مقدمة

تمثّل التغيرات المناخية أحد أبرز التحديات العالمية التي أعادت صوغ أولويات السياسة الدولية خلال العقود الأخيرة، بعدما غدت تداعياتها تمسّ مباشرة أسس الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في مختلف مناطق العالم، وعلى نحو خاص في البلدان النامية. وقد أسهم هذا الواقع في تعزيز وعي عالمي بأهمية التحوُّل البيئي، بوصفه مسارًا لا يمكن فصله عن إشكاليات العدالة والتنمية والحوكمة الدولية. وفي هذا السياق، برز الاتحاد الأوروبي كفاعل يدّعي لنفسه موقع الريادة في قضايا المناخ والبيئة، لا من خلال سياساته الداخلية فقط، بل عبر توظيف أدوات سياسته الخارجية أيضًا لترسيخ صورته كـ«قوة معيارية خضراء».

ينعكس هذا الطموح في خطاب بيئي أوروبي يبدو منسجمًا على المستوى النظري، حيث يرتكز على مفاهيم مثل العدالة المناخية، والتنمية المستدامة، والتضامن مع دول الجنوب. وقد أخذ هذا الخطاب بُعدًا عمليًا في إطار الشراكات المناخية والطاقية التي يُقيمها الاتحاد مع الكثير من الأقاليم النامية، ومن ضمنها البلدان العربية، التي تمثل من وجهة النظر الأوروبية فضاءً محوريًا لتطبيق هذا النموذج البيئي في السياسة الخارجية. غير أنّ التجربة العملية في هذا المجال تكشف عن فجوات متزايدة بين الطرح القيمي الأوروبي والممارسات المصاحبة له، إذ كثيرًا ما تُصاغ الشراكات مع البلدان العربية في إطار مشروط وغير تشاركي، يتم فيه تغليب مقاربات موحدة للتحول البيئي تستند إلى مرجعيات أوروبية، من دون إيلاء اهتمام كافٍ للخصوصيات السياقية والحاجات التنموية المحلية.

وعليه، فإن ما يُقدَّم بوصفه شراكة من أجل التحوُّل الأخضر العادل، قد يتحول في التطبيق إلى آلية لإعادة إنتاج علاقات القوة والاعتماد، على نحو يُقوّض من صدقية الاتحاد الأوروبي كفاعل معياري ويثير تساؤلات جدية حول حدود مشروعه البيئي الخارجي. انطلاقًا من هذه الإشكالية، تسعى هذه الدراسة إلى تحليل طبيعة الشراكات المناخية والطاقية بين الاتحاد الأوروبي والبلدان العربية، عبر تفكيك الأطر الخطابية والتنفيذية التي تُبنى عليها، وبيان مدى الاتساق بين التصور الأوروبي لنفسه كقوة معيارية خضراء، والممارسات الفعلية التي تنجم عن سياساته البيئية في المنطقة العربية.

تنطلق هذه الدراسة من إشكالية رئيسة تتعلق بمدى اتساق التوجه البيئي للاتحاد الأوروبي في علاقاته الخارجية، وتحديدًا في تعامله مع البلدان العربية، بين ما يطرحه في خطابه الرسمي من مبادئ وقيم معيارية، وبين ما يُمارسه فعليًا على أرض الواقع. فعلى الرغم من حرص الاتحاد الأوروبي على الترويج لنفسه كقوة معيارية خضراء، قائمة على مفاهيم مثل الاستدامة، والعدالة المناخية، والمسؤوليات المشتركة ولكن المتباينة، فإن الشراكات البيئية التي يعقدها مع دول الجنوب، ومن ضمنها البلدان العربية، تكشف في كثير من الأحيان عن أولويات مصلحية، وآليات تنفيذية تُعيد إنتاج منطق الهيمنة على نحو يتناقض مع هذه القيم المعلنة.

من ثم، تهدف الدراسة إلى تحليل التوتر الكامن بين المرجعية القيمية التي يؤسس عليها الاتحاد الأوروبي خطابه البيئي، وبين الخيارات السياسية التي ينهجها في ممارساته، من خلال تفكيك نماذج التعاون التنموّي التي تربطه بالبلدان العربية. وترمي الدراسة إلى تقديم فهم نقدي لطبيعة هذه الشراكات، وتقييم مدى فعاليتها في تحقيق الأهداف المعلنة في شأن العدالة المناخية والتنمية المستدامة. ومن خلال ذلك، تسعى الدراسة إلى مُساءلة صدقية الاتحاد الأوروبي في أداء دوره كقوة معيارية خضراء، واستشراف سُبل تعزيز الاتساق بين توجهاته المعلنة وسلوكياته الفعلية، بما يسهم في بناء علاقات أكثر عدالة وإنصافًا في الحوكمة البيئية الدولية.

تنطلق هذه الدراسة من فرضية مؤداها أن هناك فجوة ملموسة بين الخطاب البيئي الذي يتبناه الاتحاد الأوروبي في سياق سياساته الخارجية، وبين ممارساته العملية، ولا سيَّما في علاقاته مع البلدان العربية، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى فعاليته كقوة معيارية خضراء، كما يسعى للترويج لنفسه.

تعتمد هذه الدراسة منهجًا تحليليًا نقديًا يستند إلى مقاربة القوة المعيارية كما صاغها آيان مانرز، مع توسيعها لتشمل البعد البيئي في السياسة الخارجية الأوروبية. تستند المنهجية إلى تحليل كيفي يجمع بين تحليل الخطاب وتحليل السياسات، بما يسمح بتفكيك التناقض بين الخطاب القيمي الأوروبي حول الاستدامة والعدالة المناخية، وبين ممارساته الفعلية في شراكات المناخ والطاقة مع دول الجنوب، وفي القلب منها البلدان العربية، بما يسمح بتقييم مدى اتساق النموذج الأوروبي المُروِج للحوكمة البيئية مع خصوصيات البلدان النامية، وكشف الفجوات البنيوية والمعيارية التي قد تُضعف من مصداقية الدور الأوروبي كقوة معيارية خضراء.

لقراءة الورقة كاملة يمكنكم اقتناء العدد 562 (ورقي او الكتروني) عبر هذا الرابط:

مجلة المستقبل العربي العدد 562 كانون الأول/ديسمبر 2025

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 562 في كانون الأول/ديسمبر 2025.

هبة الله عبد الحليم محمود السيد موسى: باحث دكتوراه، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة.

الصورة من وكالة الأنباء الفرنسية.


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز