إخواني:
إذا كنت أرغب أن أخطب في أي مكان، فلا أحب أن أخطب إلا في نادي فلسطين لمعنى سام في نفسي، فأنا أشعر شعوراً عميقاً أن المأساة التي حلت بنا جميعاً في فلسطين، لم تكن إلا نتيجة للطمأنينة التي نزلت على نفوسنا بعد الخطب المنمّقة والاجتماعات الحاشدة. كنا نستمع للخطب ونشعر بالطمأنينة بعد هذه الخطب، فكانت هذه الطمأنينة هي السبب الأول والسبب الأساسي لكارثة فلسطين، وأنا آسف جداً أن أقول أن هذه الطمأنينة ما زالت في النفوس، كانت كل الأمم العربية تشعر بما سيحدث في فلسطين وكنا نحن نشعر بذلك، وكان رجال السياسة العرب عقب الحرب العالمية يشعرون بما سيؤول إليه أمر فلسطين، فماذا عملوا؟ لم يعملوا إلا الخطب، وبعدئذ حلت كارثة فلسطين.
هذه هي الحقيقة الواقعة، فنحن الأمم العربية السبب في ضياع فلسطين، وقادتنا هم السبب الرئيسي في ذلك، فمنذ انتهت الحرب العالمية الأولى، وبعد ما انتهى الاستعمار من استجداء العرب وتخلص الإنجليز من الأتراك نقضوا عهودهم، وأخلفوا ما وعدوا به في أول الحرب.
كل منا كان يفكر بأنه سيأتي اليوم الذي يحقق فيه الاستعمار أغراضه، فماذا احتطنا لهذا الأمر؟ وبعد الحرب العالمية بدأ الإنجليز في تقسيم البلاد العربية، وبث روح التنافر والتفرقة بين أبناء البلد، فماذا عملنا إزاء كل ذلك؟ إننا لم نعمل شيئاً، إلا أن كل بلد أخذ يفكر في نفسه.
ثم أُعلن وعد بلفور، وهو بداية الطريق نحو نهاية فلسطين، ولم نعمل كذلك شيئاً سوى الاجتماعات والخطب وإدخال الطمأنينة في القلوب، وكان الإنجليز دائماً يظهرون نياتهم، كما كانت اتجاهاتهم نحو اليهود واضحة. أما الأمم العربية فكانت تستمع وتتقدم بطلبات، ولكن طلباتها كانت ترفض، فماذا عملنا بعد هذا الرفض؟ كنا نقول في اجتماعاتنا وخطبنا: سنلقي اليهود في البحر، وبعد انتهاء الخطبة نطمئن ويذهب كل منا إلى بيته؛ حتى بدأت الحرب العالمية الثانية وأخذ الاستعمار ينفذ خطته في سبيل تحقيق أغراضه.
لقد أعلنوا مبادئ العالم الحر وقالوا إن لكل دولة أن تقرر مصيرها، فأخذنا ننتظر لنرى مدى تحقيق هذه الوعود ونسينا أنهم لم يفوا بعهودهم في الحرب العالمية الأولى.
ووقف العرب ينتظرون، وكانت النتيجة أن أصحاب مبدأ العالم الحر بدأوا عملهم بنكبة فلسطين التي لم نسمع بمثلها في تاريخ البشرية، وبعد هذا رفرف الاستعمار على رؤوس العرب ولم نعمل غير هذا، فمن المسؤول؟ ومن الذي دفع اليهود وشجعهم على احتلال فلسطين وقضى على الشعب العربي؟ انها إنجلترا. فهي الداء وهي البلاء الأول.
كنا نتناسى ذلك ونقول اليهود، ولكن عندما حاربنا في فلسطين منعت إنجلترا السلاح عنا في حين أن اليهود كان يأتيهم السلاح من كل مكان. ولو اتكل اليهود على أنفسهم وقتئذ لما نجحوا بتاتاً، وإنما إنجلترا هي التي كانت تدفعهم، وهي السبب الأول في نكبة فلسطين.
يتناسى قادة العرب السبب الأول، وهو إنجلترا، ويقولون إنه إسرائيل واليهود ويخشون أن يقولوا إنجلترا.
إن لدينا قوة كامنة لا تغلبها قوة عسكرية، فعندنا البترول الذي يموَّن منه الجيش الأوروبي في بلاد الغرب، فإذا منعناه عنهم لما استطاعوا أن يفعلوا شيئاً، إننا نقدر أن نعاملهم بنفس المعاملة ونكيل لهم الصاع صاعين، كما يمكننا أن نشعرهم بأنفسهم ونقف في سبيلهم ونفهمهم أنهم إذا اعتدوا على مصالحنا اعتدينا على مصالحهم.
إن العرب كانوا يجرون وراء الكلام المعسول. فأُحذِّر العرب والأمم العربية بأنها إذا ظلت نائمة ترفرف عليها الطمأنينة فستضيع دولة وراء أخرى ويقضي علينا الاستعمار.
إن إسرائيل يسندها الاستعمار الذي لا يريد لهذه المنطقة أية حرية، ويعتبرها مزرعة لمصالحه الخاصة، كما هي خطة الاستعمار دائماً في القضاء على الأمم العربية جميعاً، وهي ليست خطة قصيرة الأجل، بل خطة طويلة الأجل تهدف إلى القضاء على الأمة العربية حتى لا تقوم للعروبة قائمة أخرى.
إن العملية ليست عملية فلسطين إنما هي عملية العرب، وعندما طُعنت فلسطين طُعن كل منا في شعوره ووطنه وصح المثل الذي قيل في كتاب كليلة ودمنة «لقد أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض».
حصل ما حصل في حرب فلسطين سنة 1949 ورأينا المآسي وسمعنا كلاماً كله خداع لا يقصد منه إلا كسب الناس.
وكان زعماء العروبة يعرفون ذلك ولكنهم كانوا يضللون العرب ويخدعونهم، لا لشيء إلا للانتفاع الشخصي، كان كل منهم يفصل نفسه عن العرب كمجموعة وكوطن، ويمني نفسه بكسب سياسي ولا يهمه لو ضاعت في سبيل ذلك دولة عربية.
كانوا يقولون في خطبهم «إسرائيل المزعومة» ولم يعملوا شيئاً إلا الخطابة عن إسرائيل المزعومة.
فنحن كما كنا، وما زالت الأطماع، ولا يزال الخداع والأساليب التي اتبعت في الماضي. والرابطة العربية رابطة وهمية حتى الآن وليست بحقيقة، فإذا لم نتدارك هذه الأمور تداركاً سريعاً ونعالج السبب ونعرف الداء لذهبت الدول العربية هباء.
نحن ليست لدينا الدبابات، وهم لديهم الدبابات والأسلحة، ولكن السلاح الوحيد الذي بيدنا يمكن أن نمنعه عنهم.
لقد تعاقدنا معهم على شراء الدبابات فمنعوها عنا. منعوا بلجيكا وسويسرا والسويد من أن تبيعنا السلاح وقد دفعنا عشرة ملايين من الجنيهات ثمناً للسلاح ولم يصل إلينا، لأن إنجلترا يهمها أن تقوي ربيبتها إسرائيل وتضعف الأمة العربية.
نحن يمكننا أن نقضي على الغرب إذا اتجهنا إلى العمل وحده، وتركنا الخطب واتجهنا إلى مقاومة الاستعمار، لأنه سبب كل هذه النكبات، وهو الذي دبر نكبة فلسطين، ويدبر النكبات للبلاد العربية جمعاء.
قد يهمكم أيضاً عبد الناصر والوحدة العربية: خبرة الماضي وآفاق الحاضر والمستقبل
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #نكبة_فلسطين #النكبة #نادي_فلسطين #خطاب_جمال_عبد_الناصر #جمال_عبد_الناصر #خطاب
المصادر:
[1] نص خطاب لجمال عبد الناصر، أُلقي في نادي فلسطين في سبورتنج، الإسكندرية، في تاريخ 13 كانون الأول/ديسمبر 1953. المصدر: المجموعة الكاملة لخطب وأحاديث وتصريحات جمال عبد الناصر، الجزء الأول 1952 – 1954: بناء الثورة في مصر، ط 2 (بيروت: مركز درسات الوحدة العربية، 1995)، ص 143 – 145.
نُشر هذا الخطاب في مجلة المستقبل العربي العدد 468 في شباط/ فبراير 2018.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.