أولًا: الاستشراق ونشوء «المعرفة الاستعمارية»

في سـنـة 1978، نـشـر إدوارد سـعـيـد كـتـابـه الاسـتـشـراق، وهو، تحليل للتمثيلات الغربية لـ«الشرق»، ودور هذه التمثيلات في كل من تبرير السيطرة الإمبراطورية الأوروبية وتحديد طبيعة أوروبا نفسها. ورأى سعيد أن الاستشراق عمل كنظام لإنتاج المعرفة فأنتج سلسلة من التراتبية بين «الغرب» و«الشرق»؛ تقابلاتٌ أتاحت للغرب تأكيد تفوقه وسيطرته على المجتمعات «الشرقية». وذهب إدوارد سعيد إلى عدّ الاستشراق ظاهرة، معرفًا إياه بأنه «أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه»[1].

تحت مظلة الهيمنة الغربية على الشرق في الحقبة التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر، «نشأت صورة مُرَكبة للشرق، وأصبحت ملائمة للدراسة في المعاهد العليا، وللعرض في المتاحف، ولإعادة الصوغ في وزارة المستعمرات، وللاستشهاد بها نظريًا في الأطروحات الخاصة بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وعلم الأحياء (البيولوجيا) وعلم اللغة، ودراسات الأعراق والدراسات التاريخية عن الجنس البشري والكون، إلى جانب الاستشهاد بنماذج منها إلى النظريات الاقتصادية والاجتماعية للتنمية والثورة والشخصية الثقافية، وسمات الفرد الوطنية والدينية»[2].

إذًا، يتضمن الاستشراق «معرفة استعمارية» تتخللها تفوق «الأوروبي» على «الشرقي»، وقد استمدت القوى الإمبريالية الأوروبية الداعمة لتأسيس وطن قومي يهودي على أرض فلسطين هذه المفاهيم الاستشراقية وطورتها؛ في سبيل تلفيق وتركيب تاريخ «عبري/إسرائيلي»، وطمس التاريخ الفلسطيني وإسكاته.

تنبه لهذه النظرة إلى الاستعمار بوصفه مشروعًا ثقافيًا، نيكولاس ديركس (Nicholas B. Dirks)، في مقدمته لكتاب الاستعمار وأشكال المعرفة، بالقول: «لم يدرك على نحوٍ كافٍ أن الاستعمار هو ذاته مشروع ثقافي للسيطرة. فالمعرفة الاستعمارية مكّنت للفتح الذي أنتجها بدوره؛ والمعرفة، من نواح مهمة، هي كل ما يدور حوله الاستعمار. وهذه المعرفة التي خلفت مقولات وتناقضات جديدة بين المستعمِرين والمستعمَرين، الأوروبيين والآسيويين، الحديث والتقليدي، الغرب والشرق أعادت بناء الأشكال الثقافية في المجتمعات المصنفة حديثًا على أنها «تقليدية» وغيّرتها. وبحكم الهند من خلال استخراج قواعد لغاته المحلية، وبتمثيله من خلال التضلع من آثاره ونصوصه الدينية وعرضها، أطلقت بريطانيا في كل مكان تحولات كان لها من القوة ما للعواقب المعروفة التي نجمت عن الإمبريالية العسكرية والاقتصادية»[3].

يمكننا أن نقابل المحاولات التي خلفها المستعمر بوصفه مشروعًا ثقافيًّا في الهند، بمحاولات مشابهة لدراسة تاريخ فلسطين.

مثّلت حملة نابليون بونابرت على مصر وبلاد الشام (1798- 1801)، بداية اهتمام الغرب المتجدد في الشرق، إذ جلب معه فريقًا مكونًا من 167 شخصًا، من العلماء والباحثين في الأدب والثقافة والتاريخ والآثار والجغرافيا وغيرهم من باقي التخصصات، كجزء من مساعيه لخلق «المعرفة الاستعمارية»، وتبلور هذا الإنتاج الفكري والبحثي والميداني في المشروع الفرنسي الاستشراقي «وصف مصر» (Description de l’Egypte). ويذهب إدوارد سعيد إلى أن هذا المشروع «معرفة استعمارية» بامتياز الغرض منه اغتصاب التاريخ المصري – الشرقي القديم بقوله: «إن التاريخ المسجل في هذا الكتاب يغتصب مكان التاريخ المصري أو الشرقي» [4].

يمكن وصف أصول التنقيبات الآثارية الحديثة، منذ دخول نابليون إلى مصر، بأنها مكيدة دولية، استخدمت القوى الغربية، من خلالها، الماضي الكتابي، والكنوز الأثرية الموجودة في المنطقة، من أجل سعيها لتحقيق المكاسب السياسية، ولإضفاء الشرعية على مصالحها الإمبريالية[5]. فقد كانت «العلوم، كالتاريخ وعلم الآثار وغيرها ليست إلا أدوات في يد أصحاب القوى، ليبسطوا من خلالها هيمنتهم ويبرروا استعمارهم». بذلك، كان البحث التاريخي والأثري في فلسطين بخاصة والشرق بعامة «ليس مجرد إعادة بناء نزيه للماضي، ولكنه يتعلق بموضوع بالغ الأهمية يتصل بالهوية وميزان القوى المعاصرة»[6].

ثانيًا: جمعيات ومؤسسات ساهمت
في إنتاج «المعرفة الاستعمارية»

ركزت الجهود الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على إنتاج «المعرفة الاستعمارية» عن فلسطين. فلم يكن لدى الرحّالة، والحجّاج، والكتّاب، وراسمي الخرائط، والمستشرقين التوراتيّين، والباحثين عن المغامرة، العصريّين الأوروبيّين، مرجع تاريخي، وجغرافي، أو دليل أثري، سوى الكتاب المقدس. بيَّنت هذه الملاحظة في عمل نور مصالحة فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ، حيث يقول: «ظل إنتاج كثير من المعرفة الأوروبية عن فلسطين، في كتب ويوميات أسفار، تسيطر عليها الدراسات التوراتية، وجغرافيا الكتاب المقدس، والاستشراق الذي يصف الفلسطينيّين العرب بأنهم «مجرد ملحق بـ[المشهد] التوراتي القديم… و«ظلال» من ماض بعيد، «مُستَحجِرات» زمن متوقف، أما الفلاحون العرب، في فلسطين المعاصرة، فهم رموز للـ«يهود التوراتيّين»» [7].

بذلك هيّأ الاستشراق من خلال «المعرفة» كل الشروط للسيطرة على فلسطين، حيث عملت جمعيات ومؤسسات استشراقية على إيجاد موطئ قدم لليهود في فلسطين، فقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إنشاء عدة جمعيات ومؤسسات غربية، منطلقة من إيمانها العميق بـ الكتاب المقدس لدراساتها وأعمالها الميدانية، كما تضمّن بعضها أهدافًا ذات طابع سياسي وعسكري.

أولى هذه الجمعيات «صندوق استكشاف فلسطين» (Palestine Exploration Fund)، التي تأسست عام 1865، «بهدف البحث في الآثار والجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي لفلسطين». وعندما صدر أول عدد من المجلة الدورية للصندوق عام 1869 ظهر على غلافها «جمعية من أجل البحث الدقيق  والمنظم في الآثار والطبوغرافيا والجيولوجيا والجغرافية الطبيعية والتاريخ الطبيعي وعادات وتقاليد الأرض المقدسة لغاية التوضيح التوراتي». بعد مضي خمس سنوات على تأسيس الصندوق البريطاني تأسست عام 1870 جمعية أمريكية (Exploration Society)، وتضمن برنامجها نداء: «إلى الضمير الديني مسيحيًا كان أم يهوديًا من أجل البرهنة على صحة الكتاب المقدس». وشهدت السنة نفسها، 1870، إنشاء جمعية بريطانية أخرى، «جمعية الآثار التوراتية» (Society of Biblical Archaeology)، ووضعت من أهدافها: «البحث في الآثار والتسلسل الزمني والتاريخ القديم والحديث لبلاد آشور والجزيرة العربية ومصر وفلسطين وغيرها من المناطق التوراتية». تأسس على غرار هذه الجمعيات جمعيات غربية أخرى أهمها المدرسة الفرنسية للدراسات التوراتية والأثرية التي أسسها الدومينيكان عام 1890، وأنشأ الألمان جمعيتين: «الجمعية الألمانية للدراسات الشرقية»(Deutsch Orient Gesellschaft) ، عام 1897، و«الجمعية الألمانية للأبحاث الفلسطينية»، عام 1877.

نعرض في هذه الورقة البحثية نموذجين لهذه المؤسسات والجمعيات، أسهمت أعمالها في إنتاج ما يمكن تسميته «المعرفة الاستعمارية»؛ استنادًا للنص الحرفي لـ الكتاب المقدس.

1 – صندوق استكشاف فلسطين

في الثاني من أيار/مايو عام 1865، عُقد اجتماع عام وحاشد مثّل أرضية التأسيس الرسمي لصندوق استكشاف فلسطين (Palestine Exploration Fund)، الذي ضمّ كلًّا من رئيس أساقفة يورك، الذي سُمي رئيسًا، وجورج غروف، الذي عُين أمين سر شرف، ليجلس على المنصة بعد أبرز شخصيات المجتمع «الفكتورياني»، نسبةً إلى الملكة فكتوريا.

سرعان ما فازت جهود منظمي الصندوق بالدعم الرسمي من جانب الدوق أرغَيْل. كما جاء من عالم المال مورتون بيتو، أحد عمالقة سكك الحديد، ووالتر موريسون أحد الصناعيين من أصحاب الملايين. أما من رجال العلم فكان كل من السير وُلتر سكُتْ رئيس جمعية العمارة الملكية، والسير رودريك مورتشيسون رئيس الجمعية الجغرافية الملكية. وجاء من كنيسة إنكلترا، إضافةً إلى رئيس أساقفة يورك وعميد وستمنستر، أساقفةُ كل من أكسفورد ولندن وإيلي، مع عميدي كاتدرائية سانت بول وكنيسة المسيح. كما نسي كل من جيمس فرغسُن وجورج ولْيَمْز خلافاتهما السابقة، والتحقا بركب الآخرين في جمعية تركز هدفها على التقصي العلمي لـ«آثار فلسطين وجغرافيتها وجيولوجيتها وتاريخها الطبيعي».

بعد صلاة افتتاحية ترأسها أسقف لندن، عرض وليم طمسن رئيس أساقفة يورك، بوصفه رئيس هذه الجمعية، أهداف الجمعية الجديدة بخطوطها العريضة، وكشف بوضوح عن التوجهات المستقبلية للعمل، إذ قال في الاجتماع الحاشد: «إن هذا البلد فلسطين عائد لكم ولي؛ إنه لنا أساسًا. فقد مُنحت فلسطين إلى أبي إسرائيل بالعبارات التالية: «هيا امْشِ في الأرض طولًا وعرضًا، لأنني سأعطيك إياها!!»، ونحن عازمون على المشي عبر فلسطين، بالطول والعرض، لأن تلك الأرض مُنحت لنا. إنها الأرض التي تأتي أنباء خلاصنا منها. إنها الأرض التي نتوجه إليها بوصفها منبعًا لجميع آمالنا؛ إنها الأرض التي نتطلع إليها بوطنية صادقة تضاهي حماستنا الوطنية لدى النظر إلى إنكلترا القديمة العزيزة هذه».

في ختام تعليقاته، أعلن رئيس الأساقفة أن الملكة فيكتوريا بالذات كانت قد تفضلت بالموافقة على أن تكون الراعية (ولية النعمة) الرسمية لصندوق استكشاف فلسطين. ومثّل تبرعها لخزينة الجمعية بمبلغ مئة وخمسين جنيهًا، أكثر من أي تبرع آخر، رمزًا لموافقة المجتمع البريطاني واهتمامه بما عُدّ مشروعًا قوميًا[8].

أما الهدف من إنشاء هذا الصندوق فهو البحث وفق منهج دقيق ووثيق (!!) في آثار فلسطين، وذلك من أجل إيضاح التوراة. وعندما صدر أول عدد من المجلة الدورية للصندوق عام 1869، ظهر على غلافها «جمعية من أجل البحث الدقيق والمنظم في الآثار والطبوغرافيا والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية والتاريخ الطبيعي وعادات وتقاليد الأرض المقدسة لغاية التوضيح التوراتي»[9]. أي أن البحث العلمي قد وُظِّف في خدمة الأهداف التوراتية، إذ كان هدفهم دراسة الأرض ومسحها لـ«إثبات» حقيقة الرواية التوراتية!

ما سبق كان قد أوضحه الباحث لوولتر بيسانت، في دراسته في كتاب المدنية والأرض، الذي أصدره صندوق استكشاف فلسطين، إذ قال: «كنا نقوم بثورة كاملة في فهم التوراة ودراستها، كنا نحيي العظام وهي رميم»[10]. وبيَّن بيسانت أن هدف  الصندوق هو «الاستعادة»: «استعادة مجد فلسطين في عهد هيرود، واستعادة بلاد داود، بحيث يمكن استعادة أسماء المدن التي دمرها القائد العظيم يوشع بن نون. وكذلك استعادة مكانة القدس ومجدها وأبّهتها، واستعادة أسماء الأماكن المذكورة في التوراة»[11]. ويظهر تلاقي البعد التوراتي بنظيره العسكري، في الإشارة إلى يوشع بن نون، وذلك في قول بيسانت: «عندما وُضعت الأسماء في أماكنها، أصبح في وسعنا تتبُّع سير الجيوش في زحفها»[12].

كان أول أعمال «صندوق استكشاف فلسطين» المسح الجغرافي لفلسطين بين عامَي 1871 - 1877، وجمع أسماء المواقع القديمة والخرائب والقرى، وأعدّ قوائم للأسماء تحوي أكثر من 10 آلاف اسم نقلت بحروف إنكليزية. وبعد ذلك، طبع الصندوق خارطة لفلسطين الغربية على أربعة أشكال: الأولى، عليها الأسماء العربية الحديثة. الثانية، عليها أسماء العهد القديم (التناخ). الثالثة، عليها أسماء العهد الجديد (الأناجيل). الرابعة، عليها أسماء مصادر المياه وتوزيعها.

تقول خيرية قاسمية، في دراستها «نشاطات صندوق استكشاف فلسطين (1868ــ 1915)»: إن «أهم النتائج التي أسفر عنها العمل، برأي العاملين في الصندوق، تحديد أعداد كبيرة من الأماكن المذكورة في التوراة لم تكن مواقعها معروفة سابقًا (622 اسمًا توراتيًا في غرب الأردن كان قد تحدد منها 262 اسمًا قبل العام 1870)»[13].

في هذا الصدد، تفيد سحر الهنيدي، في مقدمة ترجمتها لكتاب اختلاق إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني للمؤرخ البريطاني كيث وايتلام، بأنه كان أول أعمال هذا الصندوق المسح الجغرافي لفلسطين الذي جاء على شكل 26 خريطة مفصلة تفصيلًا دقيقًا، بمقياس يقرب من 1 إلى 60.000، كما وصل تصنيف الأماكن إلى 46 تصنيفًا (مثلًا: مدينة، قرية، خربة، بير، مزار، تل، نبع، قلعة، نهر… إلخ)، وصدرت مع الخرائط 10 مجلدات تشمل الجيولوجيا والنبات والحيوان والطير والمياه والآثار والطبوغرافيا، وملاحظات عن المعنى التاريخي لقرى فلسطين. قام فريق مساحين بمسح (6000 ميل مربع) من فلسطين، واستمر العمل لسنوات 1871 – 1875 وانتهى بنشر المجلدات والخرائط عام 1888 [14].

في عام 1868 أعدّت مجموعة من سلاح الهندسة الملكية بإشراف ولسون، مخططًا لمدينة القدس بمقياس إنش للميل الواحد. وفي السنوات 1871 – 1877 أشرف كل من الضابطين كوندر وكتشنر (لورد كتشز فيما بعد)، على عمليات مسح منظمة كان من أهم نتائجها إصدار أول أطلس مضبوط لفلسطين. يضم هذا الأطلس ستًا وعشرين لوحة، ويتضمن تفاصيل طبوغرافية وسكانية وزراعية، فضلًا عن أسماء المدن والقرى والمواقع الأثرية. جدير بالذكر أن المواقع هنا مثبتة بأسمائها العربية قبل أن يدخل عليها التحريف والتغيير اللذان طرآ فيما بعد [15].

طبقًا لما نشر عن الصندوق، وضع الكولونيل كوندر منهجية للخرائط التي صمّمها، وقد ظهرت له عدة كتابات عن طبوغرافية غرب فلسطين وكتاب المرشد إلى التوراة. وفي كتبه، حاول تعيين مواقع الأسماء الوارد ذكرها في التوراة ورسم حدود أسباط بني إسرائيل، وعمل على ما يُسمّى «اقتفاء آثار الجيوش الغازية والهجرة القديمة»، إضافة إلى قراءة النقوش الباقية وفك رموزها[16].

تشير كتابات المستشرق الجغرافي الكولونيل كوندر، إلى أنه كان من غلاة الصهيونية المسيحية، إذ نشر مجموعةً من الكتب في هذا السياق، منها ما نشره عام 1879 بعنوان يهوذا المكابي وحرب الاستقلال اليهودي، وكتاب حيث موآب عام 1894، وكتاب مدخل إلى جغرافية الكتاب المقدس، وكتب عن الكنعانيين وفلسطين عام 1891، وكذلك كتاب المقدس في الشرق عام 1896، والمأساة العبرانية عام 1900، ثم أصدر كتابًا عن مدينة القدس عام 1909.

أشار عالم الآثار، وليم أولبرايت، إلى أنه «ثبت خطأ كثير من التعريفات التي ظن كوندر، أنه بها قد حسم نهائيًا طبوغرافية فلسطين الكتابية (كما جاءت في التوراة)»[17].

في عام 1892 ألقى الكولونيل كوندر، محاضرةً بعنوان «فلسطين الشرقية» على أعضاء الخيمة الغربية التابعة لـ«أحباء صهيون» التي سارعت إلى نشرها، والتي شبّه فيها الدولة العثمانية بالحكم الروسي الطاغي المستبد، وبأن استغلال فلسطين بأسرها وشرق نهر الأردن سوف يكون بمنزلة عودة إلى ذلك الرخاء والازدهار القديم الذي عرفته أيام الرومان. كما نصح أحباء صهيون بشراء كل ما يمكنهم من أراضي بيسان وجلعاد الشمالية، وأكد أن حركة الاستعمار اليهودي ليست مصطنعة، بل هي حركة طبيعية صحية وليست حصيلة الشعور الديني[18].

أخيرًا، ترجم «صندوق استكشاف فلسطين»، الإخلاص لنص الكتاب المقدس، إلى الإيمان بأن فلسطين هي المسرح الجغرافي لرواية الكتاب المقدس، فقام بتهويد أسماء المعالم الفلسطينية، ليساهم في إنتاج «المعرفة الاستعمارية».

2 – الجمعية الأمريكية للتنقيب في فلسطين

مع انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، كان ثمة اهتمام جديد يتنامى في الولايات المتحدة الأمريكية بمسألة خارطة فلسطين، وانطلقت، مرة أخرى، المشاركة الأمريكية في استكشاف الأرض المقدسة. ففي وقت مبكر يعود إلى صيف عام 1869، كانت جماعة من شخصيات شيكاغو المرموقة قد أسست الفرع الأمريكي الأول لصندوق استكشاف فلسطين، ولكنها ما لبثت أن اكتشفت أنها لا تستطيع الاكتفاء بمجرد تقديم الدعم المالي إلى منظمة بريطانية. ففي العام التالي، أقيمت جمعية أمريكية مستقلة لاستكشاف فلسطين في نيويورك، «الجمعية الأمريكية للتنقيب في فلسطين»، أعلن منظموها عن اعتزامهم التنافس، ندًا لند، مع صندوق استكشاف فلسطين البريطاني[19]، وتضمن برنامجها نداء: «إلى الضمير الديني مسيحيًا كان أم يهوديًا من أجل البرهنة على صحة الكتاب المقدس»[20].

بعد دعوة المكتتبين وإصدار نشرة دورية، أعلن الأمريكيون في تموز/يوليو 1871 عن خطتهم المتمثلة بإيفاد بعثة إلى فلسطين لوضع خرائط خاصة بهم. تقدمت الجمعية الأمريكية الوليدة لتعلن شرق الأردن مجالًا لعملها[21].

وفعلًا أُرسلت بعثتان لمسح الأراضي الفلسطينية، غير أنهما قابلتا مصاعب كثيرة جدًا، وكابدتا تلك المشكلة المزمنة، مشكلة قلة الاعتمادات، حتى إنه عدل نهائيًا عن الاستمرار في المشروع، ولم يترك وراءه إلا القليل جدًا ليدل عليه[22].

في سنة 1884، بدأ شوماخر (G. Schumacher)، مسح حوران، وشمال شرق الأردن، جغرافيًا، وأثريًا، وقد استمر عمله هذا سنوات متعددة وحصل على نتائج عظيمة. كان شوماخر عضوًا في جمعية المعبد، وكان يعرف البلاد منذ طفولته. وعرف كيف يتعامل مع مواطني فلسطين العرب، والموظفين الأتراك، لذلك كان أسهل عليه كثيرًا أن يحصل على نتائج تستحق التقدير، عن أي فريق من الخارج[23].

نقّب الأمريكي بليس (F. J. Bliss)، في تل حسى – متأثرًا بما أنجزه بتري هناك – وذلك خلال الأعوام 1891 – 1897، حيث أثبت صحة المعيار الذي وضعه بتري للتأريخ باستخدام الفخار[24].

استمرت هيئة صندوق تمويل التنقيب، من عام 1894 إلى عام 1897. عمل بليس، ومهندسه المعماري ديكي (A. C. Dickie)، في القدس، وكانا يشتغلان كعاملين، وعالجا في عملهما هذين الجانبين الأثري، والمعماري بكل عناية. تلا ذلك بعثتان استمرتا في العمل وقتًا طويلًا، في ما لا يقل عن أربعة تلال، في السهل الفلسطيني، أي في المنطقة المنخفضة بأرض يهوذا (الضفة الغربية). وقد ساعد بليس في هاتين البعثتين، شاب إيرلندي، هو الأثري اللامع مكلستر (Stewart Macalister) [25].

نستنتج من الكتاب الذي نشره بليس وديكي عن نتائج حفائرهما عام 1902، أن عملية التوثيق لم تكن مضبوطة. وقد أغفل طبقات رئيسية في الموقع، كما استعان برسومات، وصور كثيرة، لا تمت في كثير من الأحيان إلى الطبقات التي وجدت فيها. كما استعمل المنقِّب مصطلحات غير مبررة، مثل «ما قبل الساميين»، و«الساميين» عند تصنيفه للمكتشفات، وقسم اللقى، التي نسبها إلى الساميين إلى «سامي أول»، و«سامي ثان»، و«سامي ثالث»، و«سامي رابع». جدير بالذكر أن الجدول الزمني الذي اتبعه مكلستر وبليس، في حفرياتهما في جنوب فلسطين، وهي تل صندحنة، وتل الصافي، وتل زكريا، وتل جديدة، حتى عام 1902، مبني على المعطيات التوراتية، وليس له علاقة بالشواهد الأثرية في هذه المواقع[26].

لم تعمِّر «الجمعية الأمريكية للتنقيب في فلسطين» طويلًا، وحل محلها عام 1900، «المدرسة الأمريكية للأبحاث الشرقية»، وقد «تأسست  في القدس، من جانب عدد من الجامعات، ومعاهد اللاهوت الأمريكية، وعمل تشارلز توري (Charles C. Torry)، أول مدير لها عام 1900. لم تزاول هذه المدرسة نشاطها الميداني، إلا بعد الحرب العالمية الأولى»[27]. في عام 1900، سافر ك. توري، من جامعة ييل، إلى فلسطين للإقامة هنالك بوصفه البروفيسور الأول للمدرسة الأمريكية[28].

في عام 1905، حاول العالم الأمريكي أندرو رايزنر (G. A. Reisner)، الحصول على إذن من الحكومة العثمانية، للتنقيب عن الآثار في فلسطين، وكان قد حمل معه رسالة توصية شخصية من رئيس الولايات المتحدة ثيودور روزفلت، لكن الموافقة، ولظروف خاصة بالدولة العثمانية، تأخرت حتى عام 1907، وأسرع رايزنر، الذي كان يعمل في التنقيب في مصر، إلى فلسطين، ثم حل غوتليب شوماخر مكانه[29]. وبعد مدة من التنقيب، رفع شوماخر تقريره إلى رايزنر، الذي رفعه بدوره إلى لجنة هارفرد ليخبرها «بأن النتيجة المرجوة، لم تتحق بصورة كاملة على ما يبدو»، على الرغم من كل الأموال والجهود التي كانت قد أُنفقت على أعمال التنقيب في السامرة. وأدرك رايزنر، أن فعل التنقيب كان في الحقيقة فعل تدمير وتخريب[30]. لم تستطع هذه البعثة «التخلص من مصطلحات الجدول الزمني التوراتي» [31].

ثالثًا: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض

اتّكأ خطاب الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين على سرديّة الاستشراق الأوروبي الكلاسيكي، وذلك من خلال تعمية التاريخ الفلسطيني، واختطافه، ومحاولة تطهيره ثقافيًّا وتاريخيًّا وسياسيًّا، بل إنكاره أيضًا، بعَدّ فلسطين «أرضًا بلا شعب لشعب بلا أرض». إن ما تصوّره الدراسات التوراتية، منذ بدايتها حتى اليوم، هو تصوير فلسطين من دون سكان، أو على أكثر تقدير، كسكان مؤقتين، سريعي الزوال، ينتظرون قدوم ذلك الشعب، الذي لا يملك الأرض. نتيجة ذلك كان إنكار أية استمرارية، أو شرعية للتاريخ الفلسطيني، فإذا لم يكن هناك فلسطينيون في العصور القديمة، فلا يمكن أن يكون هناك تاريخ فلسطيني.

لقد هيمنت تلك «الحقيقة» المزعومة على خطاب الدراسات التوراتية، خلال معظم القرن الحالي، وأتاحت مجالًا لتطوير كثير من فرضيات التراث التوراتي، وهذه «الحقيقة» المزعومة أسهمت، أكثر من أي أمرٍ آخر، في إهمال وتحقير الشعب الفلسطيني، وثقافته، مع إغفال التاريخ، الذي بقي آلافًا من السنين لفلسطين، ذلك التاريخ الذي تعامى عنه علماء الآثار، بالمعنى الحرفي لكلمة التعامي.

بذلك جرَّدت الدراسات التوراتية لفظ «فلسطين» من أي معنى كامن فيه، ولم يعد من الممكن فهمه، إلا إذا أعيد تعريفه من خلال لفظ ديني أو لاهوتي آخر، كاللفظ المستعمل للدلالة على «الأرض المقدسة»، أو «أرض إسرائيل»؛ لكن ما يلفت النظر أكثر من ذلك، أنه في حين أن لفظ «فلسطين» قد يكون مستعملًا على نحو واسع، على الرغم من تجريده من أي معنى لذاته، فإن لفظ «فلسطينيون» بوصفهم سكان هذه الأرض، هو استعمال نادر جدًا في الدراسات التوراتية. فإن كانت هناك أرض تدعى فلسطين، فلماذا لا يمكن تسمية مواطنيها بالفلسطينيين؟!

بهذا، فإن فلسطين ليس لها معنى حقيقي خاص بها، أو أية قيمة فعلية خاصة بها، بل تتحول إلى حلبة لـ «التاريخ الحقيقي، والموثَّق لإسرائيل». وهذا جوهر الادعاء بملكية الأرض. وبذلك  بدأ الصراع على محو الرواية التاريخية، وإعادة تعريفها بمنظور توراتي، وبدأ تهجير الوطن من الذاكرة.

هذا ما حدا باللورد شافتسبري (أنطوني أشلي كوبر)، على وصف فلسطين في مقال منشور له بعنوان «الدولة وآفاق المستقبل أمام اليهود»، عام 1839: بأنها «بلاد بدون أمة، لأمة بدون بلاد»[32].

كتب الرحّالة اللورد ليندسي (Lord Lindsay)، في كتاب منشور له بعنوان رسائل عن مصر وإيدوم والأرض المقدسة (Letters on Egypt, Edom and the Holy Land)، وصدر عام 1838؛ بـ«أن عقم واضمحلال أرض فلسطين لم يكن بسبب لعنة أصابت الأرض، ولكن ببساطة بسبب عدم وجود سكانها القدامى». وكان ليندسي يؤمن بأن إرادة الله هي التي شاءت «ألا يكون السكان الحاليون كثيري العدد على الإطلاق» حتى لا يعوقوا عودة «الورثة الشرعيين»، وكان يؤمن بأن الأرض التي كانت خصبة من قبل «تنتظر فقط عودة أولادها المنفيين، وتطبيق الصناعة التي تناسب قدراتها الزراعية حتى تنطلق مرة أخرى لتكون في حالة رخاء وترف تام، وتعود كما كانت أيام النبي سليمان [33]. كما أطلق القس الأمريكي وليام بلاكستون، عام 1888، الشعار نفسه المتمثل بأن «فلسطين هذه تُركت هكذا أرضًا بغير شعب، بدلًا من أن تعطى لشعب بغير أرض» [34]. ذلك الشعار الذي حولته الصهيونية اليهودية فيما بعد إلى «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وهو شعار عمّمه شعبيًّا إسرائيل زانغويل (Israel Zangwill)، وهو كاتب بارز يهودي إنكليزي، كثيرًا ما أشارت إليه الصحافة البريطانية على أنه المتحدث بلسان الصهيونيّة، وأحد أوائل منظّمي الحركة الصهيونية في بريطانيا. وحتى عام 1914، قال حاييم وايزمان، الذي أصبح أول رئيس لـ«إسرائيل»، والذي كان مع ثيودور هرتزل ودايفيد بن غوريون، واحدًا من أكثر ثلاثة رجال مسؤولين عن تحويل الحلم الصهيوني إلى حقيقة، قال:  «كانت الصهيونية في مراحلها الأولى مصمَّمة على أيدي روّادها، بأنها حركة تعتمد كليًّا على عوامل ميكانيكيّة: هناك بلد يصادف أن ليس فيه شعب، ومن جهة أخرى، هناك الشعب اليهودي، وهو ليست له بلاد. فماذا يلزم بعد، لتثبيت الجوهرة في الخاتم، بجمع هذا الشعب مع هذه البلاد؟ على مالكي البلاد [الأتراك] إذًا أن يقتنعوا بأن هذا الزواج ملائم، لا للشعب [اليهودي] فقط، والميلاد، بل أيضًا لهم» [35].

رابعًا: اختراع الشعب اليهودي

قامت عملية اختراع الشعب اليهودي على ركنين أساسيين، وهما فكرة الشتات اليهودي وفكرة أن اليهودية بقيت محصورة في العرق الذي اعتنقه في البداية. الدلالة الرئيسية المتوخاة لهذا الادعاء هي أن الشتات الذي رحل إلى مناطق مختلفة من العالم وكُتب له البقاء يعود من ناحية جذوره العرقية والقومية إلى القبائل اليهودية الأصلية التي كانت في فلسطين وطُردت منها، وأنه لم تدخل اليهودية أجناس وقوميات أخرى أثرت في نقاء العرق اليهودي. وقد فنّد هذا الادعاء البروفيسور «الإسرائيلي» شلومو ساند، في كتابه اختراع الشعب اليهودي، من خلال نفي ما يسمى «الشتات اليهودي» الذي تقف وراءه فكرة طرد الرومان لليهود سنة 70 للميلاد بعد تدمير الهيكل، بقوله: «فإننا لن نجد في التوثيق الروماني الغني ولو إشارة واحدة إلى حدوث أيه عملية نفي من أرض يهودا»[36]. ويدحض ساند الادعاء بأن الدين اليهودي لم يكن دينًا تبشيريًا بل بقي محصورًا في العرق الذي اعتنقه منذ بداياته، بالقول: «يرجع سبب انتشار واتساع رقعة الديانة اليهودية إذن، من وجهة نظره [أوريئيل راببوت]، إلى حركة التَهوُّد الواسعة. وبطبيعة الحال فإن حركة الالتحاق هذه لم تُقابَل بلامبالاة يهودية وإنما أُديرت بمساعدة سياسة تهويد ودعاية دينية نشطة أخذت تحرز نجاحات حاسمة مع انهيار العالم الوثني. وبذلك انضم راببورت إلى تقاليد هستوريوغرافية (غير يهودية) متعددة الفروع، ضمت كبار الباحثين في العصر القديم – من آرنست رينان وحتى يوليوس ولهاوزن، ومن أدوارد مايير وحتى أميل شايرر – وأكدت، وفقًا للهجة الحادة التي استخدمتها تيودور مومزن، على أن «اليهودية في العصر القديم لم تكن بتاتًا منغلقة أو منعزلة، على العكس فقد يملؤها الحماس للتهويد بدرجة لا تقل عن المسيحية والإسلام من بعدها» [37].

تصدى جمال حمدان في دراسته القيِّمة اليهود أنثربولوجيًّا؛ لنظرية «النقاء العرقي»، و«النقاوة الجنسية»، وتوصل إلى أن «اليهود الحاليين ليسوا من بني إسرائيل؛ فيهود العالم اليوم مختلطون في جملتهم اختلاطًا يبعدهم عن أيّ أصول إسرائيلية فلسطينية قديمة، ولا يوجد رابط أنثربولوجي بين الجهتين، والرابط الوحيد هو رابط الدين»[38].

فجر آرثر كوستلر، في عام 1976؛ قنبلته الأدبية التي حملت العنوان القبيلة الثالثة عشرة، التي ترجمت إلى لغات كثيرة وأثارت موجة من ردود الفعل المتباينة. أوضح فيها أثر الخزر في تكوين اليهود المعاصرين، وخلاصة ما ينتهي إليه أن «غالبية اليهود العصريين ليسوا من أصل فلسطيني بل من أصل قوقازي. فإن التيار الأساسي للهجرات اليهودية لم يتدفق من البحر المتوسط عبر فرنسا وألمانيا إلى الشرق ثم العودة مرة أخرى، بل اتجه التيار على نحو ثابت  إلى الغرب من القوقاز عبر أوكرانيا إلى بولندة ومن هناك إلى أواسط أوروبا ــ وعندما نشأت في بولندة تلك المستوطنات الجماعية التي لم يسبق لها مثيل، لم يكن هناك في الغرب أعداد من اليهود تكفي لتفسير هذه الظاهرة، على حين كان هناك في الشرق أمة بأسرها تتحرك نحو حدود جديدة. وبطبيعة الحال سوف يكون من الحماقة أن ننكر أن يهودًا من أصل مختلف أيضًا في المجتمع اليهودي الكائن في عالم اليوم، ومن المستحيل أن نحدد النسبة العددية لمساهمة الخزر إلى مساهمات الساميين وغيرهم، ولكن ما تجمَّع من البراهين يجعل المرء ميالًا إلى الاتفاق مع إجماع المؤرخين البولنديين على أنه (في الأزمنة المبكرة نشأت الكتلة الأساسية من اليهود أصلًا من بلاد الخزر) ومن ثم تكون مساهمة الخزر في التركيب الوراثي لليهود مساهمة جوهرية بل ومهيمنة في كل الاحتمالات»[39].

ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أن هناك علاقة حتمية بين الدراسة الأنثروبولوجية وبين الجانب السياسي، فقد سخّرت الحركة الصهيونية الأبحاث الأنثروبولوجية ورتبت نتائجها مسبقًا بحيث تخدم دعاواهم الاستعمارية في فلسطين، وبذلك تم إنتاج ما يسمى «المعرفة الاستعمارية».

هكذا، كان إنتاج تواريخ «إسرائيل» جزءًا مهمًا من الدعاوى الإمبريالية في المنطقة، منذ القرن التاسع عشر وصاعدًا، إذ يوفر تسويغًا عقائديًا لجملة القيم الغربية. أصبح تطوير علم الآثار في فلسطين تعبيرًا ذا أهمية عن المطامع الإقليمية للقوى الأوروبية، إذ لم يكن استكشاف المنطقة ورسم خرائطها، وتسجيل أوابدها القديمة، ووصف سكانها وممارساتهم، أعمالًا بحثيةً نزيهة، ومبرأة من الأغراض الخاصة، مع تشكيلها مساهمات مهمة على صعيد المعرفة العلمية. كما تجلّى موقف التفوق المتعالي، الذي طبع أسلوب كتابة التقارير، في الكثير من تقارير مشاهير الرحالة الكثيرين. لم يكن اهتمام هؤلاء بفلسطين صادرًا عن اهتمامٍ بالمنطقة، نتيجةً لأهميتها الخاصة، بمقدار ما كان منصبًّا على حقيقة أنها كانت موقع الأحداث الكتابية. هنا بالذات كانوا يأملون في الاهتداء إلى جذورهم. ومن حيث الجوهر، كثيرًا ما جرى إفراغ فلسطين، والتاريخ الفلسطيني من أي معنى حقيقي، إذ تم «تجريدها» [فلسطين] من «الصفة التاريخية» كما يقول ملمن، أو «طمسها» [إسكاتها] كما يقول وايتلام[40].

خامسًا: انحسار دور «المعرفة الاستعمارية»

تمثل واحـد من أهم التحولات خلال العقود الأربعة الأخيرة من البحث في تاريخ فلسطين بالمكانة المركزية التي احتلتها «المعرفة الاستعمارية» بواسطة الكتاب المقدس، إذ أُلقيت ظلالٌ من الشك العميق على إمكان كتابة تاريخ لـ«فلسطين»، استنادًا إلى روايات الكتاب المقدس. وحدا ببعض المؤرخين إلى حد التشكيك، من حيث المبدأ، بإمكان كتابة تاريخ من هذا النوع.

ومن أبرز رواد هذا الاتجاه وأكثرهم تأثيرًا توماس طومسن (Thomas L. Thompson)، وفيليب دايفيز (Philip R. Davies)، وكيث وايتلام (Keith W. Whitelam)، ونيلز بيتر لمكه (Neils Peter Lemche)، وجيوفاني غاربيني (Giovanni Garbini).

فمنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين ومطلع ثمانينياته، بدأ جيل جديد من علماء الآثار في استخدام وتطوير أسلوب مستحدث في التنقيب؛ وهو أسلوب المسح الميداني الكامل لمناطق جغرافية معينة (Regional Survey)، بدلًا من الحفر في مواقع متباعدة ومنعزلة عن بعضها. في هذا السياق، جهّزت جامعة «تل أبيب» فِرَق تنقيب متنوعة مزودة بعلماء من شتى الاختصاصات لمساعدة علم الآثار. مسح أفرادها كل متر من مناطق الهضاب الفلسطينية، سيرًا على الأقدام.

عملت تلك الفرق، خلال السنوات العشرين الماضية، على جمع معلومات غزيرة أحدثت ثورةً في علم آثار فلسطين. وكلما كانت المعلومات الأركيولوجية تتراكم ويتم الربط بينها وتحليلها، كان يتبيّن للمؤرخين والآثاريين صعوبة ملاءمة هذه المعلومات مع الرواية التوراتية.

دفع ذلك واحدًا من ألمع علماء الآثار في «إسرائيل»، وهو إسرائيل فنكلشتاين (Israel Finkelstien)، إلى الدعوة إلى تحرير علم الآثار الصهيوني من سطوة النص التوراتي. وفي ندوة عقدتها جامعة بن غوريون، عام 1998، وموضوعها «أصول إسرائيل»، أكّد فنكلشتاين أنّ المصدر التوراتي الذي تحكّم في ماضي البحث في أصول «إسرائيل» قد تراجعت أهميته في الوقت الحاضر، ولم يعد من المصادر الرئيسية المباشرة، إذ إن حمل أسفار التوراة، التي دُونت بعد وقت طويل من الأحداث التي تتصدى لروايتها، طابعًا لاهوتيًا يجعلها منحازة، الأمر الذي يجعل من البحث عن بذور تاريخية في المرويات التوراتية عملية بالغة الصعوبة، هذا إذا كانت ممكنة من حيث الأصل. من هنا يرى فنكلشتاين ضرورة استقراء الوقائع الأركيولوجية استقراءً موضوعيًا وحرًا، بمعزل عن الرواية التوراتية[41].

يُعدّ من أبرز رواد هذا الاتجاه البروفيسور طومسن، أستاذ علم الآثار في جامعة ماركويت في ميلووكي بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي حورب بسبب آرائه المعارضة للتوراتيين التقليديين، إذ طُرد من منصبه في عام 1992، لأنه دعا في كتابه الذي صدر في العام نفسه، وعنوانه التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي إلى «نقض تاريخية التوراة»؛ أي عدم الاعتماد على التوراة كتابًا لتاريخ المنطقة والحضارات، مقابل اعتماد الحفريات الأركيولوجية (الأثرية) وثروة الآثار الكتابية القديمة كمصادر لإعادة كتابة تاريخ المنطق، قائلًا: «إن أي محاولة لكتابة تاريخ فلسطين في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، أو بدايات الألف الأولى قبل الميلاد، على الضوء التام لمصادر الكتاب المقدس، لتبدو على الفور محاولةً فاشلةً وميئوسًا منها، بل يمكن اعتبارها محاولة هزلية بالكامل، وتبعث على الضحك والفكاهة. إن قصص العهد القديم ما هي إلا مأثورات وحكايات كُتبت أثناء القرن الثاني قبل الميلاد. وإنه مضيعة للوقت أن يحاول أي إنسان أن يثبت مثل هذه الأحداث التوراتية من خلال علم الآثار القديمة، فالعهد القديم ليس له أي قيمة كمصدر تاريخي»[42].

عَمَلَ كيث وايتلام، أستاذ العلوم الكتابية في قسم الدراسات اللاهوتية في جامعة سترلنغ بالمملكة المتحدة، على مراجعة المؤلفات التي تعاملت مع تاريخ فلسطين القديم، وأدرك في حينها مدى توغل الخطاب الاستشراقي في الكتابات عن تاريخ فلسطين. أشار وايتلام إلى أن هناك عملية طمس متعمد ومبرمج من قبل الحركة الصهيونية لكثير من الدلالات التاريخية للمكتشفات الأثرية في فلسطين، ومحاولة تفسيرها بطريقة مغلوطة في أغلب الأحيان، ليتوصل في كتابه تلفيق إسرائيل التوراتية: طمس التاريخ الفلسطيني إلى «أن صورة ماضي إسرائيل، كما وردت في معظم فصول الكتاب العبري، ليست إلا قصة خيالية؛ أي تلفيق للتاريخ» [43].

كانت الصفعة القاسية والضربة القاصمة، التي تلقاها الباحثون عن «إسرائيل القديمة» في فلسطين، هي تلك التي رماهم بها عالم الآثار الصهيوني، أستاذ قسم الآثار وحضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب البروفيسور، زئيف هرتسوغ في تقريره الموسوم بـ«التوراة: لا إثباتات على الأرض»، الذي نشرته جريدة هآرتس العبرية بتاريخ 18/11/1999. ورغم أننا لا نتفق مع كل المنطلقات النظرية للعالم الصهيوني، أو مع بعض استنتاجاته التي وصل إليها بخصوص بعض جوانب التاريخ الفلسطيني القديم، إلا أن ذلك لا يمنعنا من إدراك أهمية بحثه.

يذكر هرتسوغ أنه: «بعد سبعين عامًا من الحفريات المكثفة في أرض فلسطين، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة: لم يكن هناك شيء على الإطلاق، حكايات الآباء مجرد أساطير، لم نهبط مصر، ولم نصعد من هناك، لم نحتل فلسطين، ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان». ويستطرد هرتسوغ قائلًا: «من المعتقد أن سكان العالم كله، لا مواطني إسرائيل وأبناء الشعب اليهودي وحدهم سيذهلون لسماع الحقائق التي باتت معروفة لعلماء الآثار الذين يتولون الحفريات في أرض فلسطين منذ مدة من الزمن».

لقد «حدث انقلاب حقيقي في نظر علماء الآثار الصهاينة إلى التوراة بوصفها مصدرًا تاريخيًا، حتى إن أغلبية المنشغلين في النقاشات العلمية في مجال توراة آثار وتاريخ «شعب إسرائيل»، الذين كانوا يبحثون في الأرض عن البراهين والدلائل للحكايات الواردة في العهد القديم، يتفقون الآن على أنّ مراحل تكون «شعب إسرائيل» كانت مغايرة تمامًا لما يوصف في التوراة. يبدو أنه من الصعب قبول ذلك عند كثيرين، لكن من الواضح للعلماء والباحثين اليوم أن «شعب إسرائيل» لم يُقم في مصر، ولم يَتُه في الصحراء، ولم يحتل الأرض من خلال حملة عسكرية، ولم يستوطنها من خلال أسباطه الاثني عشر. والأصعب من ذلك أيضًا هو هضم الحقيقة التي تتضح، رويدًا رويدًا، بأنَّ مملكة داود وسليمان الموحدة التي وصفتها التوراة على أنها دولة عظمى إقليمية، كانت في أقصى الأحوال مملكة قبلية صغيرة. إضافةً إلى ذلك، يُتوقع عدم ارتياح كل من سيضطر إلى العيش مع المعلومة القائلة إنّ يهوه إله إسرائيل كان متزوجًا، وأن الدين الإسرائيلي القديم تبنّى التوحيد فقط في أواخر عهد المملكة وليس على جبل سيناء»[44].

هذا ما حدا بأحد أساتذة جامعة تل أبيب لعلوم الآثار، البروفيسور نيل سبلرمن، وزميله البروفسور إسرائيل فنكلشتاين إلى إطلاق صرختهما الشهيرة في كتابهما الصادم التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها، وذلك بعد أن تبين لهما وجود تضارب عميق بين ما تسطره التوراة في ما يخص تفاصيل المواقع الجغرافية لأنبياء وممالك بني إسرائيل، وبين ما تشهد به الأرض بعد أن استنطقتها علوم الآثار[45].

أما شلومو ساند، البروفيسور في جامعة تل أبيب، فيؤكد في كتابه اختراع الشعب اليهودي، الذي ضرب رقمًا قياسيًا في مبيعاته، أن القومية اليهودية هي ميثولوجيا جرت فبركتها قبل مئة عام من أجل تبرير إقامة «الدولة الإسرائيلية». ويؤكد ساند أن اليهود لم يُطردوا من الأراضي المقدسة، كما أن معظم يهود اليوم ليست لهم أي أصول عرقية في فلسطين التاريخية، وأن الحل الوحيد هو إلغاء «الدولة اليهودية إسرائيل» [46].

كما ينطلق ساند، في كتابه اختراع أرض إسرائيل، من أن الحركة الصهيونية قد اختلقت المصطلح الديني «أرض إسرائيل»، وحولته إلى مصطلح جيوسياسي لا تُعرف إلى الآن ما هي حدوده، ولا ما هي تطلعاته المستقبلية. ويسهب ساند في هذا الكتاب في شرح ظهور مصطلح «أرض إسرائيل» عبر التاريخ، وبدايات تغلغله في أوساط اليهود، مرورًا باستغلاله من جانب الحركة الصهيونية، وانتهاءً بتحوله إلى مصطلح جيوسياسي يعبر عن مساحة معينة من الأرض تعترف بها الأمم المتحدة[47].

خاتمة

هكذا، ما لبث تاريخ فلسطين أن أصبح أسيرًا لـ«المعرفة الاستعمارية»؛ إلى درجة يكاد يتعذر التحرر منها. خسرت فلسطين تاريخها أمام القوى الإمبريالية الأوروبية أولًا، وفي مواجهة تلفيق وتركيب تاريخ «عبري/إسرائيلي» للماضي ثانيًا، ما لبث أن أصبح رواية قومية «إسرائيلية» بعد ذلك، إذًا، فإن الكثير من تواريخ فلسطين المكتوبة ليست سوى مؤلفات غربية محرفة ومميّعة.

على الرغم من أن فلسطين مثلت جزءًا من نسيج تاريخي غني ومتداخل ومعقد، تمتد خيوطه المغروسة في أعماق الماضي إلى يومنا الحالي، فإن من المهم استكشاف حقب ماضي فلسطين القديم جميعها في سبيل إنتاج رواية مترابطة ومتماسكة لمنطقة تاريخها من الماضي إلى الحاضر.

فما أحوجنا إلى إنتاج تواريخ بديلة لتلك التي كتبتها القوى الأوروبية من قبل لتسويغ غزوها وإخضاعها لبلادنا فلسطين.

إننا قادرون على تحرير الحقائق التاريخية المتعلقة بتاريخ فلسطين القديم من «المعرفة الاستعمارية»، إذا تابعنا العمل على تفكيك الرواية التوراتية، والشروع في الخروج من بوتقة الكتاب المقدس بوصفه تاريخًا. فاليوم الذي يتوقف فيه الكتاب المقدس عن تغذية تاريخنا الفلسطيني، يعدو فيه كتابتنا للرواية التاريخية الفلسطينية – العربية، رواية لها بداية ونهاية؛ أي تمتد من ماضيها القديم إلى حاضرها الحديث، رواية محررة من إمبراطورية الأفكار التوراتية.

كتب ذات صلة:

فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ

القدس : التاريخ الحقيقي من أقدم العصور إلى الاحتلال الفارسي