مقدمة:
إن الموضوع العام الذي تتنزل ضمنه هذه الدراسة هو الهجرة التونسية إلى البلاد الأوروبية. غير أننا لم نعالج أياً من الإشكاليات التقليدية المتصلة بهذا الموضوع، التي أشبعت بحثاً ودراسة، كتاريخية الهجرة، ومختلف أنماطها الشرعية وغير الشرعية، وعموم دوافعها، والظواهر المتصلة بتعاقب الأجيال المهاجرة، وقضايا الجيل الثاني ثم الثالث، ومسائل الاندماج والهوية، ومسألة العودة… وإنما ركزنا بحثنا على إشكالية خصوصية وهي مال الهجرة وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية. هذه المسألة لا تزال الدراسات العلمية حولها محدودة إن لم نقل مفقودة، اللهم بعض الدراسات التي لم تتجاوز الملاحظات الانطباعية التي لا يمكن اعتمادها كمصادر علمية دقيقة وموثوقة.
لا تخلو معالجة هذه الإشكالية من صعوبات منهجية وبخاصة في ما يتصل بحصر مجتمع الدراسة. فنحن لم ندرس كل المهاجرين التونسيين إلى أوروبا وإنما ركزنا البحث على مهاجري جربة في فرنسا. وجِرْبَة هي جزيرة تونسية تقع في الجنوب الشرقي وتبلغ مساحتها 514 كم2 ويبلغ عدد سكانها زهاء 139.514 ألف نسمة، 60 بالمئة منهم من المهاجرين إلى فرنسا. وإذا كنا قد اخترنا فرنسا دون غيرها من بلدان المهجر، فلأن النسبة الأغلب من مهاجري هاته الجزيرة يوجدون فيها. أما إذا كنا قد اخترنا مهاجري هاته الجزيرة دون غيرها من مدن البلاد التونسية، فللضرورة المنهجية، حيث اعتمدنا، لجمع المعلومات والبيانات، على منهجية المعايشة الذاتية أي ملاحظة مجتمع الدراسة من الداخل ومشاركته كل تفاعلاته.
إن منهجية المعايشة الذاتية تعتمد على استقصاء الواقع من طريق المعايشة من الداخل والمشاطرة اليومية لنمط العيش وأساليبه، ولقد أثبتت نجاعتها في إبراز حقيقة الواقع مهما تشعب وضعه ومهما التبس. كما أن هذه المنهجية تتيح للباحث تعميق الفهم وإظهار الباطن وتجلية ما كان ضمنياً في كنف طيات الحياة العادية، فهو يربط بين المتغيرات، ويثبت الصلات بين مختلف الظواهر الاجتماعية ويبين العلاقات الكامنة وراءها[1] ويجيب عن مختلف الأسئلة الجوهرية: ما خصائص مجتمع الدراسة؟ ما قيمهم ومفاهيمهم وتصوراتهم؟ ما مصالحهم؟ ما نظام العلاقات الذي يربطهم؟ ما تناقضاتهم الداخلية التي تميزهم؟ ما الضغوط التي يعيشون تحتها؟ ما انتظاراتهم وتوقعاتهم؟ ما استراتيجياتهم ورهاناتهم؟…
قد تبدو العينة محدودة التمثيلية بالنسبة للعدد الإجمالي لمهاجري البلاد التونسية، الأمر الذي قد يشكك في صدقية النتائج، ولكننا نقول إننا لسنا بصدد دراسة كمية وإنما نحن بصدد دراسة كيفية، وليس هدفنا الوصف الكمي وإنما الوصول إلى عالم الرموز والأفكار والدلالات والتصورات لدى مهاجري هاته الجزيرة. وهو عالم ليس معطى خارجياً يمكن دراسته كشيء (Chose) من الخارج، وإنما هو بناء معاش ذاتياً ولا يمكن دراسته إلا بفهمه من الداخل، من هنا كانت مقاربتنا كيفية تفهمية، وفي هذا النوع من الدراسات فإن الوحدة الواحدة من مجتمع الدراسة، حينما تشتمل على الخصائص والمتغيرات المطلوبة، يمكن أن تكون عيِّنة بحالها، ولا يسقط ذلك شيئاً من صدقية النتائج. كما وظفنا بعض مقولات التحليل النفسي عندما اضطرنا تعميق الفهم إلى ذلك؛ فالحالات النفسية ما هي إلا احتواء للحظات مجتمعية[2]، ذلك أن الفردي هو عام أيضاً إذ يتكون من البنية العامة لنمط أثري ناتج من الحياة الاجتماعية المشتركة[3].
أولاً: تقدير حجم المال المهاجر وأوجه إنفاقه
المال المهاجر، ويسمى أيضاً مال المغتربين[4]، هو المال الذي يحصل عليه المغتربون نتيجة انتقالهم إلى اقتصادات أخرى للعمل بصفة مؤقتة أو دائمة. وهو أيضاً الأموال المتدفقة عبر المؤسسات والقنوات الرسمية الخاضعة للتنظيم مثل شبكة المدفوعات الإلكترونية والبنوك والمؤسسات المالية غير المصرفية وشركات تحويل الأموال، أو القنوات غير الرسمية مثل النقود التي يحملها الأفراد في جيوبهم وهم يعبرون الحدود بين البلدان، وقد تكون كل التحويلات تقريباً في شكل أموال يرسلها الأفراد الذين هاجروا إلى اقتصاد جديد وأصبحوا مقيمين فيه[5]. يرتبط المال المهاجر بالهجرة. والهجرة، في التعريف الاقتصادي، هي انتقال الأفراد من اقتصاد إلى آخر والعمل فيه بصفة مؤقتة أو دائمة، أما المهاجر فهو الشخص الذي يغادر اقتصاده الأصلي ويصبح مقيماً في اقتصاد آخر.
حينما نتناول بالبحث المال المهاجر في جزيرة جربة، فإننا مدعوّون إلى الاعتراف منذ البداية بمحدودية إمكانياتنا وصعوبة قياس هذا المال وحصر قيمته؛ وذلك بحكم طبيعته غير المتجانسة وبخاصة بحكم تكتم المهاجر على أمواله وتستره عن قيمتها. لذلك فإن تقديرنا لهذا المال سيكون من خلال المؤشرات الظاهرة للاستهلاك التي تعكس قيمته، ومن خلال معرفتنا التفاعلية الدقيقة بمجتمع الدراسة واطلاعنا على عدد من الظواهر الكامنة.
لقد بلغت التحويلات المالية للتونسيين بالخارج خلال سنة 2017 نحو 4000 مليون دينار. هذا الرقم هو حجم التحويلات المالية بالطرق القانونية المصرح بها، غير أن الخبراء يتحدثون عن التحويلات المالية بالطرق غير القانونية وغير المصرح بها عبر مجموعة كبيرة من القنوات المتنوعة[6] وغير الشرعية، التي قد تضاهي في حجمها التحويلات القانونية. وبالتالي يمكن تقدير المال المهاجر أنه ضعفا المبلغ المصرَّح به قانونياً أي قرابة 8000 مليون دينار.
هذا المبلغ المهم يشمل، بطبيعة الحال، تحويلات كل المهاجرين التونسيين من كل بلدان المهجر. وإذا كان قد تعذر علينا تحديد نسبة تحويلات مهاجري جربة من هذا المال تحديداً دقيقاً، فإننا نعتقد أن هذه النسبة مهمة؛ ذلك أن هذه الجزيرة من الجهات الأكثر دفعاً للهجرة منذ الستينيات، حتى إن التقديرات تذهب إلى أن أكثر من ثلثي سكانها في المهجر وبخاصة في فرنسا.
هؤلاء المهاجرون يتصفون بالالتزام بالعمل والانضباط فيه، حتى إن ألمانيا خيّرت أن يكون المهاجرون إليها من أصيلي الجنوب الشرقي ومنهم الجرابة[7]. ولقد نجح عدد كبير منهم منذ أواسط السبعينيات في بعث مشاريع اقتصادية تتمثل خاصة بمتاجر للمواد الغذائية (Alimentations générales)، الشيء الذي أتاح لهم تكوين ثروات قيّمة يمكن أن نستدل عليها من خلال النمط الاستهلاكي السائد لدى شريحة واسعة منهم.
لقد لاحظنا أن هذا النمط الاستهلاكي ينحو أحياناً منحى تبذيرياً وتبديدياً للثروة، حيث سجلنا إنفاقاً بذخياً لافتاً في السكن وفي الأثاث الفاخر وفي السيارات الفارهة وفي المناسبات الاحتفالية المختلفة وفي التملك التكنيزي للأراضي[8]، وفي الإقبال على شيْد وشراء محال سكنية وتجارية معدة للكراء[9]. والسؤال الذي نطرحه هنا هو: ما العوامل التي تدفع المهاجرين إلى هذا النمط الإنفاقي المبدّد للثروة؟
ثانياً: أسباب الاستهلاك البذخي للثروة
لقد جلّى لنا البحث عدة عوامل مركبة ومعقدة، تضافرت جميعها لتوجد هذا النمط الإنفاقي الخصوصي. هذه العوامل هي التالية:
1 – مكانة المهاجر في بلاد المهجر: التبخيس وفاعليات التعويض والإثبات
إن أغلب مهاجري جربة في فرنسا، كغيرهم من مهاجري البلاد التونسية إلى هذا البلد، هم جالية أجنبية مستضعفة[10] تعيش على هامش مجتمع طبقي تفريقي بطبعه، وتضطلع بأعمال ومهن في أدنى السلم الوظيفي، وهي عديمة الهيبة الاجتماعية[11]. هذه المكانة المهنية المهينة تبلغ حد «العبودية الجديدة»، غير أن أخلاقيات العصر في النظام الرأسمالي تسبغ عليهم مسحة من الإنسانية لم تتوافر لعبيد روما أو حتى أمريكا القرن التاسع عشر[12].
إن بنية الاقتصاد الفرنسي تتعاطى مع هؤلاء المهاجرين التونسيين على أنهم قوة عمل رخيصة طيِّعة، ليس لهم قيمة سوى أن يقوموا بأدنى الأعمال في الآلة الاقتصادية. إن المهاجر يعايش بكرب صامت وخنوعي هذه العلامة المحجمة لمكانته الاقتصادية، كغريب «زيمل» ليس له قيمة إلا بالمقدار الذي يسمح له به هامش مجتمع ليس مجتمعه. هذا الوصم (Stigmate) الاقتصادي يتمادى مع وصم أكثر تبخيساً للقيمة الاعتبارية وهو الوصم الاجتماعي الحضاري. فالمهاجر كونه عربياً، الصورة التي يحملها الغرب عنه بالغة السلبية. فهو في نظر الغرب، كما بينت الدراسات، بربري شهواني سريع الانفعال والغضب، ميال إلى ازدراء حياته وحياة الآخرين[13]، لا يسيطر على نفسه، فيستعصى عليه التقيد بالمبادئ والأخلاق[14]. ينتمي إلى بنية تاريخية ثابتة ولاتطورية، وثقافته غرائبية متحفية. اجتماعه ذكوري تسلطي أما المرأة فهي منسحقة. سلوكه الإنجابي متسيب لا يخضع للحساب والتخطيط وإنما للشهوة والغريزة. متماهٍ مع الطبيعة، متمادٍ مع الحيوان ولا يزال يصنع وجوده بأدوات عمل بسيطة وبدائية[15]، فهو إذاً فقير ومحروم ويعيش عيشة بؤس (Misère).
لقد استبطن المهاجرون هذه الأوصام السلبية، وهضموا إكراهاتها، وتعايشوا مع التفاعلات المتولدة عنها، فهي على سلبيتها، لا تحول دون تحصيل المال، وهو الهدف الذي هاجروا أوطانهم وتغربوا عن أهاليهم من أجله، وعليه فإن الحكمة/المصلحة، تقتضي توخي النجوع المطلق في تحصيله، دعك من أكلافه حتى وإن كانت باهظة كتبخيس القيمة الاعتبارية الشخصية والحضارية معاً. إن الثروة المتحصل عليها في بلاد المهجر لا يجب إظهارها في هذا البلد وترجمتها إلى إنفاق يناسب قيمتها، لأن ذلك يناقض عنصراً من عناصر الصورة السلبية التي يحملها عنهم الفرنسيون والتي استفادوا من ريعها، فهم، كما أسلفنا، في نظر الفرنسيين/الغرب مساكين، اضطرهم الفقر إلى التغرب عن الأهل والوطن، وأنهم إذ يشتغلون حدّ استنزاف الذات فلأن عقليتهم لا تحتفي بمباهج الحياة.
لقد استفاد المهاجرون من هذه الصورة، إذ برغم تبخيسها لهم وتوضيعها، فإن فيها جانباً من الشفقة عليهم، فهم فقراء ومساكين، وعلى هذا الأساس قبلهم المجتمع الفرنسي ليغنموا أسباب عيشهم من فواضل اقتصاده. وعليه، فإنهم يجب أن يظهروا أنهم فقراء فعـلاً ومساكين، حتى يحافظوا على هذه الصورة، وبالتالي على قبول هذا المجتمع لهم… يقول أحد المستجوَبين «لا يروننا إلا بؤساء… وهذا مفيد لنا».
هذا المنطق جعل المهاجرين لا يعطون قيمة لذواتهم في بلد المهجر، فهو بلد الكسب فحسب، يستنزفون في سبيل تحصيله زمن وجودهم من الفجر إلى الفجر، وعلى امتداد أحد عشر شهراً في السنة. ولا إنفاق ترفيهي ولا كماليات تهمهم وإنما هو تقشف حد التقتير. فهم في غربة بكل معاني الكلمة النفسية والاجتماعية والحضارية، وشرط مغالبتها وتلطيفها هو تحصيل المال ومراكمته وكتمه، فإذا توسعت الثروة هانت الغربة.
إن الثروة في نظر المهاجر هي عنوان النجاح في الغربة، أما شرطها فسلوك شخصي صارم يهضم غبن المكانة الاجتماعية والاغتراب في العمل، ويجعل من التقشف منهجاً للعيش. هذه الذهنية، المتولدة عن ضغوط الهجرة، كان يمكن أن تكون «الإمكانية الموضوعية والسببية الملائمة» لانطلاق رأسمالية مهاجرة بالغة الأهمية، حيث توافرت فيها بعض العناصر الأساسية لروح الرأسمالية الحديثة كما حددها ماكس فيبر[16]؛ كيف ذلك؟
في دراسة له حول نشأة الرأسمالية، بيّن فيبر أن من أهم العوامل المكونة لروح الرأسمالية هو النهج الحياتي المتسم بالفعالية المهنية من ناحية وبالتقشف من ناحية أخرى، وهو النهج الذي توخته بعض الشرائح البروتستانتية الكالفنية (الهولندية بخاصة) والتقوية والميتودية والمعمدانية. هذه الشرائح الدينية كانت تعتقد أن الثروة دليل على الاصطفاء الإلهي، ولمراكمة هذه الثروة يجب العمل بكل فعالية، ولا ينبغي هدر الوقت، كما لا ينبغي أن يقتطع من الكسب إلا ما هو ضروري تماماً للكفاف الشخصي، دعْك من التبذير وإغراءات الشهوة. ولكي تبقى للعمل صفته الأساسية كتعبير عن مجد الله، واصطفائه للإنسان العامل الثري، يجب تفعيل الربح لكسب المزيد من الربح على قاعدة «المال يولد المال» (l’argent enfante l’argent) وذلك بإعادته للعمل على شكل استثمار. وهكذا انساق البروتستانتي إلى مراكمة رأس المال وتكديسه باستمرار.
لقد أسهمت هذه الذهنية في صيغة عقلانية للتراكم الرأسمالي، كما كان ضبط النفس المستمر والمنهجي وراء عقلنة السلوك الفردي في إدارة الأعمال، وفي إدارة المؤسسات…[17]
هذا الموجز لأطروحة فيبر حول الذهنية البروتستانتية وروح الرأسمالية، يبين كما أسلفنا أن ذهنية المهاجرين المتولدة عن ضغوط الهجرة، كان يمكن أن تكون هي الأخرى أساساً موضوعياً ملائماً لانطلاق رأسمالية مهاجرة بالغة الأهمية، حيث توافرت فيها بعض أهم شروط التراكم الرأسمالي من عمل مجدّ وتقشف في الإنفاق ولجم للشهوات. غير أن الواقع انتهى إلى نتيجة عكسية تماماً حيث اندرج أغلب المهاجرين في سيرورة استهلاك للثروة حالت دون التراكم وحجمت رأس المال. فالمهاجر لم يكن تقشفه ولجمه لشهواته وتفانيه في العمل تعبيراً عن بنية ذهنية وسلوكية متأصلة، كما لم يكن استجابة إيمانية لعقيدة، وإنما كان رد فعل لوضعية قهرية ضاغطة كما أسلفنا، وعليه، فإنه حالما يخرج من هذه الوضعية ويتحرر من ضغوطها وإكراهاتها، يتحرر كذلك من الضوابط الصارمة التي يلزم بها سلوكه الاقتصادي. بل أكثر من ذلك فإنه يعمل على تعويض كل الغبن الذي ناله في بلاد المهجر وذلك حينما يعود إلى بلده الأصل وبخاصة خلال عطلة الصيف.
إن لهذا التعويض مستويات عديدة: تعويض التقشف ولجم الشهوات بالتبذير وإشباع الشهوات. وتعويض ضنك العمل المجهد بالخلاعة والترفيه الترفي. وتعويض دونية المكانة الاجتماعية في بلاد المهجر بالإنفاق التسيّدي في بلاد الأصل.
2 – الإنفاق البذخي: فاعلية إثبات للنجاح لذوي القربى
«آش غاب وآش جاب» (كم تغيّب؟ وبماذا عاد؟)، «غاب وخاب» (تغيب ولكنه خاب)، «تغرّب على آمّاليه وروّح يكركر في ساقيه» (تغيّب عن أهله وتغرب عنهم ولكنه عاد خائباً من الغربة)، «ما ربح مالغربه كان الغلبة» (لم يربح شيئاً من الغربة)، «ألي تغرّب وما جاب لفلوس إبكي عليه، ضيّع عمره ووكره وأماليه» (الذي تغرب ولم يجن المال فهو يستحق الرثاء لأنه ضيّع عمره وأهله ووطنه دون طائل)…
نحن بإزاء مسرد طويل من المقول الشعبي يأخذ منحى التقييم الصارم والمساءلة الحادة لتجربة المهاجر في الغربة. ومعيار النجاح في هذه المساءلة اللامتسامحة هو مدى تمكن هذا المهاجر من جمع المال. فإذا ما نجح، فعـلاً، في جمع الثروة فله الحظوة الاجتماعية الكاملة وله مطلق التبجيل؛ أما إذا فشل فله التبخيس والتبكيت.
إن المجتمع حين يضع هذا المعيار، الصارم حد القساوة، له أسبابه. فالهجرة بما هي انفصال هي أيضاً تكثيف لضنك الفراق وقساوة الوحشة، وهي أحاسيس موجعة، بقدر ما يتكبدها المهاجر ويألم، يتكبدها أهله وذووه ويألمون، وعليه، فما فائدة هذه الهجرة إذا لم تنجز ما يعوّض ضنكها وقساوتها وأوجاعها. أي إذا لم تنجز دوافعها وأهدافها وهو تحصيل المال؟
ثم إن المهاجر إذا نجح في تحصيل المال فقد كفى أهله إعالته، فهم قد اطمأنوا عليه. ثم إن الخير إذا همّ عمّ؛ فالمال الواسع سينعكس عليهم رغداً ورخاء، إذ سيوسّع عليهم العطاءات والنفقات، كما ستشملهم هيبة مكانته.
أما إذا فشل فهو خائب قد ضيّع فرصته، كما ستشملهم خيبته.
إن المهاجر استبطن جيداً هذا المعيار، وهو ما يضاعف في كدحه وشحه وحرصه على جمع المال ومراكمته. لكن حالما يعود إلى أرض الوطن فإنه يبالغ في إنفاقه وفي إظهار هذا الإنفاق، إثباتاً لنجاحه وبالتالي إثباتاً لجدارته بالحظوة الاجتماعية والهيبة والتبجيل… إن إنفاق المال، في مجتمعه، بالنسبة إليه هو منطق إثبات.
نحن إزاء سلوك إنفاقي للثروة منتج نفسانياً بالنسبة إلى المهاجر، فهو آلية تعويض عن قلقلة الهجرة وغربتها وغبنها، وهو آلية إثبات في المجتمع، غير أنه غير منتج بالنسبة إلى المجتمع بالمفهوم التنموي الاقتصادي للكلمة. فنحن إزاء ظواهر هدر للمال وتبديده، كما أننا إزاء تشكل نمط استهلاكي بذخي تبديدي للثروة ما فتئ يتمدّد وينتشر.
3 – التحولات الاجتماعية التي أصابت الأسرة المهاجرة وانعكاساتها على تصريف الثروة
أ – المرور من الهجرة الذكورية إلى الهجرة الأسرية
إن المهاجرين الجرابة الأوائل الذين استقدمتهم فرنسا في بداية الستينيات من القرن الفارط واستخدمتهم في إعادة بناء اقتصادها المتهاوي نتيجة الحرب العالمية الثانية، كانوا بالأساس ذكوراً. هؤلاء لم يستقدموا معهم أسرهم إلى فرنسا وذلك للأسباب التالية:
– كانت الأسرة تقليدية ممتدّة، وكان المهاجر مطمئناً على زوجته وأبنائه، فهم في رعاية هذه الأسرة وحمايتها بمفاهيمها وقيمها الحمائية التضامنية. وكانت هجرته تندرج ضمن مفهوم إنكار الذات والتضحية، وهو مفهوم مركزي في الأسرة التقليدية. كما كانت هجرته الفردية تندرج ضمن التقسيم التقليدي للعالم إلى عالمين: عالم عام وخارجي يكافح فيه الرجال في سبيل تأمين الرزق، وعالم خاص وداخلي (البيت) تمارس فيه النساء مسؤوليات البيت من تنشئة الأطفال ونظافة وطهي…[18]. والهجرة هي تمادٍ للعالم الخارجي… عالم الرجال.
– المهاجرون الأوائل شغلتهم فرنسا عمالاً في قطاعاتها المعملية الثقيلة وفي قطاع البناء وفي حفر الأنفاق… أي في قطاعات الأعمال بالغة التعب واستنزاف الجهد، وفي نفس الوقت، محدودة المردود المالي. ولما كان هؤلاء المهاجرون منعدمي التحصيل العلمي، وذهنيتهم تسليمية، فقد استكانوا لهذا الوضع الضنك، وفي المقابل، لم يكن ممكناً موضوعياً ولا لائقاً أخلاقياً نتيجة لتردي ظروف السكن ولضعف المداخيل استقدام الأسرة والزجّ بها في هذه العيشة المزرية[19].
_ إن المهاجرين الأوائل كانوا حديثي عهد بالاستعمار، وإن مستعمر الأمس القريب هو نفسه من سيذهبون للعمل في بلاده، ولقد نسب الحس المشترك في تلك المرحلة للأجنبي الأوروبي عامة وللفرنسي خاصة تسمية بالغة الدلالة وهي «قاوري». وكلمة «قاوري» هي كلمة محرفة للكلمة الفرنسية «Guerrier» أي المحارب، أي العدو. ولا يجوز حمل الأسرة إلى أرض العدو.
في أواسط السبعينيات (من القرن المنقضي) ستبدأ ملامح الهجرة إلى فرنسا بالتغير، إذ بدأ يلتحق بهذا البلد مهاجرون لهم تحصيل علمي محترم نسبياً، قد يصل إلى البكالوريا. هذا الجيل لم يكن مشدوداً إلى المفاهيم التقليدية للأسرة، إذ إن الأسرة نفسها قد بدأت تتغير، وبدأنا ننتقل إلى النموذج النواتي، أي بدأت تتفكك، نسبياً، البنية التكتّليّة الموسّعة والصّارمة للأسرة، وبدأت تتبلور مفاهيم الحرية الفردية وحق الاختيار بعيداً من الائتمار الخضوعي للأسرة.
هذا الجيل لن يعيش تجربة المهاجرين الأوائل في الهجرة، وإنما ستكون له تجربته الخاصة، التي تتمثل أساساً باستقدام نسبة قيّمة منهم لزوجاتهم وأبنائهم إلى فرنسا[20].
كما توخى هذا الجيل أسباب رزق جديدة تتمثل ببعث مشاريع خاصة والاشتغال للحساب الخاص. إن هذه المشاريع المستحدثة ذات خصوصية، فهي امتداد للصنائع والمهن التقليدية المتوارثة تاريخياً عن الأجداد[21]، حيث حمل المهاجرون الجرابة متجراً للمواد الغذائية العامة، وذلك تناغماً مع ما نسميه ظاهرة المحمولات الثقافية، فالإنسان حينما ينتقل إلى مكان آخر، حيث بيئة ثقافية أخرى، فإنه يحمل معه ثقافته، بالإضافة إلى أشيائه المادية التي يحملها في حقيبته.
لقد تعامل هؤلاء المهاجرون مع هذه المشاريع على أنها مستغليات أسرية مشتركة، تماماً كما لو كانت دكاناً أو حقـلاً أو حرفة يدوية في البلد، حيث إن الأسرة هي وحدة إنتاجية وهي مركز للنشاطات الاقتصادية والاجتماعية، فشغلوا فيها نساءهم وأبناءهم وأبناء عمومتهم، وذلك في إطار التعاون والاعتماد المتبادل، وفي إطار وحدة الإنتاج والاستهلاك والدفاع عن المصالح… ولكن أيضاً للضغط على المصاريف من رواتب وأداءات الترسيم القانوني في العمل.
ب – الزواج المخوّل للهجرة إلى فرنسا وانعكاساته على النمط الاستهلاكي للمهاجرين
بينا كيف أن جيل أواسط السبعينيات من المهاجرين استقدموا أسرهم إلى فرنسا. فلما كبر الأبناء، وبخاصة البنات وبلغن سن الزواج، أفرز ذلك نمطاً جديداً من الزواج بالغ الخصوصية، ستكون له انعكاساته الحاسمة على السلطة الاقتصادية للمرأة، ومن ثَمَّ على تضخم الإنفاق.
هذا النمط الخصوصي من الزواج اصطلحنا على تسميته «الزواج المخوّل للهجرة إلى فرنسا» في الحقيقة، لم ندرس هذا النمط من الزواج في كامل مجتمع الدراسة. أي في كامل جزيرة جربة. وإنما اكتفينا بدراسته في قرية الماي الواقعة في هذه الجزيرة. إن كمّه في هذه القرية يؤشر بوضوح إلى احتدامه. وفي ما يلي مؤشرات تطوره:
انبجس هذا النمط الزواجي في هذه القرية سنة 1990 حيث سجّلنا 7 حالات في تلك السنة. هذا لا يعني أنه كان منتفياً قبل هذا التاريخ، وإنما كان مجرّد حالات متفرقة ولا تؤشر لانبجاس ظاهرة. بعد سنة 1990، بدأ هذا النمط بالاستفحال بنسق تصاعدي سريع حيث تجاوزت نسبته اليوم خمسين بالمئة من المجموع العام للزواج[22]. نحن إذاً بإزاء بنية زواجية تجاوزت مرحلة التشكّل وهي الآن بصدد التمدّد الهيمني. والسؤال الرئيسي هو ما هي الخصوصيات البنيوية لهذا النمط الزواجي؟
حينما يبدأ الشاب أصيل الجهة في التفكير في تأمين مستقبله المادي يبدأ مباشرة في التفكير في الزواج، وهذه مفارقة ولكنها حقيقية، ووجهة بحثه عمّن يخطبها لا تتزحزح عن واحدة من بنات المنطقة المقيمات في فرنسا، هذا المبحث ليس هيّناً، فقد يتقدّم الشاب تباعاً لأربع أو خمس أو حتى ستّ فتيات يطلبهن، فيجانبه القبول، غير أنه لا يتراجع عن طلب الأيادي حتى يحظى بالقبول. إنه بذلك لا يبحث عن واحدة يرضى بها فيخطبها، وإنما يبحث عن أيّ واحدة ترضى به فتقبله خطيباً، وتقبل من وراء ذلك أن تحقّق هدفه المستتر عليه ظاهرياً والمفضوح ضمنياً، وهو أن تسهّل وأسرتها هجرته إلى فرنسا. إنّ خطبة كهذه، موضوعها ليس الفتاة في ذاتها وإنما فيما تخوّله من إمكانية للهجرة إلى فرنسا.
إنّ والدَي المطلوبة يدها، لا تخفى عليهما هذه الدافعية الملغية لابنتهما من اعتبارات القيمة لذاتها، غير أنّهما ينتهيان إلى قبول واحد من الخطَّاب، ولعلّ ما يحملهما على ذلك دوافع ثلاثة رئيسية:
– الدافع الأول يتمثّل بالخوف من أن تتمثلن ابنتهما بالمنمطات الثقافية للغرب، وتنفتح على إغوائية علاقاته العاطفية، وتسترشد بشعاراته حول الحرية الشخصية، وتختار لنفسها زوجاً على هواها فتجانب بذلك العرف والتقليد وحتى الدين، وتتزوجه فتلحق بذلك المهانة بالأسرة.
– الدافع الثاني يتمثل بأن الخطيب يكون في الغالب من أبناء المنطقة، هذا إذا لم يكن من الأهل والأقارب، وعليه، فحتى إذا كان زواجه من ابنتهما محض تربّح واستثمار، فإنّ المثل كثير التردد يقول «زيتنا في دقيقنا، والماء اللي يمشي للسدرة الزيتونة أولى به».
– الدافع الثالث يكمن في تيقنّهما بأن زواج ابنتهما لا يعني انفصالها عنهما والتحاقها بأسرة زوجها وإنما يعني بقاءها معهما والتحاق زوجها بها كعضو جديد في الأسرة.
هذا النمط من الزواج ستكون له خصوصياته البنيوية. كيف ذلك؟
– تذهب «لوسات فالنسي» إلى أنّ الزواج في إطار النمط الأبوي هو شكل من أشكال التواصل عبر النساء كون المرأة هي التي تنتقل من حمى الأب إلى حمى الزوج، أمّا في هذه الأسَر فإنّ التواصل يتمّ عبر الرجال كون الزوجة هي التي تجذب الزوج للعيش في وسطها الأسري، وهي التي تؤمن له الحمى التام: اجتماعياً بحلوله بين ذويها، واقتصادياً بما يحصل عليه من عمل قانوني ما كان ليحصل عليه لولا إقامته القانونية التي هي سببها، ونفسيّاً بما خوّلته له من إقامة آمنة جنبته ضنك الإقامة تحت هاجس الترحيل.
– في النمط الأبوي تذوب الزوجة في البنية الأسرية لأهل زوجها حتى تكاد تنقطع عن أهلها، أما في هذه الأسر فإنّ الزوج يكاد ينقطع عن أهله ليتصل تماماً بأصهاره.
– في النظام الأبوي كلّ أملاك الأسرة هي للزوج أما في هذه الأسر فإنّ ظاهرة تمليك الزوجة للعقارات وحتى للمشاريع الاقتصادية الاستثمارية باتت مستفحلة.
– في النظام الأبوي يميل الأبناء إلى أعمامهم، أما في هذه الأسر فإنهم يميلون إلى أخوالهم.
– في النظام الأبوي الأولوية لأهل الزوج للاستفادة من ثروة ابنهم، أما في هذه الأسر فقد تكون الأولوية لأهل الزوجة.
هذه الأسر، بكلّ هذه المؤشرات وغيرها، تكوّن فيها بناء سلطوي شبه أمومي، فالسلطة أضحت بيد الزوجة، ومنها السلطة الاقتصادية، فهي التي تتحكم في النفقات وتوجهها الوجهة التي تريدها، والحقيقة أننا قد رصدنا ظواهر تبين أن المرأة /الزوجة، هي فاعل مؤثر في توجيه الإنفاق وجهته البذخية. فبناء المسكن، مثـلاً، يخضع تماماً في هندسته وفي حجمه ثم في أثاثه لإرادة المرأة/الزوجة. فهي التي تملي على مهندس البناء تصوراتها ورغباتها، وتتدخل في كل التفاصيل اقتراحاً وتوجيهاً. إنها تدرك تماماً أن كل مقترحاتها أوامر مقضية. والأهم من ذلك أنها تدرك تماماً أنه بإمكانها أن تتوسع في مقترحاتها إلى حدود بعيدة، فالثروة واسعة وإنفاقها قيد رغباتها، لذلك فهي تجنح في مقترحاتها إلى الحد الذي تقتبس فيه من المسلسلات التلفزيونية التي تشاهدها، ومن النزل ومن المطاعم والمقاهي الراقية التي تزورها ما يروق لها ويثير إعجابها من تصاميم وتزويق وأثاث… إن كاميرا الهاتف الجوال تيسّر الاقتباس.
إن الزواج المخول للهجرة إلى فرنسا هو زواج مصلحي بامتياز تتوضع فيه قيمة الزوجة إلى مستوى الوسيلة المحققة للمصلحة، وهذا، في ما نعتقد، ما يشعرها، بوعي أو بدونه، بإلإنجراح في القيمة الشخصية والقلقلة في الكرامة الذاتية. وعليه فإن إنفاقها البذخي للثروة يمكن تفسيره بمفهوم التعويض، في معناه النفسي، كعملية لاشعورية تهدف إلى إخفاء الاتجاهات اللاشعورية التي لا يستسيغها الشعور بتقوية اتجاهات مضادة لها. إنها تحاول أن تعزز وجاهتها الفردية في ذاتها وفي المجتمع، بأن تظهر بأن لها قدرة استملاكية عالية، وقيمة عالية، ووجاهة عالية. هذا السلوك الإنفاقي ذو الأساس النفسي الفردي سينعكس تقليداً تنافسياً في البعد الاجتماعي. فحجم إنفاقك، الظاهر في ممتلكاتك، يعكس قيمتك ووجاهتك. وعليه فإن النساء – في المنطقة – تتنافسن في إظهار وجاهتهن، في فخامة مسكنهن، وفي كثرة مصوغهن، وفي بذخ احتفالياتهن…
ثالثاً: في أسباب عدم إقبال المهاجرين على الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المنتجة
سؤالٌ بالغ الأهمية وجدير بالمعالجة، فهو يعمق الفهم: لماذا لم يستثمر مهاجرو جربة أموالهم في القطاعات الاقتصادية المنتجة (الصناعية أو الفلاحية أو الخدمية) واكتفوا بالاستثمار غير المنتج (على الأقل لجهة المجتمع) في قطاع العقارات؟ لقد جلّت لنا الدراسة الميدانية عدّة عوامل، تضافرت جميعها لتنشئ لدى المهاجرين نزعة عزوف وامتناع عن الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المنتجة. هذه العوامل نفصلها على النحو التالي:
1 – ثقافة العمل
إن ثقافة العمل لا تحكمها أسس ومبادئ كونية واحدة، وإنما لكل مجتمع مفاهيمه وقيمه الخاصة حول العمل. أي أن ثقافة العمل هي نتاج للخصوصيات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية لمجتمع معين. يقول شافاريتز (Shafaritz) إن ثقافة العمل هي نتاج للثقافة الاجتماعية، فهي تشمل الكثير من الأشياء غير الملموسة كالقيم والاعتقادات والافتراضات والمدركات الحسية والأنماط السلوكية … إنها القوة غير المرئية وغير الملحوظة التي تكون دائماً وراء أنشطة العمل التي يمكن ملاحظتها ورؤيتها[23].
هاجر الجرابة إلى فرنسا وحملوا معهم ثقافة عمل مجتمعهم المرجعي وخاصة المتجر، ولقد أداروا هذه المنشآت إدارة تقليدية وذلك بعقلية المستغليات الاقتصادية القرابية المشتركة، وليس على أساس ضوابط تنظيمية وظيفية عقلانية، فصاحب المنشأة هو ربها بالمعنى التنفّذي التحكّمي المطلق للكلمة (استمرار للنظام الأبوي وقيم السلطة الفوقية…)، فهو الذي يحدد كيفية اشتغالها وعملها استناداً إلى تجربته الشخصية وحسّه الشخصي، وليس استناداً إلى سياسة تنظيمية عقلانية دقيقة. وهو يستخدم العمال على أساس معايير تشغيل تقليدية كالقرابة والجهة (أسرته أو أقاربه أو أبناء جهته) وليس على أساس معايير تشغيل عقلانية كالكفاءة والخبرة والتخصص، وضوابط العمل تقليدية هي الأخرى، فلا الأجور ولا عدد ساعات العمل ولا العطل تخضع لأساس تعاقدي قانوني وإنما تخضع لأساس تفاهمي علائقي شخصاني. والعلاقة مع المحيط الخارجي (السوق بما فيه من منافسة وعرض وطلب وحرفاء وقوانين…) هي علاقة خضوع وترقب ومسايرة وليست علاقة تخطيط وتوقع ومبادرة…
إن ثقافة العمل هذه كانت حاجزاً حال دون المهاجرين والاستفادة من الثقافة التنظيمية المؤسساتية للاقتصاد الفرنسي القائمة على التخطيط والبرمجة والتوقع والمخاطرة المدروسة، وعلى المعايير القانونية والعقلانية في التوظيف والتسيير والقيادة، وعلى المنافسة والجودة والمرونة والتكيف والملاءمة مع المحيط. صحيح أن هذه الثقافة حصنت المهاجرين، كأقلية في مجتمع أغلبي مختلف، بأن مكنتهم من الحفاظ، إلى الحد الأقصى الممكن، على قيمهم ومفاهيمهم ورموزهم ونمط علائقهم… وهو سلوك الانكفاء الذي تتوخاه، عادة، الأقليات لتأكيد استقلاليتها وخصوصياتها، وخوفاً من الدمج القسري والتذويب. غير أن هذه الثقافة، كما أسلفنا، احتجزتهم، ومنعتهم من الانفتاح على مفاهيم العمل ومناهجه وأدواته الحديثة والاستفادة منها.
إن ما نريد أن نصل إليه في محصلة هذا التحليل، هو أن المهاجرين لم يكن إبداعاً منهم أن راكموا الثروة في فرنسا، فهم يفتقرون إلى روح المخاطرة والمبادرة، وإلى ثقافة العمل الرأسمالي، والثقافة التنظيمية المؤسساتية العقلانية… وإنما الذي خوّل لهم مراكمة المال هو الخصوصيات الثقافية للمهن التي امتهنوها كونها خارج دائرة المنافسة، بالإضافة إلى ثقافة العمل التي يحملونها كونهم يشتغلون بدون ضوابط قانونية أو عقلانية تكبح الربح (ساعات العمل، العطل، الأجور، الحوافز…). بالإضافة كذلك إلى أن الاقتصاد الفرنسي سمح لهم بالتواجد على هامشه، إذ إنهم يقدمون خدمات لمواطنيه بدون تكلفة نقابية (قد تتجاوز ساعات العمل 16ساعة في اليوم)، إضافة إلى عامل آخر، وهو مهم جداً، ويتمثل بفارق العملة. فأرباحهم تتضاعف عند تحويلها إلى الدينار التونسي.
إن المهاجرين يتخوفون من الاستثمار في بلدانهم لأنهم ليس لديهم عقلية استثمارية عقلانية إبداعية، وإنما عقليتهم تكسّبيّة تقوّتيّة تقليدية. وإذا كانت هذه العقلية الأخيرة قد أتاحت لهم الإثراء في فرنسا، فليس من المؤكد أن تتيح لهم ذلك في تونس. يقول أحد المستجوبين «أنا لا أختلف عن أي خضّار هنا في جربة ولكن الفرق بيني وبينه أنه يقفل يومه التجاري على أرباح تحسب بعشرات الدنانير، بينما أقفل يومي التجاري على أرباح تحسب بمئات الدنانير وأحياناً بالملايين، فإذا ما أضفت إلى ذلك فارق العملة، حينما أحول مرابيحي إلى تونس، يصبح الفرق بيني وبينه يحسب بالسنوات الضوئية».
2 – استبطان الوضع الطبقي في فرنسا
قلنا، في عنصر سابق، إن مهاجري الجنوب الشرقي التونسي في فرنسا يعيشون في مجتمع طبقي تفريقي، وإنهم منسحقون طبقياً في بنية هذا المجتمع. فهم جزء من نسيج طبقته التحتية وحتى الرثة، وإن أموالهم لم تخولهم الترقي الاجتماعي (لأسباب بيّناها سابقاً). لقد استبطن المهاجرون هذا الوضع الطبقي، الشيء الذي سيؤثر في مختلف دينامياتهم الاجتماعية في البلد… فهم يشعرون بالدونية الاجتماعية وباستنقاص الذات، وحتى سلوكهم الإنفاقي البذخي والوجاهي إنما هو في إطار قرابي ضيق، من الناحية الاجتماعية، وهو في إطار تعويضي، يثبّت، من ناحية التحليل النفسي، عقدة الدونية.
إن المال لم يعزز لديهم القدرة على الفعل الاقتصادي (أي مراكمة الربح عن طريق الفعل الاستثماري العقلاني)، فهو منفصل عن شخصيتهم. إنهم يتعاملون معه بعقلية التخلص منه (تكنيزه في العقار: أحسن بانكة للعملة هي الرملة…) وليس بعقلية ضبطه وإدارته واستثماره في إطار مشاريع اقتصادية منتجة… إن المهاجر يملك المال، لكنه لا يرى نفسه رجل أعمال …
3 – معيار النجاح في المجتمع المرجعي
نقصد بالمجتمع المرجعي هنا، الأهل والأقارب. إن معيار نجاح المهاجر لدى الأهل والأقارب واضح ودقيق. فالسؤال الشعبي: «آش غاب وآش جاب» والذي يرتقي إلى مستوى المساءلة الصارمة عن مدى النجاح في الهجرة. جوابه الشافي والكافي إنجازات ثلاثة، إذا حققها المهاجر فهو ناجح أما إذا أخفق في تحقيقها فهو فاشل. هذه الإنجازات الثلاث هي بناء مسكن، امتلاك سيارة وشراء قطعة أرض حبذا أن تكون فيها شجرات زيتون. ولا بأس أن يؤمن لأبويه الحج أو العمرة ليبلغ الامتياز في النجاح وفي الصلاح معاً. هذه الإنجازات/المعيار، كانت حافزاً للمهاجرين، إذ عملوا جميعهم على تحقيقها، ولقد نجح أغلبهم في ذلك. بل ولتأكيد النجاح وتثبيته وإشهاره، عمد بعضهم، وعددهم ثقيل، إلى المغالاة في هذه الإنجازات فشيدوا القصور وامتلكوا السيارات الفارهة، كما امتلكوا هكتارات الأراضي… ومكنوا آباءهم من الحج…
ما نريد أن نبيّنه في هذا الصدد، هو أن معيار نجاح المهاجر بالنسبة إلى المجتمع المرجعي كان حافزاً في حدود بعض الإنجازات الاستهلاكية، ولكنه لم يكن منتجاً اقتصادياً. بل العكس فإن هذا المعيار كان كابحاً الاستثمار ومراكمة الثروة لأنه غذّى الإنفاق البذخي للمال.
4 – الجهل بموارد الاستثمار وإمكاناته
بيّنا كيف أن المهاجرين لم يكن إبداعاً منهم أن راكموا الثروة كما سبق أن ذكرنا… وإنما الذي خوّلهم مراكمة المال هو الخصوصيات الثقافية للمهن التي امتهنوها، وهي مهن تقليدية بامتياز، رحّلوها معهم إلى فرنسا فاكتسبت هناك قيمة مضافة كونها خارج دائرة المنافسة، ومع التفاني في العمل إلى حدّ الاغتراب، ومع التقشف، ومع فارق العملة تيسر لهم أن يراكموا الثروة. نقول هذا لكي نبيِّن أن المهاجرين ليس لهم عقلية استثمارية إبداعية يمكن أن تستنبط المشاريع، كما ليس لهم ذلك الحس الرأسمالي الذي يرصد مصادر الربح ويبني المشاريع على أساسها. وبالتالي فإنه من الإجحاف أن نطالبهم بالاستثمار وبعث المشاريع استناداً إلى مبادراتهم الفردية، فأغلبهم ليس لديه مبادرات ويجهل تماماً موارد الاستثمار في البلاد وإمكانياته.
5 – فشل المؤسسات والهياكل القانونية المشجعة على الاستثمار
لقد تم بعث عدة هياكل وإرساء عدة مؤسسات تهدف إلى التحفيز على الاستثمار كوكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية التي تعمل على تطوير الاستثمار الخاص وتعصير الإنتاج في قطاعات الفلاحة والصيد البحري. وﻣﺤﺎﺿﻦ اﻟﻤﺆﺳﺴﺎت اﻟﻔﻼﺣﻴﺔ التي تعمل على استقبال الباعثين وتوجيههم ومدّهم بالمعلومات اللازمة، ووكالة النهوض بالصناعة والتجديد التي تعمل على تبسيط الإجراءات والتصرف في الامتيازات وإنجاز الدراسات الصناعية الاستشرافية، ومساندة الباعثين ومحاضن المؤسسات ومساندة المؤسسات الصغرى والمتوسطة والشباك الموحد لوكالة النهوض بالصناعة والتجديد، ومركز للخدمات الإدارية والقانونية يضم في فضاء واحد الإدارات المعنية، بإسداء الخدمات المتعلقة بتكوين الشركات، ومجلة تشجيع الاستثمارات (قانون عدد 120 لسنة 1993 مؤرخ في 27 كانون الأول/ديسمبر 1993) التي تمكن الباعثين من عدد من الحوافز والامتيازات المالية والجبائية والإعفاءات، ومنح الاستثمار والمنتديات والملتقيات وأيام الأبواب المفتوحة التي تنظمها وكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية، ومنتدى رجال الأعمال الذي ينظم من قبل ديوان التونسيين بالخارج، والمنتدى الوطني للتونسيين بالخارج، وندوات وملتقيات وطنية وجهوية مشجعة على الاستثمار. لقد فشلت هذه الهياكل القانونية والفعاليات التحفيزية التي وضعها النظام السابق لتشجيع المهاجرين على الاستثمار، أقله في جزيرة جربة، بدليل الانعدام شبه الكلي للمشاريع الاقتصادية الهامة المنجزة من قبل المهاجرين برغم توافر الإمكانات المالية الواسعة. أما أسباب الفشل التي جلتها لنا الدراسة فهي التالية:
6 – المركزية الإدارية والتعقيدات الإجرائية
إن الإدارة التونسية في منظور المهاجرين معطلة للمصالح نتيجة لمغالاتها في المركزية، ذلك أن أغلب الإدارات توجد، من ناحية، في مراكز الولايات وأحياناً في العاصمة. ومن ناحية ثانية، فإنه في نفس الإدارة تكون صلاحيات اتخاذ القرار مركزة لدى مدير مركزي، الأمر الذي تترتب عليه حالة من الانسيابية المتباطئة جدّاً، التي من شأنها تأخّر إنجاز المصالح، وأحياناً تعطيلها تماماً، وذلك برغم كثرة المصالح «المختصة والدوائر والأقسام الإدارية التي لا تتعدى أن تكون سوى قنوات شكلية تمارس إجراءات وأعمالاً روتينية بطيئة لا بد من أن تنتهي إلى المدير الأعلى للبت النهائي في الأمر»، وهذا ما يضاعف التباطؤ وتأخير المصالح وتعطيلها، ذلك أن الكثير من هذه المصالح تفقد قيمتها بسبب التأخير في إنجازها.
يقول أحد المستجوبين (وهو حاصل على الدراسات المعمقة في الاقتصاد في الجامعات الفرنسية وتاجر في فرنسا في نفس الوقت) «إن الإدارة التونسية تعطل المصالح ولا تسهلها… إن الإجراءات معقدة وهي تستنزف الوقت… إن الوقت في الإدارة ليس له قيمة… إن الموظف حينما يقول لي ارجع بعد مدة، هو لا يعرف أن تلك المدة يمكن أن تضيع أثناءها مصلحتي… إن الكثير من الشكليات الإدارية في تونس عبثية لأنها ليست وظيفية من ناحية خدمة المواطن… إن المواطن يفترض أن يشعر بمواطنته في الإدارة أكثر من أي مكان آخر لأنها يفترض أن تكون في خدمته وأنها العلاقة الأساسية الرابطة بينه وبين الدولة فإذا كانت خدمات الإدارة بطيئة ومعطلة للمصالح فإن العلاقة بين المواطن والدولة تكون مرضيَّة… شخصياً تكونت لدي في تونس فوبيا الإدارة…»
7 – الخوف من الانكشاف المالي واستتباعاته الضرائبية
إن صورة الدولة التي ترسخت في ذهن المهاجرين هي دولة «الاغتصاب الضريبي»، أي أن استخلاصها للضرائب لا يخضع لمعايير اقتصادية قانونية واضحة ودقيقة ومعلومة وعادلة، وإنما يخضع لمنطق تعسفي ومجحف وغير منصف. فكل من يقع تحت طائلة الدولة ضرائبياً، تستنزف أمواله بدون معيار ضبطي دقيق وصريح لقيمة الضريبة .
«ألّي تفيق بيه الدولة عنده فلوس تعرّيله راسه» (الشخص الذي تكتشف الدولة أنه ثري تفلسه)، «ما يربح حد مع الدول»(لا أحد يربح مع الدولة)… هذه عينة من تصورات المهاجرين بخصوص علاقة الدولة بأصحاب المال، وهي، كما يبدو واضحا، تصورات مسكونة بالخوف من الغلوّ الضريبي للدولة، وبأن هذه الدولة تترصد كل من ينجز مشروعاً اقتصادياً ناجحاً لتثقله بالضرائب. أمام هذا الخوف، يحجم المهاجرون عن الاستثمار حتى لا تنكشف أموالهم فتصيبهم يد الدولة الضرائبية.
نحن إزاء ظاهرة «المال الكامن» (latent argent) حيث يعمد المهاجرون إلى التستر عن ثرواتهم الحقيقية (اللهم بعض الإنفاق الاستهلاكي أو الاستثمار المحدود في القطاع العقاري) وعدم إظهار قيمتها الفعلية. إنهم بذلك يحافظون على هامش من الغموض (Zone d’incertitude) في مواجهة الدولة؛ فلا يظهرون لها أموالهم حتى لا تثقلهم بالضرائب، هذا الهامش من الغموض هو سلطة مضادة لسلطة الدولة الرسمية[24] يسعى المهاجرون للحفاظ عليه وتمتينه، لأنه سلاحهم للحد من تسلطها الضريبي.
8 – القصور المنهجي للهياكل والفعاليات المحفزة على الاستثمار
بيّنا كيف أن المهاجرين يمتنعون عن الاستثمار في بلادهم، ووضحنا هذه الموانع. وما نريد التشديد عليه في هذا الصدد هو أن هذا الامتناع متأصّل في إدراكهم للحد الذي يمكننا أن نتحدث فيه عن نزعة امتناع حادة ترفض التغيير. إن ما يزيد هذه النزعة حدة هو أن المهاجر لا يرى الاستثمار في تونس فرصة سانحة ومضمونة النجاح، وبالتالي يجب انتهازها، واستغلالها، وإنما يرى فيه مخاطرة ليس من مؤكد فيها إلا أسباب الفشل.
إن ما يعتمل في منطقه أنه ثري ويشتغل في بيئة اقتصادية آمنة تحتكم إدارتها للانضباط الوظيفي والضوابط القانونية والشفافية (السوق الفرنسية). فلماذا المخاطرة والاستثمار في سوق غير آمنة، والتفاعل مع إدارة تحتكم للارتشاء والمحسوبية والزبونية والتعسف الضريبي. إنه يرى نفسه ثرياً وغنياً في آن معاً؛ فأمواله طائلة وهو غني عن حوافز الدولة؛ وبخاصة أن هذه الحوافز قد تضع نجاحه المتحقق فعلياً، الذي تغرّب من أجله وكابد وكدح وتقشف، على المحك. يقول أحد المهاجرين «أنا ناجح بما فيه الكفاية فلماذا أخاطر بنجاحي؟». إن دفاعاتهم الواعية، وحتى اللاواعية، تدفعهم إلى اتخاذ موقف سلبي من الاستثمار في تونس، ومن كل الهياكل القانونية والآليات والفعاليات المحفزة على الاستثمار.
إن توخي صيغ المحاضرات والملتقيات والمنتديات العامة والدعاية الإعلامية، بالإضافة إلى النصوص القانونية، لم ينجح في تشجيع المهاجرين على الاستثمار بدليل أنها لم تولد الصدى المطلوب، وذلك نتيجة للموقف الصلب والجامد لهؤلاء المهاجرين من الاستثمار ورفضهم. ولقد بينت الدراسات والتجارب العلمية أن الناس يخافون من التغيير، خاصة إذا كانت بدائله غير واضحة وأفضلياتهم ومصالحهم فيه غير مضمونة، وهم ينزعون إلى التمسك بمواقفهم المقاومة للتغيير وهو ما يعرف بنزعة مقاومة التغيير (Resistance au changement)[25].
إن الدعاية الإعلامية والندوات والملتقيات العامة تترك الفرد وحيداً متردداً حائراً خائفاً أمام قرار صعب، فيقدم فرضية الفشل على فرضية النجاح، ويستحضر استتباعات الفشل التي قد تكون فاجعية، وهي كذلك بالنسبة للمهاجرين؛ ففي الفشل خسارة لجهد العمر بما فيه من غربة وشقاء وكدح وتعب وبما فيه أيضاً من ثروة وحظوة. إن الصيغ التقليدية المعتمدة لتشجيع المهاجرين على الاستثمار انتهت إلى نتائج سلبية مخالفة للمطلوب، وهذا أمر متوقع علمياً؛ فهذه الصيغ التي يغلب عليها الطابع الشكلي، والتي لم تراع الخصوصيات النفسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمهاجرين، ساهمت في تآكل شعورهم بالمواطنة وبالانتماء، ومن ثَمَّ بالمشاركة والمساهمة في مشاريع التنمية الوطنية. كما ساهمت في زرع بذور التناقض بين المنفعة الاقتصادية للمهاجر كفرد والمنفعة الاقتصادية لمجتمعه.
إن المهاجر الثري ينفق، هو وعائلته، حدّ الرفاه والبذخ، أما وطنه الأم، فحس المساهمة في النهوض به ضعف تماماً.
رابعاً: تفعيل المال المهاجر في التنمية الاقتصادية والاجتماعية
بيّنا كيف أن أغلب المهاجرين لديهم نزعة عزوف حادة عن الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المنتجة، وعليه نعتقد أن تحفيزهم يشترط مقاربة علمية عملية متكاملة تتوجه إلى الجوانب النفسية والمعنوية من خلال اعتماد تقنية «دينامية المجموعات الصغرى لتعديل المواقف».
إن اعتماد تقنية المجموعات الصغيرة من شأنه أن يشجع أصحاب المال من المهاجرين على الاستثمار، فالجماعة الصغيرة توفر الضمانة النفسية والاجتماعية المطلوبة لتعديل موقف المهاجرين الرافض للاستثمار. فهي كيان خصوصي تتآلف فيه تمثلات أعضائه ومشاعرهم ومواقفهم وحتى إراداتهم. كما يتكون في الجماعة الصغيرة سلوك اجتماعي خصوصي يتمثل بتمتّن الروابط الشخصية الحميمية بين أعضائها، وفي انعقاد مشاعر الولاء والتضامن بينهم[26]. فالجماعة الصغيرة عند «غابريال تارد» تعزز التقليد بإيحاء يكاد يكون تنويماً مغناطيسياً[27]. وهي عند «مورينو» مشاركة في التعاطف[28]؛ وهي عند «مايو» ذهنية مشتركة ذات معايير خاصة ومنطق خاص، ويتميز أفرادها بشعورهم القوي بالانتماء إليها، كما أنها تطلق الإمكانيات الفردية وتسهل تحقيقها لصالح المستفيدين منها ولصالح التنظيمات التي تستخدمهم[29].
إن الجماعة الصغيرة تصنع كياناً عاطفياً مشتركاً بين المجموعة يختلف عن الكيان الفردي، الأمر الذي يخفف التوتر ويبني الثقة ويساعد على تجاوز حالة التشتت الآنوي. كما أن التبادل في إطار هذه المجموعات الصغيرة المتجانسة يولد حالة من الطمأنينة الجماعية التي يفترض أن تنتهي إلى التغيير الجماعي للموقف، فتصبح الجماعة هي الضمانة للمهاجر كفرد على صوابية قراره ما دام القرار جماعياً.
إن وجود مجموعة من المهاجرين في إطار مجموعة نقاش متجانسة، حيث يحملون جميعهم نفس الهواجس والتخوفات ويواجهون نفس الصعوبات في اتخاذ القرار، يساعد كل واحد منهم على تصعيد التوترات المرتبطة بهذه الهواجس والتخوفات، ويقلص لدى كل واحد منهم حدّتها، ويهوّن لدى كل واحد منهم أعباء اتخاذ القرار. كما تسهم المشاركة في رفع منسوب الصراحة في التعبير والإفصاح عن المواقف الكامنة وراء الامتناع عن الاستثمار ومن ثم توضيح هذه المواقف وتجليتها، والحقيقة أنه لا يمكن تعديل سلوك ما، وتوجيهه وجهة وظيفية نرتضيها بدون معرفة المواقف الكامنة وراءه.
وأخيراً تدفع المشاركة إلى التفحّص الموضوعي للمسألة موضوع النقاش (وهي بطبيعة الحال مساهمتهم في الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المنتجة) بعيداً من الإسقاطات الانفعالية الفردية، وبالتالي فإن القرار المتخذ سيكون مقبولاً من جانبهم جميعاً وملزماً لهم جميعاً. ذلك أن المشاركة في اتخاذ القرار تؤدي إلى الالتزام بالنتائج. إن التفاعل في إطار مجموعات صغيرة يخلق لدى المهاجرين روح الشراكة، وهو عامل له أهمية بالغة في تحفيزهم على الاستثمار، إذ سيخفض الاعتقاد السائد لديهم بأن الاستثمار مخاطرة غير محمودة النتائج، ذلك أن المهاجر الفرد لن يشارك في المشروع بكل ماله وإنما بجزء من ماله، كما أنه لن يكون وحيداً وإنما ضمن الجماعة، فإذا نجح المشروع فالنجاح جماعي، وإذا فشل فالفشل جماعي كذلك، وهذا مهم لتحفيز روح المخاطرة، ذلك أن المخاطرة مع الآخرين نزهة.
خامساً: المال المهاجر: الفرصة وحدودها
بيّنا كيف أن المهاجرين لديهم نزعة عزوف وامتناع عن الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المنتجة، وكيف أن هذه النزعة متأصلة في ذهنيتهم بحدة. بيّنا كذلك مختلف أسباب هذه النزعة وكيف فشلت المؤسسات والهياكل القانونية والفعاليات التقليدية في خفضها.
إن هذه النزعة تكاد تضيع أموالاً هامة في حجمها وفي نوعها وفي مصدرها، يمكن أن تمد الاقتصاد الوطني بمكمل مهم ينعشه. أي أننا إزاء فرصة، غير أنها ليست متاحة إلى ما لانهاية، فنحن إزاء ظاهرة متحركة ومتغيرة من جيل إلى آخر. فمعطيات الجيل الثاني من الهجرة ليست هي معطيات الجيل الثالث. إن هذا الأخير قد توقع علماء الاجتماع أنه لن يعود[30]، فهو قد تلقى مجتمعيته الأولية ومجتمعيته الثانوية[31] في المجتمع الفرنسي؛ لذلك فهو متأثر إلى حدّ التمثلن بالمنمطات القيمية والثقافية للمجتمع الفرنسي، وأن الجنسية بالنسبة إليه ليست مسألة ضمانة حقوقية وإنما هي هوية اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية… ستتحدّث الأدبيات الاجتماعية قريباً عن الهجرة وظاهرة الانفصال. أما الجيل الثاني فدافعية العودة لديه موجودة، فهو لم يتلق تنشئته الاجتماعية الأولية في بلاد المهجر(فرنسا) وإنما تلقاها في مجتمع الأصل حيث تشبع بالتراكيب المعيارية والقيمية لهذا المجتمع، أما هجرته إلى فرنسا فقد أغنى بها موارده الإدراكية ولكنه لم يبدل بها مواقفه المعيارية.
هذه الفرضية المتصلة بدافعية العودة لدى الجيل الثاني أردنا التثبت من صحتها، فأنشأنا للغرض عيّنة تتكون من 75 مهاجراً، اخترناهم قصدياً من الجيل الثاني، وطرحنا عليهم سؤالين موجهين هما التاليين: هل تفكر في العودة النهائية إلى أرض الوطن؟ ولماذا؟
لقد أكد لنا أغلب المستجوبين (نسبة 95 في المئة) أنهم يريدون العودة إلى أرض الوطن. ولقد تعددت الأسباب وتنوعت كالتالي:
– تقدم في السن وعدم القدرة على مزيد احتمال تعب الهجرة النفسي (الغربة عن الأهل والديار) وتعبها البدني (العمل الشاق والمجهد).
– بلوغ آباء بعض المهاجرين الشيخوخة، وحاجتهم الماسّة إليهم لرعايتهم.
– خوف بعضهم من أن يتمثل أبناؤهم نهائياً بالمنمطات القيمية والثقافية للغرب، فينقطعوا عن قيمهم وثقافتهم المرجعية، كما ينقطعوا عن الأسرة.
– تمكنهم من تحصيل ثروة هامة، فانتفى بذلك دافع الاستمرار في الهجرة وقسوتها.
– بعضهم كبر أبناؤهم وتمرسوا بالتجارة، وهم يفكرون في تفويضهم للإشراف على محالّهم التجارية في فرنسا، بينما يعودون هم إلى أرض الوطن ليشرفوا على إدارة عقاراتهم، وأن يتعهدوا أبناءهم وتجارتهم في فرنسا بالتفقد من حين إلى آخر.
– بعض المستجوبين قالوا إنهم غنموا من فرنسا الكثير من المال، ولكن لحقهم منها كذلك الآثام (بيع لحم الخنزير والخمر). وهم يريدون تصفية تجارتهم في فرنسا والعودة إلى أرض الوطن لوضع حد لهذه الآثام.
ثمة إذاً دافعية ذاتية للعودة لدى الجيل الثاني يجب الاستفادة منها وتحويلها إلى عودة منتجة، وذلك بتشجيعهم على الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المنتجة. أما إذا لم يستفد من هذا الجيل، فنعتقد أنه لن تتحقق الاستفادة من الجيل الثالث، فمؤشرات انفصاله بدأت تلوح. وحتى عقارات الآباء نعتقد أنها لن تكون عامـلاً مشجعاً على عودتهم، ولنا في ذلك تجربة شاهدة وهم أبناء الجهة (من جربة وتطاوين وغمراسن والبئر الأحمر…) الذين نزحوا إلى تونس العاصمة والذين كانت لهم أملاك واسعة في جهاتهم. هؤلاء ما إن توفوا حتى اقتسم أبناؤهم الميراث وفوَّت أغلبهم في نصيبهم من العقارات بالبيع. ولم تكن تلك العقارات دافعاً لهم للعودة إلى موطن أصلهم.
فإذا كان هذا سلوك أبناء من أقام في تونس العاصمة فكيف سيكون سلوك أبناء المقيمين في فرنسا؟
في المقابل، ثمة فرضية نسوقها هنا، ونحن نميل إلى تصديقها، وهي أنه إذا كانت العقارات التي يمتلكها الآباء لن تشد الأبناء من الجيل الثالث إلى الوطن، فإن المشاريع الاقتصادية المؤسساتية العقلانية الهامة يمكن أن تشدهم، وذلك بفعل عوامل عديدة لعل أهمها ارتفاع مستواهم التعليمي وثقافتهم المنفتحة على الطابع العقلاني للمؤسسة وإدارة الأعمال وتكنولوجيا إدارة الأعمال عن بعد…
إن المال المهاجر فرصة ذهبية، بالمعنى الحرفي للكلمة، يجب تلقفها وحسن استثمارها بالصيغة التي تفيد المهاجرين والوطن معاً. والإمكانية واقعية شريطة الاستفادة من المقاربات العلمية المخفضة لنزعة مقاومة التعيير. وإلا فستتحدث الأدبيات السوسيولوجية قريباً عن المال المهاجر… وأسطورة العودة.
خاتمة
حاولنا في هذه الدراسة أن نعالج إشكالية براغماتية خصوصية وهي أصحاب رؤوس الأموال من مهاجري جربة في فرنسا وإمكانات تحفيزهم على الإسهام في إنتاج الثروات (La Production des richesses). هذه الإشكالية ذات أهمية بالغة، فهي تبحث عن أدوات وآليات تفعيل فرصة حقيقية لإسناد الاقتصاد الوطني وإنعاشه بأموال بالغة الأهمية في وقت يحتاج فيه هذا الاقتصاد لأي مكمل مالي للخروج من أزمته… ومعلوم أن الواقع مهما اكتنز من فرص فعلية، فإنه لا يأخذ المبادرة أبداً، كونه لا يجيب، إلا حين نسأله.
لقد تم توخي آليات ومؤسسات وهياكل قانونية متنوعة ومتعددة لتشجيع المهاجرين على الاستثمار، غير أنها لم تنجح، بدليل أنها لم تولد الصدى المطلوب، وذلك نتيجة لسببين أساسيين: أولهما أن هذه الصيغ غلب عليها الطابع الشكلاني، فهي لم تراع الخصوصيات النفسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمهاجرين، فساهمت في تآكل شعورهم بالمواطنة وبالانتماء، ومن ثَمَّ المشاركة في مشاريع التنمية الوطنية. كما ساهمت في زرع بذور التناقض بين المنفعة الاقتصادية للمهاجر كفرد والمنفعة الاقتصادية لمجتمعه. ثانيهما، الموقف الصلب والجامد للمهاجرين والرافض للاستثمار في تونس. ولقد بينت الدراسات والتجارب العلمية أن الناس يخافون من التغيير وبخاصة إذا كانت بدائله غير واضحة، وأفضلياتهم ومصالحهم فيه غير مضمونة، وهم ينزعون إلى التمسك بمواقفهم المقاومة للتغيير.
في هذا الصدد اقترحت الدراسة مقاربة علمية عملية تقوم على خطوات منهجية متكاملة من شأنها أن تخلق النفعية اللازمة لتشجيع المهاجرين وتحفيزهم على الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المنتجة.
إن المال المهاجر فرصة ذهبية بالمعنى الحرفي للكلمة، غير أن هذه الفرصة لها حدودها. فإذا لم تتم الاستفادة من الجيل الثاني الذي له، أصـلاً، دوافع ذاتية للعودة، فلا تعتقد الدراسة أن الاستفادة يمكن أن تتحقق مع الجيل الثالث الذي بدأت مؤشرات انفصاله تلوح. وعليه ننصح بسرعة تلقف هذه الفرصة وحسن استثمارها بالصيغة التي تفيد المهاجرين والوطن معاً.
قد يهمكم أيضاً التفاوت التنموي في تونس.. قبل الثورة وبعدها
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #تونس #الهجرة_في_تونس #المال_المهاجر_في_تونس #التنمية_في_تونس #دراسات
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 475 في أيلول/سبتمبر 2018.
(**) عادل الوشاني: أستاذ مساعد للتعليم العالي، الجامعة التونسية.
[1] عبد الوهاب بوحديبة، فصول عن المجتمع والدين (تونس: الدار التونسية للنشر، [د. ت.])، ص 28.
[2] ريمون بودون وفرنسوا بوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة سليم حداد (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1986، ص 96.
[3] روجيه باستيد، السوسيولوجيا والتحليل النفسي (بيروت: دار الحداثة، 1988)، ص 293.
[4] انظر: صندوق النقد الدولي، المعاملات الدولية في تحويلات المغتربين (واشنطن، دي. سي.: منشورات صندوق النقد الدولي، 2009)، ص 4.
[5] المصدر نفسه، ص 1.
[6] المصدر نفسه، ص 4.
[7] خميس طعم الله، «التنمية والتشغيل والهجرة،» مجلة دراسات دولية، العدد 22 (1987)، ص 28.
[8] إن أغلب المهاجرين لا يستثمرون في الأراضي بأي وجه من وجوه الاستثمار، وإنما هي عقود ملكية مكنزة تعوض السيولة المالية بالأرض كقيمة ثابتة. إن جملة عميقة الدلالة قالها لنا أحد المستجوبين تفسر بوضوح هذه الظاهرة… «أحسن بانكة للعملة هي الرملة».
[9] إن شراء أو بناء المحلات السكنية المعدة للكراء ليس بعقلية الاستثمار العقلاني في العقارات وإنما تمادياً مع الحل الذي يتوخاه أغلب المهاجرين للتخلص السهل والسريع من فائض الثروة. علماً أن ضمانة الربح بالنسبة إليهم هي القيمة الثابتة للمحل في حد ذاته وليس الاستثمار في العقارات ومختلف عمليات البيع والشراء.
[10] لقد تم استقدام أغلب المهاجرين التونسيين إلى فرنسا، أساساً، كقوة عمل رخيصة طيعة، كي يقوموا بأدنى الأعمال في الآلة الاقتصادية الأوروبية، في فترة رواج الاقتصادات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية وبخاصة في الستينيات.
[11] نحن لا ننكر أن بعض المهاجرين نجحوا في الترقي الاجتماعي والاقتصادي في فرنسا، وانتموا، ولو هامشياً، إلى فئة رجال الأعمال النافذين . كما لا ننكر أن فئة محدودة أيضاً من المهاجرين هم من الكفاءات العلمية الذين تبوأوا مكانة اجتماعية محترمة . لكن ما نؤكد عليه هو أن هؤلاء هم قلة قليلة، وأن الأغلبية الساحقة من المهاجرين يضطلعون بأعمال ومهن في أدنى السلم الوظيفي، وهي عديمة الهيبة الاجتماعية.
[12] نادر الفرجاني، «المهاجرون العرب في أوروبا: القضية والموقف العربي،» المستقبل العربي، السنة 7، العدد 71 (كانون الثاني/يناير 1985)، ص 121.
[13] ريجيس بلاستير، تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي، تعريب إبراهيم الكيلاني (بيروت: دار الفكر، 1956)، ص 37.
[14] G. H. Bousquet, L’Ethique sexuelle de l’Islam,
ورد في: بوحديبة، فصول عن المجتمع والدين، ص 98.
[15] عادل الوشاني، «السياحة الدولية في البلاد العربية: حوار بين الحضارات أم مدخل آخر للهيمنة الغربية على البلاد العربية،» في: الممارسة الثقافية في مجتمع المعلومات والاتصال (تونس: منشورات المركز الوطني للاتصال الثقافي، 2005).
[16] حول فرضية فيبر الهامة حول نشأة الرأسمالية، انظر: Max Weber, L’éthique protestante et l’esprit du capitalisme (Paris: Platon, 1964).
[17] في شرحه لنظرية فيبر، يوضح جوليان فروند أن فيبر لا يعطي العلاقة السببية بين البروتستانتية والرأسمالية معنى علاقة آلية. فالذهنية البروتستانتية كانت أحد مصادر عقلنة الحياة التي أسهمت في تكوين ما يسميه «روح الرأسمالية». لم تكن السبب الوحيد أو حتى الكافي للرأسمالية نفسها. بتعبير آخر، كانت البروتستانتية عنصراً ما كان من شأنه، إذا ما ألغيناه من الذهن بمعنى مقولتي الإمكانية الموضوعية والسببية الملائمة، أن يمنع انطلاق الرأسمالية، بل أن يجبرنا على تصور تطورها بشكل مغاير. انظر: جوليان فروند، سوسيولوجيا ماكس فيبر، ترجمة جورج أبي صالح (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1998)، ص 100. كما ذهب ريمون آرون نفس المذهب في شرحه لفرضية فيبر حيث يقول إن البروتستانتية ليست سبب الرأسمالية وإنما أحد أسبابها. انظر كتابه: Raymond Aron, La Sociologie allemande contemporaine (Paris: Presses universitaires de France, 1950), p. 137.
[18] حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر: بحث استطلاعي اجتماعي، ط 3 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1986)، ص 179.
[19] حول طبيعة الأعمال التي شغلها العمال الذين هاجروا إلى فرنسا في الستينيات، ومنهم العمال التونسيون، وصعوبة عيشهم. انظر الرواية الهامة: Robert Linhart, L’établi (Paris: Les éditions de minuit, 1978).
[20] نلاحظ هنا أن مهاجري جربة وجرجيس هم من أكثر مهاجري الجنوب الشرقي التونسي الذين هجّروا أسرهم معهم إلى فرنسا، وتضعف هذه الظاهرة في غمراسن وتطاوين ومدنين. ونحن نفسر ذلك بالتأثيرات الثقافية للسياحة، فمدينتا جربة وجرجيس تفاعل سكانها مع الأجانب بصفة عامة ومع الفرنسيين بصفة خاصة في إطار التجربة السياحية منذ أواسط الستينيات، الأمر الذي غيَّر صورة الفرنسي لدى الأهالي من صورة المستعمر (القاوري) إلى صورة السائح، ومضامين هذه الصورة كانت إيجابية تماماً وبخاصة في بداية التّركّز السياحي ومحدودية عدد السياح ونوعيتهم، إذ كانوا من الأثرياء. لقد كان الأهالي ينظرون إلى السياح على أنهم بالغو الثراء، كرماء، نظيفو البدن والعقلية، ملتزمون بكلمتهم، قناصون لفرص السعادة فلا يفوتونها… هذه الصورة الجديدة للفرنسيين حفزت مهاجري جربة وجرجيس لاستقدام أسرهم إلى فرنسا…
[21] فالغمراسني بعث محـلاً للحلويات، والتطاويني بعث مطعماً، والجربي بعث متجراً للمواد الغذائية العامة، والمطماطي بعث مخبزة…
[22] استقينا هذه المعطيات من دفاتر الحالة المدنية بهذه القرية.
[23] ورد في: ﻗﻭﻱ ﺒﻭﺤﻨﻴﺔ، «ﺜﻘﺎﻓﺔ المؤسسة كمدخل ﺃﺴﺎﺴﻲ للتنمية الشاملة،» ﻤﺠﻠﺔ الباحث (ﺠﺎﻤﻌﺔ ﻗﺎﺼﺩﻱ ﻤﺭﺒﺎﺡ ﻭﺭﻗﻠﺔ، كلية العلوم ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻴﺔ ﻭالاجتماعية ﻭﻋﻠﻭﻡ التسيير – الجزائر)، العدد 2 (2003).
[24] حول مفهوم «هامش الغموض» (Zone d’incertitude) وأهميته في التفاعل الاجتماعي، انظر: Michel Crozier et Erhard Friedberg, L’acteur et le système: Les Contraintes de l’action collective (Paris: Editions du Seuil, 1981).
[25] لمزيد التعمق في هذا المفهوم. انظر: Jean Maisonneuve, La Dynamique des groupes, 11ème éd. (Paris: Presses Universitaires de France, 1995).
انظر أيضاً: ديديه أنزيو، الجماعة واللاوعي، ترجمة سعاد حرب (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1990).
[26] Alain Cerclé et Alain Somat, Psychologie sociale: cours et exercices, 2ème éd. (Paris: Dunod, 2005), p. 32.
[27] Gabriel de Trade, Les Lois de l’imitation (Genève: Slatkine, 1979).
[28] J. L. Moreno, Fondement de la sociométrie (Paris: Presses Universitaires de France, 1954).
[29] Elton Mayo, The Human Problems of an Industrial Civilization (London: Macmillan, 1993).
[30] يتحدث يوسف علوان عن «أسطورة العودة». انظر: Youssef Alouane, «La Situation des travailleurs arabe et les perspectives de retour,» papier présente à: Colloque sur l’enseignement de travailleurs arabes en Europe, Paris, 24-27 janvier 1983.
[31] يميز بيرغر (Berger) ولقمان (Luckman) بين المجتمعية الأولية والمجتمعية الثانوية، ويذهبان إلى أن المجتمعية الأولية – وهي تلك المتعلقة بفترة الطفولة – يعاد فيها النظر جزئياً بواسطة المجتمعية الثانوية التي يتعرض لها المراهق ثم الراشد طوال حياته. انظر: Peter L. Berger and Thomas Luckman, The Social Construction of Reality (London: Doubleday, 1966).
ورد في: بودون وبوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ص 502.

بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.