المؤلف: جورج قرم

مراجعة: رضي السمّاك

الناشر: دار الفارابي، بيروت

سنة النشر: 2018

عدد الصفحات: 431

 

يأتي هذا الكتاب الجديد للباحث والمؤلف الموسوعي اللبناني الغزير الإنتاج جورج قرم بالتزامن تقريباً مع مناسبتين تكريميتين حظي بهما عن جدارة واستحقاق: الأولى تتمثل بحصوله على جائزة سلطان العويس الثقافية الإماراتية في الدورة الخامسة عشرة (2016 – 2017)؛ أما الثانية فتتمثل بمنحه «جائزة البحث» من جانب الأكاديمية الفرنسية عن كتابه المسألة الشرقية الجديدة، الصادر باللغة الفرنسية سنة 2017. وتتجلى أهمية مؤلفاته في كونه يكتب باللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنكليزية، وتحصيـلاً يعتمد في أبحاثه على المصادر الصادرة بهذه اللغات نفسها وهو ما يكسب دراساته قوةً وأهمية ورصانةً.

والكتاب الذي بين أيدينا مُترجم من الفرنسية إلى العربية ينتمي إلى نوع المؤلفات الموسوعية الأشبه بالببليوغرافيا المسحية البحثية في تغطيتها للسجالات والصراعات الفكرية العربية التي دارت على امتداد ما يقرب من قرنين. كما تكتسب أهمية الكتاب من كونه يخاطب عقل القارئ الفرنسي بمنهجية علمية صارمة كاشفاً انحياز مؤلفه، بلا مواربة، للقضايا العربية العادلة ووفق رؤية يسارية معتدلة ثاقبة؛ متفادياً بأكبر قدر ممكن الوقوع في آفة التحزب والتعصب التي تتنافى مع مقتضيات منهجية البحث العلمي. ولعل ما يضاعف أهمية الكتاب أيضاً صدوره في مثل هذا الوقت بالذات الذي يمر الوطن العربي فيه بمنعطف تاريخي خطير حاسم في لحظة من أشد لحظات العالم اضطراباً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبخاصة بالنظر إلى ما يشوب العلاقة بين الشعوب العربية جمعاء والغرب من توتر شديد في ظل تواصل الحروب الإقليمية والأهلية في المنطقة على خلفية الصراعات والتوترات الإثنية والطائفية التي تتوارى من خلفها أبعادها الطبقية والاجتماعية، ووسط تدخلات مباشرة وغير مباشرة من جانب القوى الكبرى الغربية والإقليمية ذات المصلحة في إشعالها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ولعل أخطرها ما جرى ويجري في سورية والعراق واليمن وليبيا بالتوازي مع تعاظم النزعات العنصرية ضد العرب والمسلمين في الغرب وتنامي الميول والاتجاهات الشعبوية على خلفية موجات العمليات الإرهابية للجماعات الإسلاموية في أوروبا، وبخاصة «داعش»، وتزايد أعداد المهاجرين الفارّين من مناطق تلك الحروب إلى أوروبا.

يتوزع الكتاب على 14 فصـلاً تناول مؤلفه فيها السياقات التي شهدها الفكر العربي الحديث، صعوداً وانحداراً، وأبرز ما مر به من إشكاليات وعوائق متعددة على المستويين الذاتي والموضوعي تسببت – مجتمعةً – في نكوص مسيرته، بدءاً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث انطلاقته المُضيئة الواعدة الأولى، التي تواصلت إلى أوائل القرن العشرين، ومروراً بكامل هذا القرن وما تخلله من محطات مد وجزر أعقبتها انطلاقة جديدة من انتعاش الآمال والزهو الوطني والقومي في إثر نيل البلدان العربية استقلالاتها تباعاً، وبخاصة بعد ثورة يوليو المصرية مطلع الخمسينيات وصعود الزعامة الناصرية، وصولاً إلى وقتنا الراهن حيث بلغ الفكر العربي أوج كبوته الظلامية السحيقة متوّجاً بذلك مرحلة متسارعة من اُفول نهضة حركة التحرر الوطني – أنظمةً وحركات – على امتداد نصف قرن منذ هزيمة حزيران/يونيو 1967 الكارثية لثلاثة بلدان عربية، مصر وسورية والأردن، أمام إسرائيل في ستة أيام فقط، وما نجم عنها من احتلالها لأراض واسعة من مساحات هذه الدول الثلاث.

ولعل من أبرز النقاط المهمة الجديرة بالذكر، التي برع المفكر الباحث قرم في تأصيلها في معرض فصول دراسته، التي يمكننا إيجازها بتعابيرنا مشفوعاً بعضها بملاحظاتنا الاجتهادية عليها هي على النحو التالي:

1 – يبدي الكاتب تفاؤلاً بالتنوع المدهش للفكر العربي وعبقرية الثقافة العربية منذ بواكير نشأتها التاريخية، التي لا يمكن اختزالها – وفق تعبيره – بالفكر الإسلامي (ويقصد ضمنياً به بالطبع ذا الطابع الظلامي الذي يسود حالياً وليس المستنير)، معلقاً بذلك آمالاً على حيوية الثقافة العربية النقدية منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، وإن كان يبدو لنا هنا مُفرطاً، إلى حد ما في، تفاؤله (ص31 و46).

2 – يُفرّق المؤلف بين الدعوات إلى الرابطة أو الجامعة الإسلامية التي برزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وبين حركات الإسلام السياسي المتشددة العابرة للقوميات التي برزت أواخر القرن؛ إذ إن الأولى ينعتها بالمنفتحة على أوروبا ومنجزاتها العلمية والثقافية والصناعية والاقتصادية، بينما الثانية يصفها بالمنغلقة بإحكام إزاء كُل ما يتعلق بالغرب من ثقافة ومكتسبات سياسية وحضارية وخلافها، والتي ترى أنها ذات تأثير علماني هدّام على المجتمعات العربية والهوية الإسلامية. ويدرج ضمن روّاد النهضة في القرن التاسع عشر مشايخ أزهريين إصلاحيين، كرفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وغيرهم، ولا يرى «الأصولية الوهابية» بحسب تعبيره التي نشأت في القرن الثامن عشر امتداداً لفكر رواد النهضة، ويصفها بالعقيدة الجامدة الصارمة التي نشأت في وسط صحراوي مُغلق مقطوع الصلة كلياً بأوروبا (ص 166 و174).

3 – يُلفت الكاتب النظر – بناء على ما تقدم ذكره – وفي أكثر من موضع من أغلب فصول الكتاب إلى التأثير المحوري الكبير لما يسميه «الراديكالية السعودية الوهابية»، وما تمخّض من تحت عباءتها من انشقاقات لجماعات إسلاموية وحركات إسلام سياسي شديدة التطرف، بالتماهي مع جماعة الإخوان المسلمين المصرية في ارتدادات الفكر والثقافة العربية إلى الخلف، بما في ذلك – كما يلمح بجلاء – دورها في إجهاض ثورات الربيع العربي مطلع العقد الحالي؛ ولا يفوته التذكير بأن تأسيس كل من المملكة العربية السعودية وجماعة الإخوان المسلمين جاء في وقت زمني متقارب، ويرجع ذلك التأثير إلى ما كسبته السعودية من نفوذ سياسي ومالي كبير ومتعدد الصور بفضل الاقتصاد الريعي النفطي منذ بداية السبعينيات حيث طفرة الأسعار النفطية، ناهيك بتحالفها هي وبعض الدول الخليجية مع القوى الكبرى الساعية للهيمنة على المنطقة وعلى رأسها الولايات المتحدة (انظر على سبيل المثال لا الحصر هامش ص 70).

على أن الباحث لم يكن مُصيباً في اعتقادنا حينما وضع ظروف نشأة منظمة المؤتمر الإسلامي في إثر جريمة حرق المسجد الأقصى الصهيونية عام 1969 في سياق التوجهات السعودية لمنافسة الجامعة العربية، إذ جاء إنشاء هذه المنظمة الإسلامية حينئذ حصيلة توجهات مشتركة بين ما عُرف بالدول العربية التقدمية والدول العربية المُحافظة قُبيل غروب الحقبة الناصرية خلال مرحلة قصيرة هي من أفضل مراحل التضامن العربي بغية تعزيز ضغوط الدول العربية والإسلامية المشتركة على إسرائيل بُعيد هزيمة حزيران/يونيو 1967، وإن كانت مآلات كلتا المنظمتين العربية والإسلامية صبّت لاحقاً في ما ذهب إليه الباحث، ولا سيّما في وقتنا الراهن حيث لا أثر لدور فيهما لما كانت تُعرف بالأنظمة التقدمية.

4 – يحاول الباحث أن يُصحح الاعتقاد الشائع بأن وعي النُخبة العربية بالتقدم الأوروبي لم يبدأ إلا بُعيد الحملة الفرنسية على مصر، لأن العرب والأتراك بحسب توضيحه لمسوا ذلك التقدم قبل الحملة التي تمت أواخر القرن الثامن عشر، لكن ما لم يستدركه الباحث بأن العامل الحاسم المحرك للنهضة العربية ووعي عمق التخلف الذي يقبع فيه العرب مقارنة بالتقدم الهائل لأوروبا إنما جرى عقب تلك الحملة تحديداً على امتداد القرن التاسع عشر.

5 – في تعليقه (ص 199 – 203) على كتاب صابرينا ميرڤين إصلاح شيعي: علماء وأدباء جبل عامل منذ نهاية السلطنة العثمانية إلى استقلال لبنان الصادر بالفرنسية، يشيد الباحث بهذه المنطقة ويصفها بأنها غنية بمثقفين من «العلماء المرموقين» على حد تعبيره، مُحذراً مما يمكننا وصفه من النمذجة أو القولبة الطائفية في استخلاص المواقف والتقلبات السياسية واحتسابها مواقف لطائفة برمّتها، أياً كان التيار الطاغي في هذه المرحلة أو تلك داخل طائفة ما بشتى مكوناتها السياسية والثقافية؛ فشباب جبل عامل العرب كما انخرطوا في مختلف الحركات القومية واليسارية اللبنانية والفلسطينية لقتال العدو الإسرائيلي المحتل لجنوب لبنان انخرطت أجيال جديدة منهم لاحقاً في حركتي أمل وحزب الله ضد العدو ذاته. وما لا شك فيه بحسب تقديرنا ما يصح على شيعة لبنان في هذا الشأن ينسحب على الشيعة العرب الآخرين، وبخاصة في العراق والخليج. ومن نافلة القول أيضاً انطباقه على مختلف الطوائف الإسلامية وغير الإسلامية الأخرى.

6 – إذ تناول المؤلف الدور التنويري والفكري لشخصيات مفكرة ومثقفة متعددة على امتداد الوطن العربي تقريباً، بدت منطقة الخليج العربي تقريباً شبه غائبة من تناوله، سواءٌ لدى تناوله جوانب الثقافة العربية والإبداع بكل روافدها، أم في الجانب الفكري رغم ضآلة المفكرين العرب؛ اللهم إشارته إلى نموذج واحد (محمد جابر الأنصاري)، رغم أن الأنتليجنسيا الخليجية ما زالت تؤدي في تقديرنا دوراً مهماً محورياً مُعتماً عليه، وفي ظل حصار قاسٍ واضطهاد مضروبين عليها. كما فاته تناول قامات فكرية مصرية كبيرة أخرى ما كان يجب أن تغيب ولو في سياق تقديمها كأمثلة، ومنها محمود أمين العالم، وفؤاد مرسي، ومراد وهبة وغيرهم، كما جاء عرضه لعطاءات عقل فؤاد زكريا الفائقة الأهمية باقتضاب شديد، وهو الذي يصفه بأنه واحد من أكبر المفكرين العرب المعاصرين ويتم تجاهل دراساته النادرة حول الفكر الفلسفي العربي؛ وللدقة فإن زكريا المولود عام 1927 عاش ثلثي القرن العشرين وكامل العقد الأول تقريباً من قرننا الحالي الحادي والعشرين وليس خلال النصف الأخير من القرن كما عبّر المؤلف التباساً أو سهواً (ص 374).

أما في العراق فقد كان أبرز الغائبين عن النماذج الجديرة بالإشارة إليها، ولو على سبيل المثال أيضاً، المفكر السوسيولوجي المعاصر فالح عبد الجبّار الذي غيّبه الموت أوائل هذا العام.

كذلك كانت النماذج النسوية التي نوّه الباحث بأدوارها التنويرية والحقوقية محدودة جداً، كما النماذج المثقفة والسياسية والحقوقية ذات الصلة بحركات التغيير الاجتماعي والسياسي نحو الديمقراطية والإصلاحات الراديكالية، وكذلك الباحثون البارزون المهتمون والمنشغلون بقضايا المجتمع المدني والتغيير الديمقراطي والتي نُشرت وصدرت لهم دراسات متعددة في هذا الصدد. وفي تقديرنا كان قميناً أن يتناول المؤلف هذه المسألة، ولو من دون الإشارة إلى نماذج محددة في الأقطار العربية لتبيان الدور المحوري الحاسم الذي يؤديه هؤلاء راهناً بتضحيات هائلة ونكران الذات بعد إجهاضات حركات الربيع العربي وذلك للتنويه بدورهم أمام الرأي العام الغربي والساحات العلمية والإعلامية الغربية في سبيل إحداث النقلة التاريخية المرجوة لاستعادة زخم وألق الفكر العربي المستنير في ظل إصلاحات جذرية واعدة للأنظمة القائمة، أو تفسح في المجال لقيام أنظمة جديدة مُنتخبة ومُعبرة عن شعوبها.

وأخيراً فإن الملاحظات الآنفة الذكر التي استعرضناها هي مجرد هنات بسيطة لا تنال بأي حال من الأحوال من قيمة وأهمية هذه الدراسة الاستثنائية الموسوعية الشاملة حول سياقات الفكر والثقافة والسياسة خلال قرنين تقريباً من تاريخ العرب الحديث، التي من الواضح أن مفكرنا الكبير جورج قرم قد بذل فيها جهداً خارقاً استثنائياً ومتميزاً في عرضه تلك السياقات مقرونةً بتحليله الثاقب الرصين. وبالنظر إلى أهمية الكتاب فالآمال تحدونا بصدوره بأكثر من لغة غير اللغتين اللتين صدر بهما.