«لا أحد يستطيع أن يفهم أمريكا وحرياتها، إلا إذا وعى وتفهم التأثير الذي باشره وما زال يباشره الدين في صنع هذا البلد…»

جيمس فن – أمريكا اليوم (*)

تبحث هذه الدراسة في السبب الرئيسي لإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل»، وذلك من خلال عرض ثلاثة نماذج تكشف علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بـ «فلسطين» بوجه عام، و«القدس» بوجه خاص.

تهدف الدراسة إلى كشف العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني؛ فالأمريكيون ينظرون إلى «إسرائيل» على أنها شديدة الشبه بأمريكا: أمة مهاجرة، ودولة مهاجرين، وملاذ مضطهدين ومظلومين، ومجتمع رواد استيطان. بلد قوي وشجاع عازم على النضال في صف الحق، ونظام ديمقراطي تظلله سيادة القانون (الوحيد في الشرق الأوسط) وواحة ثقافة استهلاكية غربية في صحراء قاحلة تحيط بها من كل جانب. فالروابط بالغة المتانة إلى درجة أن إسرائيل ليست بنظر عدد غير قليل من الأمريكيين، سوى ولاية حادية وخمسين‏[1].

تنطلق إشكالية الدراسة من الإجابة عن سؤالها المحوري: هل جماعات الضغط اليهودي في أمريكا هي التي تضع وتحدد السياسة الأمريكية، أم أن الانحياز الأمريكي لـ «إسرائيل» يجد أساسه في الثقافة الأمريكية التي توصف بأنها ثقافة يهو - مسيحية (Judeo Christian)»؟

مقدمة

أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطاب متلفز من البيت الأبيض، مساء يوم الأربعاء 6/12/2017، الاعتراف بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل». قال ترامب: «قررت أن الوقت حان لأن نعلن رسمياً الاعتراف بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل»»، ووقع بعد ذلك ورقة رسمية. واعتبر الرئيس الأمريكي أن هذه الخطوة تأخرت كثيراً، وأنها «ليست أكثر أو أقل من اعتراف بالواقع، وهي أيضاً العمل الصائب الذي ينبغي القيام به»، مضيفاً أن «إسرائيل دولة ذات سيادة ومن حقها أن تقرر ما هي عاصمتها».

للأسف فسّر أغلبية المثقفين العرب، هذه الخطوة من جانب ترامب، من خلال الفهم الخاطئ لطبيعة العلاقة بين أمريكا والكيان الصهيوني، حيث لا يزال كثير من مثقفينا ومفكرينا ومحللينا، يصرون على أن جماعات الضغط اليهودي في أمريكا هي التي تضع وتحدد السياسة الأمريكية، وأن هذه الجماعات لها قدرة كبيرة على التأثير في الانتخابات الأمريكية، ومن ثم تحديد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في اتجاه تحقيق التأييد والدعم للكيان الصهيوني.

تبْني هذه الدراسات تحليلاتها على التنظيم والوسائل التي يلجأ إليها اللوبي الصهيوني لممارسة ضغوطه على عملية صنع القرار الأمريكي، ولكنها تغفل الطريقة التي تتغلغل فيها المواقف الموالية للصهيونية في الثقافة الأمريكية لتجعل السياسة الأمريكية تتكيف مع المتطلبات الصهيونية‏[2].

«وبذا يصبح الدعم الأمريكي السخي والمستمر لـ«إسرائيل» أمراً يتم رغماً عن إرادة الولايات المتحدة وضد رغبتها، وتصبح هذه القوة العظمى الباطشة مجرد ضحية للنفوذ اليهودي، وألعوبة في يد الصهيونية التي لا تقهر. وهو يحسّن صورتها أمام زبائنها العرب»‏[3].

من هنا «فالنظم العربية تستفيد من أسطورة اللوبي اليهودي والصهيوني. فهي تبرر الهزيمة العربية إذ تجعلها شيئاً متوقعاً»‏[4].

إن تفسير اللوبي اليهودي، ومن ثم الانحياز الأمريكي لإسرائيل يجد أساسه في أن «الثقافة الأمريكية توصف بأنها ثقافة يهو - مسيحية «Judeo Christian» تقوم على التقاليد الأخلاقية والدينية لليهودية والمسيحية، أي «التراث اليهودي المسيحي»، الأمر الذي تُرجم في النهاية إلى معنى سياسي هو توافق القيم الأمريكية والإسرائيلية»‏[5].

وهكذا، فإن التراث اليهودي للمسيحية الأمريكية، كما يقول بول فندلي: جعل الكثيرين من المسيحيين الأمريكيين يشعرون بأن إنشاء دولة «إسرائيل» عام 1948 جاء كتحصيل للنبوءات التوراتية، وأن الدولة «اليهودية» ستظل تؤدي دوراً مركزياً في مخطط السماء والأرض. وجاء انتصار «إسرائيل» العسكري في حرب 1967 واحتلال القدس ليمثل عندهم تأكيد تنبؤات التوراة والخطوة قبل الأخيرة للمجيء الثاني للمسيح، إذ إن الخطوة الأخيرة إعادة بناء المعبد فوق قبة الصخرة، ويستخلص فندلي، أن التركيز على التراث التوراتي جعل كثيرين من المسيحيين الأمريكيين ينظرون إلى الشرق الأوسط والصراع الدائر فيه، كانعكاس للأحداث التي يصورها العهد القديم؛ فإسرائيليو القرن العشرين يصبحون في أعينهم بني «إسرائيل» التوراة، والفلسطينيون يصبحون «الفيلستين» الذين حارب بطلهم «جوليات» داود‏[6].

أولاً: كولومبس وتحرير القدس

«القدس وجبل صهيون يجب أن يتم بناؤهما على يد المسيحيين كما أعلن الله على لسان نبيه في المزمار رقم 14»

كريستوفر كولومبس

فور هزيمة المسلمين في غرناطة في عام 1492، بدأت اكتشافات كريستوفر كولومبس لأمريكا، بدعم كل من فرديناند الأراغوني وإيزابيلا القشتالية، بدافع اعتقاد بأن رحلاته هي جزء من سيناريو ألفي مسيحاني، سوف يقود في النهاية إلى تحرير «أورشليم» القدس من المسلمين (الكفار) وإعادة بناء الهيكل.

يري الأب مايكل برير، في كتابه الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني: لم يكن ثمة تقصير في الدعم اللاهوتي والكتابي لتقديم الأساسات المعتقدية. وقد تشارك اللاهوتيون المسيحيون في القرون الوسطى مع علماء اللاهوت من «بني إسرائيل» بمفهوم واحد، تضمن التقديس «الراديكالي» للدولة وكل مؤسساتها، بما في ذلك الأرض. وادّعى كلاهما أن الأرض كانت هبة من الرب لـ«بني إسرائيل» في زمانهم، وللإسبان والبرتغاليين لاحقاً في العالم الجديد. إن ملكية الرب الأرض تضم السيادة السياسية على كل أراضي الكرة الأرضية‏[7].

عكس كولومبس العنصر الديني حافزاً له من خلال استهلال الإهداء لمفكرته في رحلته الأولى (الجمعة 3 آب/أغسطس 1492): «إن سموّكم، كاثوليكيين ومسيحيين وأمراء، أحبوا العقيدة المسيحية ويتوقون لرؤيتها تتوسع، وكأعداء لملّة محمد (Mahomet) وكل الوثنيين والهراطقة، الذين ارتأوا أن من المناسب أن يرسلوني، أنا كريستوفر كولومبس، إلى الأجزاء المسماة بالإنديز للنظر في الطريقة الممكنة لتحويلهم إلى عقيدتنا المقدسة»‏[8].

يقول فؤاد شعبان، في كتابه من أجل صهيون: وقد أصبحت رسالته التي بعث بها إلى العرش الإسباني فور عودته من رحلته الأولى وأرّخها في 15/2/1492 خطة عمل ومنهاج حياة التزم به طوال عمره. طبعت هذه الرسالة فيما بعد في عام 1493، وترجمت إلى لغات عديدة، كما أعيدت طباعتها عدة مرات بحيث أصبحت وثيقة رسمية تمثل البرنامج الأيديولوجي للأوروبيين في حملاتهم الاستكشافية الاستعمارية والتبشرية. ويلخص كولومبس هذا البرنامج الشمولي في الرسالة كما يلي: «غزو العالم وهداية البشرية إلى المسيحية، واستعادة الأراضي المقدسة، والإعداد لإنشاء مملكة الإله على جبل صهيون في موقع الهيكل»[9].‏

كتب كولومبس، كتاباً بعنوان كتاب النبوءات (Libro de Ia Profecias, The Book of Prophecies)، وهو عنوان كتاب الرؤيا، الكتاب الأخير من العهد الجديد. يعرض كولومبس في هذا الكتاب بالتفصيل رؤياه وسعيه لتحقيق «أهداف ونبوءات العهدين القديم والجديد» كما تراءت هذه النبوءات له ولمعاصريه. وقد اقتبس كولومبس لهذا الكتاب عنوان أحد أكثر كتب العهد الجديد تنبؤاً بمستقبل البشرية ومستقرها.

أشار كولومبس إلى العديد من نصوص الكتاب المقدس على أنها أدلة وبيِّنات تثبت بعثته المقدسة إلى البشرية. فهو طالما اقتبس من سفر «الرؤيا» النص التالي: «وهناك قطعان أخرى لم تنضم إلى رعيتي، ولا بد لي من الوصل إليها. ولسوف يسمعون ندائي حتى لا يكون سوى قطيع واحد وراع واحد». كما كان كولومبس يستشهد بالنص التالي من «سفر إشعياء» كدليل قاطع على أن العناية الإلهية اختارته لتحقيق مهمته المقدسة هذه، حيث الحديث عن القدس «وعودة» الشعب المختار إليها: «إنَّ الْجَزَائِرَ تَنْتَظِرُنِي، وَسُفُنَ تَرْشِيشَ فِي الأَوَّلِ، لِتَأْتِيَ بِبَنِيكِ مِنْ بَعِيدٍ وَفِضَّتُهُمْ وَذَهَبُهُمْ مَعَهُمْ، لاسْمِ الرَّبِّ إلهِكِ وَقُدُّوسِ إسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَجَّدَكِ»‏[10] .

كما دلل كولومبس على رؤياه تلك وعلى صدقية أهدافه بنص: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي. إنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكاً لَكَ»‏[11].

وضع كولومبس رسالته المذكورة إلى الملك فرديناند والملكة إيزابيلا في مقدمة قصة اكتشافاته ومغامراته، وشرح في الرسالة أنه عرض نفسه دليـلاً لقيادة «الحملة الصليبية» الأخيرة، قائـلاً: «إن القدس وجبل صهيون سوف يتم بناؤهما على يد المسيحيين، كما قال على لسان نبيه في المزمور رقم 14».

والمزمار المذكور يحتوي على النص التالي الذي يشير إليه كولومبس: «لَيْتَ مِنْ صِهْيَوْنَ خَلاَصَ إسْرَائِيلَ. عِنْدَ رَدِّ الرَّبِّ سَبْيَ شَعْبِهِ، يَهْتِفُ يَعْقُوبُ، وَيَفْرَحُ إسْرَائِيلُ»[12].

كتب كولومبس إلى العرش الإسباني لدى عودته من رحلته أنه على استعداد لتجهيز 50,000 جندي و4,000 فارس، إذا قرر فرديناند وإيزابيلا قيادة حملة «لتحرير مهد المسيح في القدس». وقال لهما «سوف يكون النصر حليفكما في مشروع القدس إن كنتما مؤمنين»[13].

يقول الأب مايكل برير، استهل كولومبس مفكرته «باسم إلهنا يسوع المسيح». بهذه الصورة أصبح الحافز الديني في تنصير الهنادِرة التسويغ لمجمل مشروع الغزو.

وفي معرض تقديمه كولومبس، كتب بارتُلُميه ديه لاس كازَس، في عام 1527، إن دافع كولومبس هو توطين المستعمرين الإسبان، الذين سيؤسسون كنيسة مسيحية جديدة وقوية، ودولة المساواة السعيدة، واسعة الانتشار واللامعة. ورأى كولومبس في اكتشافاته تحقيق النص المقدس، خاصة «هأَنَذَا خَالِقٌ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً»‏[14]، التي يستشهد بها بوجه متكرر؛ والمزمور (19: 4) التي استجار بها خمس مرات في كتابه؛ و«ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً»‏[15] إضافة إلى ذلك، وبوجه عام، تتميّز لغة كولومبس المجازية وإحساسه بالتاريخ وعلم الكونيات، بكونها ذات علاقة بالنصوص المقدسة.

وكما يظهر في كتابه ليبرو ديه لاسبروفيثياس (Libro de las profecias shows) حقاً فسّر كولومبس مهمته ضمن إطار الصورة العريضة لنهاية ذات ذروة وبداية الألفية، مُدخـلاً في ذلك استعادة جبل «صهيون» «ومن أجل تنفيذ ذلك أمل في أن يتمكن من ذلك، أمل في تمويل عشرة آلاف [فارس] ومئة ألف راجل»‏[16].

يقول المؤرخ الديني جون فيلان (John Phelan) في إصرار كولومبس على اعتقاده بمهمة مقدسة: «سيطر على كولومبس تصوره لنفسه كأداة في يد العناية الإلهية التي اصطفته لتحقيق النبوءات، وبخاصة المتعلقة بتحرير القدس» ‏[17].

من هنا؛ لم تكن مغامرة كولومبس إلا مغامرة دينية، ومدخـلاً لاستعادة الأراضي المقدسة، والإعداد لإنشاء مملكة الإله على جبل صهيون!

ثانياً: أمريكا.. دولة النبوءة

عندما بدأ الاستيطان الأوروبي لأمريكا، حمل المهاجرون الجدد معهم العقيدة البروتستانتية [البيوريتانية /التطهيرية]، التى كانوا يحاولون، بلا طائل، تطبيقها في إنكلترا، ولكنهم طوردوا واضطهدوا، أثناء حكم آل ستيورات، فراح يحدوهم الأمل بإمكان العيش وفقاً للمبادئ البروتستانتية [البيوريتانية/التطهيرية] على الأرض الجديدة.

فاتّجه هؤلاء على صورة مجموعاتٍ مسافرةٍ على ظهر السُّفن إلى أمريكا وفي ذهنهم تصُّور مفاده أنّهم النُّخبة التي اختارها الرب من بين البشر لإقامة مملكته (مملكة الرب) على الأرض التي اختارها لهم ألا وهي أرض الميعاد (أمريكا).

فحين كتب زعيم الطهوريين جون كوتون مقالته التي وسمها «وعد الله لمستوطنته»، زيّن صفحة الغلاف بالنص التالي من سفر صموئيل الثاني: «وَعَيَّنْتُ مَكَاناً لِشَعْبِي إسْرَائِيلَ وَغَرَسْتُهُ، فَسَكَنَ فِي مَكَانِهِ، وَلاَ يَضْطَرِبُ بَعْدُ»‏[18]. وقد بيّن كوتون هذا المفهوم بوضوح حين خاطب المستوطنين قائـلاً: «كان اختيار موقع المستوطنة الأولى هو أول بركة من الله…». وكانت كل خطوة بعد ذلك من «انتقاء المهاجرين إلى انتقال هذا الشعب أو ذاك إلى موطن أو آخر، كل ذلك كان قراراً إلهياً»‏[19].

إن المجموعة الأولى التي هاجرت إلى أمريكا كانت تتكوّن من بعض المنشقين الذين فروا من إنكلترا بين 1607 و1609 إلى «لايدن» في كندا وكان بينهم القس جون روبنسون وأعضاء من رعيته. ومن هؤلاء الفارين هاجرت مجموعة صغيرة إلى أمريكا عرفت باسم «الحُجَّاج» ونزلت في «بليموث» في أواخر عام 1620 ومع أن المستعمرة كانت صغيرة إلا أنها أصبحت أكثر مستعمرات أمريكا شهرة في التاريخ الأمريكي.

وإلى الشمال من «بليموث» بدأت جماعات أخرى تصل إلى المنطقة المحيطة بمدينة «بوسطن» الحالية بولاية ماساشوستس وقد جاءت هذه الجماعات تحت رعاية «شركة خليج مستشوستس» التي حصلت على امتياز بالأراضي المحصورة بين نهري تشارلز وميريماك.

أنّ المستوطنين الإنكليز البروتستانتيّين على الأرض الأمريكيّة تماهوا بالكامل مع الإسرائيليّين القدامى. فكانوا يتحدثون عن أنفسهم بوصفهم «إسرائيل المسيحية»، ويصفون إنكلترا التي خلّفوها وراءهم بــ «أرض مصر» وينعتون الملك جيمس الطارد لهم بــ «الفرعون» ويوازون المحيط الأطلسي الذي عَبَروه بـ «البحر الأحمر»، وأمريكا بــ «أرض كنعان الجديدة» أو «أرض الميعاد»‏[20].

يقول بول مركلي، في كتابه الصهيونية المسيحية: فقد رأى البيوريتانيون أن تجربتهم الخاصة المتمثلة «بالهروب إلى البراري»، من أوروبا المنحوسة مساوية لتجربة اليهود الذين قادهم موسى من مصر، غير أنها كانت أكثر كثيراً من تجربة مساوية. لقد آمنوا بأن تجربتهم لم تكن في الحقيقة إلا تجسيداً حياً لتجربة الخروج. وقد فسروا تجربتهم على أنها تكرار للتاريخ الذي شكل شعب الرب القديم‏[21].

على غرار الخروج الجماعي المذكور في العهد القديم، الذي هرب فيه اليهود من مصر ورحلوا إلى أرض جديدة وعدهم الرب بها، نظر البيوريتانيون إلى أنفسهم على أنهم الشعب المختار الجديد، ونظروا إلى العالم الجديد على أنه «إسرائيل» الجديدة. أما العالم القديم بالنسبة إليهم، فكان هو مصر التي فرّوا منها. لقد عقدوا عهداً مع الرب: إنه إذا أمن الرب ذهابهم إلى العالم الجديد، فإنهم سيؤسسون مجتمعاً تحكمه القوانين الإلهية‏[22].

كانت مصر (وفرعون بالتالي)، في التنميط البروتستانتي، هي المعادل لأي طغيان وجد منذ ذلك الحين فصاعداً، كما كان بنو إسرائيل هو الاسم الذي يطلق على أي مجموعة قاومت الطغيان وهربت منه. ومن ثم كان ممكناً أن تكون مصر هي روما في عيون البروتستانت في القرن السادس عشر، أو هي إنكلترا بالنسبة إلى الأمريكيين في القرن الثامن عشر‏[23].

أعطى المهاجرون الأوائل أبناءهم أسماء عبرانية (إبراهيم، سارة.. أليعازر… إلخ)، وأطلقوا على مستوطناتهم أسماء عبرانية (حبرون وسالم وكنعان… إلخ)، وفرضوا تعليم اللغة العبرية في مدارسهم وجامعاتهم، حتى إن أول دكتوراه منحتها جامعة هارفارد في عام 1642 كانت بعنوان «العبرية هي اللغة الأم»، وأول كتاب في أمريكا كان سفر المزامير (Psalm)، وأول مجلة كانت مجلة اليهودي (The Jew)‏[24].

لقد باتت أمريكا في نظر المهاجرين الجدد «النموذج الروحي للعهد القديم العبري»، بل نجدهم يسمون أنفسهم «أطفال إسرائيل» Children of Israel‏[25].

لقد بدأ البيوريتانيون ومنذ وقت طويل بقراءة التناخ [التوراة] على أنه كتاب تاريخ قبل أن يفكر الصهاينة اليهود في القيام بذلك. وربط هؤلاء المؤمنون المتعطشون للخلاص ذلك بولادة شعب إسرائيل في بلده. ولم تنشأ هذه العلاقة لقلقهم الخاص على اليهود المضطهدين، بل في الأساس بسبب الرؤيا التي تعتبر قدوم الخلاص المسيحي للعالم بأسره سيكون بعد أن يعود بنو إسرائيل إلى صهيون. وكجزء من هذه الصفقة طويلة الأمد يجب على اليهود أن ينتصروا، وفقط من بعد ذلك سيشهد العالم عودة يسوع من جديد‏[26].

وهكذا، فإن نشأة أمريكا كانت نتيجة اندفاعة دينية، فقد كان خطاب المهاجرين يتألف من إنزال قصص الكتاب المقدس على تجربتهم، ومن عالم الخيال الكتابي استقوا إرثهم الأسطوري!

ثالثاً: أسطورة «مدينة على جبل»

في عام 1816، كتب شاعر أمريكي مغمور، هو جون بيربونت (John Pierpont)، قصيدة طويلة عنوانها «ألحان من فلسطين»، وهي عبارة عن رحلة خيالية إلى فلسطين، جاء فيها:

لا، لا، سأسلك طريقاً أجمل

سأترك اليونان وسحرها، وأقصد فلسطين،

أعشق السير على ضفاف الأردن،

أتوق لغرس قدميّ في تربة الحرمون،

أعشق آلهة الوحي التي ألهمت إشعياء

وفي مغارات الكرمل المقدس آوي إلى السكينة

وأزيّن مجالس الأصدقاء بوردة شارون الأبدية‏[27]

كتب فؤاد شعبان، في كتابه من أجل صهيون، تعليقاً على هذه القصيدة ما يلي: هذه القصيدة هي مثال واحد فقط من محاولات أمريكية مبكرة للتعبير عمّا يمكن اعتباره أولى الأساطير الأساسية في الثقافة الأمريكية وأكثرها رسوخاً واستمراراً – تلك هي أسطورة «المدينة على الجبل». وتعبير «المدينة على الجبل» هو تعبير من النصوص المقدسة يقصد منه مدينة القدس [في المخيلة التوراتية أورشليم]، وعلى الأخص القدس الجديدة على تلة «صهيون» التي سوف يحكم منها المسيح مملكته الألفية الأرضية. وهي المدينة التي سينتشر منها نور الهداية الذي سيعم البشرية كلها. هذه المدينة أيضاً كانت تسمى في العديد من الكتابات الأمريكية – والغربية بصورة عامة – «مدينة الملك العظيم» أي مدينة النبي داود، وهذا يبين هذا المزج المبكر بين الفكر المسيحي واليهودي في الثقافة الأمريكية‏[28].

لا شك في أن الصورة الشعرية الخيالية التي نراها في قصائد مثل «ألحان من فلسطين» وفي كتابات الأمريكيين منذ ذلك الوقت، تحكي قصة مكوّن أساسي من مكونات طفولة أمريكا الثقافية وهو مفهوم «رؤيا صهيون».

تعود أسطورة «مدينة على جبل» (City Upon a Hill) التي تأسست عليها الثقافة الأمريكية، إلى منتصف القرن السابع عشر، فقد ألقى جون وينثروب، موعظة على متن السفينة الأسطورية آرابلا وهو يقترب من الشواطئ الأمريكية سنة (1630). ففي خطبته الشهيرة التي تحمل عنوان (A Model of Christian Charity)، شدّد فيها على العهد الجديد بين الإسرائيليين الجدد وبين يهوه، وعلى الرسالة التي يحملونها إلى مجاهل أرض كنعان الجديدة: «إننا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما سيتمكن العشرة منا من منازلة ألف من أعدائنا، وعندما سيعطينا مجده وأبهته، وعندما يتوجب علينا أن نجعل من [نيو إنغلاند] مدينة على جبل [وهذا التعبير رمز لأورشليم (ولصهيون أيضاً) وما يزال يستخدم إلى الآن للدلالة على المعنى الإسرائيلي لأميركا. وقد سمعت بأذني آخر أربعة رؤساء أميركيين يستخدمون هذا الرمز في مناسبة مختلفة: ريغان، بوش الأب، كلينتون، بوش الابن]» ‏[29].

يذهب منير العكش، في كتابه حق التضحية بالآخر: أميركا والإبادات الجماعية، إلى أنه يجب الربط بين دور نحميا، بطل إحياء «إسرائيل»، وجون وينثروب. وينقل عن كوتون ماذر، سيرة جون وينثروب في كتابه نحميا الأمريكي (Nehemias Americanus) تأسياً بنحميا الأسطوري الذي قاد «الإسرائيليين» في «عودتهم» من سبي بابل إلى أرضهم الموعودة ونظم الكثير من موجات الهجرة من بابل إلى يهوذا، وأشرف على انتشال أورشليم من أنقاضها وأعاد بناءها مدينة على جبل‏[30].

من المفيد هنا، التأكيد أن جون وينثروب، قد ردد، قول متى في إنجيله: «أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل»‏[31].

يقول كليفورد لونغلي، في كتابه الشعب المختار: الأسطورة التي شكلت إنكلترا وأمريكا: إن كلمات يسوع التي أشار إليها إنجيل متى هي نفسها تنميط؛ ذلك أن مستمعيه لا بد وأنهم فهموا في الحال أنه كان يلمح إلى جبل «صهيون» الذي بنيت عليه مدينة القدس. وفي الأدب اليهودي يكون «صهيون» مرادفاً للوطن اليهودي الذي يشتاق إليه المنفيون على البعد. أما في الأدب المسيحي فإن «صهيون» يصير روحياً في عاصمة مملكة السماء، وبعبارة أخرى أنه ليس مكاناً حقيقياً على الأرض (إلا عندما يكون هو أمريكا حسبما يري جون وينثروب)‏[32].

يشير مايكل أورين، في كتابه القوة والإيمان والخيال: أمريكا في الشرق الأوسط منذ عام 1776 حتى الآن: إلى ما قاله ويليام برادفورد (William Bradford)، المحافظ المستقبلي لمستعمرة بليموث، عندما غادر السفينة ماي فلاور (Mayflower) عام 1620: «دعنا نعلن كلمة الرب في صهيون». كان برادفورد يردد كلمات أرميا، ولم تكن صهيون عنده أرض كنعان الموعودة، ولكن نسختها الحديثة أمريكا، ولم يكن سكانها هم «بنو إسرائيل» القدامى، ولكن 101 من المسافرين الذين وصلوا مع برادفورد، وهم رفاقه من التطهريين‏[33].

قال القس صموئيل ويكمان في موعظته الشهيرة على ظهر السفينة «أرابلا» التي حملت مجموعة من البروتستانت البيوريتانيين (التطهريين) إلى خليج ماساشوستس: «إن أورشليم كانت لكن نيو إنغلاند [المستعمرة الأولى] هي الموجودة الآن، وإن اليهود كانوا، لكنكم أنتم [البروتستانت البيوريتانيين (التطهريين)] شعب الله المختار، وعهد الله معكم. فضعوا اسم نيو إنغلاند مكان اسم أورشليم». وعندما وصلت المجموعة الثانية من المستوطنين إلى شاطئ نيو إنغلاند على ظهر السفينة (ماي فلاور) عام 1620، وقعوا فيما بينهم (عهد ماي فلاور) الذي حددوا فيه طريقة الحياة التي يرغبونها وأسس المجتمع المثالي في أورشليم الجديدة أو «إسرائيل» الجديدة [أمريكا]… وذلك تمجيداً لاسمه تعالى، وترويجاً للدين المسيحي…»‏[34].

وقال القس صموئيل ويكمان لبعض المجتمعين في كنيسة هارتفورد عام 1685: «القدس كانت ونيو إنغلاند أصبحت، هم كانوا، وأنتم أصبحتم… شعب عهد الله». وقد عبر بيتر فوغلر (Peter Fogler)، جد بنجامين فرانكلين، عن نفس الفكرة بصورة أكثر لباقة عندما قال: «في نيو إنغلاند هم كاليهود، ومتشابهان كأقرب ما يكون» ‏[35].

وقال ليفي بارسونز، وهو يستمع إلى أجراس كلية ميدلبري، معلنة انتهاء حرب عام 1812، إنه يسمع «تأوهات العالم الشرقي، تنطلق نحو عنان السماء، طالبة الخلاص». وأعلن فرحاً أن «صهيون سيزدهر»‏[36].

في هذا الصدد، يقول مايكل أورين، وإذا كان «صهيون» يعني بذلك الأرض الموعودة في أمريكا لقائد الحجاج ويليام برادفورد (William Bradford)، أما ليفي بارسونز الذي عاش بعد ذلك بقرنين فكان يعني بـ «صهيون» الأرض الأصلية القديمة لـ «إسرائيل»، والتي أصبح اسمها الآن فلسطين؛ وفي حين أنه كان يمكن تحويل ديانة الكثيرين حول العالم، فإن المبشرين آمنوا أن فلسطين فقط هي البلد التي يمكنهم أن يحدثوا أثراً فورياً وعميقاً فيها، فهناك ستمتزج رغبتان معاً؛ تلك التي يتمناها البروتستانت في الاتحاد مع أسلافهم الروحيين – أي اليهود – والأخرى الرغبة الشديدة في عودة المسيح‏[37].

فقد شهد القرن التاسع عشر في أمريكا عدة أحداث وحركات دينية جعلت فكرة «مدينة على جبل» – إسرائيل الأمريكية – تتحول جغرافياً بالتدريج لتصبح «مدينة على جبل» في فلسطين وفي القدس على الأخص – في «أرض الميعاد الكتابية». نتيجة الاتصال المباشر بــ «أرض الميعاد الكتابية» [فلسطين]، الذي كان عامـلاً قوياً في تحويل رؤيا «صهيون» هذه، من الجغرافيا الرمزية إلى الجغرافيا المقدسة، من أمريكا «مدينة على جبل» في العالم الجديد إلى مدينة القدس الجديدة على جبل صهيون في أرض الميعاد. وبذلك أصبح اليهود عنصراً مهماً في هذه الرؤيا لأنه صاحب الحق في هذه الأرض، مع احتفاظ أمريكا بدورها الحاسم في تحقيق هذه الرؤيا.

استمرت فكرة «مدينة على جبل» عامـلاً مهماً في تفكير الأمريكيين وسلوكهم عبر القرون.

يقول المؤرخ البريطاني بول جونسون (Paul Johnson)، صاحب تاريخ الشعب الأمريكي (A History of the American People)، في محاضرة له في مكتبة بييربونت مورغن بنيويورك (Pierpont Morgan Library): يُحيي في النخبة الأنغلوسكسونية [الحاكمة] مشاعر عقيدة الاختيار، ويؤكد قناعتهم المتوارثة بأن أمريكا هي الجسر لمملكة الله، وأنهم هم يد الله التي ستبني أورشليم الجديدة على أنقاض القدس. وظلت هذه النخبة تعتقد أن الاختيار الإلهي لها قدر محتوم أو أنه إرادة الله التي عبر عنها أنبياء إسرائيل الجديدة في بداية القرن السابع عشر ثم شدد عليها كل رؤساء الولايات المتحدة بلا استثناء‏[38].

نتائج

توصلنا في هذه الدراسة إلى أن كل دعم مادي أو معنوي لـ«إسرائيل»، ليس أمراً اختيارياً، أو استراتيجياً، لكنه أمر إلهي، وقد كان ذلك عنصراً بارزاً في الحياة الثقافية والسياسية الأمريكية منذ البدايات. فالمهاجرون الأوائل أطلقوا أسماء عبرانية على الأماكن التي يغدون إليها، وأطلقوا أسماء عبرانية على المواليد الجدد، إضافة إلى فرض تعلم اللغة العبرية في المدارس والجامعات.

إذاً، لفلسطين لدى الرؤساء الأمريكيين شأن آخر، فهي ليست مجرد «استراتيجيا» أو اقتصاد أو «مجال حيوي»، وبالتأكيد فهي ليست بسياسة خارجية إلا في الإطار البيروقراطي. فطالما أن إنشاء أمريكا وتاريخها لم يكن إلا تأسيّاً بفكرة «إسرائيل» التاريخية، فالأمريكيون ورؤساؤهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم لا يتفقون على شيء كاتفاقهم على المشروع الصهيوني الذي يشربه الأمريكيون مع حليب أمهاتهم ثقافياً، وتاريخياً، وتربوياً، وإعلامياً، ودينياً، ومثـلاً أخلاقياً أعلى‏[39].

ليس هناك من رئيس أو إدارة أو مؤسسة أمريكية حاكمة تستطيع أن تتحدى هذه الثوابت. فلسطين ليست كوريا أو فيتنام أو أفغانستان أو الفيليبين. فلسطين هي الرحم الذي ولّد منه الغرب اصطلاحاً ومفهوماً مقابل العالم العربي الإسلامي حضارياً وجيوسياسياً. فلسطين، والقدس تحديداً، هي الشرارة التي أشعلت نار المواجهة التي أجّجها الغرب على مدى السنوات الألف الماضية.

لا يمكن فهم قضية فلسطين بمعزل عن المواجهة مع الغرب الذي تجسده اليوم أمريكا وقُفّتها البريطانية. من دون فلسطين، والقدس على التحديد، لن يكون هناك غرب وشرق. فباسم احتلال فلسطين [أرض كنعان] صنع الإنكليز أمريكا وصاغوا فكرة أمريكا، وباسم هذه الاستعارة خَلَقوا سكان قارتين كاملتين وأبادوا ملايين البشر في البقعة التي تسمى اليوم الولايات المتحدة، كما فعلوا ذلك في أستراليا ونيوزيلاندا ومئات الجزائر التي استعمروها‏[40].

هكذا، جاء افتتاح السفارة الأمريكية في القدس في 14/5/2018، وتزامن الافتتاح مع ذكرى احتفال الكيان الصهيوني بذكرى إعادة توحيد القدس، أو بمعنى أدق إحتلال القدس الشرقية. وقال ترامب في خطاب متلفز تم بثه في مراسم الافتتاح بالقدس إن «إسرائيل دولة ذات سيادة من حقها اختيار عاصمتها»، وأضاف أن «القدس هي العاصمة التي أسسها الشعب اليهودي لنفسه في الماضي السحيق». من جانبه قال جاريد كوشنر مستشار ترامب وصهره إنه «فخور بأن يكون في القدس القلب الأبدي للشعب اليهودي»، مشيراً إلى أنه يحضر ممثـلاً للرئيس ترامب في هذه المناسبة. كما تحدث كوشنر عن أصوله كيهودي وقصة هروب أجداده من ملاحقات النازيين، على حد قوله.

في هذا السياق، يمكننا القول إن المعتقدات الدينية الأمريكية المتأثرة بـ «الكتاب المقدس»، أدّت دوراً أساسياً في قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة «إسرائيل»! فهي تمثل تأكيد تنبوءات التوراة داخل نطاق التراث الإنجيلي، فقد نقل الكاتب أندرو بنكومبي، في مقال نشرته صحيفة إندبندنت البريطانية، العديد من التصريحات لزعماء الطائفة الإنجيلية التي يعبرون فيها عن شكرهم وإشادتهم بترامب، مثل التصريح الذي أدلى به رئيس تحالف الإيمان والحرية، رالف ريد، وهو تحالف كبير للمسيحيين: «نحن ممتنون بعمق للرئيس ترامب الذي اعترف أخيراً بحقيقة أن القدس هي العاصمة الموحدة الأبدية لإسرائيل، أرض اليهود، وأن السفارة الأمريكية هناك يجب أن تكون في القدس». وقال الأب دايفيد إسواغارتي إن نقل السفارة لا يشكل فقط حافزاً جيوسياسياً لإسرائيل، بل «إنهم يرون أن نقل السفارة مهم جداً لظهور المسيح». ويعتقد بعض الإنجيليين أن نقل السفارة سيساعد على قدوم القيامة، حيث يلتقي جميع المسيحيين بالرب>

كتب ذات صلة:

القدس : التاريخ الحقيقي من أقدم العصور إلى الاحتلال الفارسي

القدس: أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ