أولاً: التآزر التاريخي بين الشعبين التونسي والليبي
حظيت الحركة الوطنية في تونس كما في ليبيا بتأييد مادي ومعنوي من كل القوى على امتداد كل الوطن العربي، بناء على الاقتناع بالمصير الواحد عربياً وإسلامياً. ولم ينحصر نضال الشعبين في الداخل فقط بل تحصَّنت الحركة الوطنية في كلا البلدين بالجانب العربي والإسلامي وشاركتا في نضال الحركات الوطنية في الوطن العربي وأفريقيا وآسيا بتأثير من القادة المناضلين على غرار الثعالبي والشيخ الخضر الحسين في تونس وعمر المختار وخليفة بن عسكر والبشير السعداوي في ليبيا كأمثلة للذكر لا للحصر.
وقد ساند الليبيون لوجستياً ومادياً وبشرياً المناضلين التونسيين عند دخول القوات الفرنسية إلى الأراضي التونسية في القرن التاسع عشر، بينما هبّ الشعب التونسي، على الرغم من نير الحماية الفرنسية، لنصرة الليبيين عندما وقع عدوان إيطاليا، وناصرهم مادياً ومعنوياً بالمال والسلاح والرجال. وكانت أرض تونس معبراً للمساعدات من كل مكان؛ بل إن الضباط الأتراك الذين تكفلوا بمساعدة الليبيين قد وجدوا في التونسيين داعماً رئيسياً في توفير الإمداد اللوجستي للعبور على الرغم من وجود جالية إيطالية كبيرة في تونس[1] كانت مهمتها تعطيل ذلك العون وتحريض السلطات لمنع أي مساعدة تعبر الأراضي التونسية إلى المجاهدين الليبيين.
وعلى الرغم من حلول الاستعمار الأوروبي البغيض على الأراضي التونسية والليبية فإن أواصر الأخوة والتآزر بين الشعبين كانت طوال العقود توحد النضالات، وتؤطر التفاعلات المشتركة، تجاه التطورات اللاحقة عربياً وإسلامياً وأفريقياً؛ سواء مع قضايا المشرق العربي أو مع تطورات الفعل الوطني في ليبيا وتونس وعلى المستويين المغاربي والمتوسطي. ولعل توحَد العواطف والفعل الإسنادي للقدس وللفلسطينيين هي أولى التجسّدات لتلك الأخوة والمشتركات.
وقد تجسدت كل تلك المعاني لاحقاً في وصية الشهيد التونسي على أرض فلسطين ميلود بن الناجح[2].
وصية الشهيد ميلود بن الناجح
«اخترت الشهادة رفعة لشأن إرادة المواجهة»
إلى شعب تونس العظيم
إلى أبناء شعبنا في المغرب العربي:
نحن في تونس، في مغرب الأمة العربية، نحن جزء من هذه الأرض الطاهرة الممتدة من المحيط إلى الخليج، ونحن نفخر بأن أبطالاً منا سقطوا في ساحة المواجهة ضد الاستعماريين الفرنسيين الذين حاولوا القضاء على تاريخنا ولغتنا ومعتقداتنا. لقد تعلمنا من آبائنا وأجدادنا أن تحقيق الانتصار على القوى الظالمة والباغية لا يمكن أن يكون إلا بلغة النضال والكفاح المسلح…
لقد حاول المستعمرون وأدواتهم في تونس الخضراء تشويه ثقافتنا الوطنية والسياسية، حاولوا أن نكون بعيدين من الهموم الكبيرة التي حلّت بأشقائنا في الشرق العربي وبخاصة ما تعرض له أبناء شعبنا في فلسطين من كوارث ومآسٍ على أيدي عصابات الغدر الصهيونية وبمساعدة الاستعمار الغربي…
لكنهم لم ينجحوا في ذلك، وباءت تلك المحاولات بالفشل الذريع، وبخاصة بعد ثورة المليون شهيد في الجزائر وبعد الأثر المنقطع النظير الذي مثله جمال عبد الناصر وهو يواجه الصهاينة وفرنسا وبريطانيا وأمريكا… إن فلسطين هي مهبط الأديان، وهي أرض عربية، جزء من الأمة العربية، لقد عاث فيها الصهاينة فساداً وشردوا أهلها وارتكبوا فيها المجزرة تلو الأخرى….
لقد عزمت وأنا تونسي، عربي، مقاتل في صفوف الثورة الفلسطينية، في صفوف الجبهة الشعبية – القيادة العامة، على تأكيد أن هم أخوتنا في مشرق الأمة هو همّنا جميعاً في مغربها وأن وحدة التاريخ واللغة والمعتقد والدم هي وحدة متكاملة، وأن محاربة الصهاينة واجب قومي لا يفوقه أي واجب آخر، وأن الطريق الوحيد للتعبير عن هذا الفهم هو مواجهة العدو والاشتباك المباشر معه ثم الشهادة تحقيقاً لقوله تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾.
لقد اخترت الشهادة رفعة لشأن وطني ورفعة لشأن إرادة المواجهة، وأنا موقن بأن هذا الاختيار هو الرد العملي على دعاة نهج الانحراف والاستسلام في الساحتين الفلسطينية والعربية، هو الرد على كل الذين يعملون لتعميم كامب دايفيد تحقيقاً لأهداف الإمبريالية والصهيونية وعملائهما…، وأنا في طريقي إلى فلسطين تغمرني عواطف صادقة وغزيرة، عواطف كلها شوق لأهلي في تونس، لوالدي ووالدتي ولإخوتي وإخواتي، لكل الأقارب والأصدقاء، لكن هذه العواطف تزداد قداسة وتعمقاً في الذات لأنها تتمازج مع أسمى ما يمكن أن يحيا في الضمير من مشاعر الفخر برفع راية الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني… وتحية لشعبي في تونس، وفي المغرب، مني ومن رفاقي في الدورية:
العربي السوري والعربيين الفلسطينيين الذين اختاروا كما اخترت طريق الشهادة تحقيقاً للنصر حتى تحرير الأرض والإنسان…
ثانياً: المؤثرات التاريخية لتفاعل الشعبين التونسي والليبي مع الشعب الفلسطيني من وعد بلفور حتى حرب 1948
1 – عوامل ومؤثرات
يعَد مؤتمر بال بسويسرا أهم مجسدات تأسيس الحركة الصهيونية التي ركزت أنشطتها على العالمين العربي والإسلامي، وبخاصة أن كل ذلك سبق بحدث مهم عادة ما يتم التغافل عنه في أغلب الكتابات التاريخية، وهو تأسيس الاتحاد الإسرائيلي العالمي سنة 1860 وهو نفس الاتحاد الذي وقف في بداية خمسينيات القرن العشرين وراء نشر أهم الكتب حول يهود شمال أفريقيا تحت عنوان الاتجاه نحو الغرب، يهود شمال أفريقيا[3] …
بدأ النشاط الصهيوني مبكراً في كل من تونس وليبيا نتاج رؤية صهيونية للواقع السياسي للبلدين ونتاج وجود أعداد مهمة بعشرات الألوف من اليهود التونسيين والليبيين وبخاصة في مدينة جربة التونسية وفي كل من برقة وطرابلس الليبيتين[4]، والذين كانوا محط أنظار الاستقطاب من طرف قيادات الحركة الصهيونية أولاً، ولكون برقة الليبية، وتحديداً الجبل الأخضر، كانت مبرمجة في بداية القرن العشرين لإقامة وطن قومي لليهود بها أو ما سُمي «المشروع الاستيطاني الصهيوني في برقة»، الذي تحدث عنه الرئيس الأسبق للجامعة الليبية والوزير الأسبق للمعارف مصطفى عبد الله بعيو في كتابه المشروع الصهيوني لتوطين اليهود في ليبيا[5]. وقد تم نشر مضمون المشروع كامـلاً في كتاب تحت عنوان مشروع الاستيطان اليهودي في برقة الذي ترجمه عميد الجغرافيين الليبيين في الستينيات الهادي أبو لقمة[6]. وفعـلاً أُرسلت بعثة يهودية إلى برقة أعدت تقريراً حول إمكان توطين اليهود فيها (كونها غير بعيدة من رومانيا وروسيا)، وقد عملت خلال شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس سنة 1908 بأمر من منظمة الأراضي اليهودية، وهذه الأخيرة انتهت في ضوء تقرير البعثة إلى قرار بعدم القيام بأي عمل آخر بالنسبة إلى تحقيق مشروع الوطن القومي لليهود في برقة، لأن توقعاتها لتوطين اليهود فيها لا تُبشر بنجاح كافٍ يبرر التجارب الباهظة التكاليف التي اقترحتها البعثة في تقريرها حتى تكون البلاد صالحة للاستيطان اليهودي فيها. وفي كانون الثاني/يناير 1909 أصدرت المنظمة في لندن الكتاب الأزرق وقد حوى التقارير التي أعدّها أعضاء البعثة. وهو كتاب يتألف من 65 صفحة من المقاس الكبير، وضم عملياً خريطة كبيرة للجبل الأخضر، بحيث شغلت 6 صفحات مطوية من الكتاب إضافة إلى أربعة تقارير (مقدمة تاريخية وسياسية، وتقرير عام، وتقرير حول الأحوال الزراعية ببرقة، وتقرير خاص بموارد المياه والإمكانات الهندسية لبرقة، ورسالة تحذيرية، وملحق عن اليهود واليهودية في برقة القديمة…)، وقد كتب أحد أعضاء اللجنة كتاباً لاحقاً سمّاه رحلات في شمال أفريقية (1927).
ولا بد من التأكيد أن من أخطر ما قيل في التقرير هما إشارتان مهمتان:
– «أنه باستثناء بلاد ما بين النهرين لا يوجد بلد أدّى دوراً مهماً في تاريخ اليهود مثل ما فعلت برقة» (شلوش عضو اللجنة)…
– بأن البلاد ما زالت كما هي تنتظر سكانها الأصليين اليهود الأبطال (كلام شلوش عضو اللجنة)…
الخلاصة أن الكتاب الأزرق وثيقة خطيرة تكشف الكثير من أسرار الأطماع الصهيونية في الوطن العربي، سواء في ليبيا أو فلسطين، كما أن الكتاب يُلقي الضوء على الكثير من المؤامرات التي أدّاها بعض اليهود في كيان الدولة العثمانية.
2 – آثار وعد بلفور في القضيّة الفلسطينيّة
على الرغم من حالة الضعف والوهن للشعوب العربية والإسلامية فقد كانت ردود فعلها قوية تجاه وعد بلفور من خلال النخب والاحتجاجات الشعبية، وبخاصة أن ذلك جاء بعد سنة واحدة من اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت العالم العربي والإسلامي إلى بلدان وكانتونات صغيرة.
وقد تجلّت آثار وعد بلفور في القضيّة الفلسطينيّة في عدّة أمور، منها:
- كان هذا الوعدُ بداية التّمكين لليهود الصّهاينة في فلسطين، فقد عقد اليهود مؤتمراتٍ من قبل، وأشهرها مؤتمر بال في سويسرا من أجل إقامة وطنٍ لهم، ولكنّ كلّ تلك المؤتمرات لم تؤتِ ثمار ما جاء به وعد بلفور، فهذا الوعد وفّر الحماية الرّسميّة من جانب قوّة إقليميّة مستعمرة وهي بريطانيا لمجموعةٍ من العصابات والشّراذم الصّهيونيّة العابثة، التي استطاعت تحت هذه الرّعاية والحماية من تقوية شوكتها وتثبيت أركانها.
- زيادة أعداد اليهود في فلسطين، فعندما أصدر البريطانيّون وعد بلفور لم يكن عددُ اليهود في فلسطين يتجاوزُ خمسة بالمئة من عدد السّكان، ولكنهم تزايدوا بعد الوعد أكثر فأكثر بفعل الهجرات التي شجّعتها القوى الإقليميّة.
- صدر هذا الوعدُ في فتراتِ ضعف الدّولة العثمانيّة، عندما هُزمت في الحرب العالميّة الأولى وزاد تشرذم الدّول العربيّة والإسلاميّة، حيث مهّد لاحقاً لإنشاء الكيان الصّهيونيّ الذي أصبح كالسّرطان المخيف في جسد الأمّة، وكالدّاء العضال الذي ينشر سموم التّفرقة والضّعف والتّشرذم والخلافات في جسد الأمّة العربيّة والإسلاميّة.
3 – الوضع في تونس أثناء وعد بلفور
كانت تونس عند صدور وعد بلفور مستعمرة فرنسية، وكانت تعاني تبعات ذلك الاستعمار وتأثيرات الحرب العالمية الأولى، وفي هذه الظرفية، عندما كانت الحرب على أشدّها، أصدر بلفور وعده، وكون الوعد مثّل نقطة تحوّل في نشاط الحركة الصهيونية حيث تكثف ذلك النشاط بتونس سنة 1918، إضافة إلى أن المصالح الإدارية والأمنية الفرنسية في تونس قد ساهمت في نمو ذلك النشاط، وساهمت في تنسيق العمل بين الجمعيات الصهيونية في تونس ونظيراتها بالدول الأخرى، حتى إن اليهود كانوا أكبر المستفيدين من الحرب العالمية الأولى، بينما دفع التونسيون والفرنسيون المقيمون في تونس ثمناً غالياً لتلك الحرب، وذلك نظراً إلى نهب عدد من المتاجر وتخريبها بتونس وسوسة والقيروان وصفاقس وباجة وغيرها.
4 – الوضع في ليبيا أثناء وعد بلفور
على الرغم من أن عدداً من اليهود الليبيين قد حمل السلاح وأبلى بلاءً حسناً إلى جانب المجاهدين ضد الغزو الإيطالي ومات بعضهم من أجل ليبيا، إلا أن الحركة الصهيونية كانت نشطة في دعم الاستعمار الإيطالي عبر دعم مواقف الترحيب والتأييد والمساندة، وبخاصة في طرابلس، وأساساً في الترجمة وللإبلاغ والتجسس للإيطاليين عمّا كان يقوم به الأهالي من أنشطة مضادة؛ حتى إن كل بارجة إيطالية كان على متنها اثنان من ناشطي الحركة الصهيونية يدلّانها على المواقع الواجب ضربها[7]. أما في بنغازي فقد زود الناشطان في الحركة الصهيونية الأخوان هارون وأفراي مخلفون (وهما أصحاب ورشة لصناعة القوارب)، قوات الإنزال الإيطالية بالعوامات والمساعدين اللازمين. أما جوزيف عبوب – بوردن، فقد حاول إقناع وجهاء المدينة بالتسليم وبالتعاون مع الاحتلال كما ساعد قوات الطليان في عمليات الإنزال في الزويتية…[8]، وعملياً باتت الدعوة للحركة الصهيونية والاشتراك في أنشطتها أمراً علنياً حيث تم تأسيس «نادي صهيون» من جانب النحايسي في طرابلس، والذي ترأسه بعده باردا سنة 1915[9]. وفي البداية كافأ الجنرال «كانيفا» أبرز ناشطي الحركة الصهيونية في ليبيا[10]، وعلى الرغم من ذلك انقبلت إيطاليا ضد أولئك وعاقبت كل اليهود الليبيين بغض النظر عن علاقتهم مع الحركة الصهيونية أثناء الحربين العالميتين نتاج تحالفها مع ألمانيا.
وعملياً نشطت النخب الليبية ضد وعد بلفور والتشديد على خطورته. وكان المناضلون يربطون ما وقع في ليبيا وتبعات ذلك الوعد على تشدد الاستعمار الفاشيستي عليهم كمناضلين وعلى كل سكان ليبيا.
5 – وعد بلفور كان نتاجاً ولم يكن الأصل
صب الوطنيون التونسيون والليبيون جام غضبهم على اللورد بلفور الذي وعد اليهود يوم الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917 بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، واستطاع بعضهم منذ البداية الوعي بخطورته على غرار الشيخ الثعالبي، إلا أن بعضهم انتبه منذ البداية إلى أن مؤثرات الضعف العربي والإسلامي كانت الممهد الحقيقي للوعد. وفعـلاً ساهمت بعد ذلك الظروف والملابسات التاريخية في النصف الأول من القرن العشرين في قيام دولة إسرائيل لاحقاً وهزيمة العرب. وعملياً لا يمكن أن نفصل وعد بلفور عام 1917 عن اتفاقية سايكس – بيكو 1916، ولا عن محادثات أو تفاهمات حسين – مكماهون في نفس العام، ولا عن تفاهمات فيصل – وايزمان 1919. والأهم من ذلك أن وعد بلفور ما كان له أن يكون وما كان لإسرائيل أن تقوم لولا وجود الحركة الصهيونية التي وحدت كل التيارات والتوجهات الصهيونية نحو هدف واحد وأعلنت منذ مؤتمرها الأول في بال في سويسرا عام 1897 أن هدفها قيام دولة لليهود في فلسطين.
كما يمكن التأكيد أن:
أ – وعد بلفور شجع اليهود على الهجرة إلى فلسطين وخصوصاً أن بريطانيا التي وعدت اليهود احتلت فلسطين، وكلفت عصبة الأمم المتحدة بريطانيا بالانتداب على فلسطين.
ب – وضع العرب خلال الربع الأول من القرن العشرين لم يكن من القوة بحيث يقف في وجه الهجرة اليهودية والمخططات الاستعمارية بل كان متواطئاً أحياناً…
لكن الثابت أيضاً أن اليهود لم يركنوا فقط إلى وعد بلفور بل بذلوا جهوداً ذاتية كبيرة ليحققوا حلمهم بقيام دولة إسرائيل، فالاستيطان بدأ في فلسطين قبل وعد بلفور، ومنذ العشرينيات نظم اليهود أنفسهم وأقاموا مؤسسات مثل المنظمة العمالية اليهودية (الهستدروت) وأقاموا جامعة خاصة بهم عام 1925، ونظموا أنفسهم في حركات سياسية مقاتلة نسميها نحن العصابات الصهيونية كمنظمات «شتيرن» و«الهاغاناه» و«الملباخ»، وقاموا بعمليات إرهابية ضد العرب – وحتى ضد الجيش البريطاني – وصدر بحق بعض قادتهم أحكام بالإعدام من البريطانيين.
6 – تفاعُل الشعبين مع قضية فلسطين (1917 – 1948)
أ – بدأ الارتباط التونسي بالقضية الفلسطينية منذ ما قبل نكبة عام 1948، على الرغم من البعد الجغرافي بين البلدين، إذ تشكّل الوعي التونسي حول مسألة فلسطين في حقبة العشرينيات[11]، فقد تخوّفت النخب التونسية مبكراً من خطط الانتداب البريطاني في فلسطين، كما تنبأ التونسيون بتسليم الانتداب فلسطين إلى الحركة الصهيونية، وقد كتب أحد رواد الصحافة الوطنية بتونس، زين العابدين بن محمد السنّوسي في جريدة الأمة عام 1921: «قضت إدارة الإنجليز أن تمنح اليهود أراضي فلسطين كوطن قومي حسب دعوة الصّهيونيين ليؤلّف منهم عبيداً (الصهاينة)، ويستخدمهم في قضاء مآربه بالشرق تحت اسم أصدقاء مقرّبين».
وقد تابعت جريدة الأمة في ذلك الوقت، نشر أصداء الأحداث في فلسطين، بما فيها الاحتجاجات على وعد بلفور، حتى أصبح الوعي التونسي واضحاً لدى النخبة، تجاه خطط الانتداب، وتبعات وعد بلفور المشؤوم؛ كما كتب السنوسي في مقال له بجريدة إفريقيا عام 1925: «وإننا بما لنا من الروابط المتينة بتلك الأمّة الفلسطينية نرى أن من واجبنا أن نتألّم لآلامها وأن نشعر بها، وأنّ هناك أمّة عربيّة تُضطهد بيد الاستعمار الأوروبي فنمنحها عواطفنا وشفقتنا، ونتضرع إلى الله أنّ يجعل لها الخلاص وأن يؤيّدها في جهادها بروح منه…»
ولأن الجغرافيا كانت تحول دون التواصل المباشر بين تونس وفلسطين، فقد وصلت بعض التبرعات من الشعب التونسي، إلى فلسطين، بعد نداء الاستغاثة الذي وجهه المفتي أمين الحسيني بعد ثورة البراق 1929، لنجدة المقاومين. وقد «أثمرت حملة تبرّعات لنجدة المقاومين أشرف عليها مناضلون من الحزب الدستوري الحر جمعَ الكثير من الأموال، التي أُرسلت إلى رئيس اللجنة الفلسطينيّة العربية بالقاهرة وصاحب جريدة الشورى محمّد علي الطّاهر في فيفري 1930، وجرى تحويل مبلغ آخر بقيمة 100 جنيه استرليني إلى حساب نفس الشخصيّة في «البنك العثماني»، وعند وصول تلك التبرّعات تلقى الحزب الدستوري الحرّ التّونسي رسالتي شكر من فلسطين، الأولى من اللّجنة التنفيذيّة الفلسطينيّة، والثانية من المحكمة العليا الإسلامية بالقدس…»
كانت حصيلة الحملة الثانية لجمع التبرعات حتى أواخر كانون الأول/ديسمبر 1936 ما مجموعه 90 ألف فرنك فرنسي، أمّا «يوم الصّوم» الذي خصص لجمع التبرعات، وشارك فيه العرب على نطاق واسع، فقد أثمر جمع 55 ألف فرنك، كما وصلت جملة التبرّعات عام 1937 إلى 242 ألف فرنك فرنسي.
- كما قام سياسيون وحزبيون وأفراد من النخبة التونسية بنضالات على أرضهم لخدمة القضية الفلسطينية، وقاوموا الأصوات الصهيونية داخل تونس، التي دعمت دعاية الحركة الصهيونية، وفنّدوا ادعاءاتهم؛ فقاموا بالتصدي لها، وأفشلوا الزيارة التي كان من المفترض أن يقوم بها القيَادي الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي في 17 آذار/مارس 1932. إضافة إلى ذلك، وقع أكثر من اشتباك عنيف مع الصهاينة في تونس، أدت في بعض الأحيان إلى سقوط قتلى. كما عدّ الوطنيون التّونسيون قدوم الدعاة الصّهاينة إلى تونس ونشر أفكارهم وجمع التبرعات لهم، من باب التعدّي على السيادة التونسية، ومدعاة لتشويش الأمن العام، وإفساد العلاقات بين مسلمي تونس ويهودها؛ ومن ذلك ما كتبه محمد الجعايبي في جريدة الصّواب 1932، ويقول: «نعلن لكافة الإسرائيليين بأنّ رغبتنا في تطهير بلدنا من الدعايات المختلفة ليس القصد منه التشفي من اليهود أو الاعتداء على حريتهم، وإنّما مرادنا أن نحافظ عمّا بيننا من العلاقات والروابط التي مرّت عليها السنون».
ب – إن دوافع التحاق التونسيين بالمقاومة الفلسطينية دينية وقومية وتحريرية أيضاً، من أجل تحرير تونس، وكانت أيضاً بغرض تعلُّم الخبرات القتالية والتعود على القتال[12]. كما ساهمت التنظيمات السياسية في تعزيز الروح الأخوية، ومنها الحزب الدستوري القديم والحزب الدستوري الجديد، وكذلك أساتذة الزيتونة. ويذكر الباحث نور الدين سريب أن محمد الصادق بسيس – وهو أحد أساتذة التعليم الزيتوني بتونس وأحد الناشطين في الحياة الجمعياتية – عرف بحماسته الشديدة للقضية الفلسطينية وترأس جمعية الدفاع عن فلسطين العربية في 1936 كما أعلن لجنة الدفاع عن فلسطين التي فتحت باب التطوع للقتال في فلسطين وجمع التبرعات وتجنيد المتطوعين. وفي السياق نفسه جاء في تقرير «روبرت»، قائد الجندرمة بمحافظة قفصة، جنوب البلاد، بتاريخ 15 أيار/مايو 1948، وهو محفوظ في أرشيف الحكومة التونسية، أن الدعاية ضد الصهيونية ازدادت، إذ تم تسجيل خروج 55 مقاوماً من دائرة قفصة مقارنة بمقاومين أو ثلاثة من بقية الدوائر.
كما ذكر التقرير دور الاتحاد العام التونسي للشغل في تعبئة المقاتلين وتوجيههم إلى فلسطين…[13]. عبّر الليبيون بمختلف فئاتهم وفي شتى أقاليم بلادهم منذ مرحلة مبكرة من ظهور القضية الفلسطينية ونشوء الصراع العربي – الإسرائيلي عن تأييدهم للشعب الفلسطيني ولقضيته، وقد أخذ ذلك التأييد عدة أوجه من بينها:
(1) الكتابة في الصحف المحلية حول القضية والتنديد بالجرائم التي يرتكبها اليهود ضد شعب فلسطين، وشجبوا قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين.
(2) تسيير التظاهرات والمسيرات الاحتجاجية في شتى المدن الليبية.
(3) فتح مكاتب التطوع للجهاد من أجل انقاذ فلسطين.
(4) إرسال المذكرات والبرقيات إلى مختلف الهيئات العربية والمنظمات الدولية.
يقول مصطفى فوزي السراج «بمناسبة فلسطين أذكر أن أخي نجاتي تحمّس وانضم إلى معسكر في منطقة القره بولي تحت إشراف أحد أفراد عائلة العشق صرمان ولا أعرف بتكليف من وذلك بغرض التطوع والجهاد في فلسطين وتخليصها، ولكن لم تتمكن مجموعات المتطوعين من تحقيق أحلامها حيث اتضح أن فلسطين لا تحتاج للرجال وإنما هي بحاجة إلى المال والسلاح فصارت تجمع التبرعات»[14].
(5) شهدت سنة 1945 وتحديداً يومي 2 و3 تشرين الثاني/نوفمبر، احتجاجات وتظاهرات صاخبة في أغلب البلدان العربية والإسلامية بمناسبة ذكرى وعد بلفور.
7 – مُشاركة التونسيين والليبيين في حرب 1948
أ – مشاركة التونسيين في حرب 1948
لم يقتصر دعم الشعب التونسي للقضية الفلسطينية على التظاهرات والتبرعات وكتابة العرائض لحكومات الدول الكبرى؛ ففي بعض الرسائل من المجاهدين التونسيين الذين تطوعوا للقتال في فلسطين، كتب أحد مسؤولي حملة التطوع: «على طول طريقي نحو طرابلس كان يعترضني مئات من التونسيين المتوجهين إلى فلسطين للتطوع في صفوف المجاهدين العرب»…
فقد كان في العاصمة تونس وفي المدن الداخلية، مكاتب تستقبل المتطوعين وتنقلهم إلى الحدود مع طرابلس الليبية في الجنوب. وفي تقرير من المقيم العام الفرنسي في 20 تموز/يوليو 1948، يفيد أنه قبل ذلك التاريخ بيومين، أحصت الأجهزة الأمنية 2676 تونسياً متطوعاً، إما جرى احتجازهم على الحدود مع طرابلس، وإما تم إيقافهم قبل عبور الحدود الليبية.
وعلى الرغم من عدم العلم بالعدد الحقيقي للذين استطاعوا اجتياز الحدود المصرية، ثم الدخول إلى فلسطين للمقاومة، إلّا أنه وبعد النكبة مباشرة، وجدت برقية ثانية من المقيم الفرنسي بتاريخ 17 أيار/مايو 1949، أي بعد تثبيت الهدنة على معظم الجبهات وتوقف القتال، أن هناك 188 تونسياً لا يزالون عالقين في طرابلس، وتعمل السلطات على ترحيلهم إلى بلدهم تونس.
وأورد التقرير الفرنسي أن عدد المتطوعين الذين حاولوا الدخول إلى فلسطين بلغ ما يقارب 3 آلاف تونسي، بعضهم تم احتجازهم أثناء محاولتهم العبور، أما من استطاع الدخول إلى فلسطين فقد حارب في صف المتطوعين السوريين أو ضمن متطوعي مصر أو لبنان، أو انضم إلى الفصائل الفلسطينية المسلحة. وكان المتطوعون من تونس العاصمة، تليها صفاقس، ثم سوسة والساحل وقابس. كما كان معظم هؤلاء من الفقراء المعدمين، والحرفيين، والعمّال والفلاحين الفقراء، والعاطلين من العمل، وطلبة من جامعة الزيتونة.
كما أورد تقرير المقيم الفرنسي العام نفسه، تموز/يوليو 1948، أن الفرقة الأولى من المتطوعين وصلت إلى مدن بيت لحم ويافا والقدس واشتبكت مع الصهاينة، واستشهد منها 11 تونسياً، منهم عبد الحميد الحاج سعيد، وبلقاسم عبد القادر، ومحمد التونسي، وثلاثتهم استشهدوا جنوب القدس، والشهيد علي بن صالح التونسي، الذي استشهد في مدينة يافا عام 1948.
كان المتطوعون التّونسيّون الذين يجتازون الحدود التونسية – اللّيبية ينقلون عبر شاحنات مملوكة لعائلة السّنوسي (الليبية) إلى مدينة بنغازي، ويقوم قنصل مصر ببنغازي بتحويل المتطوّعين إلى مدينة مرسى مطروح على مقربة من الحدود المصرية – الليبية، وبعد تعرضهم لفحوصات طبية دقيقة وتسليمهم تصاريح لدخول التراب المصري، وعند بلوغهم ثكنة مرسى مطروح، يتم إعطاؤهم زياً عسكرياً، ثم يقسّمون إلى كتائب صغيرة، ويشرع في تدريبهم على استعمال الرشاشات والبنادق ورمي القنابل، فضـلاً عن التمرينات الرياضيّة المكثفة، كما يحصل المتطوعون على تربية سياسية واجتماعيّة ودينيّة.
ب – مشاركة الليبيين في حرب 1948
يقول السنوسي محمد شلوف، أحد المتطوعين الليبيين في كتابه مواقف من جهاد العرب الليبيين بفلسطين، الصادر عن دار إفريقيا للطباعة والنشر: «كانت أولى المعارك مع الأعداء في تلك المناطق مع إحدى القوافل الإسرائيلية التي كثيراً ما يكون مرورها من وادي أبي سويرج الدانجور، وتم بالفعل الاستيلاء الكامل على إحدى تلك القوافل الإسرائيلية في معركة كانت سريعة وخاطفة وعنيفة تم فيها القضاء على اليهود قضاءً تاماً، وهو أول انتصار يحققه الليبيون منذ وصولهم إلى فلسطين». ويضيف: «كان المجاهدون الذين قاموا بسحب تلك المصفحات والآليات الإسرائيلية من الوادي إلى عراق سويدان مقر الكتيبة الليبية هم: إدريس بوشناف العيساوي وفتحي طلوبه، وعلي البرّاني وعبد الفتاح بشون، ومحمد جعاكة، وعبد العزيز محمد، وعبد الله الشريف، ويوسف الطرابلسي، ومسعود السراوي، وجميعهم عرب ليبيون والبعض منهم لا يزال على قيد الحياة حتى ساعة كتابة هذه المذكرات، وكان هؤلاء يجيدون قيادة المصفحات من بين أفراد الكتيبة وعددهم أكثر أربعمئة مجاهد. فقد سحبوها بسرعة فائقة من ميدان المعركة إلى مقر الكتيبة بعراق سويدان، وقد اعتبر أفراد الكتيبة ذلك اليوم عيداً لأول نصر حققوه على الأعداء».
(1) تفاصيل معركة رامات راحيل ودور الليبيين البطولي: سميت المعركة باسم «رامات راحيل» نسبة إلى المستعمرة الإسرائيلية «رامات راحيل»، وهي مستعمرة تقع بين القدس وبيت لحم على الطريق الرئيسي بين المدينتين، وهي قريبة من منطقة «صور باهر» وقرية «مار الياس» العربيتين من الناحية العربية قرب بيت لحم، وقريبة أيضاً من مستعمرتي «رانونا» و«تل أبيوت» ومستعمرة «البجعة» من الناحية الإسرائيلية قرب القدس الجديدة «الحي اليهودي». تشتهر رامات راحيل ببنايتين من ثلاثة طوابق أشبه بالحصون التي أعدت خصيصاً للدفاع ضد أي غزو نظراً إلى موقعها الاستراتيجي الذي يعطيها ميزة التحكم في ما حولها من المناطق، كما صممت لها ممرات أرضية عبارة عن خنادق متشابكة ومتصلة ببعضها، وكانت هناك بداخل البنايتين دهاليز وسراديب سرية تحت الأرض تتصل ببعضها تستعمل في عمليات الإمداد أو الانسحاب، وهناك الاستحكامات الخرسانية المحصنة ذات الثقوب التي تسمح بإطلاق أعيرة الأسلحة الرشاشة في شتى الاتجاهات بكل حرية وقد نقشت على تلك الاستحكامات عبارات باللغة العبرية ترجمت لنا من جانب المواطنين الفلسطينيين حيث تقول «شلّت يميني إن أنا سقطت دونك يا أورشليم»، هكذا صممت مستعمرة رامات راحيل من قبل اليهود بتخطيط شيطاني وتلمودي غاية في الدهاء والخبث، وكان يسميها القائد أحمد عبد العزيز «مفتاح القدس»….
(2) أحداث المعركة: عند وصول كتيبة عمر المختار الأولى الليبية إلى مدينة بيت لحم كانت هناك معركة تدور رحاها بمستعمرة «رامات راحيل»، فقد هاجمها العرب الفلسطينيون بجيش الإنقاذ عدة مرات ومن عدة نواحي بقيادة المناضل الفلسطيني محمد بو دية من رفاق البطل الشهيد عبد القادر الحسيني، وقد استشهد المجاهد بودية وهو يقود رفاقه عند مداخل مستعمرة رامات راحيل…
وقرر القائد أحمد عبد العزيز مهاجمتها واقتحامها وكان يثق بالمجاهدين الليبيين إلى حد بعيد، لذلك اختار ثلاثة فدائيين من العرب الليبيين هم : عبد السلام المهدي، ومحمد عبد الكريم بوقفه، وجيد الله الدرسي، لإرسالهم في مهمة استطلاعية عن مستعمرة رامات راحيل واستحكاماتها ونوع سورها الخارجي من الأسلاك الشائكة أو الخرساني، وعن تحركات اليهود بداخلها، وطلب منهم رصد كل ما يجري بداخل المستعمرة وهم في أماكنهم من أعالي التلال التي تحيط بالمستعمرة على أن يبقوا في أماكنهم مدة أربعة وعشرين ساعة شرط أن يكون الذهاب ليلا والعودة أيضا ليلاً.
بعد انتهاء مهمة الفدائيين العرب الليبيين الثلاثة وتسليم المعلومات التي قاموا بجمعها إلى القائد قرر مهاجمة رامات راحيل ليلاً…
وعند غروب ذلك اليوم، أصدر القائد أمراً لمدفعية الفدائيين التي كان يقودها المجاهد كمال الدين حسين ومعاونة الضابط خالد فوزي بدك مستعمرة رامات راحيل، وبعد انتهاء الدور الرائع الذي قامت به مدفعية المتطوعين بدا واضحاً ارتباك اليهود لما أصابهم من خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، صدرت الأوامر من القائد بالهجوم واقتحام المستعمرة من ثلاثة مداخل، مدخل الطريق الرئيسي من بيت لحم إلى المستعمرة، وقد كان من نصيب المجاهدين الليبيين اختاروه لأنفسهم وقد طلبوا من القائد عدم توزيعهم أو دمجهم مع قوات أخرى، وقد تعهدوا للقائد بأن يحكموا السيطرة على ذلك الطريق حتى مدخل المستعمرة مهما كان الثمن والتضحيات.
كانت الدقائق الخمس التي تقترب من العاشرة ليلاً هي الموعد المحدد لبداية الهجوم على المستعمرة من ثلاثة محاور، وكان سلاحنا لا بأس به من نوع «كارلوغستاف»، و«توميغان»، ورشاشات نوع «برن» وكان معظم المجاهدين يحملون أيضاً الكثير من القنابل اليدوية ويجيدون التصرف بمهارة من حيث ضبط التوقيت وبدأ الهجوم، وفي أثناء زحف المجاهدين العرب وتقدمهم نحو مداخل المستعمرة فوجئوا بسيل من نيران العدو في شتى الاتجاهات، وقد كانت عناية الله هي الدرع والحماية الواقية بالنسبة للمجاهدين الليبيين، إن رصاص الأعداء المحرم دوليا وهو من نوع ذو صوتين عند إطلاقه وعندما يصطدم بالهدف، وهو من نوع متفجّر يسمى «دمدم». وقد تسلل البعض منهم تحت جنح الظلام يحملون القنابل اليدوية حيث ألقوها على الاستحكامات الأولى للعدو وذلك لفتح ثغرة ومنفذ للدخول داخل المستعمرة.
وعلى الرغم من النيران الملتهبة من رصاص الأعداء الآتي من طوابق البنايتين المحصنتين بالمستعمرة، سقط خط الدفاع الأول بأيدي المجاهدين العرب الليبيين، واختبأوا به. وبعد احتلال الاستحكامات الإسرائيلية توقف الهجوم بسبب شدة الظلام وانعدام الرؤية، وقد سقط من بين المهاجمين العرب شهيد واحد وهو «محمد العياشي» من الشقيقة تونس، وجرح المجاهد «مسعود معتوق» والمجاهد «محمد الملح»، وتم نقلهم للخطوط الخلفية ثم إلى المستشفى بواسطة المجاهد «محمد المهشهش» و«عبد السلام المهدي»….
بقي الليبيون بتلك الاستحكامات المدمرة حتى مطلع الفجر بحسب أوامر القائد وكانت الأوامر تقضي بإطلاق الأعيرة النارية بغزارة على أي هدف متحرك حتى لمجرد الشك في أي كائن…
وفكر أحد المجاهدين وهو «جيد الله الدرسي» (وكان رجـلاً شجاعاً)، في طريقة تثير الارتباك في صفوف العدو، وكان بداخل المستعمرة حظيرة كبيرة مليئة بالأبقار إذ تسلل المجاهد العربي الليبي بكل شجاعة نحو الحظيرة وفتح بابها للأبقار وقام بإطلاق النار بغزارة خشية وجود أفراد العدو وقتل البعض منها، ولكن الحماسة هي من جعلته يتصرف على هذا النحو، وكان يصيح بأعلى صوته «اهجموا اهجموا» وكان يدفع الأبقار من الحظيرة مثيرة الغبار متجهة نحو الجبال والوديان، وظن المشاركون في الهجوم على المحاور الأخرى بأنها من فعل اليهود…
انتهز المجاهدون العرب الليبيون تلك الفرصة وانتقلوا بكل ثقلهم إلى باب البناية المحصّنة وأمطروها بوابل من الرصاص، ولكنها كانت تصطدم بجدار البناية، وكان مشهداً مثيراً جسّده العرب الليبيون في خفة الحركة وسرعة الانتقال على الرغم من النيران الكثيفة التي قوبلوا بها، واستشهد منهم أربعة شهداء، وهم: «عبد الله محمد»، و«مسعود الطويل»، و«إبراهيم محمد»، و«محمد ارحيم»، وجرح اثنا عشر مجاهداً، ولكن استعمال القنابل اليدوية من قبل الليبيين أحدث ارتباكاً كبيراً لدى العدو كان فعالاً ومؤثراً، وقد تمكن العرب الليبيون من إلقاء القنابل اليدوية داخل البناية نفسها حيث هرب من أفراد العدو من استطاع الهرب وقتل من قتل وتمكن المجاهدون من دخولها…
وفي الطابقين الثاني والثالث حدثت معارك رهيبة بين العرب الليبيين واليهود الذين اختبأوا في البناية، إذ استطاع المجاهدون التغلب عليهم بسهولة وقتل معظمهم، وفجأة سكت رصاص الأعداء داخل البناية ولم نسمع أي طلقة واحدة، أما البناية الثانية فقد كان اليهود متحصنين بها مستميتين في الدفاع عنها، وقد قام الإخوة الفلسطينيون والمصريون بمحاولات عديدة لاقتحامها.
لقد كان أمراً غريباً بالنسبة إلينا نحن العرب الليبيين عندما قمنا باقتحام الدور الثالث للبناية من دون مقاومة من اليهود حيث وُجدت أيضاً خالية من الصهاينة، وأعيد تفتيش البناية بكاملها ولم نعثر على أحد عدا الجثث الصهيونية وكانت ملقاة على الأرض عند مدخل البناية بفعل القنابل اليدوية، أما كيف تبخر اليهود واختفوا من البناية فهو أمر احتار فيه الجميع. ولكن ذكاء وفطنة المجاهد إدريس أحمد العيساوي الذي انتبه إلى قطعة بلاط رخامية من الحجم الكبير بإحدى الغرف بالدور الأرضي عندما ساوره الشك بأمرها أصدر أمره بنزعها أو زحزحتها، وتحتها كان السر الغريب وهو أننا وجدنا سرداباً تحت الأرض يتصل بالبناية الثانية، ووجد ذلك الدهليز مسدوداً بالتراب بفعل اليهود أنفسهم لمنع اللحاق بهم.
أصبحت البناية التي تشبه الحصن تحت سيطرة المجاهدين الليبيين وكان الجميع في منتهى الفرحة بنشوة النصر، وقد كانوا السباقين الأوفياء لوعدهم للقائد أحمد عبد العزيز، إلا أن المعركة بالبناية الثانية كانت على أشدها تدور بين الأعداء والمجاهدين العرب الذين تم لهم اقتحام البناية، وهكذا طُهرت مستعمرة رامات راحيل تماماً وهلل جميع المجاهدين العرب بالنصر العظيم وأنشدوا الأناشيد، وأذكر منها ذلك النشيد القومي العربي الذي تغنى به الليبيون ومطلعه هذا البيت:
هذا وقت الكفاح للعلا والغلب
قد حملنا السلاح في سبيل العرب
العودة إلى مقترح توطين اليهود في برقة الليبية سنة 1945 من طرف تشرشل أثناء اللقاء مع ترومان وستالين، إلا أن الصهاينة رأوا أن المسار قد انطلق ولم يعد ممكناً الاستدراك.
8 -تفاعل الليبيين والتونسيين مع القضية الفلسطينية
بين 1948 و1967
أ – من أكثر العرب والمسلمين الذين خدموا قضية القدس وفلسطين كان التونسي محيي الدين القليبي الذي حضر مؤتمر القدس سنة 1953 كما أقام هناك لفترة وجيزة وقام بالتدريس والتأطير ودفع الهمم.
ب – المسألة الداخلية في تونس، الاستقلال وبناء الدولة الوطنية والصراع اليوسفي البورقيبي.
ج – ليبيا: المسألة الداخلية، وتدويل المسألة الليبية بين الدول الأربع فرنسا وأمريكا وبريطانيا وإيطاليا.
د – الاستقلال في كانون الأول/ديسمبر 1951 والتوحيد في 1952 وطبيعة التطورات في العلاقات الخارجية وبخاصة قبل الحقبة النفطية من حيث إقامة القواعد الأجنبية وتعدد الحكومات (11 حكومة في 17 سنة).
9 -تفاعل الليبيين والتونسيين مع القضية الفلسطينية
أثناء وبعد حرب الأيام الستة
أ – خطاب أريحا.
ب – تغير المشهد السياسي في تونس بعد حرب الأيام الستة بعد تعدد الاحتجاجات والمسيرات في تواز مع سقوط تجربة التعاضد وأحداث أيار/مايو 1968 في باريس.
ج – بالنسبة إلى ليبيا، وبناء على تحركات الجماهير تكفلت الحكومة بدعم تمويل الجيش المصري والسوري إلى جانب الكويت والسعودية ودعم توجهات مؤتمر الخرطوم.
10 -تفاعل الليبيين والتونسيين مع القضية الفلسطينية
أثناء حرب أكتوبر
أ – مشاركة الكثير من العسكريين التونسيين والليبيين في حرب تشرين الأول/أكتوبر على غرار اللواء الليبي خليفة حفتر برفقة عدد من المنتسبين إلى الجيش الليبي واللواء الركن التونسي عبد العزيز سكيك رفقة عدد من العسكريين التونسيين.
ب – تعدد المتطوعون التونسيون والليبيون في التنظيمات الفلسطينية والتأسيس الأسبق للفرع الليبي لحركة القوميين العرب بينما تأسس لاحقاً في تونس تنظيم سري مرتبط بفتح المجلس الثوري. وهذا الأخير انقسم على نفسه فالتحق أغلب التونسيين بتنظيم ناجي علوش الذي عرف باسم «الحركة الشعبية العربية» والتي قادها التونسي توفيق المديني لتصبح التسمية لاحقاً باسم التيار القومي الديمقراطي قبل حل التنظيم سنة 1993.
كتب ذات صلة:
المصادر:
نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 487 في أيلول/سبتمبر 2019.
علي عبد اللطيف اللافي: كاتب من ليبيا.
[1] عبد الوهاب محمد الزنتاني، تآزر الشعب الليبي التونسي عبر التاريخ (تونس: الأطلسية للنشر، 2011).
[2] نشر نص الوصية في صحيفة الوسط التونسية على موقعها إلكتروني بتاريخ 9/10/2009، ضمن تقرير صحافي للإعلامي نور الدين المباركي تحت عنوان «من حرب 1948 إلى اليوم: دماء الشعبين التونسي والفلسطيني تسيل على خط واحد».
[3] André Chouraqui, Marche vers l’Occident: Les Juifs d’Afrique du Nord (Paris: Presses universitaires de France, 1952), 398 p.
[4] لفهم الوجد التاريخي لليهود في البلدان المغاربية يمكن العودة إلى مصدرين أساسيين: محمد الحبيب بن الخوجة، يهود المغرب العربي القاهرة: محاضرات ألقيت بقسم الدراسات الفلسطينية بمعهد الدراسات العربية العالية بالقاهرة (القاهرة: جامعة الدول العربية، معهد البحوث والدراسات العربية، 1973)، ومسعود الكورتي، «اليهود في المغرب الإسلامي من الفتح إلى سقوط دولة الموحدين 1990 – 1991،» (أطروحة ماجستير، جامعة الجزائر، معهد التاريخ، [د. ت.]).
[5] مصطفى عبد الله بعيو، المشروع الصهيوني لتوطين اليهود في ليبيا (ليبيا؛ تونس: الدار العربية للكتاب ليبيا، 1975).
[6] مشروع الاستيطان اليهودي في برقة، ترجمة الهادي أبو لقمة (بنغازي: مكتبة قاريونس، [د. ت.]).
[7] رينزو دي فيليتسي، يهود في بلاد عربية – ليبيا 1835 – 1970، ص 40 – 41.
[8] المصدر نفسه، ص 41.
[9] المصدر نفسه، ص 96.
[10] المصدر نفسه، ص 33.
[11] عميرة علية الصغير، التونسيون والقضية الفلسطينية، 1920 – 1948 (تونس: المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية، 2009).
[12] نور الدين سريب، «ردّة الفعل التونسية تجاه حرب 1948،» (بحث منشور في عمل مشترك صدر عن جامعة إكس أون بروفنس الفرنسية بعنوان «العلاقات بين المغرب والمشرق عام 1984).
[13] منذ بداية التسعينيات ساهم شباب تونس المناضل في مواجهة الأمة للعدو الصهيوني في المشرق العربي، وقد استشهد العديد منهم، وآخر قافلة من هؤلاء الشهداء روت الأرض بدمائها في جنوب لبنان وشمال فلسطين مجموعة من الشباب من تونس استشهدوا في الفترة بين تشرين الثاني/نوفمبر 1987 وبداية 1996 حيث نفذوا عمليات فدائية، انطلاقاً من جنوب لبنان على الحدود مع فلسطين أو في الجليل شمال فلسطين واحتفظ الصهاينة برفاتهم، وفي ما يلي قائمة بأسماء بعض أولئك الشهداء الأبرار:
- الشهيد البطل عمران بن الكيلاني المقدمي: من مواليد المظيلة مدينة قفصة 1962 وهو فنّي في التركيب الميكانيكي، استشهد في 26/4/1988 في عملية بطولية بإصبع الجليل شمال فلسطين المحتلة ردّاً على اغتيال القائد الفلسطيني أبو جهاد خليل الوزير.
- الشهيد البطل ميلود بن ناجح نومة: أصيل منطقة سيدي مخلوف ولاية مدنين، استُشهد هو ورفيقه السوري خالد الأكر في عمليات الطائرات الشراعية المشهورة ضدّ معسكر قوات الكومندوس الصهيونية شمال فلسطين في 17/11/1987.
- الشهيد البطل فيصل الحشايشي، من مواليد ولاية قابس وهو طالب بكلية العلوم بتونس، استشهد في إثر مشاركته في عملية فدائية جريئة ضد دورية صهيونية جنوب لبنان على مشارف فلسطين في 8/7/1993.
- الشهيد البطل خالد بن صالح الجلاصي: عامل نجارة من مواليد قرية نصر الله ولاية القيروان، استشهد في عملية بطولية بمنطقة المنارة بالجليل الأعلى شمال فلسطين في 25/12/1988.
- الشهيد البطل سامي بن الطاهر الحاج علي: من مواليد ميدون منطقة جربة في 28/5/1967، استشهد حينما نصب كميناً لقافلة صهيونية على الطريق الواقع بين الطيبة اللبنانية ومستوطنة مكاف بفلسطين في 19/1/1995.
- الشهيد البطل رياض بن الهاشمي بن جماعة: طالب من مواليد صفاقس في 2/3/1968، استشهد في عملية فدائية صحبة الشهيد سامي الحاج علي في 19/1/1995.
- الشهيد البطل كمال البدري: تلميذ من مدينة المتلوي ولد في 27/1/1975، استشهد في عملية فدائية بمنطقة السريرة قضاء جزين جنوب لبنان في 27/1/1996.
- الشهيد البطل بليغ بن محمد أنور اللجمي: تلميذ من مواليد مدينة صفاقس، استشهد صحبة الشهيد كمال البدري في 27/1/1996.
[14] ذكريات وخواطر مصطفى فوزي السراج، سلسلة السيَر والتراجم؛ 9 (طرابلس: مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، 2005)، ص 348.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.