أولًا: السياق العام للدراسة وأهميتها

عرف المغرب في السنوات الأخيرة، شأنه شأن الكثير من البلدان العربية، توسعًا كميًا ونوعيًا لأشكال وفضاءات الاحتجاج، وبروزًا لممارسات سياسية غير اتفاقية، ومقاولين جدد للتعبئة. هذه الديناميات الاحتجاجية التي يمثل الشباب طرفًا فاعلًا فيها، تعبر جزئيًا عن سخط جماعي واحتجاج قوي على «عقم» أو لافاعلية الحقل السياسي الاتفاقي؛ و«فشل» النخب السياسية في تجديد حيوية السوق السياسية بما يسمح بطرح مشاريع سياسية قادرة على حل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية. في مقابل تلك الفورة الاحتجاجية، بدت نسبة الاستنكاف عن التصويت في الانتخابات مرتفعة. فقد عرفت انخفاضًا مطردًا منذ الاستقلال إلى اليوم، مثلما بدا انخراط الشباب في التنظيمات السياسية ضعيفًا‏[1].

يستحث هذا الوضع التفكير في موضوع الشباب والسياسة، ويجعل من ركوب مغامرة إنجاز دراسة تشخص وتفسر سلوكات ومواقف وتمثلات الشباب؛ حول جملة من القضايا السياسية، ضرورة أكاديمية مفيدة وحاجة مجتمعية ضاغطة. وفي ارتباط بهذا السياق أيضًا، نلفت الانتباه إلى مفارقة تطبع المشهد السياسي المغربي؛ فبينما يتطلب كسب الأسئلة والرهانات التي تطرحها موجات الاحتجاج – وهي مرتبطة في الأغلب بغياب العدالة في التوزيع – إجابات ومشاريع سياسية تبوئ المؤسسات موقعًا مهمًا في تدبير التوترات التي يعرفها المجتمع ومسلسل التنمية، وتضمن انخراطًا فاعلًا للشباب في الحقل السياسي الاتفاقي؛ كرست عقود من العمل السياسي نمطًا خاصًا للسياسة يربطها بالغنيمة والتسويات ورعاية المصالح الفئوية والاغتناء وقهر الأعداء والابتزاز وتقوية الموالين. والحال أن الإشكالات المرتبطة بالتنمية وإعادة التوزيع والتنشئة، لا محيد عن مطارحتها أساسًا بالسياسة وفي فضاء سياسي منفتح يتسع للشباب.

إن التجربة المغربية، تمثل النموذج الأبرز للمخاض العسير من التحول من السلطوية إلى الديمقراطية. ولعل هذه الحالة جديرة بالاهتمام وتمثل مختبرًا لفهم مختلف الأبعاد العلائقية بين الفاعلين السياسيين وغيرهم، لأنها حالة عربية في المنطقة، التي عملت على المزاوجة بين هذين المتناقضين اللذين لا يجتمعان: السلطوية والتحكم من جهة من طرف الفاعل «المخزني»، والديمقراطية التمثيلية أو التشاركية (بحسب نص الدستور الجديد لسنة 2011) من جهة أخرى. وتجادل الورقة في هذه المفارقة السياسية، من خلال الفرضيات الآتية:

– يعود استمرار النظام السياسي في المغرب (المخزن)، أساسًا إلى ازدواجية في العمل السياسي، فنجد مؤسسات دستورية (برلمان) وهيئات للحوكمة، وحكومة منتخبة وما إلى ذلك، لكن كل هذه المؤسسات مفتقدة حرية التصرف والقرار والحكم، لأنها عبارة عن ظل للحكومة الأصلية وهي حكومة الملك ومستشاريه. ولهذا نجد أن المهيمن الحقيقي في المشهد السياسي المغربي، هو الفاعل الملكي، الذي يملك الموارد الأربعة التي يقع حولها الصراع (الثورة، السلطة، المعرفة والقيم).

– تدل هيمنة النظام السياسي على أن المغرب لا يزال في مرحلة السلطوية، لكن بإخراج جديد، أو ما يمكن تسميته «نيو – سلطوية»، حيث تعمل الدولة العميقة (نقصد بها حكومة المستشارين الذين يحيطون بالملك) على تكريس الوضع الاستاتيكي. ويمكن القول إن هذه الحالة النموذجية تمثل مفارقة سياسية على قدر كبير من الأهمية.

ثانيًا: المنهج البحثي

نظرًا إلى طبيعة الموضوع وحساسيته، وفي غياب قاعدة معطيات رسمية حول الشباب والحياة السياسية، وكذا صعوبة الحصول على معطيات دقيقة من وزارة الداخلية، التي تبين الحجم الحقيقي لانخراط الشباب في العمل السياسي أو عدم انخراطهم، وثانيًا الحيز الزمني المخصص للدراسة الذي تزامن مع فرض حالة الطوارئ الصحية بسبب جائحة كورونا (بداية سنة 2021 إلى نهايتها)، والذي لم يسمح بالقيام بدراسة شاملة لكل تراب المملكة، والحصول على عيّنة تمثيلية لكل فئات الشباب في بقية الأحزاب، فإننا استعضنا من ذلك بعيّنة قصدية عبر اللجوء إلى تقنية البحث الكيفي (المقابلات نصف الموجهة والمجموعات البؤرية وكذا السيَر الذاتية للفاعلين). وعليه، فقد مثلت المقاربة الكيفية آلية للتعرف من قرب إلى مسارات التحول في الظاهرة وما يستتبعها من تحديات وخصوصًا على مستوى وضع الشباب والحياة السياسية. هذا علاوة على الوقوف عن كثب على مختلف تطلعات الشباب في المغرب، وكذا الرهانات التي يفكر فيها هذا الفاعل السياسي. وتجدر الإشارة إلى أن البحث الميداني انطلق نهاية شهر تموز/يوليو سنة 2021 وانتهى شهر تشرين الأول/أكتوبر 2021، بما يمثل أربعة أشهر من العمل.

اشتغلنا في هذا السياق على العيّنة السابقة نفسها، بإضافة مكون الشباب اللامنتمي داخل كل منطقة مع التركيز على بعض الفاعلين لا على الكل، ونقصد بذلك إما مسؤولين تنظيميين وإما منتدبين برلمانيين أو داخل الجماعات الترابية.

وانسجامًا مع تقنيات البحث السوسيولوجي، فإننا قمنا باستطلاع عيّنة قصدية، انطلاقًا من المبدأ الذي يعتمده عدد من المنهجيات البحثية في اختيار العيّنة؛ التي يجري بناؤها انطلاقًا من مبدأ الحرص على ضمان تمثيلية مختلف فئات مجتمع الدراسة، لا على أساس مراعاة الوزن العددي للفئات التي تمثلها أو كيفية انتشارها في المجال، كما هو الشأن لجهة العينات العشوائية. لذا فقد توصلنا إلى عيّنة موزعة على إحدى عشرة مدينة بخمس جهات مغربية، وتم انتقاؤها بصورة عقلانية، حتى تعبر عن الاختلافات الثقافية واللغوية والجغرافية والمجالية، وكذلك لتمكننا من تكوين صورة موضوعية عن وضع الشباب والحياة السياسية‏[2]. وتنقسم عيّنة هؤلاء الشباب إلى صنفين: الأول يتكون من الشباب المنتمي للأحزاب والهيئات الإحدى عشرة، بينما سنبحث عن الصنف الثاني في عيّنة الشباب اللامنتمي.

وفيما يأتي جدول تفصيلي يبين خريطة العيّنة المبحوثة:

جدول تفصيلي عن المدن والجهات التي عملت بها الدراسة

المدينة/الجهةعدد المقابلاتاسم الأحزاب والهيئات المدنيةالمجموع
 

الرباط – سلا/جهة الرباط سلا القنيطرة

4 مقابلات لكل حزب وهيئة، ومقابلة وحيدة مع الحركة الشعبية– حزب الاستقلال

– حزب العدالة والتنمية

– حزب النهج الديمقراطي

– جماعة العدل والإحسان

الحركة الشعبية

17
فاس – مكناس/جهة فاس مكناس3– حزب الأصالة والمعاصرة

– الاستقلال

– التقدم والاشتراكية

3
تطوان – الفنيدق/جهة طنجة – تطوان3– الاستقلال

– الاتحاد الدستوري

– الأصالة والمعاصرة

3
الدار البيضاء – سطات – المحمدية – بوزنيقة/جهة الدار البيضاء الكبرى3

3

1

– اليسار الاشتراكي الموحد

– الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية

– البيئة والتنمية

7
وارزازات/جنوب المغرب1– التجمع الوطني للأحرار1
المجموع3011 حزبًا وهيئة31

 

ثالثًا: الإطار النظري والمفاهيمي

1 -مفهوم التنمية السياسية وتطبيقاته على التجربة الحزبية
في المنطقة العربية (المغرب تحديدًا)

ربما يبدو منذ أول وهلة أن الانطلاق من مفهوم التنمية السياسية، كإطار نظري في حقل العلوم الاجتماعية، غير ذي موضوع، ولا سيَّما أننا نسعى لمقاربته في واقع سوسيوسياسي يتميز بوجود ازدواجية في النسق السياسي العام، وهما آليتا التقليد والتحديث. وكما سبق للباحث الأمريكي في العلوم السياسية جون واتربوري‏[3]، عندما أراد أن ينجز أطروحته حول النظام السياسي في المغرب في ستينيات القرن الماضي، كان يريد الانطلاق من نظريات التنمية السياسية لمقاربة الوضع السياسي في المغرب، لكن عندما زار المغرب واطلع عن قرب على طبيعة هذا النسق، عدل عن إطاره النظري، واستبدل به دراسة مؤسسة إمارة المؤمنين في علاقتها بالأحزاب السياسية‏[4]. إلا أنه بالرغم من هذه التحفظات التي قد يبديها أي باحث يتعرض لدراسة النسق السياسي المغربي، فإننا نعتقد أن الانطلاق من إطار نظري متمثل بمفهوم التنمية السياسية، سيساعدنا على فهم الطبيعة المركبة لهذا النسق، لا من حيث إشكالية الازدواجية التي سبق أن طرحناها، ولكن أيضًا من حيث إنه تفصلنا عقود عن السياق الذي درس فيه النسق السياسي المغربي في ستينيات القرن الماضي، واليوم، نتصور أن هذا النسق يمثل أرضًا خصبة لفهم طبيعته وخصوصيته المتمثلة بالتقليد والتحديث، من خلال مفهوم التنمية السياسية. فماذا نعني بهذا المفهوم؟ وكيف يمكن توظيفه في سياق الدراسة حول الشباب والعمل السياسي تحديدًا؟

ارتبط مفهوم التنمية السياسية، كأحد المفاهيم الفلسفية والسياسية، بسياق التجربة الغربية، التي استثمرت الكثير من التراكمات المعرفية، ابتداءً من القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين على يد مجموعة من الفلاسفة والمفكرين، من مثل هيغل وكانط، وفيما بعد هابرماس وغيرهم، ممن نظّروا لثقافة حقوق الإنسان ولقيم الكرامة والحرية والعقلانية. لكن هذا المفهوم لم يتبلور كحقل معرفي في العلوم السياسية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصًا عندما وجدت مجموعة من الدول في المنتظم الغربي، نفسها أمام تحديات بناء اقتصاداتها ومجتمعاتها وفق منظور تحديثي، يتخطى حالة الحرب والدمار الذي تسببت فيه النزاعات السابقة .

ونجد من بين التعاريف الكثيرة التي تعطى لهذا المفهوم الإبستيمولوجي، الكثير الجدل، تعريف لوسيان باي 1965، الذي يرى فيه «أن التنمية السياسية في معناها العام، صيرورة معقدة تتضمن عدة مقومات، تسمح بإحداث وإنجاز تغييرات متعددة الأبعاد في مختلف الميادين، تؤدي إلى الانتقال من نظام سياسي تقليدي إلى نظام حديث، وبأنها عملية تغير اجتماعي متعدد الجوانب، غايتها الوصول إلى مصاف الدول الصناعية»‏[5]. وبغضّ النظر عن المنطلقات الفلسفية التي انحدر منها هذا المفهوم/المقاربة، وخصوصًا في تبنّي النموذج الغربي الصناعي كنموذج مثال، لتحقيق التنمية الشاملة في جميع القطاعات والمجالات‏[6]، فإن الاقتراب من هذا المنظور ومحاولة فحصه وفهمه، يعدّ في نظرنا خطوة أساسية في فهم طبيعة المشاركة السياسية للشباب في المنطقة العربية والمغرب كمثال على ذلك، ذلك أننا كمجتمعات عربية وإسلامية – والمغرب واحد منها – علينا أن ننفتح على هذا الكسب الإنساني، والاغتراف منه بذكاء، دونما تماهٍ معه أو رفضه بدعوى أنه من الغرب .

وبالرجوع إلى التعريف الآنف الذكر، نلحظ أن من بين القضايا التي تتضمنها التنمية السياسية، هو وجود تمايز بنيوي في وظائف ومؤسسات الدولة، بحيث يضمن لها استقلالية قراراتها، وتخصصًا أكثر في أعمالها، وعدم احتكار هذه المؤسسات من طرف شخص أو جهة واحدة. من جهة أخرى، نجد في التعريف أيضًا، أن المعيار الثاني للحكم على طبيعة النظام السياسي وضمان نجاعته، وتعبيره عن تطلعات المواطنين، هو امتلاك القدرة على التجديد، بما يعنيه ذلك من تطوير وإبداع، لآليات وأساليب تمكّن المجتمع والنخبة السياسية من التكيّف مع الأوضاع، وخصوصًا في عصر تتسارع التغيرات والتحولات في كل المجالات. ثانيًا القدرة على التعبئة الشاملة والعامة، لكل الموارد المادية والبشرية، في أفق تحقيق تنمية حقيقية، ولعلنا نشير في هذا الصدد إلى أن المغرب عمل على مدى العقدين الماضيين (نقصد منذ 2000 إلى 2022) على فتح عدة ورش لمعالجة الاختلالات العميقة في كل الميادين، كالتعليم والصحة والسكن الاقتصاد والثقافة والاعلام والعلاقات الخارجية، ومحاربة الفقر والهشاشة…، لكن النتائج كانت متواضعة جدًا، إن لم تكن تتراجع، وذلك مردّه إلى أن صانعي القرار أرادوا أن يستلهموا نموذجًا تنمويًا تقنويًا، ومفروضًا من فوق، متحكمًا فيه (كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية‏[7]) في تغييب تام لأهم عنصر أساس وهو تجسيد مبدأ الديمقراطية. وهذه الأخيرة تعني في ما تعنيه، ضمان مشاركة الجميع، من دون قيد أو شرط، وضمان الحرية للجميع، والتوزيع العادل للموارد بين الجميع، وخلق لأسس تداول السلطة بصورة سليمة. في هذا السياق، كشف لنا أحد مناضلي حزب اليسار الاشتراكي الموحد (أحمد، 36 سنة، الكاتب المحلي للحزب بمدينة بوزنيقة/إطار بوزارة الشباب والرياضة):

«أن حزبه رفض التوقيع على ميثاق النموذج التنموي سنة 2021، بسبب المنهجية السلطوية والفوقية التي انتهجها النظام السياسي لتدبير ملف النموذج التنموي‏[8]، حيث لم نشرك فيه في مرحلة التشخيص ولا في الصياغة ولا في وضع تصورات الحزب. فاللجنة التي أشرفت على وضع التصور العام عيّنها الملك‏[9] وضمّت خبراء، وهو ما يذكرنا بلحظة تغيير الدستور، إذ كنا قد طلبنا بالدعوة إلى جمعية تأسيسية لإعداد مسودة الدستور، لكن النظام رفض ذلك، وعيّن لجنة. ونحن نعرف مصير هذه اللجان المعيّنة، حيث يتم تطبيق تصورات النظام الملكي لا تصورات الشعب، وقد ظهر ذلك في الوثيقة الدستورية الجديدة (2011) والتي ما زالت تضع كافة السلط بيد الملك. لذا قاطعنا هذا المسار المتخذ من طرف النظام».

ورغم ذلك فإن وزارة الداخلية كوزارة سيادية ومهيمنة على كل القطاعات الوزارية الأخرى، تتدخل في كل هذه العمليات، سواء منها التنموية أو الأمنية. وهذا ما كانت له العواقب السيئة على مسار التنمية في المغرب. ولعل ذلك ما يجعلنا نذهب في اتجاه الخلاصة التي توصل إليها محمد عابد الجابري، من كون المغرب – رغم أنه عمل باستمرار على تطوير منظومته القانونية والمؤسسية بما ينسجم مع المؤسسات الحديثة، فإنه مع ذلك يبقى رهين إرث تقليدي ثقافي مشدود للتحكم والهيمنة – حيث يقول: «في المغرب هناك نوع من الازدواجية والتداخل بين مجال سياسي تقليدي ومجال سياسي حديث: الأول مضمون بدون شكل والثاني شكل بدون مضمون. والحياة السياسية في المغرب المعاصر تقوم كلها على هذه المفارقة»‏[10]. ولعل هذا التحليل هو الذي حدا بنا على عنونة مقالنا بمفارقات العملية الديمقراطية في المغرب، من حيث كونها تسترشد بالمضمون الحداثي، لكنها في الآن نفسه تعمل على الاستمرار في التقليدانية والمخزنية. من خلال هذا التحليل، يتبيَّن أن هناك فرقًا بيّنًا بين الدولة كمؤسسة حديثة وبين مفهوم المخزن‏[11]، كما يشرحه الكثير من الباحثين، لعل من بينهم «الطوزي».

2 – في المفهوم السوسيو – أنتروبولوجي للحزب

لا يمكن تصور الحياة الديمقراطية بلا أحزاب ونقابات وهيئات للمجتمع المدني، فالأحزاب تمثل – وفق هذا المنظور – مؤسسات للتنشئة السياسية، فهي تعَدّ من بين مؤسسات التنشئة التي تساهم في التثقيف السياسي والتمثيل للمواطنين والتعبير عن مصالحهم وتطلعاتهم، كذلك هي مؤسسات سياسية تعبر حتى عن مطامح ذاتية وشخصية ورمزية…، وهو ما نجده في التعريف السوسيولوجي لمؤسس السوسيولوجيا السياسية (ماكس فيبر)، حيث يؤكد:

»أن الاحزاب السياسية هي تجمعات تقوم على التزام حر ورسمي، والغرض منها تزويد قادتها بالسلطة داخل مجموعة من الأعضاء المنخرطين لفرض أهداف مثالية أو مادية، وللحصول على مزايا شخصية أو رمزية أو هما معًا. ويمكن أن يشكل (هذه الأحزاب) تجمعات سريعة الزوال أو دائمة من أي نوع: زبائن يتمتعون بشخصية كاريزمية، وألفة تقليدية، وعضوية عقلانية (سواء عبر هدف قيمي أو لغرض تمثيل العالم»‏[12].

ولعله من خلال هذا التعريف يتبين إلى أي حد كان فيبر محقًا في توصيف هذه المنظمات السياسية، بحيث إنها لا تتوقف عند التعبير عن مصالح الجماعة أو المنضوين تحتها، من الأعضاء والمنخرطين والمتعاطفين، بل إنها تسعى إلى التعبير عن مصالح ذاتية وشخصية. وهذا ما توصلنا إليه في البحث الميداني، إذ أكد أكثر من عضو سياسي عن هذه الدوافع التي جعلته ينخرط في العمل السياسي.

يقول إبراهيم (31 سنة، عازب، حاصل على شهادة الماستر، عاطل من العمل، يقطن في دار مغربية عصرية في وسط قروي، إقليم الحاجب (قرب مدينة مكناس) منخرط في حزب الاستقلال بجماعة أغبالو):

«إن الدوافع التي دفعت بي للانخراط في الحزب، هي من أجل الحصول على التزكية للمشاركة في الانتخابات، تلك الورقة التي يمنحها الحزب لمن يريد الترشح والمشاركة في الانتخابات. أما الديمقراطية بعيدة كل البعد، والأحزاب مجرد شكلية وهناك أيادي خفية هي من تسيطر وتحكم. ورغم أنني منخرط في هذا الحزب لكنني لا أثق في المؤسسات السياسية، لأنها في نظري كلها نفاق وخطابات فارغة»، «نفس الأكاذيب من خانك مرة يخونك ألف المرات بمعنى الي كذب عليك مرة يكذب عليك مرات».

في المقابل تبيِّن التجربة العملية لبعض التجارب الحزبية المغربية واستنادًا إلى معطيات البحث، أن هناك هوة شاسعة بين التصور والممارسة. ولعل مرد ذلك – بحسب معطيات البحث – ليس في تقاعس الأحزاب السياسية عن القيام بدورها، لكن ذلك مرده إلى السياق السوسيوتاريخي الذي ميز تجربة الحزب في المغرب، إذ إن النظام السياسي حاول منذ بداية الاستقلال إلى الآن أن يهمش دوره، ورغم أن الدستور الحالي قد رقى وظيفة الأحزاب السياسية إلى دور المشارك في صنع القرار السياسي، وتأطير المواطنين وتمثليهم وتدبير المؤسسات الحكومية، وهو ما يتوافق مع التعريف التالي حيث تمثل الأحزاب» تنظيمات وبنى اجتماعية تمتاز بالحضور المرموق في الحياة السياسية للدول الديمقراطية، فهي تشارك في الانتخابات، وتؤلف الحكومات، وتملأ المشهد العمومي بالمناقشات حول القضايا العامة، وتنقل إلى السلطة مطالب الناس وحاجياتهم»‏[13]. قلت فرغم ذلك، فإن التجربة الحزبية المغربية تعيش «أزمة هوية حقيقة»، وهو ما سنفصل فيه الحديث في ما يأتي من عناصر للتحليل.

وارتباطًا بمفهوم التنمية السياسية الذي سبقت الإشارة إليه، فإن الأحزاب السياسية تعدّ وسائل للتنمية السياسية بمعناها الواسع والشمولي، حيث نجد في هذا السياق، أن التعريف الذي وضعه منظّرو التنمية السياسية يقترب من هذا المفهوم:

«والأحزاب السياسية نفسها ترتبط تاريخيًا بتحديث المجتمعات الأوربية، كما أنها بأشكالها المختلفة: الإصلاحية، والثورية، والقومية، أضحت أدوات التحديث في كافة المجتمعات المعاصرة، التي يعزى اختيار نمط التحديث الذي تأخذ به، إلى الأحزاب نفسها، وفي حين أن الأدبيات السلوكية والوطنية في السياسة المقارنة تنسب للأحزاب، بوجه عام، أدوارًا تتعلق بالتنشئة السياسية، والتجنيد السياسي، وصياغة وتجميع المصالح، فإن أدبيات التنمية السياسية، على وجه التحديد، تركز – بشكل خاص – على دور الأحزاب في التنشئة السياسية، على أساس أن هذا الدور هو الأكثر بروزًا للأحزاب في العالم الثالث. وهو دور ينطوي عليه ضمنًا، دور الأحزاب في حل أزمات المشاركة أو التكامل أو الشرعية»‏[14].

من جهة أخرى، كشف البحث الميداني أن هناك تمثلات إيجابية عن العمل السياسي، مخالفة لما توصلنا إليه سابقًا، فالسيد «محسن» (أستاذ التعليم العالي بمدرسة الفنون الجميلة بجامعة عبد المالك السعدي في تطوان، السن 33 سنة، من مدينة تاونات، يقطن في مدينة الرباط، عضو اللجنة المركزية للشبيبة الاستقلالية) يرى أن تجربته في الحزب كانت مفيدة، وأنها تمثل له مدرسة تكوينية وتثقيفية وسياسية وفكرية بكل ما تعنيه هذه المفاهيم من معنى.

إذًا، من خلال هذا التعريف، وبناءً على نتائج البحث الميداني، يتبين أن مفهوم الحزب في أدبيات التنمية السياسية، يعني المساهمة في التنمية بصفة عامة، وبوجه خاص في ترسيخ التنشئة السياسية للمواطنين وتمثيلهم سياسيًا ومؤسسيًا، والتعبير عن مطامحهم عبر المؤسسات الدستورية المنتخبة. ورغم أن البيئة العربية لم تعرف تبلور مثل هذه التنظيمات إلا مع مرحلة الاستعمار، فإن ذلك لا يعني أن هذه التنظيمات السياسية أو ما سماه الباحث ميشال أوفّيرلي (Michel Offerlé) «المقاولات السياسية»، لم تستطع تجذير مكانتها داخل النسق السياسي العربي‏[15].

وعودة إلى الباحث أوفّيرلي، فعلى الرغم من الصفة الطاغية على الحزب كمقاولة سياسية، فلا يمكن مع ذلك أن نتجاهل بقية الأدوار التي تقوم بها هذه التنظيمات الحزبية، فهي في اعتقاده «لا تتوقف عند السعي نحو الكسب الانتخابي وتملك السلطة، بل هي مجال للمنافسة بين فاعلين يسعون لكسب الاعتراف بمكانتهم وبحضورهم، وبشكل خاص الاعتراف بهويتهم»‏[16]. وقد توقفنا في البحث الميداني عند أوجه التعريف الذي أعطاه الباحث (أوفيلي)، وخصوصًا عند حزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي عمل لمدة طويلة كجمعية مدنية قبل أن يتحول إلى حزب سياسي. وتجدر الإشارة إلى أن ميلاد التنظيمات السياسية في المنطقة العربية لم يسلم من انتقادات ومن مناقشات حادة بين الباحثين والمهتمين، فهناك من يرى أنه وقع نوع من التماهي غير المنضبط بين الحزب في السياق الغربي والحزب في السياق العربي، وهذا ما أنتج تنظيمات مشوَّهة لا تعبّر عن واقع المجتمعات العربية، بيد أن البعض الآخر يرى عكس ذلك‏[17].

لا يمكن فهم هذا التحليل الذي ساقه الباحث (الزاهي)، إلا إذا اقتربنا من سياقه السوسيوتاريخي، الذي يتمثل بكون ولادة الحزب السياسي في المغرب ارتبطت تاريخيًا بعلاقة وطيدة بالزعامة السياسية ممثلة بشخص الزعيم. وهذا الزعيم يتمثل عند العامة والمنخرطين والأعضاء والمتعاطفين مع الحزب، كأنه نبي أو رسول، أو المنقذ من الاستعمار أو المجاعات أو الأزمات أو ما شاكلها. وهو بذلك يشترك في خاصية الأحزاب الشمولية التي سادت في أزمنة متعاقبة عبر التاريخ. لكن مسار التجربة الحزبية المغربية تميَّز بترسيخ تعددية سياسية منذ الاستقلال‏[18].

3 – في المفهوم السوسيولوجي للشباب والعمل السياسي

كيف يمكن قراءة الحراك السياسي عبر المنظمات السياسية، سواء المنخرطة في اللعبة السياسية أو التي تعمل خارجها؟ وهل تشير إلى الدور التنموي السياسي الذي سبق أن تحدثنا عنه في الفقرات السابقة؟ وهل الحركات الشبابية لها طابع ثوري أم أنها تعمل في توجهها نحو التحول الديمقراطي؟ وكيف تساعدنا نظرية الحركات الاجتماعية على فهم طبيعة الممارسة السياسية للشباب بوجه عام، وشباب عيّنة الدراسة تحديدًا؟ إذ إن العيّنة التي اشتغلنا عليها لا تقتصر على ما هو حزبي فقط بل حتى الحركات الاجتماعية والسياسية التي لا تندرج في الخريطة الحزبية، كجماعة العدل والاحسان‏[19] وحزب النهج الديمقراطي‏[20]؟

يقدم آصف بيات‏[21] أجوبته عن الحركة الشبابية، وسمّاها «الهابيتوس الشبابي»، الذي يقصد به سلسلة الاستعدادات وأساليب الحياة والمشاعر، والتعبير عن الذات (بمعنى مزيد من الميل نحو التجريب والمخاطرة والمثالية والاستقلالية والحراك والتغيير)، التي ترتبط بالحقيقة السوسيولوجية لكون الفرد صغيرًا. إن الوقوف في وجه هذا الهابيتوس الشبابي ومحاصرته، يحتمل أن يولد معارضة جمعية.

ولعل السؤال الذي يمكن أن يطرح في هذا السياق: ما تأثير الحراك الشبابي في إحداث تحول سياسي ديمقراطي في المغرب؟

من الناحية المنهجية، يصعب الجزم بالجواب عن كون الحركات الشبابية ممثلة بالتنظيمات غير المنخرطة في العمل السياسي بمعناه الضيق (انتخابات ومجالس بلدية وقروية وبرلمان..) قد استطاعت أن تمكن لذاتها وأن تحدث التغيير في النسق السياسي المغربي، لكن المؤكد أنها أبانت أن هذه الفئة مؤطرة سياسيًا بالمعنى العام، وليس بالمعنى الحزبي الضيق، وأنها تحمل وعيًا دقيقًا للإشكاليات التي تعترض المغرب، وعلى رأسها إشكالية التسلط والسلطوية. لهذا فقد كانت مطالبها ذات حمولة قوية، تتأطر وفق الشعارات التالية: كرامة عدالة وحرية، وهذه المؤشرات الدالة على تحول في المشهد السياسي، وهو ما سنفصل فيه في الفقرات الموالية.

رابعًا: النسق السياسي المغربي بين جدلية الثابت والمتغير

يمثل النسق السياسي المغربي واحدًا من الأنساق السياسة في الوطن العربي، الذي لا يزال محافظًا على إرثه التقليدي الراسخ المتمثل بفرض أشكال السلطوية المخزنية، وفي الوقت عينه يزاوج بينها وبين ترسيخ قيم ومسلكيات ومؤسسات ديمقراطية، تتجلى في وجود حياة سياسية يطبعها التعدد الحزبي وتعدد الفاعلين السياسيين والمدنيين. بيد أن المتحكم الأول والأخير في «اللعبة السياسية» هو الفاعل الملكي. لهذا تبقى خلاصة كل من الباحث الأمريكي جون واتربوري والباحث الفرنسي ريمي لوفو معبرة رغم أنهما أنجزا بحثيهما في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. حيث يقول واتربوري: «تكمن الحياة السياسية في المغرب إذن في جو الأزمة والتوتر، والمناوشات المستمرة بين الوحدات السياسية، وكل ذلك يساهم في واقع الأمر في الاحتفاظ بتوازن المجتمع، وإعادته عند الضرورة».‏[22] بمعنى آخر، يسعى النسق السياسي المغربي لتغيير كل «شيء من أجل ألا يتغير أي شيء». أما الباحث لوفو، الذي اشتغل على طبيعة النخبة القروية المغربية وعلاقتها بالسلطان، فيكشف هو الآخر عن أنه رغم التطور المؤسسي والديمقراطي الذي تميز به المغرب، لكنه بقي مع ذلك وفيًا لفاعل وحيد وأوحد هو الفاعل الملكي. ويؤكد لوفو «في قلب النظام السياسي المغربي يوجد رجل واحد، هو الملك وارث لطريقة في الحكم قوامها سلالات مغربية متعاقبة على امتداد القرون، أي المخزن»‏[23]. فإلى أي حد تبقى هاتان الخلاصتان صالحتين لقراءة النسق السياسي المغربي اليوم؟

خامسًا: حراك 20 فبراير‏[24] والتحولات
في النسق السياسي المغربي

مع اندلاع الثورات العربية في كل من تونس ومصر وسورية واليمن وليبيا، وبعد سقوط أنظمة الحكم في بعض البلدان العربية، انقدحت شرارة الاحتجاج في المغرب، التي كانت لها أسبابها الموضوعية داخليًا، لكنها كانت تحتاج إلى من يوقد شرارتها في الوطن العربي. في هذا السياق، وبمنهجية إثنوغرافية، رصدت لنا الباحثة في العلوم السياسية، مونية بناني الشرايبي كيف انطلقت حركة 20 فبراير في المغرب؟ ولماذا سميت بهذا الاسم؟

ترصد الباحثة ذلك بالتركيز على ما يلي: أن ثلاث شبان ينحدرون من مدينة مكناس (وسط المملكة)، أسسوا مجموعة عبر الوسائط الاجتماعية (الفايسبوك) وسموها «مجموعة الحوار مع الملك». وقد كانوا يتابعون أحداث الربيع العربي، ففي يوم 25 كانون الثاني/يناير من عام 2011، تابعوا سقوط النظام المصري (حسني مبارك)، ورأوا كيف استطاع الشعب المصري أن يُسقط أحد الأنظمة العسكراتية التي عمرت في الوطن العربي طويلًا. وبدأوا يحسون بنوع من الحنق (Frustration)، فعندما يقارنون وضعهم بأوضاع غيرهم يشعرون بأنهم معنيون بالتغيير، لذلك أسسوا مجموعة «الحرية والديمقراطية الآن»، وانتقلوا من التعبئة والحشد الافتراضيين إلى التعبئة الميدانية ودعوا إلى التظاهر في الأماكن العامة في ربوع المملكة، يوم 27 شباط/فبراير 2011. بيدَ أن هذا التاريخ تزامن مع الإعلان عن تأسيس «جبهة البوليزاريو» في الصحراء المغربية، وهذا ما جعلهم يعدلون عن هذا التاريخ، ويستبدلون تاريخ 20 فبراير به. وبالفعل استطاع هؤلاء الشبان الذين لا يتعدى عمرهم 22 سنة، أن ينجزوا أكبر حركة احتجاجية في تاريخ المغرب المعاصر، بدليل أنها غيرت بعض القضايا في الخريطة السياسية في المغرب‏[25]. وطبيعي أن فهم الحيثيات التي ساهمت في بروز حركة 20 فبراير لا يتوقف فقط عند هذا الحدث التأسيسي، بل تبلور في سياق وجود «اختلالات داخل المجتمع وأزمات حادة؛ فثمة علاقة واضحة بين ظهور الحركات الاحتجاجية وبين وعي عام بأن المجتمع يواجه مشاكل اجتماعية واقتصادية وأوضاعًا سلبية كبيرة، ولكن دون كفاءة على حلها»‏[26].

لم تكن الاختلالات والأزمات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها هي التي حركت المياه الراكدة وأججت شرارة الاحتجاج في المغرب، بل إن ميلاد حركة 20 فبراير ليس سوى عنوان عن أزمة سياسية في العمق؛ فهي تسائل كل الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية وجمعيات المجتمع المدني والمؤسسات السياسية الرسمية والدولة والمخزن… عن الأسباب التي جعلت المغرب يعيش في لامساواة اجتماعية وفي تسلط وفي غياب الحريات وفي التمايز الطبقي وفي البؤس والحرمان، وعلى نحو أكبر منه، بل يضاهيه، في استمرار نظام مخزني تسلطي لا يستطيع أن يطور مغرب الألفية الثالثة. هذا على الرغم مما يظهر من كون النظام السياسي الحاكم، فتح الكثير من الورش «التنموية والاجتماعية والاقتصادية»، لكن ذلك لم يكن كافيًا للقطع مع تركة الماضي المتمثلة أساسًا بوجود أزمة سياسية أو لنقل الباب المسدود. وقد يطرح السؤال: لماذا تراجعت الأحزاب السياسية – وخصوصًا الكتلة الديمقراطية والمنظمات النقابية – في المطالبة بالإصلاحات الدستورية وعلى رأسها مطلب الملكية البرلمانية، الذي جعلت منه حركة 20 فبراير رهان الفرس في مطالبها؟

يتبين، من خلال تتبّع مواقف الفاعلين السياسيين في المسألة، أن مواقفها من مفهوم الملكية البرلمانية ينقسم إلى فئتين: الأولى يمثلها التيار الراديكالي كأحزاب النهج الديمقراطي والاشتراكي الموحد وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، التي دعت إلى «ملكية برلمانية الآن»‏[27]، وقد عبّرت هذه الأحزاب بصورة واضحة لا لبس فيها عن الدعوة إلى إصلاح دستوري، حيث أكدت أن «الانتقال بالملكية المغربية من ملكية حاكمة إلى ملكية برلمانية، تكفل ربط القرار بصناديق الاقتراع، وربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة على جميع المستويات، ومباشرة الملك لأدوار رمزية وتحكيمية». بل أكثر من ذلك دعت هذه الأحزاب إلى: «إلغاء مجلس الوزراء»‏[28]، ونقل جميع اختصاصاته إلى مجلس الحكومة؛ وذلك في نطاق توسيع اختصاصات الحكومة، والرفع من فاعليتها؛ حيث الحكومة مسؤولة أمام البرلمان وحده…»‏[29]. وإذا كانت بعض أحزاب اليسار قد عبرت عن هذا الموقف، فإن الأحزاب اليسارية الأخرى، كحزبَي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتقدم والاشتراكية، رأيا أن «مسألة الملكية البرلمانية إفراز تدريجي للنظام الملكي الذي أفضى إلى نظام يسود فيه الملك ولا يحكم، دون أن يعني ذلك أن المؤسسة الملكية هي مجرد رمز يكتفي بالمتابعة من بعيد، ولا يتدخل في حركية المؤسسات»‏[30]. ماذا نستخلص من هذا التحليل؟

على الرغم من أن الأحزاب السياسية، وخصوصًا تلك التي كانت تسمى أحزاب الكتلة الديمقراطية، كانت تطالب باستمرار بمبدأ الملكية البرلمانية، التي تعني تحديد صلاحية كل من الملك والحكومة على نحو يوضح قواعد القرار السياسي، وعلى الرغم من أن هذه الأحزاب عانت في تجربة التناوب التوافقي‏[31]، فإنها مع ذلك لم ترفع سقف مطالبها في لحظة الربيع المغربي. وقد كانت حركة 20 فبراير جريئة في طرحها هذا، بل إنها بتشبثها بهذا المبدأ، تكون قد فسحت المجال للرأي العام أن يناقش بدوره هذه المسألة الحساسة والحارقة في النسق السياسي المغربي.

ما يمكن استخلاصه من هذا التحليل إذًا، هو أن حركة 20 فبراير قد ناضلت من أجل الرفع من سقف المطالب الشعبية، والدعوة إلى تحديث سياسي عبر مدخل الإصلاح الدستوري الذي يضمن توازن السلط واستقلاليتها وإعطاء الصلاحيات الكبرى للحكومات المنبثقة من الانتخابات الحرة والنزيهة، لكن ذلك لم ينعكس في التعديلات التي أدخلت على دستور عام 2011، ولم يتم التنصيص على مفهوم الملكية البرلمانية، ولو أن «الفصل الأول من الدستور نعت البرلمانية لتوصيف نظام الحكم في المغرب كنظام ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية»‏[32]. قلت على الرغم من هذا التعديل فقد بقيت الصلاحيات الأولى والأخيرة في يد الملك، وذلك ما يعكس موازين القوى التي تفاعلت في الحراك الاحتجاجي في تلك اللحظة الحرجة من تاريخ المغرب، إذ إن حركة 20 فبراير بعد خطاب الملك يوم 9 آذار/مارس 2011، والدعوة إلى تغيير الدستور عبر تنصيبه لجنة للقيام بهذه المهمة في استشارة موسعة مع الطيف الحزبي والنقابي والجمعوي في المغرب، وبعدها الدعوة إلى الاستفتاء على الدستور المعدل يوم الأول من تموز/يوليو 2011، وفي ما بعد إجراء انتخابات تشريعية في تشرين الثاني/نوفمبر من السنة نفسها، وفوز حزب العدالة والتنمية بأكبر المقاعد في البرلمان. أثرت هذه الأحداث والمتغيرات كلها في استمرارية الحراك المدني لحركة 20 فبراير. ففور إعلان نتائج الانتخابات التشريعية، أعلنت جماعة العدل والإحسان عن انسحابها من حركة 20 فبراير، على أساس أنها كانت من بين الأذرع القوية التي ساهمت في الحراك المغربي. من جهة أخرى، تعرضت حركة 20 فبراير لضغوط كثيرة، بخلق حركات معادية لها (كحركة شباب 9 مارس)‏[33]، التي ظهرت بإيعاز من المخزن، هذا فضلًا عن المضايقات من طرف قوات الأمن ومن ما أصبح يعرف بالبلطجية، أي أولئك الأفراد المسخرين من طرف المخزن لكي يشوشوا على التظاهرات والاحتجاجات السلمية.

لا يمكن أن يستخلص القارئ أن حراك 20 فبراير لم يؤدّ دوره في إحداث بعض التغيرات على المشهد السياسي المغربي، بدليل ما سقناه من وقائع وأمثلة. ولعل أهم ما تمخض عن هذا الحراك، هو إحداث قطيعة مع الأشكال التقليدية والكلاسيكية في النضال السياسي، وتجاوز الأحزاب والنقابات وبعض جمعيات المجتمع المدني في الدفع بسقف المطالب والنقاشات إلى عمقه الأساس، وهو المطالبة بالإصلاح السياسي وفي صلبه الإصلاح الدستوري. وعلى الرغم من أنه تم إيقاف وسد قوس الإصلاح نظرًا إلى عدم تكافؤ موازين القوى التي تفاعلت في إبانه، فإن ذلك لا يمنع من القول إن هذا الحراك أثمر تداعيات على المشهد السياسي. من جهة أخرى، فميلاد حركة 20 فبراير، يعبر في – نظرنا – عن ميلاد جيل جديد من المواطنين المغاربة الذين يتوقون إلى الحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة. وهو جيل أزاح الخوف الذي كان جاثمًا على الأجيال السابقة. وعلى الرغم من أن مسارات التغيير لم ترقَ إلى المستوى المطلوب، فإن هذا الحراك هو ما سيؤثر في حراكات متتالية في مناطق متعددة من المغرب، كحراك الريف وحراك جرادة. هذا علاوة على كون الجيل الحالي أبان عن مستوى من النضج في العمل النضالي والسياسي والثقافي بصفة عامة، إذ لم يكن متوقعًا أن يتوج هذا الحراك بتغيير في الخريطة السياسية والحزبية في المغرب؟ ولم يكن متوقعًا أن يستجيب النظام الملكي لبعض مطالبه بـ«التعديل الدستوري»؟ ولم يكن متوقعًا أن يتمخض ذلك عن وصول حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي للحكم؟

سادسًا: الشباب والعمل السياسي
قراءة في البروفايلات

يمكن القول، استنادًا إلى التأطير النظري ونتائج البحث الميداني، إن أهم ما يمكن استخلاصه هو صعوبة الحديث عن مسار التنمية السياسية الذي وظفناه في الإطار النظري، وقد حاولنا أن نفسر ونفهم به حيثيات العمل السياسي الحزبي من خلال الشبيبات الحزبية. يمكن القول أيضًا، إن ما توصلنا إليه، يتوافق مع ما سبق وأن صرح به المؤرخ عبد الله العَروي، عندما قال: »إن تحديث الحياة السياسية في المغرب لا زال مشروعًا بعيد المنال»‏[34]. ولعل من عناصر تفسير هذه المفارقة التي ما زالت تهيمن على الحقل السياسي برمّته، هو صيغة الازدواجية التي يعمل بها النظام السياسي المغربي، فلا هو حداثي بالمعنى المتعارف عليه، ولا هو تقليدي بالمعنى الذي نفهمه من التقليد. ولعل أوضح المعالم التي تبرز فيها هذه الازدواجية، هو الخريطة السياسية الموازية للنظام السياسي، التي تتمثل بالأحزاب السياسية، ومنها الشبيبات الحزبية التي اشتغلنا عليها، والتي لا تمثل إلا ظلًا من ظلال صناعة القرار السياسي في المغرب. حيث لا يتعدى دورها، تأثيث المشهد السياسي بما يشبه «ديمقراطية الواجهة». ومن خلال هذه الخلاصة، وبناءً على نتائج البحث، يمكن استخلاص نمذجة ثلاثية المكونات:

1 -الشبيبات الحزبية التي تنخرط في العمل السياسي
في إطار مقولة التغيير ضمن الاستمرارية

وهي تمثل طيفًا من الشبيبات المؤسسة للنسق السياسي الحزبي، وهي تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج الكثير من القيم والمسلكيات والمواقف والتصورات والمنظورات والاتجاهات…، التي ورثتها عن أحزابها الأم. ولعل مبرر وجودها هو الاعتقاد بضرورة خلق تنظيمات شبابية تتجاوب مع الشباب ومع تطلعاته وهمومه وقيمه وفلسفته في الحياة. علاوة على أنها مقتنعة بفلسفة التغيير ضمن الاستمرارية، التي تعني، حسب ما تتصوره بعض الشبيبات الحزبية، أن وظيفتها في الحياة السياسية هي أن تعمل على إحداث تغييرات في هذا المشهد، مع الحفاظ على الأوضاع في النسق السياسي كما هو. وهذا يعني أنَّ لا تطرح بدائل لتغيير قواعد اللعبة السياسية، كالمطالبة بالملكية البرلمانية، أو تحديد صلاحيات كل من المؤسسة الملكية والحكومة، وإعطاء دور محوري في العمليات التنموية للأحزاب، سواء التي هي في موقع القرار، أو التي هي خارجه، لكن لها وجهات نظر قد تختلف عن المسلكيات القائمة‏[35].

2 -الشبيبات الحزبية التي تنخرط في العملية السياسية
بدافع المصلحة والانتهازية والوصولية

إن عبارة «الأحزاب السياسية أصبحت أشبه بدكاكين سياسية»، التي وردت على لسان الكثير من الفاعلين السياسيين، الذين أنجزنا معهم البحث، تُعَدُّ دالة في توصيف واقع سياسي «مأزوم». لعل من بين مؤشراته الواضحة التي لا تحتاج إلى بحث ولا إلى تقصٍّ، هو ضعف الثقة بهذه التنظيمات وسط عموم الشباب والمواطنين بصفة عامة، وترسيخ تمثلات سلبية حول هذه التنظيمات.

يظهر من خلال هذه النتائج، أن هذا الفاعل السياسي الشاب، لا يثق بالأحزاب السياسية، وقد فقد الثقة بها. لكن وجه الغرابة هو أنه منخرط فيها ويعمل في تنظيماتها. بيد أن هذه الغرابة تزول، عندما يتبدى أن دوافعه هي الوصول إلى مكانة سياسية وحزبية، ومن ثم الترقي الاجتماعي، لما يمنحه الحزب من إغراءات لبعض الأعضاء الذين يستطيعون التواصل مع الجماهير، وجلب الأصوات في المحطات الانتخابية، وهو ما يفسح لهذه الشريحة المجال، لتولي مسؤوليات البرلمان أو الجهة أو الجماعات المحلية.

3 -الشبيبات الحزبية التي تدافع عن مقولة التغيير
«الراديكالي» للنسق السياسي

يمكن القول إن النموذج الثالث من الشبيبات الحزبية التي تنشط في العمل السياسي، سواء الرسمي المعترف به، كحزب اليسار الاشتراكي الموحد، أو غير المنخرط في اللعبة السياسية، كحزب النهج الديمقراطي أو جماعة العدل والإحسان، تمثل كلها تنظيمات تضم بينها أعضاء ومتعاطفين، وبوجه خاص بعض المواطنين والمواطنات المغربيات، الذين لا ينخرطون في هذه التنظيمات، لكنهم يعدّونها مشروعهم المجتمعي، بل أكثر من ذلك، أملهم المستقبلي. ولعل وجود هذه الكتلة الحرجة – كما نسميها في السوسيولوجيا – تؤكد أنها العنصر الحاسم في كل عمليات التغيير والإصلاح الديمقراطي. ولهذا فإن توصيف هذه الكتلة بـ«المواطنة النشطة« بحسب تعبير آصف بيات، له ما يبرره منهجيًا وتفسيريًا. ورغم أن هذه الكتلة ليست مؤثرة عدديًا، لكنها من حيث النوع، حاضرة. صحيح أن بين هذه التنظيمات (وخصوصًا بين اليسار الراديكالي والإسلاميين الراديكاليين)، فوارق أيديولوجية كبيرة، لكن ذلك لم يمنعهم من التنسيق في الميدان، وخصوصًا في مرحلة الربيع المغربي، ممثلة في حركة 20 فبراير.

سابعًا: خلاصات واستنتاجات وآفاق
للتحاور والنقاش

تسمح نتائج الورقة البحثية باستخلاص أهم فكرة محورية، وهي أن المشهد السياسي المغربي ما زال مرتهنًا لـ«الهابيتوس المخزني»، مع تهميش لبقية الأحزاب والهيئات النقابية، كل ذلك يؤكد أن خيار التغيير من داخل المؤسسات القائمة، يبقى محدودًا جدًا، إن لم نقل معدومًا. معنى ذلك أن القرارات الاستراتيجية والبعيدة المدى والمتوسطة، بل وحتى الآنية، لا يقوم بها الفاعل السياسي الحزبي، كيفما كان حجمه ونوعية حضوره في المشهد السياسي، بل إن المخزن هو من يهندس كل تلك الأمور. أما وظيفة الأحزاب السياسية فهي وظيفة تأثيث المشهد السياسي، وعلى الرغم، من كون التجربة السياسية المغربية، قد قطعت أشواطًا في درب المضي نحو «دمقرطة» النسق السياسي، فإن ذلك لم يمنع من استمرار آليات التحكم والتسلط، بالاحتماء بتقليدانية مفرطة، إلى حد الحديث عن «هابيتوس» للمخزن لا يمكن التخلص منه.

من جهة أخرى، فإن أهم التحديات التي رشحت في هذه التجربة السياسية، هي تعميق حالة اللاثقة في المؤسسات الدولانية، بل حتى المؤسسات الحزبية والنقابية والجمعوية، وهذا ما يفضي عمليًا إلى حالة من القطيعة بين المجتمع والدولة من جهة، وبينه وبين مؤسساته الوسيطة.

ولعل أهم ما يمكن استخلاصه من ورقتنا هذه، هو أننا أمام فراغ أيديولوجي وسياسي كبيرين، ينذران بتحولات عميقة في القوة التأثيرية لهذا التوجه في النقاش العام وفي القضايا التي تؤرق راهن البلد ومستقبله. كل ذلك يستدعي تغييرًا في براديغم العمل السياسي من أساسه، يقوم على تبني مقولات الحركات الاجتماعية التي تتأسس على مبادئ ثلاثة: الهوية، والشمولية والتعارض، كما شرحها (تورين)‏[36]. لكن ذلك يبقى مجرد «يوتوبيا»؛ فطبيعة النسق السياسي المغربي يبقى عصيًا على إحداث مثل هذا التحول النوعي، اللهم إذا ما وقعت بعض الطفرات في عمليات التغيير، كالتي شهدناها مع موجات «الربيع العربي».

كتب ذات صلة:

ثورة بلا ثوار : كي نفهم الربيع العربي

حياة ثورية: يوميات الربيع العربي

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 552 في شباط/فبراير 2025.

رشيد جرموني: أستاذ علم الاجتماع، جامعة مولاي إسماعيل، مكناس – المغرب.

[1]كشف تقرير رسمي صادر عن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية سنة 2012، عن تدني نسبة المواطنين الذين يثقون بالمؤسسات السياسية (7.7 بالمئة) وهي أضعف نسبة مقارنةً ببقية المؤسسات الأخرى (كالأمن والتعليم والصحة والعدل). من جهة أخرى، سجل التقرير إياه نسبة ضعيفة من المواطنين الذين يصوتون في الاستحقاقات الانتخابية (50 بالمئة) لا يرون فائدة من التصويت، وهذه النسبة تبقى ثابتة عند فئة الشباب (51.6 بالمئة). انظر: Institut Royal des Etudes Stratégiques, «Rapport de l’Enquête Nationale sur le Lien Social au Maroc,» 21 mars 2012, (Programme d’étude «lien social au Maroc: quel rôle pour l’Etat et l’ensemble des acteurs sociaux?»), <https://www.ires.ma/fr/think-tank/societe/lien-social.html>.

[2] وجب أن أنوه إلى أن القسم الأكبر من البحث الميداني أجري بمساهمة الباحثة سهلية عصيد، وهي باحثة في السوسيولوجيا، جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، حاصلة على ماجستير في تخصص «سوسيولوجيا التغير الاجتماعي والتجديد»، سنة 2022. وبهذه المناسبة أود أن أشكرها على ما قدمته للبحث ومن تمكنها من جمع معطيات غنية أفادت كثيرًا في إغناء هذه الورقة، كما لا تفوتني هذه المناسبة لشكر كل الفاعلين السياسيين والجمعويين الذين لم يبخلوا علينا بوقتهم في إجراء البحث، ولا حتى بتمكيننا من مجموعة من الوثائق الحزبية.

[3] باحث أمريكي في العلوم السياسية، كانت بداياته الأكاديمية الأولى في جامعة ميشيغان، ثم درس في جامعات عالمية، كمرسيليا في فرنسا وروما في إيطاليا، وتقلد منصب رئاسة الجامعة الأميركية في بيروت. ما بين سنتي 1965 و1967 أنجز أطروحته للدكتوراه في موضوع: «أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية»، وهو الكتاب الذي كان ممنوعًا في المغرب في عهد الملك الحسن الثاني، إلى أن تم رفع الحظر عنه في العقد الأخير من القرن العشرين. انظر: جون واتربوري، أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية، ترجمة عبد الغني أبو العزم، عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق، ط 3 (الرباط: مؤسسة الغني للنشر، 2013).

[4] Mounia Bennani-Chraïbi, Partis politiques et protestations au Maroc (1934-2020), collection Res publica (Rennes: Presses universitaires de Rennes, 2021), p. 33, <http://books.openedition.org/pur/142665> (date de consultation 18 mars 2022).

[5] محمد الرضواني، التنمية السياسية في المغرب: تشكل السلطة التنفيذية وممارستها من سنة 1956 إلى سنة 2000، سلسلة بدائل قانونية وسياسية؛ 12، ط 2 (الرباط: المؤلف، 2019)، ص 8.

[6] نصر عارف، نظريات السياسة المقارنة ومنهجية دراسة النظم السياسية العربية: مقاربة إبستيمولوجية (ليزبرج: الولايات المتحدة الأمريكية: جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية، 1998) (انظر بنوع خاص الفصل الأول: المصادر الفكرية لنظريات التنمية السياسية).

[7] هي خطة تنموية أطلقها الملك محمد السادس في 18 أيار/مايو 2005، لمواجهة معضلة الفقر كما وصفها الخطاب الرسمي. وهي كما يقول الباحث حسن طارق: «لقد شكلت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لحظة تحول على مستوى ترتيب – الأولويات، على أساس ليس فقط إعادة مركزة المسألة الاجتماعية على رأس جدول أعمال المغرب الرسمي، بل كذلك من خلال تجاوز نظرة تقنوية للقضايا الاجتماعية بشكل يجعل هذه الأخيرة رهينة تبعية لحل إشكالية النمو الاقتصادي، دون التفكير في أدنى سياسة إرادوية وتدخلية بمضمون تضامني»، انظر: حسن طارق، «تاريخ السياسات الاجتماعية بالمغرب: محاولة في التحقيب،» ورد في: حسن طارق [وآخرون]، «السياسات الاجتماعية بين الهاجس الأمني والضرورة التنموية،» المجلة المغربية للسياسات العمومية (الدار البيضاء)، عدد مزدوج 2 – 3 (2008)، ص 20.

[8] لفهم خلفيات دعوة الملك إلى إعداد نموذج تنموي جديد بالنظر إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي سادت عبر عقود في المغرب، يكفي أن نشير إلى تقرير رسمي (حكومي) «المندوبية السامية للتخطيط» في دراستها «الاستهلاك ونفقات الأسر» لسنة 2014، أكدت أن «نفقات 10 بالمئة من الأُسر الأكثر يسرًا كانت تمثل أكثر من ثلث إجمالي نفقات الاستهلاك (33.8 بالمئة)، مقابل 2.6 بالمئة في أوساط 10 بالمئة من الأُسر الأقل غنى (أي بفارق 13 مرة)، وهو ما يعمق الشعور بالتفاوت واللامساواة الاجتماعية في الاستفادة من الموارد المتاحة في المغرب». انظر: «Enquête nationale sur la consommation et les dépenses des ménages,» Haut-Commissariat au Plan du Maroc, <https://tinyurl.com/48d8fmay> (date de consultation 24 février 2017).

في هذا الصدد يتحدث الباحث الاقتصادي نجيب أقصبي أنه «إذا أردنا أن نقدم بديلًا يجب طرح السؤال عن الخيارات التي وضعها المغرب منذ خمسين أو ستين سنة، والحديث عن فشل النموذج التنموي الحالي هو حديث عن فشل هذه الاختيارات التي يمكن تلخيصها في الرهان على اقتصاد السوق والقطاع الخاص والاندماج في العولمة…، لكن المغرب لا يزال يعتمل فيه اقتصاد الريع، لأن المنظومة السياسية تعزز السلطة عبر الريع الاقتصادي وتبني تحالفات طبقية». انظر: تصريح الباحث لجريدة هيسبريس الإلكترونية، بتاريخ 3 حزيران/يونيو 2021 (تاريخ المشاهدة 10 نيسان/أبريل 2022).

[9] بعدما تأكد للفاعل الملكي أن النموذج التنموي المطبق في المغرب لم يعد يحقق التنمية المنشودة، وقد جاء هذا القرار بعدما توصل الملك بالكثير من التقارير الرسمية والخارجية التي تؤكد هذه الحقيقة، لهذا دعا في خطاب رسمي إلى تأليف لجنة لإعداد النموذج التنموي، حيث يقول الملك: «قررنا تكليف لجنة خاصة، مهمتها تجميع المساهمات، وترتيبها وهيكلتها، وبلورة خلاصاتها، في إطار منظور استراتيجي شامل ومندمج؛ على أن ترفع إلى نظرنا السامي، مشروع النموذج التنموي الجديد، مع تحديد الأهداف المرسومة له، وروافد التغيير المقترحة، وكذا سبل تنزيله». (من خطاب الملك بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية العاشرة، بتاريخ 12 تشرين الأول/أكتوبر 2018).

[10] محمد عابد الجابري، المغرب المعاصر: الخصوصية والهوية.. الحداثة والتنمية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1988)، ص 127.

[11] يشرح الباحث محمد الطوزي على نحو جيد، مفهوم المخزن، حيث يقول: «يعتبر مفهوم المخزن مفهومًا دنيويًا من دون شحنة دينية، ومفتقدًا لأية صفة أخلاقية سامية. لذلك وجب التمييز بينه وبين المؤسسات الإدارية الرسمية من جهة، وبينه وبين الملك من جهة أخرى. فالمخزن موضع الإسقاطات السلبية والإيجابية على السواء، همه الوحيد هو الحفاظ على الأمن والاستقرار وجعل مصلحة الدولة قيمة فوق كل اعتبار، وهي مهمات تستوجب استعمال القوة بشكل مستمر، وترك الأخلاق والعواطف جانبًا. كما يمتلك المخزن قدرة كبيرة على الاختراق والانتشار على جميع التراب الوطني… فالمخزن وسيلة الملك تمكنه من الهيمنة من دون أن تمتزج لاشرعية طرقه في العمل إبان الأزمات، بالشرعية الملكية الأزلية»، انظر: محمد الطوزي، الملكية والإسلام السياسي في المغرب، ترجمة محمد حاتمي وخالد الشكراوي؛ مراجعة عبد الرحيم بنحادة (الدار البيضاء: نشر الفنك، 2001)، ص 33.

[12]  Bennani-Chraïbi, Partis politiques et protestations au Maroc (1934-2020), pp. 52-53.

[13] نور الدين أشحشاح، القوى السياسية: الأحزاب والجماعات والرأي العام (طنجة، المغرب: مطبعة اسبارطيل، 2007)، ص 25.

[14] أسامة الغزالي حرب، الأحزاب السياسية في العالم الثالث، عالم المعرفة؛ 117 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1987)، ص 39 – 40.

[15] يكشف الباحث (الغزالي)، أن تجربة الأحزاب السياسية بالوطن العربي، لم تقطع مع الإرث الطائفي والإثني والديني والقبائلي، ولم تتشكل كؤسسات حديثة تتميز بالعقلانية والجدارة.

[16]  Bennani-Chraïbi, Partis politiques et protestations au Maroc (1934-2020), pp. 53-54.

[17] انظر جزءًا من هذا النقاش: نور الدين الزاهي، الزاوية والحزب: الإسلام والسياسية في المجتمع المغربي (الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 2011)، ص 232.

[18] «تم تكريس نظام التعددية الحزبية بموجب ظهير الحريات العامة الصادر سنة 1958، ثم بموجب الدساتير التي نصت ابتداءً من سنة 1962 على حظر الحزب الواحد، واعترفت للأحزاب بدور تنظيم المواطنين وتمثيلهم»، انظر: أشحشاح، القوى السياسية: الأحزاب والجماعات والرأي العام، ص 95.

[19] هي جماعة دينية أسسها الشيخ عبد السلام ياسين سنة 1987، بعدما انفصلت عن الشبيبة الإسلامية التي كان يرأسها الشيخ عبد الكريم مطيع، تتميز الجماعة بطابعها الصوفي وبنهجها المعارض لنظام الدولة، فهي لا تشارك في الحياة السياسية والحزبية، بل تقاطع كل المحطات الانتخابية، وتعتبرها ذرًا للرماد في العيون، وتلميعًا لصورة النظام الديمقراطية. وعلى الرغم من عدم مشاركتها في الحياة الحزبية، فهي تملك دائرة سياسية تعبر من خلالها عن مواقفها وتصوراتها من الحياة السياسية بالمغرب (معطيات البحث الميداني، 2021).

[20] حزب سياسي مغربي تأسس سنة 1995 من طرف مجموعة من الناشطين من المنظمة الماركسية – اللينينية (كمنظمة إلى الأمام)، التي تمثّل الخلفية الأديولوجية والفكرية للحزب، ويسعى هذا التنظيم إلى بناء نظام اشتراكي يقضي على الرأسمالية، والنضال ضد تبعية المغرب للإمبريالية الأمريكية وللمؤسسات الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. يتبنى الحزب الماركسية ويناضل من أجل «ملكية برلمانية» وإزاحة «المخزن»، ويدعو إلى علمانية تفصل الدين عن الدولة، ويطالب بايلاء اللغة الأمازيغية مكانتها الرئيسية كلغة رسمية في المغرب (معطيات البجث الميداني، 2021).

[21] آصف بيات، الحياة سياسية: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط، ترجمة أحمد زايد (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2014)، انظر بشكل خاص الفصل السادس (استعادة الشبابية).

[22] واتربوري، أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية، ص 44.

[23] ريمي لوفو، الفلاح المغربي المدافع عن العرش، ترجمة محمد بن الشيخ؛ مراجعة عبد اللطيف حسني، سلسلة أطروحات وبحوث جامعية؛ 2 (الرباط: منشورات وجهة نظر، 2011)، ص 302.

[24] Aziz Mechouat, Le Mouvement du 20 février au Maroc: Identité, Organisation et Discours (Allemagne: Presses Francophones Académiques, Saarbrücken, Deuthland, Allemangne, 2013).

[25]  Bennani-Chraïbi, Partis politiques et protestations au Maroc (1934-2020), pp. 401-402.

(تجدر الإشارة إلى أن النص من صياغتنا لكن المعلومات الواردة فيه تعود للباحثة الشرايبي).

[26] رقية أشمال، «الشباب والاحتجاج: بدائل لتحريك التحول الديمقراطي،» مسالك، العددان 51 – 52 (2015)، ص 63.

[27] حسن طارق، دستورانية ما بعد انفجارات 2011: قراءات في تجارب المغرب وتونس ومصر (بيروت؛ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ص 192.

[28] للتوضيح، فإن مجلس الوزراء، الذي يرأسه الملك، والذي حدد الفصل 49 من الدستور الجديد (2011)، مجموعة من «القضايا والنصوص التي يناقشها هذا المجلس: كالتوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة؛ مشروعات مراجعة القوانين التنظيمية؛ التوجهات العامة لمشروع قانون المالية؛ مشروعات القوانين – الإطار؛ مشروع قانون العفو العام؛ مشروعات النصوص المتعلقة بالمجال العسكري؛ إعلان حالة الحصار والحرب». انظر: المصدر نفسه، ص 103. تجدر الإشارة هنا إلى أن اختصاصات المجلس الوزاري في النسخ الدستورية السابقة على الأقل لسنتي 1992 و1996، شكلت مجالًا للنقاش بين الكثير من الباحثين، حيث يرى محمد الساسي أن «استمرار ارتهان عمل المجلس الحكومي إلى إيقاع مجلس الوزراء الذي يتعين أن تحال عليه أهم وأغلب القضايا التي فصل فيها مجلس الحكومة، من دون أن يكون بمستطاع هذه الأخيرة أن تصنع أي شيء لضمان اجتماع المجلس الوزاري الذي قد يتأخر انعقاده لعدة شهور». انظر: محمد الساسي، «العلاقة بين الدستور والانتقال الديمقراطي في الغرب: مرحلتان، رؤيتان،» المجلة المغربية للعلوم السياسية والاجتماعية، السنة 1، العدد 1 (خريف 2010 – شتاء 2011)، ص 23.

[29] طارق، المصدر نفسه، ص 192.

[30] المصدر نفسه.

[31] لفهم جزء من المأزق الذي حصل للأحزاب اليسارية في تجربة التناوب التوافقي، انظر: عبد الحي مودن، عبد الرحمن العمراني، اليسار المغربي: الفكرة والممارسة، الدفاتر الزرقاء؛ 14 (سلا: مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، 2009)، ص 8.

[32] طارق، المصدر نفسه، ص 193.

[33]  Bennani-Chraïbi, Partis politiques et protestations au Maroc (1934-2020), pp. p.436.

[34] Abdelmoughit Benmmessaoud Tredano, «Transition et autopsie d’une opposition agonisante: ou la recherche d’une opposition perdue,» Revue Marocaine de Sciences Politique et Sociale (Centre de Recherche et d’Etudes en Sciences Sociales, Rabat), vol. 1, no. 1 (automne 2010-hiver 2011), p. 139.

[35] رشحت في تصريحات البحث الميداني مع الفاعلين الشباب، مسألة عدم الاتفاق مع القيادة السياسية في تقدير الكثير من المواقف السياسية، كالموقف من الانخراط في «حراك 20 فبراير» أو تزكية النموذج التنموي الجديد الذي دعا إليه الفاعل الرسمي، من دون إشراك «حقيقي» للأحزاب، أو غيرها من المواقف.

[36] Alain Touraine, Le Retour de l’Acteur: Essai de Sociologie, Collection Mouvements; no. 3 (Paris: Fayard, 1984), p. 109.


رشيد جرموني

باحث في سوسيولوجيا التدين، جامعة مولاي إسماعيل، كلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم علم الاجتماع، مكناس- الجزائر.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز