دخل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيِّز التنفيذ الفعلي يوم الأحد الموافق 19/1/2025، وذلك بعد مماطلة من جانب إسرائيل استمرت لما يقرب من ثلاث ساعات. يهدف هذا الاتفاق، كما تشير ديباجته، إلى الوصول إلى توافق نهائي لتنفيذ خطة كان قد أعلنها بايدن في أيار/مايو 2024 «لتبادل الرهائن والمسجونين والعودة إلى الهدوء المستدام بما يحقق وقف دائم لإطلاق النار بين الطرفين». معنى ذلك أننا إزاء اتفاق جزئي، ما زال بحاجة إلى مفاوضات إضافية كي يكتمل، يتضمن ثلاث مراحل مدة كل منها 42 يومًا. المرحلة الأولى هي وحدها التي تشمل اتفاقًا حول كل التفاصيل المتعلقة بها، أما المرحلتان الثانية والثالثة فتكتفي بتوجهات ومبادئ عامة تاركة التفاصيل لمفاوضات لاحقة، تم الاتفاق على أن تبدأ في اليوم السادس عشر من المرحلة الأولى، وعلى تعهد الوسطاء بضمان استمرارها إلى أن تكلل بالنجاح.
تشمل المرحلة الأولى اتفاقًا تفصيليًا على ما يأتي:
أولًا، انسحاب القوات الإسرائيلية. وذلك وفقا لصيغة متدرجة، تبدأ من المناطق المكتظة بالسكان بما فيها وادي غزة (محور نتساريم ودوار الكويت)، وتحتفظ خلالها القوات الإسرائيلية بمنطقة عازلة على طول الحدود، لا يتجاوز عرضها 700 متر، واستثناء 5 نقاط جنوبًا لا تتجاوز كل منها 1100 متر، تحددها خرائط مرفقة بالاتفاق. أما محور فيلادلفي ومعبر رفح فسيخضعان لترتيبات خاصة، حيث سيتم الخفض التدريجي للقوات الإسرائيلية في منطقة محور فيلادلفي وفقًا لخرائط مرفقة بالاتفاق، وبعد إطلاق سراح آخر رهينة في اليوم الأخير من المرحلة الأولى، تبدأ القوات الإسرائيلية انسحابها وتستكمله بما لا يتجاوز اليوم الخمسين. أما معبر رفح فستبدأ إسرائيل في تجهيزه فور توقيع الاتفاق وسيصبح جاهزًا لنقل المدنيين والجرحى عقب إطلاق سراح جميع النساء المدنيات والمجنَّدات، وستعيد انتشار قواتها حوله وفقًا لخرائط مرفقة بالاتفاق، كما سيُسمح بعبور 50 فردًا من العسكريين الجرحى يوميًا برفقة ثلاثة أفراد بعد حصولهم على موافقة من كل من مصر وإسرائيل، وسيتم تشغيله وفقًا للقواعد المتفق عليها في مشاورات تمت في آب/أغسطس 2024. وسيُسمح لجميع المدنيين الفلسطينيين المرضى والجرحى بالعبور منه.
ثانيًا، معايير تبادل الأسرى والرهائن. تشمل المرحلة الأولى الإفراج عن 33 رهينة، منهم تسعة مرضى وجرحى سيتم إطلاق سراحهم مقابل مئة وعشرة من السجناء الفلسطينيين المحكوم عليهم بالمؤبد، وألفٍ ممن اعتقلوا في غزة منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ولم يشاركوا في أحداث 7 أكتوبر. كما سيتم في الوقت نفسه إطلاق سراح فئة كبار السن من الرجال فوق الخمسين، وفقًا لمعامل تبادل 1: 3 من المحكومين بالمؤبد + 1: 27 من المحكومين بأحكام أخرى، وإطلاق سراح كل من إبرا منجستو وهشام السيد، وفقًا لمعامل تبادل 1: 30، إضافة الى 47 من سجناء جلعاد شاليط، وإطلاق سراح عدد من المسجونين الفلسطينيين في الخارج أو في غزة بناء على القوائم المتفق عليها بين الطرفين.
ثالثًا، عودة النازحين. سيسمح للنازحين، اعتبارًا من اليوم السابع بعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ، بالعودة إلى شمال محور نتساريم من دون حمل السلاح ومن دون تفتيش، وذلك عبر شارع الرشيد، كما سيسمح للمركبات بالعودة بعد فحصها من جانب شركة خاصة يتم تحديدها من طرف الوسطاء، وذلك بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي بناءً على آلية متفق عليها. وفي اليوم 22 سيسمح للجميع بالعودة من شارع صلاح الدين من دون تفتيش.
رابعًا، المعونات الإنسانية. سيسمح للمعونات الإنسانية بالتدفق، استنادًا إلى برتوكول إنساني تم الاتفاق عليه تحت إشراف الوسطاء. يشمل دخول 600 شاحنة مساعدات كل يوم من أيام وقف إطلاق النار، 50 منها تحمل الوقود مع تخصيص 300 شاحنة للشمال.
المرحلة الثانية من الاتفاق ستبدأ بإعلان عن التوصل إلى هدنة مستدامة يتم بموجبها وقف دائم للعمليات العسكرية ولجميع الأنشطة العدائية، ينبغي أن يدخل حيِّز التنفيذ قبل الشروع في أي عملية لتبادل الأسرى والرهائن خلال هذه المرحلة. وستشمل هذه العملية الإفراج عن جميع الباقين في قيد الحياة من الرجال المحتجزين في القطاع، جنودًا ومدنيين على السواء، مقابل عدد يُتفق عليه من الأسرى الفلسطينيين، وانسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل خارج حدود القطاع.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة منه فتشمل: تبادل جثامين ورفات الموتى من الجانبين، بعد الوصول إليهم والتعرف إليهم، والبدء في تنفيذ خطة للإعمار ولتعويض المتضررين، مدتها من 3-5 سنوات ويشرف عليها عدد من الدول والمنظمات من بينها مصر وقطر والولايات المتحدة الأمريكية، وفتح جميع المعابر والسماح بحرية حركة الأشخاص والبضائع.
يستدعي هذا الاتفاق جملة من الملاحظات، نجملها على النحو الآتي:
الملاحظة الأولى: تتعلق بالأطراف المشاركة في جولة الصراع الحالية؛ فقد جرت هذه الجولة بين إسرائيل، من ناحية، تساندها الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية بالمال والسلاح وبالدعم العسكري وأحيانًا بالاشتراك المباشر في القتال، وبين حماس، من ناحية أخرى، تساندها فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة وحزب الله اللبناني وجماعة أنصار الله اليمنية، وأدت التفاعلات الناجمة عنها إلى دخول إيران، وأول مرة في تاريخها، طرفًا مباشرًا في القتال. لذا تتسم هذه الجولة بعدم مشاركة الجيوش النظامية للدول العربية، بل إن بعض هذه الدول قدم إلى إسرائيل خلالها مساندة عسكرية مباشرة أو غير مباشرة، وتعَدّ هذه الجولة هي الأطول والأكثر تكلفة في تاريخ المواجهات المسلحة مع إسرائيل منذ نشأتها عام 1948.
الملاحظة الثانية: تتعلق بالأطراف الموقعة اتفاق وقف إطلاق النار. فقد تم توقيع هذا الاتفاق بعد مفاوضات غير مباشرة أجريت بين الكيان، من ناحية، وحماس، من ناحية أخرى. أما الولايات المتحدة ومصر وقطر فقد أدّت دور الوسيط في المفاوضات والضامن لتنفيذ الاتفاق. تجدر الإشارة هنا إلى أن إدارة ترامب شاركت بنفسها في اللحظات الأخيرة من هذه المفاوضات، بل تمكَّنت من تأدية دور رئيسي في حسمها حتى من قبل دخول ترامب رسميًا إلى البيت الأبيض، وهو أمر له دلالته. وفي حين أدى قبول الحكومة الإسرائيلية لهذا الاتفاق إلى استقالة إتمار بن غفير ووزراء حزب القوة اليهودية من هذه الحكومة، أدارت حماس المفاوضات نيابة عن كل شركائها وبالتوافق التام معهم، ومن دون أن تحدث أي خلافات أو انشقاقات على هذا الجانب.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بالأهداف التى سعت الأطراف المعنية لتحقيقها. يضمن الاتفاق، في حال إتمام تنفيذ مراحله الثلاث، تمكين حماس من تحقيق جميع أهدافها بالكامل، ألا وهي: وقف دائم لإطلاق النار، انسحاب جميع القوات الإسرائيلية إلى خارج القطاع، عودة النازحين إلى مساكنهم بحرية ومن دون قيود، حصول الشعب الفلسطيني على معونات تكفي لإنقاذه من خطر الإبادة الجماعية، البدء في إعمار ما دمرته الحرب، وأخيرًا إبرام صفقة شاملة لتبادل الأسرى. في المقابل، فشلت إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها المعلنة، كتدمير حماس عسكريًا وإسقاط حكمها في قطاع غزة واستعادة المحتجزين بالقوة، وكذلك أي من أهدافها الخفية، كإجبار الفلسطينيين على الرحيل من وطنهم وإعادة احتلال واستيطان القطاع من جديد.
الملاحظة الرابعة: تتعلق بمصير هذا الاتفاق؛ فاحتمال انهياره وارد لأسباب كثيرة، أهمها: استمرار نتنياهو في التصريح علنًا بأن هذا الاتفاق لا يحول دون العودة إلى القتال مجددًا إذا استدعت الضرورة، وإعلان سموتريتش وزير المالية وزعيم حزب الصهيونية الدينية، أنه سيقدم استقالته إذا لم يستأنف القتال في نهاية المرحلة الأولى، ما يوحي بأن حكومة نتنياهو، وهي الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، لن تدخل المفاوضات المتعلقة بالمرحلة الثانية بحسن نية، وبالتالي تنوي الانسحاب منه في نهاية المرحلة الأولى. غير أن احتمال صموده وتنفيذه بالكامل ليس مستبعدًا، بل وربما يكون مرجحًا لأسباب كثيرة، أهمها: إجماع القيادت العسكرية على أن استمرار القتال بات عديم الجدوي من الناحية العسكرية ولن يؤدي إلا إلى إلحاق المزيد من الأضرار بالمدنيين وتلطيخ سمعة إسرائيل، ومن ثم يتوقع أن تواجه حكومة إسرائيل ضغوطًا داخلية وخارجية قوية، وخصوصًا من جانب أُسر الرهائن والدول الضامنة لتنفيذ الاتفاق، لإجبارها على المضي قدمًا في تنفيذه، وخصوصًا أن المقاومة الفلسطينية ستظل محتفظة بما يقرب من ستين محتجزًا بعد نهاية المرحلة الأولى، وهي ورقة ضغط قوية وفعالة.
الملاحظة الخامسة: تتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية؛ فسواء تم تنفيذ الاتفاق بجميع مراحله أم لا، سيكون للنتائج التي ستسفر عنها الجولة الراهنة من الصراع المسلح تأثيرات بالغة الأهمية في مستقبل القضية الفلسطينية، سيتوقف حجمها على عوامل كثيرة أهمها: (1) تطور الوضع الداخلي في إسرائيل، وخصوصًا إذا نفذ سموتريتش تهديده بالانسحاب من الحكومة؛ (2) طريقة إدارة حماس والسلطة الفلسطينية الصراع مع المشروع الصهيوني خلال المرحلة المقبلة، ولا سيّما إدارة حماس لمفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق؛ (3) السياسة الخارجية التي سينتهجها ترامب في ولايته الثانية والأخيرة، وخصوصًا في ما يتعلق منها بطريقة إدارته لملفات الشرق الأوسط المتشابكة، وفي مقدمتها ملف البرنامج النووي الإيراني.
ولأن الوقت لا يتسع لتحليل تفصيلي لمختلف هذه العوامل، نكتفي في هذا المقام بالقول إن الأرجح أن لا تتمكن حكومة نتنياهو من الصمود في وجه الأعاصير القادمة، الناجمة عن الإخفاق في مواجهة «طوفان الأقصى» والعجز عن تدمير حماس، وبالتالي يتوقع أن تتفكك وأن تدخل في دوامة الانتخابات النيابية المبكرة. كما يتوقع في الوقت نفسه أن تحرص إدارة ترامب على المضي قدمًا في تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، لأن لديها أولويات داخلية وخارجية أكثر أهمية خلال الأشهر الأولى من ولايتها، لكن من المؤكد أنها ستعود بعد ذلك إلى محاولاتها الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، عبر الابتزاز المالي للسعودية ودول الخليج والدفع في اتجاه توسيع نطاق الاتفاقيات الإبراهيمية. ولأن «طوفان الأقصى» أثبت بما لا يدع أي مجال للشك أن العامل الفلسطيني سيظل هو العامل الأكثر حسمًا في التأثير في مستقبل القضية الفلسطينية، يمكن القول إن الحاجة باتت ملحّة أكثر من أي وقت مضى للحركة الوطنية الفلسطينية أن تلتقي تحت عنوان واحد يتولى إدارة الصراع مع المشروع الصهيوني.
إذا لم تتعاون السلطة الفلسطينية، رغم كل ما جرى، في الجهود الرامية لتأليف حركة وطنية فلسطينية موحدة تتولى إدارة الصراع مع المشروع الصهيوني في أكثر مراحل تطوره حساسية وخطورة، فما الذي يمنع جميع القوى والفصائل الفلسطينية الأخرى من أن تتوحد الآن وفورًا؟.
كتب ذات صلة:
المصادر:
هذه المقالة هي افتتاحية العدد 552 من مجلة المستقبل العربي الخاص بشهر شباط/فبراير 2025.
احصل على نسختك عند الضغط على الرابط:
مجلة المستقبل العربي العدد 552 شباط/فبراير 2025
حسن نافعة: أستاذ العلوم السياسية، والرئيس السابق لقسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
حسن نافعة
أستاذ العلوم السياسية، والرئيس السابق لقسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.