مقدمة:
يعد أنطونينو بلليتيري، الذي يشغل كرسي تاريخ البلدان الإسلامية في جامعة باليرما الإيطالية، أحد أبرز المثقفين والأكاديميين الأوروبيين الذين أولو التاريخ العربي والإسلامي اهتماماً مبكراً عبر عن انشغالهم ليس بالجوانب الأكاديمية له فقط بل بالكشف عن أهم الاتجاهات التاريخية في الحضارة العربية الإسلامية أيضاً في فضائها الجغرافي وفي صلاتها بالشعوب أو الحضارات المجاورة وبخاصة في القارة الأوروبية عبر العصور. وتبرز المساهمة الرئيسية لبلليتيري الذي يجيد العربية كتابة وقراءة في أعماله التي ارتكزت على مقاربة للتراث العربي والإسلامي تنقله من دائرة التاريخ والماضي ليصبح فاعلاً حياً أو مفكراً حاضراً في الحياة والعمل كما تعبِّر عنه الثقافة العربية الإسلامية الحديثة وذلك بالعودة، وهذا ما يميزه عن المؤرخين الغربيين الذين اعتمدوا نظرة أنثربولوجية كولونيالية، إلى التاريخ المحلي الاقتصادي الاجتماعي من خلال دراسة مصادره العربية. كما يهتم بلليتيري بالفكر القومي العربي وبخاصة نشأته في بلاد المشرق العربي، ويولي اهتماماً خاصاً بتاريخ سورية وليبيا ومصر، وهي التي عاش فيها لمراحل قصيرة واطلع مباشرة على ما تحويه دور محفوظاتها التاريخية من وثائق تاريخ محلي وتراجم.
يعمل بلليتيري أيضاً أستاذاً لمادة حضارة وثقافات المجتمعات الأفريقية والآسيوية في جامعة لا سابينزا بروما، وهو عضو في معهد لورينتي (الشرق) C.A Nallino بروما وفي الرابطة الأوروبية للدراسات العربية والإسلامية (Union Européenne des Arabisants et Islamisants)، ومدير سلسلة الدراسات الإسلامية الصادرة عن دار نشر Aracne في روما، وعضو في اللجنة العلمية لمجلة LicArc للدراسات الأدبية والثقافة العربية المعاصرة (جامعة لورين، فرنسا) ومدير لكرسي عبد العزيز سعود البابطين للأدب والثقافة العربية في باليرمو.
اهتم بوجه خاص بدمشق، فأصدر عنها عدداً من الدراسات من بينها: كتاب دمشق فواحة العطر: غواية وشعر مدينة إسلامية جليلة (2004)، كما نشر عن ليبيا، وبخاصة مدينة طرابلس، وركز من خلال هذه الاهتمامات على أن العلاقات العربية – الأوروبية والغربية عموماً تتجاوز ما سعت الأنثروبولوجيا الاستعمارية ودراسات الاستشراق إلى حصرها فيه.
من أهم مؤلفاته: كتاب الإسهام الإيطالي في دراسة مصر الحديثة في عصر محمد علي باشا (إصدارات المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة) (2005)؛ كتاب مقدمة في تاريخ الوطن العربي المعاصر (2008)؛ كتاب الأصول التاريخية والاجتماعية للفكر القومي العربي (2012)؛ كتاب صقلية والإسلام: ملامح وراء التاريخ (2016).
يزور بلليتيري بيروت مرة واحدة سنوياً على الأقل، كما يمر بها وهو في طريقه إلى دمشق وقد حظيت بالتعرف إليه منذ سنوات خلت واطلعت على عدد من أعماله وحاورته فتعرفت أكثر إلى صديق صادق للعرب ومحب لثقافتهم وإلى مفكر ومثقف واعٍ بما تعنيه الصلات بين الشعوب والثقافات من قيم إيجابية وقد جرى مؤخراً بيننا هذا الحوار:
أستاذ بلليتيري أرحب بك في مركز دراسات الوحدة العربية ويسرني أن أقدمك لقراء مجلة «المستقبل العربي» وأن أطرح عليك بعض الأسئلة:
■ هل لك أن تعطينا لمحة مفصلة عن أهمية الدراسات العربية في أوروبا بعامة وفي إيطاليا بخاصة وحالتها وما لحق بها من تطورات، ما سبب اهتمامك الشخصي بهذه المجالات البحثية والدراسية؟ ما الفكرة الأساسية عندك؟
– من الصعب أن أعطيك إجابة كاملة ومفصلة لمثل هذا السؤال. اليوم في أوروبا، أي في البلدان الممتدة من روسيا حتى البرتغال ومن فنلندا حتى إيطاليا، تشهد الدراسات العربية والإسلامية انتشاراً واسعاً. على عكس الماضي، لم تعد تلك الدراسات تقتصر على الجامعات والمراكز البحثية فقط؛ فهناك مراكز ومعاهد خاصة لديها مشروعات في هذا المجال. ولكن في هذه المراكز يهتم الباحثون بالدراسات الجيوسياسية أكثر من انشغالهم بالموضوعات ذات البعد التاريخي والثقافي أو الأدبي. هذا النوع الأخير يتطلب من الباحث دراية باللغة العربية وعلومها وأهم كتبها ومصادرها، كما كان الحال بالماضي. ولكن في ضوء المصالح الجيوسياسية الجديدة حققت بعض الأعمال نجاحاً في السنوات الأخيرة، ولا سيَّما تلك التي تعالج الموضوعات المتعلقة بما يُعرف بالإسلام السياسي و«الراديكالية» الإسلامية في الوطن العربي بوجه خاص، وهي في الغالب أعمال تحظى بنجاح لا تستحقه. فهذه النوعية من الدراسات غالباً ما تفتقر إلى الدقة العلمية، حيث نجد الباحث الشاب يبني دراسته على مصادر أغلبها باللغة الإنكليزية وعلى معلومات صادرة من مراكز أمريكية. كما أنه ينتهج طرائق بحثية اجتماعية وأنثروبولوجية فقط. علاوة على ذلك، فاليوم يأتي أغلب التمويل الموجَّه للبحث العلمي من الاتحاد الأوروبي، والنصيب الأكبر من ذلك التمويل يكون من حظ مشروعات تشرف عليها دوائر معينة داخل الوسط الأكاديمي وخارجه، أي الدوائر التي تنتهج سياسة لها نفس أهداف بروكسل. كل هذا يأتي على حساب مراكز الدراسات العربية والإسلامية العريقة الموجودة داخل الجامعات الحكومية في البلدان المختلفة. هذا القطاع يعاني نقصاً في الموارد؛ ففي السنوات الأخيرة قامت الدولة باختزال الكثير من الموارد المالية الموجهة لدعم وتطوير الدراسات العربية والإسلامية، الأمر الذي حدث في إيطاليا أكثر من أي دولة أوروبية أخرى. لهذا تعاني معاهد الدراسات الشرقية في إيطاليا، مثل قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة نابولي وجامعة لا سابينزا بروما، وجامعة كافوسكاري بفينيسيا وجامعة باليرمو؛ إضافة إلى معهد ناللينو بروما الذي تصدر عنه مجلة معتبرة بعنوان Oriente Moderno (الشرق الحديث)، فكلها تعاني أزمة مالية وبخاصة في السنين العشر الأخيرة. وهذا بالطبع له آثار جسيمة سواء في قطاع البحث العلمي في تلك المراكز أو على إعداد باحثين وباحثات جدد، كما أنه يهدد استمرارية مقررات الدكتوراه المعدودة في هذا المجال في إيطاليا. أدت هذه العوامل إلى ظهور مراكز بحثية ومؤسسات خاصة في الأغلب يديرها إما سياسيون وإما متخصصون منخرطون في الدوائر السياسية. ولهذا دواعٍ جسيمة على جودة الدراسات العربية والإسلامية وعلى التعليم العالي الذي من شأنه إعداد كوادر شابة من الباحثين؛ فالجامعات وحدها تستطيع القيام بهذه المهمة. لذلك أنا أؤمن بضرورة تعزيز المؤسسات البحثية الأوروبية، مثل «الرابطة الأوروبية للدراسات العربية والإسلامية» (Union Européenne des Arabisants et Islamisants) التي تضم عدداً ذا شأن من الباحثين الجامعيين المختصين في الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا. كما أنه من المصلحة أن نعمل على خلق مناخ أفضل في الوطن العربي وإيطاليا وأوروبا نستطيع من خلاله تبادل المعارف والأنشطة الثقافية والعلمية، إضافة إلى المنشورات، وبالتالي تكثيف التعاون بين الباحثين والباحثات من الشباب. أشير هنا إلى تجربتي الشخصية، فعندما كنت باحثاً في بداية طريقي، قضيت فترات دراسة في بعض البلدان العربية لأتقن اللغة وأتمم دراستي في هذا التخصص، فأقمت في مصر ولبنان وعلى الأخص في سورية. وكان الدارسون من جيلي يخطون نفس النهج.
بدأ اهتمامي بالوطن العربي منذ السنوات الأولى في الجامعة وبفضل الحماسة التي كنت أعيشها إثر انضمامي إلى حركة 1968 في أوروبا وإيطاليا، التي كانت تحارب من أجل تحرير شعوب المجتمعات النامية بآسيا وأفريقيا، وبخاصة الشعوب العربية، وأيضاً من أجل القضية الفلسطينية ولصالح السياسات العربية. لقد كانت كتب المفكرين العرب، مثل سمير أمين، الذي رحل عنا منذ فترة قريبة، بمنزلة نافذة لشبان كثيرين مثلي يطلون منها على الوطن العربي والإسلامي. أضف إلى ذلك أصولي الصقلية، فأنا من جزيرة صقلية ولدي اهتمام بتاريخ العرب والمسلمين في هذه الجزيرة أثناء العصور الوسطى، تلك الفترة التي عكف على دراستها أستاذي أومبيرتو ريتزيتانو (Umberto Rizzitano) الذي رحل في عام 1980. كما أن والدي كان قد قضى فترة من الخدمة العسكرية بليبيا وكان يحكي لنا في البيت عن تجربته في مدينتي طرابلس وتاجوراء وعن التقاليد الشعبية الليبية. ومن حين إلى آخر كان يردد على مسامعنا مفردات بلهجة طرابلس. كل هذه العوامل أثرت في خياراتي بالجامعة وبالتالي تخصصي بالدراسات العربية والإسلامية. ولقد نالت النواحي التاريخية والثقافية في العصرين الحديث والمعاصر اهتماماً خاصاً مني، كما عنيت بتاريخ صقلية أثناء الحكم الإسلامي، وبخاصة خلال العصر الفاطمي، واهتممت بشبكة التواصل التي أقامها الفاطميون بين بلدان البحر المتوسط ما بين القرنين العاشر والحادي عشر.
■ هل يمكننا القول بثقة إن الدراسات الغربية حول العرب والإسلام قد تخلت عن المقاربات الاستشراقية وأنثروبولوجيا الاستعمار؟ أم أن هذه الدراسات والمختصين بها يعيدون إنتاج نفس المقولات ويكرسونها عن الشرق العربي المسلم الذي يمثل استثناء عن الشعوب الأخرى ومن الصعب أن يلحق بركب الحضارة، بل ينكر في حالات كثيرة دورهم في الماضي ويحصرهم في المفهوم الفسيفسائي والرجعي؟
– قد تبدو الإجابة عن هذه السؤال معقدة أيضاً. فكما أشرت، في أوروبا ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وعقب نهاية الاستعمار، أُنشئت مدارس جديدة للدراسات العربية والإسلامية وأُعيد تنظيم المراكز القائمة بالفعل. بالتالي أُعد جيل جديد من الباحثين الذين بدأوا يتبنون مناهج بحثية جديدة، وبخاصة في الفترة بين الستينيات والثمانينيات. لقد كانوا يتبعون سبـلاً علمية ولغوية صارمة. على سبيل المثال، كان للتاريخ الاجتماعي وللفكر العربي والإسلامي الحظ الأوفر من الدراسة، كما قامت هذه الموضوعات بفتح الطريق أمام الباحثين للإطلاع على السجلات وتحليل الوثائق المتوافرة بالبلدان العربية. من هنا نشأت فكرة دراسة سجلات المحاكم الشرعية في العصر العثماني وتحليل وترجمة أهم المصادر العربية القديمة والحديثة للغات الأوروبية. ومن الأسباب التي ساعدت على القيام بهذا النوع من الأبحاث إعادة تنظيم مراكز الوثائق والمكتبات في المدن العربية المهمة، إضافة إلى اهتمام الباحثين بإعادة اكتشاف مواطن الذاكرة الجماعية المشتركة وفتح نافذة جديدة على الماضي. طبعاً كان لهذا أثره في منهجية الباحثين الجدد في أوروبا وإيطاليا الذين أخذوا في الابتعاد عن المقاربات الكولونيالية وعن الرؤية الاستشراقية الكلاسيكية التي ظهرت في أوروبا بعد الثورة الفرنسية وبسبب الطبقة البرجوازية الصاعدة. عندما نتحدث عن الدراسات الاستشراقية وعن الدراسات العربية والإسلامية علينا أن نأخذ في الحسبان مدارس واتجاهات متعددة ومختلفة فيما بينها. فلا يمكننا النظر إلى الاستشراق في أوروبا كظاهرة متجانسة. انطلاقاً من هذا المبدأ يمكننا القول بأن مؤلفة إدوارد سعيد الاستشراق، والتي حظيت بنجاح كبير في الغرب لعدة أسباب، لم تتحرَّ الدقة عندما صورت الدراسات الاستشراقية على أنها أحادية الاتجاه، بل في أحيان كثيرة اعتبرتها مخططات وذراعاً من أذرع الاستعمار. وقد نال هذا التصور إعجاب المختصين بالدراسات السياسية وبعلم الاجتماع والأنثروبولوجيين المعاصرين، كما أنه أسهم في تشويه صورة المختصين بالدراسات العربية والإسلامية. فمن المستحيل أن ننظر إلى المدرسة الاستشراقية القديمة التي أُنشئت بصقلية في أواخر القرن السابع عشر من أجل العودة إلى تاريخ الجزيرة القديم على أنها مدرسة ذات اتجاه كولونيالي. كما لا يعني هذا أن المستشرقين الأوروبيين لم يتبنوا يوماً رؤية كولونيالية، دعنا ننظر مثـلاً إلى الدراسات الفرنسية للجماعات الأمازيغية في شمال أفريقيا. وحتى في يومنا هذا نجد بعض الباحثين من الشباب لا يزالون يدرجون أبحاثهم داخل إطار كولونيالي وإن كان بطريقة مختلفة عن الماضي، ونرى هذا واضحاً في الأعمال التي تركز على الدراسات الجيوسياسية وعلى الأقليات، وفي التفنن في افتعال صدامات بين المسلمين، السنّة والشيعة منهم، فضـلاً عن الحديث باستمرار عمّا يسمونه الإسلام السياسي وغيره.
أما على المستوى الشخصي، فأنا لا أتذكر أن أحداً من زملائي وأصدقائي من العرب قد قال لي يوماً إن أعمالي البحثية ذات صبغة نيوكولونيالية. فأنا كثيراً ما عملت في دمشق مع زملاء عرب، من بينهم صديقتي الراحلة خيرية قاسمية. طبعاً كانوا أحياناً يوجهون بعض الانتقادات للدارسين الأوروبيين، وبخاصة من كان منهم يتردد على معاهد أجنبية. ولكن هذا النوع من الانتقادات لا يقتصر على المستشرقين الأوروبيين فقط، بل وُجِّه إلى بعض الدارسين الذين ما زالوا يتأثرون بالثقافة الغربية وإن كانوا غير واعين بذلك. أختتم إجابتي عن هذا السؤال بالإشارة إلى وضعنا كباحثين ودارسين سواء أوروبيين أو عرب، فنحن نعاني أزمة ثقافية، اليوم من الصعب جداً أن تجد شخصيات مثل بيير باولو بازوليني (Pier Paolo Pasolini) ومحمد كرد علي. فنحن نعاني انتشار المعرفة السطحية التي تروَّج عبر وسائل الإعلام الجديدة. ربما يكون هذا هو المنعطف السلبي الجديد الذي علينا أن نأخذ حذرنا منه.
■ كيف يمكن أن نتفهم أسباب الفجوة وربما الاختلاف المستمر بين العرب والغرب؟ هل يمكن لدراساتكم أن تسهم في التقريب الثقافي والحضاري والالتقاء على القيم الإنسانية وبما يبعد شبح الماضي الاستعماري؟ وهنا كيف تتصورون دوركم كباحثين في الشؤون العربية والإسلامية في التأثير في السياسات الأوروبية والغربية عموماً نحو العرب وقضاياهم كالقضية الفلسطينية والحق في التنمية والاستقلال؟
– لقد تفاقمت الفجوة بين الغرب وأوروبا والوطن العربي في السنين العشر الأخيرة. إنها حقيقة واقعة، لكن علينا أن ننتبه أيضاً إلى الفجوة بين الدول الأوروبية الغنية (مثل ألمانيا) والدول الأورومتوسطية بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية التي تم اختلاق جزء كبير منها. لقد رأينا المعاناة التي حلّت بشعب اليونان والأزمة الاقتصادية والاجتماعية بجنوب إيطاليا الذي تهاجر منه أعداد كبيرة من الشباب ومن الخريجين قاصدين الشمال، حيث الدول الأوروبية الغنية، باحثين عن مستقبل أكثر استقراراً وآدمية. ومنذ 2011، العام الذي اندلعت فيه الثورات المسماة «الربيع العربي»، تفاقمت الأزمة الاجتماعية والاقتصادية وضربت في تونس ومصر وليبيا وسورية والعراق، بل في جميع أنحاء الوطن العربي. وأكثر من يعاني هذه الأزمات هو الطبقات الأضعف في الشعوب، وبخاصة النساء والشباب. وفي ظل كل هذه الظروف يبدو للحكومات الغربية وللسياسيين وللنشطاء العاملين في منظمات حقوق الإنسان أن الأزمة تدور فقط حول قضية المهاجرين واللاجئين، في الوقت الذي لا يعير أحد انتباهاً إلى الأزمة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي حلّت بالشعوب العربية. ما هذا إلا قِصر نظر سياسي. ولسوف تدفع الشعوب الأوروبية ثمناً باهظاً للكارثة التي أحلت بالوطن العربي، وبخاصة شعوب الدول الأورومتوسطية. اليوم يدفع العرب ثمناً باهظاً لهذه الأزمة، وبخاصة بعد تزايد خطر الإرهاب والعنف وأثر نشاط الجماعات التكفيرية. انظر مثـلاً إلى ما حدث في ليبيا، لأول مرة في تاريخها بعد الاستقلال يهاجر منها الكثيرون بشكل شرعي وغير شرعي. فالليبيون المقيمون داخل ليبيا أو خارجها يقومون بالهجرة إلى البلدان العربية المجاورة أو إلى إيطاليا وأوروبا.
إذاً ما هو دورنا كباحثين وكرجال فكر؟ أعتقد أن الجزء الأكبر في حل هذه المشكلة يقع على عاتق التحليل والدراسة العميقة وعلى التبادل المعرفي بين الطرفين؛ فعلينا التركيز على المعارف ذات المرجعية والجذور الثقافية المشتركة بين أوروبا والوطن العربي والإسلامي. علينا أيضاً الاهتمام بتناقل وببث الأفكار عبر المسار التاريخي الطويل؛ فلا معنى للتركيز المجرَّد والبلاغي على مفهوم انتمائنا لحوض المتوسط. في هذا الإطار تأتي ضرورة العودة الواعية إلى تاريخنا المشترك وإلى الذاكرة الجماعية. هذا هو الدعم الحقيقي الذي يمكننا تقديمه لصالح قضايا الأمة العربية، كما أنه رد فعل حقيقي لمؤازرة الشعب الفلسطيني المقاوم.
■ في أعمالك اهتمام واضح بالعرب والعروبة والقومية العربية… لماذا؟ ولماذا أيضاً تهتم بمراحل معينة من التاريخ العربي؟
– أشرت في حديثي إلى الأسباب التي دفعتني إلى الاهتمام بالوطن العربي والإسلامي. أما عن اهتمامي بقضايا القومية العربية والحداثة فقد سمحت لي هذه الموضوعات بالدراسة المتعمقة لصور وأنماط التغيرات المركبة التي تحدث أثناء مراحل تفكك المجتمعات وإعادة بنائها، وذلك من خلال دراسة الجذور التاريخية والثقافية. ويعَدّ هذا من أهم الموضوعات التي تساعدنا على فهم تاريخ هذه المنطقة وكذا التاريخ الحديث لأوروبا وإيطاليا اللتين واجهتا إشكالات في عملية تكوّن مفهوم الأمة، وهو أمر ما زال قائماً حتى اليوم.
■ منذ عام 2010 دخلت المنطقة في ما صار يعرف بالربيع العربي الذي نجم عنه الكثير من التدمير للمقدرات وللدولة الوطنية وحروب أهلية وغير أهلية كما في اليمن وسورية وليبيا إضافة إلى كثافة التدخل الأجنبي… ما هي في تقديركم الصلة بين الربيع العربي وارتداداته، وبين التاريخ العربي بما فيه التجربة الاستعمارية الأوروبية والاحتلال الصهيوني لفلسطين؟ هل نحن أمام سايكس – بيكو جديدة أم أنها خارطة التفتيت المبنية على التصور الفسيفسائي كما قدمه برنارد لويس مثـلاً؟
– لقد قضيت الشهور الأولى عقب قيام الثورات المسماة «الربيع العربي» في انتظار أن أفهم ماذا كان يحدث في ميادين البلدان العربية. لم يدهشني على الإطلاق اندلاع ثورة الياسمين التونسية في عام 2010. لقد اتخذت تلك الثورة طابعاً اجتماعياً جلياً منذ البداية. كما أن قطاع العمل في تونس يتميز بتاريخ نقابي ذي كفاح اجتماعي طويل. عندما أعلن مبارك تنحيه عن حكم مصر، كنت في دمشق أقوم بالبحث في مركز الوثائق التاريخي. وهناك كنت أتابع تظاهرات أيام الجمعة في صنعاء، وانفجار الأزمة الليبية في شباط/فبراير 2011 ببنغازي. كلما كنت أشاهد مع أصدقائي العرب ما تبثه شاشات المحطة القطرية «الجزيرة»، كان يزيد عدم فهمي لحقيقة ما يحدث في القاهرة واليمن وفي ليبيا. لكن ثمة أشياء كنت واثقاً منها. أولاً أنه على خلاف ما كان يُردد في أوروبا، لم تتسبب أحداث تونس في إثارة ما حدث في باقي المنطقة. ثانياً أن كل تلك المليونيات التي كانت «الجزيرة» تبثها للعرب وللغرب من ميدان التحرير ومن صنعاء ومن بنغازي لم تكن ثورات. فمع مرور الأيام اتضح لي أن من كانوا يقودون تلك الحركات في الميادين هم سياسيون معروفون إلى حد ما، وكانوا مقرَّبين بشكل أو بآخر للأنظمة القديمة، حتى المعارضين في الخارج. اتضح لي أن ما حدث كان يفتقر إلى مشروع تغيير حقيقي على الصعيدين السياسي والاجتماعي. كلما كان الشباب في القاهرة وفي البلدان الأخرى يزدادون إيماناً بإمكان تغيير حقيقي، كان يزيد تهميشهم.
لقد كان واضحاً أن تلك الحركات لم تقم لتأتي بنظام جديد في الوطن العربي، لم ترد تغييراً هدفه توحيد الصفوف لمواجهة التدخل الغربي والإسرائيلي أو من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. ففي البداية هتفت الشعوب بشعارات من أجل الحرية، ثم أصبحت الشعارات تنادي «بالحق في الحياة»، وبين هذه الشعارات وتلك كان هناك حضور قوي وملحوظ للأمريكان وللأوروبيين: وبخاصة الإنكليز والفرنسيين، من بينهم أيضاً يهود وصهاينة معروفون. كما لاحظنا صعود الحركات المسماة الحركات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين والجماعات التكفيرية المختلفة. لقد كانت بعض الحكومات الغربية وراء نجاح هذه الحركات حتى في الانتخابات، هذا غير الدعم التركي والقطري بل والإسرائيلي لها. وإذا أمعنّا النظر في آليات وصور هذه الأحداث، لاستطعنا فهم حقيقة ما حدث في سورية بشكل أفضل، حيث اتخذ الصدام شكـلاً دولياً وطابعاً مسلحاً، بهدف التفكيك الدولي والجغرافي للمنطقة العربية والإسلامية.
أذكر أني اطّلعت على الخرائط التي أعدّها المستشرق الأمريكي المعروف بأصله اليهودي وبصهيونيته برنارد لويس، بخصوص الشرق الأوسط الجديد. لن أدخل في تفاصيل كتابه، فهو لا يستحق أن أتطرق إليه، ولكني أعتقد أن هؤلاء الذين عملوا على قيام ما يسمى «الربيع العربي» سواء من داخل الوطن العربي أو من خارجه، لم تخطر بأذهانهم فكرة إعادة طرح «سايكس بيكو» التي يرجع تاريخها إلى عام 1916. فالموقف الذي يشهده الوطن العربي والإسلامي في القرن الحادي والعشرين مختلف كل الاختلاف عن ذلك الذي كانت تخطط له القوى الاستعمارية الأوروبية، عقب الحرب العالمية الأولى. فلا يمكننا بأي صورة من الصور الربط بين الظهور القوي للجانب التركي على الساحة وتحالف دول الخليج العربي وبين الحكم العثماني في أواخر مراحله، ولا بالثورة العربية التي قام بها الحسين بمكة، ولا باتفاقيات مكماهون. وإن كان هناك وجه تشابه، فهو يكمن فقط في بعض المظاهر الفولكلورية لهذه الوقائع. كما أن فكرة «الفوضى الخلاقة» ما هي إلا شيء في منتهى الخطورة. إنها تأتي بالدمار والتحطيم المادي والمعنوي، فهي تدمر الوعي الفردي والجماعي للإنسان العربي وللأمة العربية. ونحن الآن نرى النتيجة بعد مرور سبع سنين على تلك الأحداث؛ فالوطن العربي بأجمعه، وليس ليبيا فقط، بات غنيمة حرب. ولكن ثمة شيء جديد يتحرك، وهذا واضح في انتصارات سورية ودولتها على الجهاديين والتكفيريين، وواضح أيضاً في التحالفات الجديدة والمثيرة للانتباه بين قوى المنطقة، وإن كانت تحالفات يشوبها شيء من التناقض والغموض، لكنها كانت وراء انتشار حركات جديدة للمقاومة في فلسطين واليمن.
■ حظيت سورية في دراساتك بقدر كبير من الاهتمام.. هل يمكنكم الإضاءة على خلفية هذا الاهتمام وكيف تنظرون إلى ما حدث في هذا البلد منذ عام 2011؟ هل لديكم إطار تفسيري لما حدث وكيف تنظرون إلى التعامل الأوروبي مع الأزمة السورية؟ وهل يمكن أن يتجاوز اهتمام أوروبا ونظرتها إلى الأزمة السورية اعتبارها مشكلة مهاجرين؟ هل ستكون سورية هي مقياس الاختبار الحقيقي لعلاقة أوروبا بالعرب ومستقبل هذه العلاقة؟ كيف ستؤثر الأزمة السورية في ذلك وفي الوضع الإقليمي في ما يسمى الشرق الأوسط؟
– نعم، هذا صحيح. تُعَد المنطقة المعروفة باسم بلدان الشام ذات أهمية كبيرة للدراسات التاريخية، فهي ليست مهمة فقط بالنسبة إلى التاريخ العربي والإسلامي، بل إلى تاريخ الإنسانية. ففي سورية كان أول لقاء إنساني وثقافي وديني بين الإسلام في بداياته والمسيحية الشرقية، وذلك من خلال لقاءات النبي محمد مع الراهب بحيري. كما أن سورية تعدّ معبراً لانتقال التجارة والأفراد والأفكار والمعارف بين الشرق والغرب الأورومتوسطي؛ فالجذور المشتركة للشعوب تنبع من سورية، متمثلة بالفينيقيين واليونانيين والرومانيين والبيزنطيين والمسلمين؛ فهناك نجد أصول حضارتين عظيمتين: الحضارة المسيحية الأوروبية والحضارة العربية الإسلامية؛ فكلاهما نمتا وتطورتا في قلب حوض المتوسط عقب ظهور الإسلام في القرن السابع، حينها بدأت تظهر حركة الاقتباس الحضاري. وبالطبع كان لهذا أثره في التكوين الاجتماعي والثقافي للشعب السوري قبل الفتح الإسلامي وبعده؛ فيتميز المجتمع في بلاد الشام بتركيبة غنية تقوم على مبدأ التعايش، على الرغم من الظروف الصعبة التي مرت بها هذه المنطقة عبر التاريخ. وهذا هو أكثر ما أثار شغفي واهتمامي بسورية وبتاريخها وثقافتها. يكفينا ذكراً الدور السلمي الذي قام به الأمير الجزائري عبد القادر وأتباعه من المغاربة في عام 1860، ومن بعده موقف عبد الرحمن الكواكبي في حلب أثناء الصدام بين الأكراد والشعب الأرميني.
إن الأزمة التي حلت بهذه المنطقة عام 2011 وما حدث بعدها من تطورات مأسوية للموقف، وبخاصة عقب الظهور الغاشم للجهاديين وللدواعش وللجماعات التكفيرية، من شأنها تدمير نسيج التعايش الذي تكوّن عبر القرون المختلفة. لقد حاولت تلك الجماعات تدمير المجتمع السوري ومحو ثقافته. صحيح أنهم لم يتمكنوا من تحقيق أغراضهم، ولكنهم تركوا وراءهم جروحاً جسيمة، ليس في سورية فقط بل في المنطقة كلها. ولكي يتسنى لأوروبا الإسهام في حل هذه الأزمة عليها أولاً إدراك الواقع التاريخي والاجتماعي للعلاقات بين سورية والدول الأورومتوسطية. فلننظر مثـلاً إلى الحضور النشط للجالية الفينيسية في حي الطليان بدمشق. على أوروبا التخلي عن الأحلام الشبيهة بتلك التي كان يحلم بها الجنرال النيوصليبي غورو (Gouraud) كي تستطيع استعادة العلاقات التاريخية التي كان أساسها معرفة الآخر والاحترام المتبادل.
■ استعمرت إيطاليا ليبيا لمدة جازت ثلاثين عاماً وخرجت منها نتيجة خسارتها الحرب العالمية الثانية، ثم تم تصفية معظم بقايا الاحتلال الإيطالي غير المباشر وبخاصة سيطرة المستوطنين من بقايا الاستعمار على اقتصاد ليبيا بعد التغيير السياسي في ليبيا عام 1969… اليوم ليبيا تعاني ويلات الصراع والتدخل الخارجي السافر، وفي هذه الأجواء والسياقات تبرز إيطاليا كأحد أهم القوى الإقليمية المؤثرة والمتدخلة تماماً في الشأن الليبي إلى درجة أن حكومتها تعترض على إجراء انتخابات في ليبيا، وهناك تقارير تتحدث عن ارتباط إيطاليا بميليشيات مسلحة وعصابات تهريب المهاجرين… ما هو في تقديركم التفسير المناسب للموقف والتدخل الإيطالي؟ هل هناك مشروع أوروبي/إيطالي لفرض سلطة تخدم مصالحها في ليبيا وتؤمّن إمدادات الطاقة، وتمنع الهجرة إلى أوروبا حتى من طريق توطين المهاجرين في ليبيا؟ هل ترى هذه السياسة إذا تحققت مناسبة للعلاقات التي تطمح إليها بين العرب والغرب؟ ماذا يمكن لدراساتك التاريخية والاجتماعية أن تفيدنا هنا؟
– إن إيطاليا بلد غريب، بالتأكيد هي بلد جميل، ولكنك إذا سألت الأشخاص عن ليون كايتاني (Leon Caetani) (1869 ‑ 1935) أمير المستشرقين الإيطاليين، ومؤرخ ومتخصص في الدراسات الإسلامية وصاحب المؤلَّف الشهير والضخم في تاريخ الإسلام، حوليات الإسلام، لن تجد أحداً يعرفه. لا أحد يعرف أن كايتاني الذي كان عضواً ليبرالياً في البرلمان أيام المملكة الإيطالية، قد قام بالاعتراض على العدوان الإيطالي على الولاية الليبية التابعة للإمبراطورية العثمانية في عام 1911. ولقد أعرب عن موقفه هذا في خطاب عظيم وشهير له في البرلمان. لا تشير الكتب المدرسية إلى هذا الحدث ولا أحد يخصه بالذكر. الأمر نفسه حدث مع المستشرق والمؤرخ الإيطالي إتوري روسي (Ettore Rossi) المتوفى عام 1955، صاحب كتاب تاريخ طرابلس الصادر في روما عام 1968. أقلّاء يعرفون أنه كان رئيس تحرير لمجلة أورينتي موديرنو الشهيرة عام 1922، وأن الفضل يرجع له في التعريف بعمل جورج أنطونيوس يقظة العرب بإيطاليا. وما زال مؤلفه مرجعاً تاريخياً له اعتباره حتى اليوم، لدقته التاريخية واللغوية؛ حتى إن الليبي خليفة محمد التليسي، المتخصص بالدراسات الإيطالية، ترجمه إلى العربية.
لقد بدأت التردد على ليبيا في منتصف الثمانينيات عندما كنت باحثاً شاباً. وهناك درست التاريخ الليبي الحديث والمعاصر وعكفت على دراسة أعمال أحمد النائب الأنصاري، كما درست الوجود الليبي في بلاد الشام. وأثناء إقامتي بطرابلس وبنغازي استطعت التعرف إلى العديد من سفراء إيطاليا بليبيا. حينئذ تكونت عندي فكرة، وهي أن سياسة إيطاليا تجاه مستعمرتها العربية الإسلامية السابقة هي سياسة تقوم على المصالح الاقتصادية وبخاصة تلك المتعلقة بشركة «إني» (Eni). كما لاحظت أن النشاط الثقافي لإيطاليا في بنغازي وطرابلس ليس ذا قيمة كبيرة؛ فالأنشطة التي كان ينظمها المعهد الثقافي الإيطالي في تلكما المدينتين خلال السنين الأربعين الأخيرة، كانت قليـلاً ما تتعرض لتاريخ وثقافة ليبيا وللخصائص العربية لشعبها. حتى تعلُّم اللغة الإيطالية قد أصبح مقتصراً على نخبة معينة، والدليل على ذلك هو أن اليوم لا يوجد معهد مهم للدراسات الإيطالية كما كانت الحال في الماضي. وقد يكون السبب في هذا ما يزعمه البعض عن الزعيم الليبي معمر القذافي، يُقال إنه كان لا يسمح للموظفين ولمنتدبي وزارة خارجية إيطاليا بليبيا بتنظيم الكثير من الأنشطة، وذلك لاتباعه سياسة مضادة لأشكال الاستعمار. قد يكون هذا صحيحاً. من ناحية أخرى كانت هناك تجربة لفتح قسم للدراسات الإيطالية بجامعة بنغازي، ولقد شاركت بالعمل فيه مع زملاء آخرين من جامعة باليرمو. قمنا أيضاً بتأسيس معهد إيطالي ليبي للدراسات تابع للجامعة في مدينة باليرمو، وكنت عضواً في لجنته العلمية. كلتا التجربتين باءتا بنهاية مؤسفة، ليس فقط بسبب ما حدث في شباط/فبراير 2011. فأهم ما يشغل الجانب الإيطالي اليوم قضيتان: نشاط شركة «Eni» من ناحية، وقضية المهاجرين من ناحية أخرى، حتى منذ ما قبل عام 2011. وعلينا ألّا ننسى انشغال إيطاليا الحالي بالمخطط الفرنسي الذي يهدف إلى استبعادها من ليبيا، في ضوء الرؤية الأوروبية التي تنظر إلى ليبيا كغنيمة حرب، وبخاصة بعد وقائع 2011. وأعتقد أن هذا هو الدافع وراء التصريحات الأخيرة التي أصدرها السفير الإيطالي في ليبيا والذي لا أتفق مع ما صدر عنه. فالدفاع عن مصالح البلدين في ليبيا لا يمكن أن يتم بهذه الطريقة. فإذا أرادت إيطاليا الحفاظ على وجود فعّال في الأراضي الليبية، فيجدر بها أن تطرح مشروعاً ثقافياً مشتركاً يشمل المجتمع المدني وقطاع الجامعات وأهل الثقافة بلا تمييز أو تفرقة، ليكون مشروعاً يعالج التراث الذي هو أساس للعلاقات التاريخية بين إيطاليا وليبيا. في رأيي هذا هو السبيل الوحيد كي تستعيد إيطاليا سياستها الخارجية الفعّالة في منطقة المتوسط، وفي ظل المشكلات الخطيرة التي تعانيها المنطقة.
■ ما هي في تقديرك القضايا الأكثر أهمية التي ينبغي التركيز عليها في الدراسات الاجتماعية والسياسية بما يخدم هدف بناء حوار وعلاقات عربية غربية وإيطالية متوازنة؟ وما المطلوب من المختصين في هذه المجالات من الطرفين، وهل تتوقع تطورات إيجابية نحو علاقات عادلة وحوار حضاري متوازن؟
– أستطيع الإجابة عن هذا السؤال من واقع تخصصي في الدراسات العربية والإسلامية. فكما أشرت من قبل، إن للباحثين دوراً بالغ الأهمية في إعادة بناء نسيج التواصل والتعاون العلمي والثقافي والتعليمي بين المؤسسات الجامعية. لقد تأثر هذا القطاع كثيراً منذ عام 2011 بسبب الوضع الحرج والمأسوي الذي يعيشه الوطن العربي والإسلامي، وبسبب التدخل النيوكولونيالي من قبل دول الناتو في شمال أفريقيا وفي الشرق الأدنى والمتوسط. ومع الأسف، اليوم أصبح المستفيدون من الحروب وتجار الأسلحة أكثر قوة ونشاطاً. كما أن الموارد الاقتصادية والمالية في الغرب باتت تُوظف ضد حق شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية في السيادة والاستقرار. كما أنها لم تعد تُستخدم لصالح الطبقات العاملة في أوروبا. رغم هذا نجد أن حروب اليوم تقوم باسم حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية في العالم، الأمر الذي يتم إما برضاء أو بصمت الأحزاب شبه اليسارية. على الدارسين في أوروبا وإيطاليا والوطن العربي إدراك أنهم أمام تحدٍّ حقيقي يكمن في إنقاذ الحق في ممارسة الفكر ونشر الثقافة واستعادة أوجه التفاهم والتعايش المتبادل. كما أن عليهم واجباً أو بمعنى أصح إلزاماً أخلاقياً يتمثل بتدشين عملية جديدة لنقل الأفكار والمعارف وخلق طرائق بديلة في أوروبا والوطن العربي لاستقبال الآخر وعلومه والتعرف إليها. وهذا الأمر يأتي على رأس خلق علاقات تعاون جديدة ومثمرة بين الشعوب، وبخاصة في ما يتعلق بالأجيال الشابة الجديدة. فلقد انتشر الجهل وانتُقِص العلم، الأمر الذي تساعد على تفشّيه وسائل الإعلام والاتصالات الجديدة. أعتقد أن قطاع الجامعات يجب أن يؤدي دوراً مهماً في هذا الصدد وفي نشر العلوم والمعرفة.
■ كيف تتصور مستقبل العلاقات بين العرب والغرب؟ وهل يمكن في تقديركم تخطي عبء الماضي والانتقال إلى مستقبل أفضل؟ وهل يمكن لأوروبا بالذات أن تقوم بدور مستقل وأكثر تفهماً لحقوق العرب والفلسطينيين؟ ما دور المختصين والمثقفين في أوروبا، وما الدور الذي تقوم به جمعيتكم العلمية؟ وهل لكم تأثير، وهل هناك صدى لأفكاركم في دوائر صنع القرار في إيطاليا وأوروبا؟
– رغم كل ما يجري، فأنا على ثقة بالمستقبل، وهذا الشعور يزداد عندي عندما أكون في القاعة ألقي محاضرات في تاريخ البلدان العربية والدراسات الإسلامية. يأتيني الأمل من خلال حضور العديد من الطلاب الواعين الذين يتابعون محاضراتي باهتمام. إنهم طلاب كثيرون، ففي السنوات الأخيرة وصل عدد الدارسين في مجال اللغة والأدب العربي والتاريخ الإسلامي إلى أكثر من مئة طالب في جامعة باليرمو، من بينهم طلاب عرب. كما أنهم يدرسون اللغة الفارسية والتركية. ولقد لاحظت أن الكثير منهم شغوف بما يدرس ويود أن يتعرف بعمق إلى هذه المواد؛ فلديهم رغبة في التعرف إلى الوطن العربي والإسلامي وإلى تاريخه وحضارته، بل يتمنون أيضاً قضاء وقت في البلدان العربية للدراسة. ولكن ما يعيشه الوطن العربي اليوم من موقف صعب لا يساعدهم على تحقيق ذلك. وبالطبع إن أسرهم لا تشجعهم على السفر للدراسة هناك. ونحن نحاول تعويض ذلك باللقاءات العلمية المكثفة. ففي العام الماضي نظمنا مجموعة من الندوات واللقاءات عن «المقاومة» وذلك في ذكرى مرور مئة عام على وعد بلفور. اشترك في هذه المبادرة الكثير من الزملاء من مختلف الحقول العلمية في قسم العلوم الإنسانية بجامعة باليرمو. تمت اللقاءات بحضور أكثر من ثلاثمئة طالب من دارسي اللغة العربية والدراسات الإسلامية إضافة إلى طلاب من تخصصات أخرى. وكانت القضايا العربية والفلسطينية على رأس اهتمامات الطلاب الذين كتبوا موضوعات عنها بعد الاطلاع على المصادر والكتب المهمة المتوافرة لدينا في مكتبة القسم الغنية بمصادر قيّمة في مختلف تخصصات اللغة والدراسات الإسلامية. لقد حرص الطلاب على التعرف وعلى فهم الموضوعات التي استمعوا إليها أثناء الندوات واللقاءات. لكل هذا أهميته وأثره في الوضع، سواء في مدينة باليرمو أو في إيطاليا بوجه عام. فعلينا أن نضع الشباب نصب أعيننا، سواء في إيطاليا أو أوروبا وكذا شباب الوطن العربي والإسلامي.
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقابلة في مجلة المستقبل العربي العدد 478 في كانون الأول/ديسمبر 2018.
(**) يوسف الصواني: مدير الدراسات في مركز دراسات الوحدة العربية.
يوسف محمد الصواني
أستاذ السياسة والعلاقات الدولية، جامعة طرابلس- ليبيا. ومدير قسم الدراسات سابقاً في مركز دراسات الوحدة العربية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.