■ نبدأ بمدخل حول الإمبريالية، ما هي أبرز سماتها في عصر العولمة اليوم؟
□ ساهمت العولمة كثيراً في التحكّم في مجرى التحولات التي حصلت للإمبريالية. ربما العامل الأهم هو انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي وبروز الأحادية على المستوى الدولي بأبشع صورها، حيث بات لاعب أساسي يتحكم في العالم على نحو شبه مطلق، على الأقل حتى إشعار آخر. فالعولمة عادت لتدعم السيطرة الأحادية بعدما انتقلت معظم الدول في أوروبا إلى النيوليبرالية، وتراجع دور الدولة نسبياً وتعممت حرية المبادلات التجارية ونشأت مؤسسات ومنظمات دولية كثيرة لتأمين انتظام العلاقات الاقتصادية الدولية على وقع التحوّلات الجارية. وأصبح المركز الرأسمالي هو الذي يقرّر، وما على الدول إلا أن تخضع للشروط والمعايير والمواصفات في مجال الاستثمار وتدفقات حركة رؤوس الأموال وضبطها من خلال قواعد إحصائية تشمل كل أنواع الحسابات لجميع أنواع المقيمين في جميع دول العالم. وهذا ما جعل الارتباط قائماً بين النظام المصرفي في كل من الدول التابعة والنظام المصرفي الأم (عبر المصارف المراسلة)، وشجّع الإمبريالية في إثر انتهاء الحرب الباردة على أن تأخذ طابعاً أكثر عدوانية عبر توسيع انتشار القواعد العسكرية والتركيز على تجارة الأسلحة على نحو مفروض من دول المركز الرأسمالي على الدول التابعة. وأكبر مثال هو ما جرى ويجري مع دول الخليج، حيث تنهب دول المركز ثرواتها النفطية عن طريق إجبارها على التسلح بأسلحة متطورة جدّاً لا يمكن للطرف التابع أن يديرها من دون الاستعانة بخبرات مكلفة لتشغيلها، وهذا ما يندرج ضمن عملية إعادة تدوير الفائض النفطي. إن أحادية القرار والعدوانية وعسكرة العلاقات الدولية هي من أهم السمات التي ترتديها الإمبريالية في عصرنا الراهن: انتشار مواقع المواجهات والحروب بالنيابة والحروب المحلية، وتزايد دور الولايات المتحدة، وخصوصاً في السنوات العشرين الماضية، في توسيع رقعة الحروب في العراق وأفغانستان وعبر إسرائيل وعلى نحوٍ مستتر في أمريكا اللاتينية مثلما كان سيحدث مع فنزويلا.
■ ما هي في رأيك أبرز الآليات والعقوبات والحروب الاقتصادية التي تمارسها الولايات المتحدة ضد الدول والأطراف المنافسة لها اقتصادياً أو الممانعة لها سياسياً؟
□ عطفاً على جوابي عن السؤال الأول، في رأيي أن الولايات المتحدة تحرّرت في ممارسة سياساتها الخارجية من قيود منظمات الأمم المتحدة، ومن الخضوع للتوازنات التي كانت سائدة خلال حقبة الحرب الباردة. وباتت تتجه نحو اعتماد إجراءات اقتصادية أحادية ضد أي بلد (إيران، الصين، روسيا، كوبا، فنزويلا، سورية، وبصورة من الصور لبنان)، في صيغة عقوبات وقيود استنسابية وانتقائية على الصادرات والمستوردات وحركة رؤوس الأموال والأفراد والشركات، وكذلك على الأفراد المقيمين في بلدان المركز الذين لهم صلات ببلدانهم الأم. هذه السمة الجديدة لم تكن موجودة قبل انتهاء الحرب الباردة، حيث لم يكن المجال متاحاً للدول أن تمعن في سياسة العقوبات من جانب أحادي تجاه دولة أو مجموعة دول أو أفراد أو جماعات، وأن تنظم هذه العقوبات في إطار تشرك فيه عدة بلدان تلتقي مع الإدارة الفارضة للعقوبات وتلتزم بتنفيذ واحترام هذا القرار. فتهميش دور الأمم المتحدة سمح للولايات المتحدة أن تستنبط الكثير من الآليات في ممارسة سياسة إخضاع البلدان، سواء عبر المعونات أو تقييد حركة المبادلات والاستثمارات وانتقال رؤوس الأموال والأشخاص. إلى جانب سياسة العقوبات أيضاً، حفّز الوضع الجديد الولايات المتحدة على التراجع على نحوٍ أرعن عن الكثير من المعاهدات والاتفاقات الدولية، بما فيها اتفاقات تحرير التجارة والمبادلات، كما هو حاصل اليوم مع ألمانيا والصين وبعض دول أمريكا اللاتينية، حيث تستعيد الولايات المتحدة راهناً نبش السياسات الحمائية التقليدية بعدما اعتمدت لمدة طويلة على الاستيراد. وبعد نحو نصف قرن من نقل المصانع الأمريكية إلى الخارج كي تعيد تصدير إنتاجها من السلع إلى الولايات المتحدة (مثال الصين في حالة الولايات المتحدة الأمريكية، والهند في حالة البرازيل)، تعززت مع إدارة ترامب السياسات الشعبوية المغذّية للشعور القومي العنصري تجاه الخارج، بما فيه المجال الاقتصادي. وقد تم بأساليب تمييزية إعطاء المنتجات الأمريكية الأولوية في الأسواق الداخلية (الأمريكية) في مواجهة الإغراق القادم من الصين أو الهند أو البرازيل أو روسيا. وهذا ما خفّض معدلات البطالة داخل الولايات المتحدة في السنتين الأخيرتين إلى مستويات غير مسبوقة منذ نصف قرن، مع وصولها إلى ما دون 4 بالمئة (مقابل أكثر من 10 بالمئة في أوروبا). وقد عزز ذلك القاعدة الشعبوية لترامب، ويرجّح أن يؤدي ذلك دوراً مهماً في تجديد ولايته. ولمّا كانت السياسة الأمريكية الحمائية تشمل أوروبا أيضاً بصورة مباشرة، فإن هذين التكتلين الاقتصاديين الضخمين مرشّحان لأن يشهدا تباينات وتناقضات في كثير من المجالات، وهو ما قد يعزز إعادة تموضع كتل أخرى تسعى إلى التفلّت من هيمنة النظام الأحادي، بما فيها مجموعة دول البريكس. وسوف يشمل التنافس بين هذه الكتل مجال التكنولوجيا المتقدمة جداً (كالروبوتية والذكاء الاصطناعي)، إلى حدّ لا يُعرف فيه لمن ستكتب السيطرة. وقد أبدى عدد من كبار الاقتصاديين الحاصلين على جوائز عالمية (نوبل) مخاوفهم من أن يتجه العالم خلال العقود القليلة المقبلة نحو عصر يمكن توصيفه بأنه نمو من دون عمل أو عاملين (Jobless Growth) في حين أن البنية الديمغرافية للبلدان التابعة (مثل البلدان العربية) وحتى في أوروبا نفسها، لا تزال تدفع سنوياً الملايين إلى سوق العمل في عمر الـ 18 – 20 سنة. وحين يتدفق هؤلاء إلى سوق العمل سوف يجدون أن التطور غير المسبوق للتكنولوجيا قد حلّ مكان اليد العاملة على معظم الصعد، وهذا ما سيطرح الكثير من التعقيدات في بنية الإمبريالية وقاعدتها الاقتصادية، ولا يمكن الترقب مسبقاً حول أية وجهة ستأخذها هذه التحولات. فثمّة فارق كبير بين أن تؤدّي إدارة التطور التكنولوجي إلى نشر التقدّم والرفاه الاجتماعي لعموم الناس أو أن تتحكم فيه مصالح رأس المال الكبير لغرض تعظيم الربح.
■ ما هي الآلية التي تعتمدها الإدارة الأمريكية لأجل فرض العقوبات الاقتصادية على الدول الممانعة لسياستها؟
□ هناك الكثير من الآليات، مثل تجميد الأصول والموجودات المصرفية والبنكية واحتياطي مخزون الذهب، ومنع صادرات السلع الحساسة إلى البلدان الخاضعة للعقوبات، وتقييد استيراد السلع من هذه البلدان، وصولاً إلى إغلاق مؤسسات يشتبه أنها على صلة اقتصادية بجهات ما لها مصالح تابعة للدول موضع العقوبات. كما يمكنها تقييد حركة البشر، وصولاً إلى شمول كل من له رأي سياسي مخالف. وضمن هذا المنطق يتحول المجال الاقتصادي إلى فضاء في وسع الولايات المتحدة (والدول المتعاونة معها) استخدامه لشهر سلاح الإخضاع. لكن يلاحظ أن سياسات العقوبات المفروضة قسراً ليست قدراً وهي ربما لا تحقق أغراضها. مثـلاً كوبا، التي فرض نوع من الحظر التاريخي عليها بهدف دفعها إلى الانهيار، تمكّنت من استيعاب الأزمة، وهذا ما ينطبق على إيران أيضاً، التي تواجه منذ أكثر من أربعة عقود كل صنواف العقوبات والمقاطعة، وكذلك فنزويلا حيث رفع الرئيس الفنزويلي (بالرغم من كل الصعوبات المرتبط بالمقاطعة) شعار المواجهة بـ «اللحم الحي» للتعبئة والحشد ووزّع السلاح استعداداً للمقاومة المسلحة. كذلك الأمر في سورية، إذ إن المؤشرات كافة كانت تتوقع سقوط النظام في غضون أشهر، ولكنه ما لبث أن أثبت سيطرته على الميدان. أما مع الصين، فلا تستطيع الولايات المتحدة استخدام الأسلوب نفسه، إذ في وسع الصين أيضاً إلحاق الضرر بالولايات المتحدة، وهي تمتلك أرصدة مالية ضخمة على هيئة سندات خزينة وأصول مالية بعشرات مليارات الدولارات داخل الولايات المتحدة نفسها، وتصدّر للولايات المتحدة ما بين 600 و700 مليار دولار في السنة ولا تستورد منها إلا نحو 100 مليار دولار. فقد كبر حجم الصين اقتصادياً إلى درجة باتت قادرة ليس على الصمود فقط في وجه الضغوط الاقتصادية المدمرة بل هي قادرة أيضاً على المبادرة بالمثل، حيث إن استيرادها أقل بـ 5 أو 6 مرات من صادراتها. كما تتمتع الصين بالتكنولوجيا والعنصر الديمغرافي وتعمل الآن على الانتشار الجيوسياسي من خلال مشروع الحزام والطريق، وهي أكثر دولة فاعلة في تكتل البريكس.
■ ما الذي يميز الولايات المتحدة، كم حجم القوة التي تمتلكها لتمارس هذه الممارسات السلطوية الطائشة على مجموعة من الدول بنفس الوقت؟
□ هي القوة الاقتصادية الأولى في العالم حتى أشعار آخر، ودولارها هو عملة الاحتياطي الأساسية في البنوك المركزية كافة، وهي أيضاً القوّة السياسية والعسكرية التي تقوم بأساسها على التفوق التكنولوجي وعلى تطويع هذا التفوّق في خدمة أهدافها الجيوسياسية. كما أنها تمتلك أقوى جيش في العالم (ليس من حيث العدد ولكن من حيث التجهيز والإنفاق العسكري) وتنتشر قواعدها في أنحاء العالم كافة، ولها علاقات واتفاقات مع الدول في جميع القارات، سواء كانت معلنة أم سرية، وهي تتدخل من خلال هذه الاتفاقيات في الشؤون الداخلية للدول وتقوم بتأليف الحكومات وتغييرها وتبديلها وفق ما تقتضيه مصلحتها، كما تقوم بخلق ونشر «رأي عام» عبر وسائل الإعلام التابعة لها، وهذه العناصر غير متوافرة لدى الصين وروسيا. كما هناك عوامل تاريخية ربما لها علاقة بفتوّة عمر الولايات المتحدة ونشأتها الحديثة التي لا تزيد على 250 سنة، والتي تزامنت مع بدء الثورات الصناعية والتكنولوجية.
■ إلى أي حد نجحت الولايات في تحقيق أهدافها؟
□ في رأيي أن النجاحات السياسية محدودة كثيراً قياساً على الأهداف التي أعلنت عن أنها تريد تحقيقها من خلال الضغط الاقتصادي، وهذا ما انعكس في معظم الساحات. روسيا تتميّز بامتلاكها قدرات عسكرية ضخمة، وقد خلقت وضعاً لا يمكن تجاوزه في أوكرانيا، واستعادت زمام المبادرة في سورية. وبالنسبة إلى الصين، فهي تواصل السير في مشروع الحزام والطريق قدماً وفي تحقيق معدلات نموّ مرتفعة وتحتفظ لنفسها بالقدرة على الرد «العين بالعين والسن بالسن» في مواجهة الإجراءات التي تقوم الولايات المتحدة بها لجهة تقييد المبادلات وزيادة العقوبات ورفع التعرفات الجمركية. والأهم من ذلك هو الخطاب السياسي للحزب الشيوعي الصيني الذي اعتاد أن يمارس المرونة و«التقية» بإعطاء الأولوية للاقتصاد دون محاولة سحبه في اتجاه التصعيد السياسي والجيوسياسي. ولكن مع تصاعد لهجة ترامب، أخذ صوت الصين يرتفع في اتجاه تأدية دور سياسي أكبر على المستوى الدولي، وهي التي تمتلك وزناً اقتصادياً وبشرياً هائـلاً (يتجاوز خمسة أضعاف وزن روسيا). وقد وصلت الصين الآن إلى نقطة تحول عنوانها الثقة بالنفس وبميزاتها وقدراتها والثبات في نموها الاقتصادي واتساع قاعدة الطبقة الوسطى فيها، وهذا ما يعكسه حديث الأمين العام للحزب الشيوعي في المؤتمر الأخير للحزب: «نحن في سنة 2035 ننهي المرحلة الانتقالية ونبدأ في بناء الاشتراكية»، مع تأكيده تشديده التمسّك باشتراكية على الطريقة الصينية.
■ لا شك أن الولايات المتحدة تعي وتدرك هذه المخاطر، وبالتالي لماذا تستمر بسياستها هذه؟
□ قد يكون وصول ترامب إلى سدّة الرئاسة يمثّل، بالمعنى المجازي، أفضل فرصة على المستوى الكوني في السنوات الأخيرة. فقد كشف ترامب على نحوٍ فجّ عورات النيوليبرالية والنزعات الإمبريالية، ولجأ إلى خطاب شعبوي متصرفاً كمدير شركة في علاقاته بالدول، وهو ما أدخل الولايات المتحدة في مأزق كبير. علاقاته بأوروبا (وقلب أوروبا ألمانيا) تدهورت، كما تردّت علاقته بشركائه في القارة الأمريكية الجنوبية والدول الأمريكية اللاتينية بدءاً من المكسيك، وأعتقد أيضاً، من خلال عدد من المؤشرات، أن مرحلة التراجع الأمريكي بدأت في الشرق الأوسط أيضاً. إننا نشهد تعزّز التحول من الأحادية إلى عالم متعدد الأقطاب، وكلما كبرت الصعوبات الأمريكية كان الانتقال أسرع نحو عالم متعدد الأقطاب. وتمثّل منطقة الشرق الأوسط الخاصرة الأضعف أمريكياً، وقد يقرّر مآل الصراع في هذه المنطقة سرعة الانتقال من الأحادية إلى القطبية المتعددة، من دون أن ننسى في هذا المضمار دور إسرائيل ونفوذها الذي بنته في المنطقة على مدى 70 عاماً بدعم من الولايات المتحدة. فمنطقتنا تتميز بموقعها الجغرافي والجيوسياسي وبكثافتها الديمغرافية (400 – 500 مليون نسمة) وبالمعابر والممار المائية والكثير من الثروات والموارد المختلفة (النفطية والبشرية… إلخ) في باطن الأرض وعلى وجه الأرض وفي البحار، مع توفّر موارد أخرى قيد الاكتشاف قد تغيّر خارطة التوازنات داخل المنطقة (مثل اكتشاف ثروات نفطية في الساحل السوري والأردني والمصري والفلسطيني واللبناني).
■ إلى متى سيظل الدولار مهيمناً على الاقتصاد العالمي؟
□ تعاظم دور الدولار يرجع إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحقبته الذهبية امتدت ما بين الخمسينيات ومطلع السبعينيات (1971) حين أعلن نيكسون وقف العمل بنظام النقد العالمي السابق (Gold Exchange Standard)، أي نظام التبادل المعياري الذي كان يسمح لكل من يملك دولاراً خارج الولايات المتحدة أن يطالبها بقيمته مقابل الذهب على أساس سعر محدد للأونصة. وهذا ما سمح للولايات المتحدة مذّاك أن تفرض عملتها كعملة احتياطي عالمية، من دون رقيب حول كيفية إصدار الولايات المتحدة لعملتها، هو ما سهّل لها شراء العالم بدولارات مطبوعة، مع العلم أنها من أكثر بلدان العالم استدانة لجهة نسبة دينها الخارجي إلى ناتجها المحلي. وهناك الكثير من النظريات حول كيف أن الولايات المتحدة تشتري العالم بأموال تطبعها منذ الستينيات والسبعينيات وخصوصاً بعد تحرير الدولار سنة 1971. هذه الآلية يقررها الاحتياطي الفدرالي (Federal Reserve) ولا يمكن أيَ دولة في العالم مراقبتها، وللأسف لا تزال العملات البديلة غير جاهزة، والأهم من ذلك أن بعض الإرهاصات والتحولات في النظام العالمي لم تأخذ مداها الفعلي؛ فقد بنيت آمال على اليورو منذ نحو 20 سنة، مع وجود تكتل بشري في القارة العجوز يصل إلى نحو 500 مليون نسمة بعد انضمام بلدان أوروبا الشرقية. ولكن هذه الآمال لم تتحقق، إذ لم يتحول اليورو إلى عملة احتياطي في البنوك المركزية والمبادلات النفطية والتجارية، مع أنه أوحى في مرحلة من المراحل أنه يتجه ليصبح عملة أساسية ندّية للدولار؛ فأوروبا بدأت منذ نحو عقد تعاني كل أنواع الصعوبات السياسية والاقتصادية مع انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واتجاه بلدان أوروبية أساسية نحو الانكماش، بل الانهيار الوشيك، وسط تعاظم المديونية والبطالة وتراجع معدلات النمو الاقتصادي، وهذا ما سمح للدولار بأن يبقى العملة الأساسية. وفي إطار مكمّل، يبرز أيضاً العامل المتمثل ببطء التقدم المحرز في مبادرة البريكس، إذ إن حجم المبادلات بين دولها الأعضاء (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) ليست بأهمية وحجم المبادلات التي تتم بين كل من أعضائها على حدة وبين الولايات المتحدة والغرب. ثم إن ثمّة تعرّجات وتطورات سياسية حادة في مجموعة البريكس؛ فالبرازيل انقلبت من اليسار إلى اليمين، وتقوم بين الهند والصين علاقات ملتبسة شبيهة بعلاقات العرب وبعض جيرانها في الإقليم. كل هذه العوامل تترك فراغاً لا يملؤه إلا الدولار.
■ فلنركز قليـلاً على موضوع لبنان. واضح أن لبنان يعاني عقوبات مفروضة عليه، كيف يتعامل لبنان والنظام المصرفي مع الضغوط المفروضة عليه لتطويعه سياسياً؟ السنة الماضية لاحظنا توقيف حسابات من جانب مصرف لبنان المركزي.
□ بالتأكيد هناك لوائح بأسماء شركات وأشخاص تشمل أعضاء من حزب الله ومحيطه، وهناك زيارات متكررة لمسؤولي الاحتياطي الفدرالي الأمريكي للبنان بحجة مكافحة تبييض الأموال وتطبيق العقوبات المفروضة على حزب الله. ويبرز أحياناً حماسة غير مبررة لدى فئات من البرجوازية المصرفية اللبنانية للتوسّع في تطبيق هذه العقوبات بالحدود التي تتجاوز إرادة المشرّع الأمريكي، وذلك لاعتبارات داخلية مختلفة ساهمت في جلب الأذى إلى لبنان. فهناك جهات في القطاع المصرفي اللبناني تترجم التعليمات الأمريكية بصرامة أكثر مما هو مطلوب. في بداية الحديث عن العقوبات والرقابة التي قد تفرض على بعض الأشخاص، كان حديث الأمريكان يقتصر على الحسابات بالعملات الأجنبية فقط، ولكن بعض أطراف القطاع المصرفي اللبناني شجّع الأمريكيين على شموله أنواع الحسابات كافة. ويلزم القطاع المصرفي المحلي جميع مودعيه بتوقيع وثائق تخوّل البنك نقل المعلومات إلى جهات خارجية عند الضرورة، بحجّة وجود شكوك أو حيثيات تبرّر اطلاعها على تلك المعلومات. ويجب الاعتراف بأن البنك المركزي والقطاع المصرفي لا يمتلكان إمكان التثبّت من الحجج المفبركة للاطلاع على الحسابات. ولا توجد ضمانات للمودعين، إذ قبل أن تطلب المعلومات رسمياً تكون قد أصبحت في متناول الخارج، بفعل التطور التقني في عملية نقل المعلومات (باتت تتم بمجرد ضغط الزر). بالتالي فإن جميع أجهزة الاستخبارات في العالم لها عيون داخل القطاعات المصرفية المحلية لبلدان العالم الثالث التابعة، وهي قادرة على متابعة الحسابات والتفاصيل المالية وحركات التحويلات (من وإلى… إلخ). ولا شكّ في أن انقسام المجتمع اللبناني بين المحورين المتصارعين يسهّل عملية التصرّف بالمعلومات.
■ هل من توصيات تقدمها إلى الدولة اللبنانية أو إلى حزب الله لتخطي هذه الضغوط؟
□ على الحزب مواصلة العمل ضمن مقولة «إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»، حيث إن الضغط الخارجي والداخلي قد يتعاظم، وينبغي بالتالي ابتداع الوسائل والمسارات والآليات التي تتيح المحافظة على قدرات الحزب ووجوده. أما بالنسبة إلى الدولة اللبنانية، فإن انقسامها على بعضها يشكّل سبباً لتشتيت قرارها المركزي الاحترازي، كما أن القدرات التقنية واللوجستية للدولة محدودة نسبياً، وهي الآن على حافة الانهيار المالي والاقتصادي.
■ ما هو تصورك للنظام العالمي المتعدد القطبية الذي بدأ يتشكل على الخريطة الجيوسياسية العالمية؟ وإلى أي حد سيساعد هذا النظام على كسر آليات التحكم والسيطرة الإمبريالية على العالم؟
□ هناك شواهد متزايدة على أن العالم يمر بمرحلة انتقالية من الأحادية إلى تعدد الأقطاب، ولكن مدى سرعة هذا الانتقال لا يزال غير محسوم، وعلينا متابعة ما ستؤول إليه بعض المواجهات الكبرى الدائرة في العالم بين المشروع الأمريكي الإمبريالي والقوى المناهضة له: أفغانستان، الشرق الأوسط، القوقاز، كوريا الشمالية، الصين وهونغ كونغ، وحتى في العلاقة بين أوروبا وأمريكا حيث تبرز مؤشرات عن تراجع هذه العلاقة في مجالي الاقتصاد والسياسة؛ فحين تزدهر وتنتصر الأفكار الشعبوية والمحافظة في أوروبا (كما في أمريكا)، فهي تؤدي إلى مزيد من الانغلاق والانعزال والتطرف والعودة إلى الدين الطقوسي، وهذه كلها تخلق أوضاعاً متفجرة داخل البلدان وبينها. فقد فتح الخطاب الشعبوي المجال أمام تيارات متزمتة ويمينية وعنصرية سجّلت المزيد من النجاح في الانتخابات في عدّة بلدان من العالم، وهذا ينبئ بحروب قادمة. ويجب التشديد على أن هناك أممية لليسار وأممية لرأس المال المعولم الذي يريد تحويل العالم إلى قرية وإخضاع الدول كافة لأنظمة تحدّد – من طرف واحد هو المركز – مواصفات وشروط الإنتاج والتبادل والاستثمار وتقسيم العمل والملكية الفكرية…، مع الاستعانة بالمنظمات الدولية التي تدور في فلك هذا المركز الرأسمالي. أما الانتقال إلى التعددية القطبية، فإن الوقائع لا تتيح الجزم بسرعة تحقّقه، نظراً إلى وجود كوابح موضوعية داخل البريكس، بعضها اقتصادي والآخر سياسي. والأمل الكبير لنجاح البريكس هو في تمكّن المارد الصيني من مواصلة تقدّمه في معترك التنمية الاقتصادية والتطور التكنولوجي وتعزيز مواقع الطبقة العاملة والطبقة الوسطى، إلى جانب تطوير قدراته العسكرية الرادعة (كما تفعل روسيا)، ومن ثمّ المبادرة إلى استثمارها في الحقل السياسي. وسوف يعزّز هذا المسار قوّة الرمز والمثال الذي تمثّله الصين في نظر العالم، كما أنه سيخفّض حجم التناقضات بين دول البريكس، ويبرز القوة الاستقطابية لهذا البلد ويشجّع الدول الأخرى لملاقاة الصين حول مشروع مشترك. وربما تحتاج هذه العملية إلى أكثر من ربع قرن، على غرار مشروع الاتحاد الأوروبي.
■ على الرغم من ظهور تكتلات عالمية اقتصادية وجيوسياسية، لم تظهر مؤشرات جدية لبدء كسر الهيمنة الأمريكية على التعاملات التجارية والمالية في العالم، فهل هذه التكتلات الجديدة في بنيتها تحمل شروط كسر هذه الآليات؟
□ أعتقد أني أجبت عن هذا الموضوع عندما قلت إنه إذا ما نجح المشروع الصيني في التقدم نحو بناء الاشتراكية (على الطريقة الصينية)، فسيكون العالم عندئذ أمام معطى استراتيجي جديد. فالصين بعد عقدين من معدلات النمو المتواصلة وغير المسبوقة بدأت تشعر الآن بثقة وقوة أكبر، بينما تعصف الأزمة الاقتصادية في الدول الرأسمالية عموماً، وبخاصة في أوروبا التي يبدو أن مصيرها بات على المحك. وهناك الكثير من العناصر التي يجب متابعتها، لكن العنصر المحدد هو اكتمال عناصر قوة اللاعب الصيني، الذي سيحدّد نسق استقطاب القوى على المستوى الدولي: بداية عالم بقطبين أساسيين هما الصين وأمريكا، ويتحوّل من ثمّ إلى عالم متعدد الأقطاب بفعل التطور التكنولوجي وسرعة انتقال مفاعيله على الصعيد الكوني؟
■ هل من بوادر ومؤشرات لتشكل قوة عسكرية صينية كبيرة؟
□ حكماً سيتم ذلك مع مرور الوقت. الآن هناك تعاون عسكري ملحوظ بين الصين وروسيا، وللصين مصلحة في الإفادة من النجاح الروسي في المضمار العسكري. كما أن روسيا مطالبة بالتفاعل أكثر مع الدروس والعبر من التجربة الرائدة للصين في مجال التنمية الاقتصادية. الصين تبني الآن مشروع الحزام والطريق الذي يلفّ العالم، وبالتأكيد يجب أن تكون لهذا المشروع أبعاد ومتطلبات أمنية وعسكرية، حتى لو ارتدى في الأساس طابعاً إنشائياً وتجهيزياً، مثل تشييد المرافئ والأوتسترادات والبنى التحتية العملاقة المرافقة… ومن المؤكّد أن هذا أمر يحتاج إلى حاضنة سياسية ذات طابع كلّي وإلى أذرع أمنية وعسكرية ذاتية وحليفة. ويمكن القول إن كل الشروط اللازمة لتحوّل الصين إلى لاعب جيوسياسي عسكري أساسي في العالم متوافرة، وأهمها التطور التكنولوجي (أكثر من 70 بالمئة من صادراتها إلى الولايات المتحدة هي وسائل اتصال ومعدات إلكترونية، بينما معظم مستورداتها هي معدات نقل ومواد زراعية وغذائية).
■ هل تعتقد أن هناك جهداً نظرياً وفكرياً يبذل علناً لوضع تصورات ورؤى لنظام عالمي يتجاوز مرحلة الهيمنة؟ وهل يمكن الحديث بموضوعية عن اقتصاد مقاوم أو محصن ضد التدخل الإمبريالي في الدول، وما هي أبرز سماته؟
□ المعطى البالغ الأهمية الذي ترك أثره خلال العقود الأربعة الماضية يتمثّل بسيطرة حالة من التشتّت بعد غياب المركز الاشتراكي على المستوى الكوني. كل الأحزاب اليسارية في العالم تشعر بهذا الإرث الثقيل الناتج من سقوط الاشتراكية المحقّقة، مع اتجاه ردود فعلها نحو قدر متفاوت من الانسجام والتباين، بل حتى التناقض. وقد غابت فاعلية الكثير من هذه الأحزاب، بما فيها الأحزاب الشيوعية التي انبثقت من داخلها حركات وتيارات وأحزاب متنوّعة، كما حصل في اليونان وإسبانيا وإلى حدّ معيّن في فرنسا وبعض البلدان العربية. وفي أمريكا اللاتينية لم يأخذ اليسار شكل أحزاب شيوعية، بل ارتدى تاريخياً شكل حركات تحرر وطني شعبية من صنع الداخل. ونشأت أيضاً في العقود الماضية آليات من الصراع تتمايز عن آليات الاصطفاف الكلاسيكي القائم على المفهوم الصريح للطبقات (البرجوازية، الطبقة العاملة، الطبقة الوسطى… إلخ)؛ فقد نشأت وتنامت تشكيلات اجتماعية مدنية ذات طابع اعتراضي، وتستند في منطلقاتها إلى براديغمات وإشكاليات «موضوعاتية» (مثل موضوع الجندر والنوع الاجتماعي، وموضوع حماية حقوق والأطفال والمسنّين، وموضوع الحفاظ على البيئة والتوازن البيئي، وموضوع «الحوكمة» وإدارة الشأن العام والدفاع عن حقوق المستهلك، وقضية المسؤولية الاجتماعية للشركات… إلخ). استقطبت هذه الديناميات الموضوعاتية فئات اجتماعية واسعة تساقطت من جرّاء تبعات أزمة النظام الرأسمالي ومشتقاته النيولبيرالية، ولم تجد ما يحفّزها أو يقنعها بالانضمام إلى الأحزاب، ولا سيّما الأحزاب اليسارية التي كان يفترض أن تشكّل الحاضن الطبيعي لها. تبذل راهناً جهود مكثّفة، وإن متفاوتة وأحياناً متباينة، لتكوين أشكال من التحالف والتلاقي والتقاطع بين التشكيلات المدنية والقوى اليسارية، بعد تمييز الجزء المنفتح منها على قضايا التغيير الاجتماعي والسياسي عن الجزء الذي يكوِّن احتياطياً لسياسات رأس المال المعولم ومراكز القرار المتحكّمة فيه. ويجب الاعتراف بأن دور التشكيلات المدنية (التي غالباً ما تطلق عليها صفة «المجتمع المدني») قد ازداد بصورة لافتة في مختلف صنوف الحراكات الشعبية، وهي باتت جزءاً من ساحة تنافس وصراع بين قوى طبقية وسياسية متناقضة، وسط محاولة قوى رأس المال الكبير وأجهزة الحكم والسفارات والمنظمات الدولية الاستثمار فيها. ويجب على اليسار العمل على جذب الشرائح الاجتماعية من «المجتمع المدني» التي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من استهدافاته الطبيعية، التي كانت قد انسلخت عن اليسار لعدة أسباب، من ضمنها حالة الخلل والارتباك التي يعيشها اليسار نفسه. ويجب ألّا يغيب عن البال أن المعركة الاجتماعية من أجل التغيير في كل بلد هي معركة من أجل التحرر الوطني، لأن النظم الرأسمالية في دول الأطراف نشأت في كنف التبعية للإمبريالية التي أنتجت أو ساهمت في إنتاج برجوازيات عجزت عن بناء بنى إنتاج مادي متنوعة وقادرة على خلق فرص عمل للشباب. وبناء القوة الشعبية في كل بلد لا يتمّ عبر مواجهة البرجوازية التابعة في الداخل فقط، بل تشمل أيضاً مواجهة البرجوازية الأم في دول المركز الرأسمالي، وهو ما يستوجب اندماج النضال الاجتماعي من أجل التغيير السياسي في البلد مع النضال من أجل التحرر الوطني ضد الإمبريالية. هذه هي الركيزة الأساسية التي يفترض أن تكون في أسس قيام تحالف بين القوى المعترضة، اليسارية والديمقراطية والمدنية، وفي خلق ميزان قوى وكتل شعبية، كل في بلده، من أجل التغيير. وإلا فإننا سوف نكون محكومين بأنماط من النظم الرأسمالية التي لم تعد تمثّل ضمانة للبشرية، كونها لا تبشّر إلا بالانتقال من أزمة إلى أخرى وسط انتشار البطالة والفقر وتراجع الخدمة العامة والضمانات الاجتماعية واستشراء تركز الثروة والدخل وعدم المساواة. هذا مع العلم أن أزمة الرأسمالية مرشّحة للتفاقم أكثر مع تزايد استخدام رأس المال للتقدم التكنولوجي وإحلاله مكان البشر في العملية الإنتاجية. إننا نحتاج إلى نمط جديد من الاقتصاد القادر على إنجاز مهمات التصنيع والتنمية الزراعية واستلهام الأنشطة الحديثة ذات القيمة المضافة العالية، إلى جانب خلق فرص العمل اللائقة. وهذا ما يتطلب عدم حصر التفكير التنموي ضمن حدود الإطار الجغرافي الضيق الذي فرضه الاستعمار على بلداننا بموجب اتفاقية سايكس – بيكو، بل إن هذا التفكير يجب أن ينفتح على رؤية تنموية متكاملة تقضي بتعزيز كل أوجه العلاقات والتدفقات الاقتصادية – السلعية والخدمية والمالية والاستثمارية والبشرية – بين البلدان العربية، ولا سيما المشرقية. فهل يمكن استمرار تبرير منطق تركّز معظم الموارد والثروات في بلدان عربية بعينها، لتذهب من ثمّ إلى بلدان الغرب بصيغة فوائض نفطية يتحكّم الغرب نفسه في طرائق استثمارها وإنفاقها على صفقات التسلّح (غير المجدية) وإنشاء فائض من البنى التحتية واستيراد الكماليات وتمويل الحروب الأهلية في المنطقة… بينما ينتشر الفقر والبطالة والقهر وانسداد الأفق في صفوف عشرات ملايين الشباب في طول الوطن العربي وعرضه؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب من الجيل الحالي والأجيال المقبلة بذل جهود مكثّفة للتمكّن من بلورة مقاربات إنمائية وجيوسياسية تتعلّق بمصير الوطن العربي ككل، وبتقسيم العمل بين بلدانه، وبنسق توزيع ثمار هذا العمل في ما بين البلدان وداخلها، وصولاً إلى تجسيد الشعار: التنمية للجميع وليس للقلّة المحتكرة للسلطة وللثروة والدخل… وإلا سوف تبقى هذه المنطقة مسرحاً للحروب والنزاعات الأهلية والتدخلات الأجنبية إلى ما لا نهاية له.
المصادر:
[1] نُشر هذا الحوار في مجلة المستقبل العربي العدد 493 في آذار/مارس 2020.
(*) كمال حمدان: باحث وخبير اقتصادي، المدير التنفيذي لمركز البحوث والاستشارات – بيروت.
(**) عبادة كسر: باحثة في مركز دراسات الوحدة العربية.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.