين مناصريه والمؤيدين لمعاقبته، كان موقف النخبة المثقفة، وخصوصاً اليهودية، هو مناصرته بنزول الأدباء والمفكرين الفرنسيين إلى الشارع والساحات العمومية، وبعدها بروز بيان المثقفين «الذي حمل توقيع مفكرين كبار: إميل زولا، مارسيل بروست وآخرون. أما قبلها فكانت لكلمة مثقف معنى قدحياً في المناقشات السياسية.
السؤال إذاً، إذا كانت قضية دريفوس أعطت شهادة ميلاد خاصة للمثقف في الغرب وفرنسا تحديداً، فما هي القضية الجوهرية التي أرّخت لميلاد مفهوم «المثقف» لدينا؟ أنستطيع أن نهبها للفقيه وللفقه الذي احتكر السلطات الدينية والدنيوية، أم لعلماء الشرع الذين يعدّون في ثقافتنا ورثة للأنبياء؟.