مقدمة:
يغطي مفهوم التمدين أبعاداً معقدة داخل المجال الحضري تهم الديمغرافية والاقتصاد والعمران والاجتماع. لذلك تستحق المدينة أن تحمل لقب الظاهرة الاجتماعية الكلية بالمعنى الذي يقصده مارسيل موس بهذا المفهوم. وتتكفل الثقافة الحضرية في صهر هذه الأبعاد وإعطائها معاني رمزية تعيشها الساكنة الحضرية قلباً وقالباً؛ وهو ما يسهم في تشكيل الصورة التي تكون عليها المدينة في الواقع الموضوعي للتحضر من جهة وفي الوجدان الجمعي من جهة أخرى. بيد أن وضع المدينة لا ينحصر عند حدود المتغير التابع الذي تسهر على تشكيله مختلف تفاعلات السوق الثقافية التي تعتمل داخل المجال الحضري، ولكنها، أي المدينة، تمارس بالمقابل آثاراً إيكولوجية على اتجاهات الأفراد وأذواقهم وأنماط تفكيرهم وسلوكاتهم، وهو ما يجعلها تؤدي دوراً بارزاً في التغيير الكيفي العميق للبنى العقلية والانفعالية عند الأجيال الصاعدة من خلال انتشالهم من أساليب التنشئة المبنية على الخضوع والامتثالية الثقافية والأخلاقية. والواقع أن التحولات التي عرفتها المدينة العربية في مختلف الميادين قد جعلتها بعيدة إلى حد كبير من الصورة التي رسمها ماكس فيبر للمدينة الإسلامية مقارنة بنموذجه المثالي[1]. ولا نقصد بالقول في هذا المضمار المسافة الزمنية الفاصلة بين الماضي والحاضر فحسب؛ ولكن أيضاً المسافة الثقافية التي أضحت تحدد الهوية الحديثة للمدينة العربية المعاصرة. فلم تعد هذه الأخيرة متمحورة حول المرافق الأساسية للميتافيزيقا الإسلامية كالمسجد والسوق والمقبرة؛ ولكنها أصبحت تعج بمظاهر متعددة للحداثة المؤسسية والاقتصادية، وذلك بالرغم من الطابع السنغافوري للتنمية الذي يذكّر برسوخ بنى التخلف الاجتماعي والفقر في الحواضر العربية.
من زاوية الثقافة السياسية، لاحظ إرنست غيلنر عجز المراكز الحضرية عن القيام بالأدوار السياسية التي قامت بها المدن في المجتمعات الأوروبية. فقد ظلت المدينة العربية في نظره، بحاجة دائمة إلى قوة السلطة الحاكمة لحمايتها من تهديدات القبائل المناوئة[2]. لذلك كانت المدن في أغلب الأحوال في منأى من نشأة معارضة لأنظمة الحكم، وباتت العصبية الخزان الوجداني الذي يزود القبيلة بالفعالية السياسية اللازمة لمعارضة السلطة المركزية. كما أن انخراط برجوازيات الإسلام المدينية في خدمة أنظمة الحكم لحماية مصالحها العائلية الضيقة جعل المدينة العربية غير قادرة على المساهمة في بناء مجال عمومي شبيه بذاك الذي بلورته البرجوازية الغربية، بوصفها قوة اقتصادية، لمناهضة السلطة السياسية للنبلاء[3].
لا يسلم هذا النموذج الذي صاغه غيلنر، رغم أهميته، من نواقص مرتبطة بالتعميم ولا يأخد في الحسبان المفعولات الحثيثة التي تمارسها عوامل التحديث المتمركزة في المجالات الحضرية. كما أن تقسيم الفئات السياسية للمجتمع القبلي إلى ذئاب وقطعان وكلاب حراسة لم يعد له ما يبرره مع مجيء الدولة المركزية ذات البنية التراصفية. فمنذ الحقبة الاستعمارية، تحولت الذئاب الكامنة خارج السياج إلى آخر كلاب الحراسة واندمج القطعان في صفوف البروليتاريا الجديدة وفئات الكادحين في المدن العربية[4].
أسهَم التمدين والتصنيع والتعليم ووسائل الاتصال الحديثة في صعود نجم الحداثة الفردية في أوساط مهمة من المجتمع الحضري العربي. وبالرغم من وجود ردود فعل أصولية مقاومة لهذه العوامل وانخراط الدولة في التمسك بالأبوية الجديدة والسياسات التقليدانية، كصمام أمان ضد الهزات الاجتماعية، فإن التحديث يكتسح قطاعاً واسعاً من الساكنة الحضرية المتعلمة. وقد ساعد كل ذلك على خلق نمط جديد من العقليات لم تشهده نفسانيات المدينة العربية من قبل.
وفي ظل هذه التحولات، أدت العواصم السياسية دوراً بالغ الأهمية على مستوى تدويل الحركات الاجتماعية والديناميات السياسية الجديدة المطالبة بإعمال مبدأ العمومية والتداول في شؤون الحكم. وبالرغم من أن الحواضر الاقتصادية والتاريخية العربية قد ساهمت في إنتاج السلوك الثوري، وكذلك فعلت الهوامش الحضرية في تونس مثلاً، فقد ظلت العاصمة تحتل مركز الثقل في احتدام الاحتجاج السياسي طوال سنوات قبل اندلاع «ثورات الربيع العربي». صحيح أن العاصمة العربية لم تبادر بإشعال شرارة الثورة التي انطلقت من مدينة البوعزيزي، لكنها احتضنت الفعل الاحتجاجي بكل حرارة. والحقيقة أنها لم تكن لتفعل ذلك في غياب استعدادات نفسية وثقافية رافضة للأبوية السياسية العمودية في كل من الرباط والجزائر وطرابلس وتونس والقاهرة وصنعاء ودمشق وعمان والمنامة.
إن العاصمة هي المركز الرئيسي لإنتاج الثقافة السياسية المشروعة والمبنية على آليات الاعتراف بالسلطة القائمة وتجاهل العمق التعسفي الذي تقوم عليه. ولكنها في المقابل، مختبر اجتماعي وسياسي لإنتاج الثقافة السياسية المقاومة. وهي بذلك تغدو مجالاً لإنتاج المفاهيم والمفاهيم السياسية المضادة التي تتسرب إلى ثنايا المجتمع عبر وسائط إعلامية واجتماعية معقدة.
ويمكن صياغة إشكالية هذه الدراسة على النحو التالي:
إلى أي حد تسهم الثقافة السياسية الناشئة في أوساط ساكنة العواصم العربية في الاتجاه نحو الاحتجاج السياسي؟
تروم هذه الدراسة إيجاد أجوبة إمبريقية للأسئلة التالية:
- ما هي طبيعة الثقافة السياسية التي تنتجها الإيكولوجيا الحضرية للعواصم العربية عند الأجيال الصاعدة؟
- كيف تبدو تلك الثقافة في ضوء المتغيرات الديمغرافية والاجتماعية والثقافية والسياسية للساكنة الحضرية؟
- ما هو الوزن الذي يعود لمتغيرات هذه الثقافة في تفسير انخراط ساكنة العاصمة العربية في الاحتجاج السياسي الثوري؟
أولاً: الأساس النظري والمنهجي للدراسة
تنهل هذه الدراسة من مرجعيات نظرية تنتمي إلى حقول معرفية متعددة، وتلتمس الإجابة عن الأسئلة المطروحة من خلال منهجية تجمع بين التحليل الإحصائي والـتأويل السميولوجي.
1 – المرجعية النظرية للدراسة
بدأت الثقافة تستعيد موقعها في حقل الدراسات السياسية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وذلك بعد عقود من هيمنة الاقتصاد السياسي ونماذج الاختيار العقلاني[5]. وتتوجب الإشارة هنا إلى الدور الذي أداه غابرييل ألموند وسيدني فيربا في نقل الثقافة السياسية من الانطباعية إلى عالم الافتراضات القابلة للاختبار، مع الأخذ بعين الاعتبار الإلهام البيداغوجي الذي مارسته هذه الأعمال على الأجيال الصاعدة من الباحثين في العلاقة بين الثقافة والاحتجاج السياسي.
وتقوم الثقافة السياسية على ثلاث مصادرات ضمنية تقر أولاً بوجود تباينات في الثقافة السياسية ليس بين المجتمعات فقط ولكن بين أفراد المجتمع الواحد أيضاً؛ ثانياً، تمارس هذه الفروق آثاراً مختلفة سواء على مستوى السلوك السياسي أو على مستوى نجاعة المؤسسات القائمة؛ ثالثاً، تتعرض مكونات الثقافة السياسية من قيم ومعتقدات ومشاعر، لتغير بطيء يمكن ملامسته بوضوح في الأوساط الحضرية عند الأجيال المتعاقبة.
فالتركز الديمغرافي والتقدم التقني والاقتصادي وازدهار المهن الرفيعة التي تعتمد على العقل والإبداع من جهة، وتحسن الأوضاع الاقتصادية وتنشئة الأجيال الصاعدة في رغد العيش، إضافة إلى التعليم العالي والتعرض لمختلف موجات التحديث، من جهة أخرى، كلها عوامل مساهمة في تسريع وتيرة التحولات الاجتماعية والثقافية. وتنطوي التحولات على المستوى المعرفي، على تغير جوهري في كيفية النظرة إلى العالم، وعلى المستوى القيمي، على تغير في طريقة تقييم الأشياء ومعيرتها[6]. ويصاحب تلبية الحاجات الفيزيولوجية انتقال قيمي يتميز من الناحية السيكولوجية بالسعي إلى تأكيد الذات وتحقيق الاعتبار الشخصي. حيث يظهر طيف جديد من القيم والتوجهات، تتميز بالرغبة في التحرر والانعتاق. وما لا شك فيه، أن العلاقة مع السلطة بأشكالها المختلفة لن تكون في منأى من المساءلة في هذا السياق[7].
وتشكل الاتجاهات والمواقف السياسية للأفراد جزءاً من النظرة إلى العالم وطريقة تقدير الأمور، وتنبني في العمق على دوافع أعمق داخل البنية الثقافية للشخصية الإنسانية. وتختلف هذه الاتجاهات بحسب طبيعة الدوافع والمصادرات الضمنية التي تقوم عليها ثقافة سياسية معينة. وبينما تتناسب القيم العقلانية مع أنماط من الاتجاهات السياسية التي ترفض المشروعية السماوية والمناقبية وتدعم المشروعية العقلانية للديمقراطية التمثيلية، يميل الصنف الثاني من القيم، قيم التعبير عن الذات والرغبة في الانعتاق والتحرر، إلى تغذية الاتجاهات السياسية التي تنشد الديمقراطية وترفض أداء المؤسسات القائمة.
وبناء على نظرية دايفيد إيستون حول الدعم السياسي، يمكن التمييز في الاتجاهات السياسية بين مستويات مختلفة من متجهات الدعم/الاستياء السياسي، بين الاتجاهات المتعلقة بكيان الدولة – الأمة، والاتجاهات الخاصة بالنظام السياسي، والاتجاهات المرتبطة بالمؤسسات السياسية وتلك التي تتعلق بالسلطات السياسية[8]. ويمكن هذا التمييز ذا الطابع التراتبي من التعرف إلى المستويات التي تحظى بالرضى أو الاستياء، كما يسمح أيضاً بتقدير حجم التغيير السياسي الذي تتطلع إليه الجماهير وذلك من خلال تحديد المستوى الذي يحظى بالسخط الاجتماعي.
يميز الباحثون في المستوى المتعلق بالنظام السياسي بين الاتجاهات الداعمة للسلطوية بأطيافها الأيديولوجية والتنظيمية المختلفة (العسكرية، الدينية) وبين الاتجاهات السياسية التواقة إلى الديمقراطية. وفي المستويات الدنيا، يفصلون بين مشاعر السخط أو الرضى عن اشتغال المؤسسات السياسية القائمة[9]. وقد انتبه المختصون إلى بروز متلازمة جديدة من الوجودية السياسية، تتميز بنشدان الديمقراطية من ناحية المبدأ مع الاستياء الجذري من الإنجاز المؤسسي. ويستشف الدارسون بأن هذا الأسلوب الجديد من المعيش السياسي لا يقتصر على المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية؛ ولكنه ينشأ أيضاً تحت وطأة الأنظمة السلطوية. ويعزون ذلك إلى الانتشار السريع لوسائط الاتصال والتواصل الاجتماعي، إضافة إلى ارتفاع الحساسية العصبية تجاه السياسة بمفهومها غير الرسمي، في أوساط الأجيال المدينية المتعلمة. ولا غرو أن تشكل هذه الفئة من الديمقراطيين الساخطين لا ينفصل عن المتروبولات الكبرى.
2 – منهجية الدراسة
تشكل الاتجاهات السياسية نحو الديمقراطية مكوِّناً مهماً من الثقافة السياسية. وتنبني في العمق على الرغبة في الانعتاق من أغلال السلطوية التي تشل دافعية الإنجاز عند الأفراد في المناحي المختلفة للحياة الاجتماعية. ويقوم من الناحية الإجرائية على الاعتقاد بأهمية العيش تحت النظام الديمقراطي كون هذا الأخير من أفضل الأنظمة السياسية. وعلى العكس من ذلك، تميل الاتجاهات السلطوية إلى تفضيل حكم الجيش أو الزعماء السياسيين أو الدينيين الذين لا يكترثون بالقوانين والانتخابات. وحيث إنه لا يمكن للأنظمة السياسية السلطوية أن تعتد فقط بالأسس الميتافيزيقية للمشروعية؛ وإنما يتوجب عليها أيضاً أن تشتغل وفق ما تقتضيه النجاعة الاجتماعية والاقتصادية للإجابة عن مطالب العدالة الاجتماعية، فإن التقدير الذاتي للإنجاز الديمقراطي للمؤسسات يشكل قطب الرحى في دراسة الدعم السياسي.
تقوم منهجية الدراسة على إجراء توليف بين الاتجاهات السلطوية/الديمقراطية والتقدير الذاتي للإنجاز المؤسسي (الثقة في المؤسسات السياسية الديمقراطية كالبرلمان والحكومة). وتسمح هذه التوليفة بتصنيف المواطنين إلى أربع فئات من زاوية الاتجاهات السياسية[10]:
أ – الأوتوقراطيون الامتثاليون
تشكل هذه الفئة القاعدة الثقافية والديمغرافية التي تسمح للنظام السلطوي بالاستمرار بأدنى تكلفة، إذ يؤمن هؤلاء بأفضلية حكم الزعماء الأقوياء ويثقون ثقة عمياء في المؤسسات القائمة. كما أنهم ينسجمون مع النموذج السيكولوجي للعبودية الطوعية.
ب – الأوتوقراطيون المستاؤون
يؤمن هؤلاء بالسلطوية كنظام للحكم ويميلون إلى قبول الهيمنة السياسية للزعماء السياسيين أو الدينيين ولكنهم لا يثقون بالمؤسسات السياسية القائمة. ويمثّل الأشخاص ذوو التوجهات الإسلامية أو الاشتراكية نماذج واقعية لهذه الفئة. ومن المفترض أن يناضل هؤلاء من أجل تقويض مشروعية النظام القائم.
ج – الديمقراطيون الامتثاليون
يؤمن هؤلاء بأهمية العيش تحت نظام سياسي ديمقراطي وبذلك فهم يعارضون النظام القائم على مستوى الفلسفة السياسية والقيمية التي يقوم عليها؛ ولكنهم في المقابل يتعاملون مع المؤسسات السياسية ذات الشكل الديمقراطي كالأحزاب والبرلمان.
د – الديمقراطيون المستاؤون
تجسد هذه الفئة من المبحوثين من زاوية السيكولوجيا السياسية المستوى الأعمق لمشاعر الاستلاب السياسي. فبالرغم من تفضيلهم الديمقراطية، تراهم مجبرين على العيش تحت سقف السلطوية السياسية التي لا يثقون في المؤسسات المنبثقة منها.
يقوم البحث على دراسة الصنوف الأربعة من الاتجاهات السياسية ودورها في تأجيج السلوك الاحتجاجي عند ساكنة العواصم العربية الثائرة، مع التركيز على الفئات المستاءة من الديمقراطيين. وقد تم بناء متغيرات هذه الدراسة بشكل رئيسي من معطيات المسح العالمي للقيم (World Value Survey) وبشكل ثانوي من بيانات الموجة الثالثة للبارومتر العربي. وتجدر الإشارة إلى أنه سيتم العمل على بناء المتغيرات وتحليل البيانات باستعمال حزمة الأدوات الإحصائية للعلوم الاجتماعية SPSS.
باستثناء دمشق، التي لا تتوافر المعطيات في شأنها، فقد شمل البحث ثماني عواصم عربية شهدت احتجاجات كبيرة بمناسبة ما سمي «الربيع العربي». ويتعلق الأمر بالرباط والجزائر العاصمة وتونس العاصمة وطرابس والقاهرة وصنعاء وعمان والمنامة. وقد ارتأينا إضافة العاصمة اللبنانية بيروت بناء على التطورات الأخيرة المتعلقة بأزمة النفايات. وقد بلغت عيِّنة الدراسة ما يقارب 4055 مبحوثاً في معطيات البحث العالمي حول القيم.
وتقوم الفرضية الرئيسية على وجود علاقة سببية بين ضروب معيَّنة من الثقافة السياسية الناشئة في الإيكولوجيا الحضرية، عند الديمقراطيين المستائين، وبين الاحتجاج السياسي في العواصم العربية.
تنبني هذه الفرضية على مصادرة ضمنية تفيد بأن عوامل التحديث التي توفرها الإيكولوجيا الحضرية للعواصم تسهم في حدوث تحولات ثقافية عند الأجيال الصاعدة. وتتحدد هذه التحولات بالاتجاه نحو تبني منظومات القيم الحداثية المتمثلة بالاستقلالية والتعبير عن الذات والتطلع إلى الحرية. ويسهم التعاقب الديمغرافي للأجيال – إضافة إلى تحولات الشروط الاقتصادية والثقافية للتنشئة الاجتماعية داخل الإيكولوجيا الحضرية – في الانتقال العميق والبطيء في الوقت نفسه، إلى أنساق جديدة من المعاني تؤدي الحداثة دوراً مهماً في صياغتها. لذلك، من المتوقع أن تأخذ تلك التحولات شكـلاً أكثر وضوحاً في أوساط الفئات الاجتماعية الشابة والمتعلمة، كونها الأكثر تعرضاً لموجات التحديث.
يمكن تجزيء الفرضية الأصلية إلى الفرضيات الفرعية التالية:
(1) من المتوقع وجود فروق دالة على المستوى الديمغرافي والمعرفي والقيمي بين الصنوف الثقافية الأربعة لمصلحة المستائين.
(2) من المتوقع أن يتفوق الديمقراطيون المستاؤون على الاتجاهات الأخرى في ما يتعلق بالانخراط في الاحتجاج السياسي.
(3) من المفترض أن تتمتع قيم الحداثة الفردية (قيم التعبير عن الذات) بأهمية بالغة في تفسير السلوك الاحتجاجي في أوساط الديمقراطيين المستائين.
(4) من المتوقّع أن يؤدي الانخراط في المنظمات الطوعية واستعمال الإعلام الاجتماعي دوراً بارزاً في إذكاء الاحتجاج عند الديمقراطيين المستائين في العواصم العربية.
ثانياً: الاتجاهات الديمقراطية والسلطوية في ضوء
المتغيرات الديمغرافية والثقافية والسياسية في العواصم العربية
يكشف التحليل الإحصائي للمعطيات الكمية الخاصة بالعواصم العربية عن وجود فروق جوهرية بين الامتثاليين والمستائين في ما يتعلق بالمتغيرات السوسيوديمغرافية من جهة والمتغيرات القيمية والمعرفية والسياسية من جهة أخرى.
1 – في الخصائص الثقافية والديمغرافية للديمقراطيين والسلطويين
تختلف العواصم العربية في ما بينها من زاوية الثقل الديمغرافي، حيث تتربع القاهرة على المركز الأول من دون منازع بما يفوق 10 ملايين نسمة، وتتجاوز كثيراً الجزائر وصنعاء اللتين تحلان في المرتبة الثانية والثالثة على التوالي بما يقارب 3 ملايين نسمة. وبالرغم من هذه الاختلافات بين العواصم من الناحية الديمغرافية، فإنها تشترك في خاصية مهمة تتعلق بالارتفاع التدريجي للساكنة الحضرية. ففي المستقبل القريب (2025)، ستتجاوز القاهرة 13 مليون نسمة وصنعاء 4 ملايين نسمة[11]. وتجدر الإشارة إلى أن آثار التمركز الديمغرافي الهائل على مستوى الديناميات الاجتماعية صعبة الضبط، وبخاصة في مجتمعات تتميز بضعف التاريخانية وتدهور الهندسة الاجتماعية الكفيلة بالتحكم في إعادة إنتاج نفسها.
بالطبع، لا ينتج التغيير الاجتماعي والثقافي الفوري من الارتفاع الكمي للساكنة الحضرية، فالنزوح المكثف من العالم القروي لا يسهم فقط في ترييف المدن على مستوى المجال؛ ولكن يحافظ على أنماط من الإدراك والتقييم تستمر لردح من الزمن، إذ يتطلب تذويب العقليات العائلية والقبلية والطائفية عقوداً طويلة من تعاقب الأجيال. وبالتالي، فالديمغرافيا والتحضر لا يشتغلان كمتلازمة فعالة في صناعة ما يمكن تسميته الإنسان المديني إلا من خلال الاندماج بين الكيف والكم.
ويسهم الاقتران بين الكثافة الديمغرافية والتحضر في انكسار الإجماع حول القواعد والقيم الاجتماعية وبروز الاختلاف والرغبة في الابتعاد من النماذج النمطية في الثقافة والاجتماع السياسيين؛ وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام الاستقلالية في إنتاج الأفكار وتبني الاتجاهات والمواقف السياسية. لذلك يمكن القول بأن الديمغرافيا المتحضرة هي بوابة الحرية. وبالرغم من صعوبة الجزم بوجود نسب عالية من الإنسان المديني، ذي العقلية المتحضرة والحداثية بالمعنى السوسيولوجي، في المدينة العربية؛ فإن الاتجاهات السياسية في العاصمة تؤكد أن الاجتماع السياسي لم يعد مؤسساً على التشابه والإجماع. ويبدو أن السلطة المتغطرسة للزعيم، قد ساعدت في غفلة منه، على خلق سيكولوجيا جمعية ترغب في الاستعاضة عن العشيرة الأبوية بالعشيرة الأخوية وتطالبه بالرحيل. وبصرف النظر عن آثار الثورة ونتائجها، فإن الوقائع التي كانت العاصمة مسرحاً لها توضح أن سجل العبودية الطوعية، كبراديغم لتفسير بقاء الأنظمة السلطوية، لم يعد يتمتع بالمناعة الإمبريقية والإيبيستمولوجية. ولعل نسبة الأشخاص الذين يتبنون التوجهات السلطوية الامتثالية في معظم العواصم تؤكد التآكل الغريب لهذا الصنو من الثقافة السياسية في إطار جغرافية توصم بأنها غير قادرة، بحكم الطبيعة، على الإنجاز الديمقراطي. وفي المقابل، تسجل العواصم ارتفاعاً ملموساً في الاتجاهات الديمقراطية الامتثالية والمستاءة. وهو مؤشر على أن قضايا الديمقراطية تعود في جزء كبير منها إلى الثقافة أكثر من الطبيعة البشرية. ويلاحظ أيضاً تصاعد الاتجاهات الأوتوقراطية المستاءة في جانب كبير من العواصم العربية. ويقدم الجدول الرقم (1) بيانات تسمح بالمقارنة بينها.
باستثناء المنامة، سجلت العواصم العربية نسباً عالية من الاستياء السياسي وذلك مقارنة بالتوجهات الامتثالية. غير أن ما يثير الانتباه حقاً هو التقدم الذي تحرزه العاصمة في إنتاج السخط السياسي في أوساط الديمقراطيين مقارنة بالعينة الوطنية الخاصة بكل بلد على حدة. وتشير النسب الموجودة بين قوسين إلى نسبة الفئات الأربع في البلد المعني بكل عاصمة. ويلاحظ أيضاً أن العواصم العربية قيد الدراسة تسجل نسباً منخفضة نسبياً من التوجهات السلطوية مقارنة بالعينات الوطنية.
وحينما نأخذ البعد الزمني في الحسبان، من أجل رصد الاقتصاد النفسي للاتجاهات السياسية في العقد الأخير لدى ساكنة العواصم، تتراءى إرهاصات الثورة على مستوى التطلع إلى النظام السياسي الديمقراطي من جهة وعلى مستوى تصاعد الاستياء السياسي من جهة أخرى.
الجدول الرقم (1)
توزيع الأشخاص ذوي الاتجاهات السلطوية والديمقراطية
الاتجاهات السياسية | ||||||||
الأوتوقراطيون الامتثاليون | الأوتوقراطيون المستاؤون | الديمقراطيون الامتثاليون | الديمقراطيون المستاؤون | |||||
الرباط | 6,9% (8,5%) | 9,1% (13,0%) | 32,4% (26,4%) | 51,5% (52,0%) | ||||
الجزائر العاصمة | 3,1% (11,2%) | 3,1% (20,2%) | 47,7% (23,6%) | 46,2% (44,9%) | ||||
تونس العاصمة | 5,6% (4,2%) | 42,1% (49,5%) | 1,6% (3,2%) | 50,8% (43,1%) | ||||
طرابلس | 8,0% (9,0%) | 36,2% (42,0%) | 7,4% (8,6%) | 48,4% (40,4%) | ||||
القاهرة | 8,8% (10,4%) | 31,9% (22,5%) | 35,3% (43,3%) | 24,0% (23,9%) | ||||
صنعاء | 17,4% (4,6%) | 00% (26,5%) | 6,5% (9,1%) | 76,1% (59,7%) | ||||
المنامة | 42,7% (43,2%) | 17,3% (16,7%) | 29,6% (28,9%) | 10,4% (11,2%) | ||||
عمّان | 24,2% (29,9%) | 24,2% (21,2%) | 19,9% (22,1%) | 31,7% (26,8%) | ||||
بيروت الشرقية | 5,7% | (22,4%) | 65,7% | (43,5%) | 00% | (10,2%) | 28,6% | (23,8%) |
بيروت الغربية | 20,8% | 57,5% | 5,8% | 15,8% |
يوضح الشكل الرقم (1)، تصاعد الاتجاهات الإيجابية نحو الديمقراطية وذلك ابتداءً من سنة 2001 لتصل ذروتها إبان الثورة التي كانت تمخر عباب العاصمة العربية سنة 2011، ثم تبدأ في التراجع بقوة خلال السنوات التي أعقبت الاحتجاج السلمي ضد الأنظمة القائمة. ومن المحتمل أن يرتبط التراجع في الاتجاه نحو النظام الديمقراطي إلى الأعراض الأمنية والحروب الأهلية والفوضى الاجتماعية التي أعقبت انهيار أنظمة الحكم في كل من ليبيا ومصر واليمن وسورية سواء على نحوٍ كامل أو جزئي. ويبين الرسم البياني المذكور، الحساسية المفرطة للاتجاهات الديمقراطية تجاه المتغيرات السياقية المتعلقة بالأمن الشخصي والجماعي.
الشكل الرقم (1)
تطور الاتجاه نحو الديمقراطية
على عكس الاتجاه نحو الديمقراطية الذي يميل إلى اتخاذ هيئة جيبية، يميل الاستياء السياسي إلى التصاعد في أوساط ساكنة العواصم سواء قبل الثورة أو بعدها. ويفيد المنحنى بأن الطاقة النفسية الجبارة التي أنتجتها العواصم من أجل تغيير أنظمة الحكم ظلت عاجزة عن تحقيق الخلاص السياسي للشعوب العربية المقهورة. ولعل عبارات «سرقة الثورة» أو «التحايل على الثورة» التي تم تداولها على نطاق واسع في الأوساط الإعلامية المعارضة تمثل التعبير اللغوي الناعم عن اضمحلال فظيع في الإحساس بالفعالية السياسية الذاتية وارتفاع مثير في مشاعر الاستياء، وبخاصّة في مرحلة ما بعد الثورة. وهو ما يشير إليه بوضوح الشكل الرقم (2).
الشكل الرقم (2)
تطور الاستياء السياسي
يبدو من خلال التحليل الإحصائي للبيانات الديمغرافية للمبحوثين أن الاستياء السياسي ينتشر بين الفئات الشابة، على الخصوص من ساكنة العواصم العربية، إذ يراوح متوسط الأعمار في أوساط الديمقراطيين والسلطويين المستائين بين 38 و39 سنة. ويميل هذا المتوسط إلى الارتفاع عند الأشخاص ذوي التوجهات الامتثالية. وتشير نتائج تحليل التباين الأحادي إلى وجود فروق جوهرية بين هذه التوجهات لفائدة الديمقراطيين المستائين. تجدر الإشارة إلى الارتفاع الواضح لنسبة الديمقراطيين المستائين في الأجيال الصغيرة وذلك مقارنة بالفئات الأخرى.
من زاوية الدخل يتقدم الديمقراطيون الامتثاليون عن الفئات الأخرى، متبوعين بالديمقراطيين المستائين، بينما يسجل المبحوثون ذوو التوجهات السلطوية أدنى معدل على هذا المتغير (F=16.77 ;p<0.001). من جهة أخرى، يصنف هؤلاء أنفسهم، على مقياس الوضع الطبقي، ضمن الطبقات الكادحة. وتنسجم هذه النتائج إلى حد كبير مع الدراسات التي تتناول علاقة الاتجاهات السلطوية بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، كما تشكل تأكيداً وصفياً لأطروحة سيمور مارتان ليبست حول عجز الفئات الاجتماعية الدنيا عن تبني الديمقراطية كنظام سياسي بسبب تفشي العقدة العامة للتسلط في أوساط المنتمين إليها[12].
ويبين تحليل التباين الأحادي وجود فروق جوهرية في حيازة الرأسمال الثقافي المؤسسي وذلك لفائدة المبحوثين المستائين ضمن صفوف الديمقراطيين والسلطويين، حيث يتميز هؤلاء المحبطون بحصولهم على مستوى تعليمي مرتفع مقارنة بالأشخاص ذوي التوجهات الامتثالية (F=10.86 ; p<0.001). أما في ما يخص الوضع العائلي، فإن الفئة العازبة تشكل ما يقارب 40 بالمئة في فئة الديمقراطيين المستائين ويتميزون بشكل كبير من ذوي التوجهات الأخرى. وبالنظر إلى المستوى الثقافي والوضع العائلي، من الطبيعي أن يسجل هؤلاء المعدلات الدنيا في عدد الأطفال (F=11.59 ; p<0.001). وتشير النتائج إلى غياب فروق دالة بين الاتجاهات السياسية حينما يؤخذ متغير الجنس بعين الاعتبار. ويتقدم الديمقراطيون المستاؤون عن غيرهم من ناحية الإقبال على استعمال الحاسوب والإنترنت، وهو ما ينبئ بنتائج مهمة على مستوى إعادة النظر في المسلَّمات التي تقوم عليها سلطة الزعماء الدينيين والسياسيين. فالإقبال على الإبحار في العوالم الافتراضية قد أسهم في إعادة صياغة مفهوم المجال العمومي عند الشباب المتعلم في الوطن العربي، صياغة نقدية[13].
يبدو أن العوامل الديمغرافية المساعدة على التعبئة السياسية في العواصم العربية تنعقد بالدرجة الأولى، لفائدة الأشخاص ذوي التوجهات الديمقراطية المستاءة، متبوعين على التوالي بالسلطويين المستائين والديمقراطيين الامتثاليين، بينما يحتل السلطويون الامتثاليون الدرجة الأخيرة. ويتضح أن الخصائص الديمغرافية التي كشف عنها تحليل المعطيات، تنسجم مع الخصائص المميزة للديمقراطيين المستائين في سياقات ثقافية مغايرة. وقد أوضحت مجموعة من الدراسات العلمية، بأن الاتجاهات الديمقراطية المقرونة بالسخط السياسي تشتد في أوساط الشباب المديني المتعلم والمقبل على استهلاك الوسائط الحداثية[14].
2 -من الطبيعة إلى الثقافة: المشاعر المدنية والاجتماع السياسي عند ساكنة العواصم العربية
يعيد الدارسون تصاعد السخط الاجتماعي والسياسي إلى تآكل مشروعية الأنظمة السلطوية. وتتركز الخصائص الموضوعية لهذا الانجراف في إفلاس مدخلات ومخرجات منظومة الحكم. غير أن هذا الإفلاس لا يتخذ بعداً مأسوياً إلا من خلال انعكاسه على الوعي السياسي للرعايا. والواقع أن ساكنة العواصم هم الأوفر حظاً في التعرف المبكر إلى القواعد التي يقوم عليها النظام السلطوي. إنهم سوسيولوجيون عبقريون بالممارسة؟ فالنظام لا يتجسد في نظرهم في مقولات المشرِّع ولا يكمن في الدعاية الرسمية المكثفة، ولكنهم يدركونه كما يقول المؤرخ الفرنسي هنري تيراس كائتلاف للمصالح يفتقر إلى الإرادة الأخلاقية للتغيير؛ إذ ينحصر هدفه الأسمى في البقاء لفائدة المجموعات والأشخاص الذين يكوِّنونه[15].
تتعرى الشكلانية المؤسسية لنظام الحكم على نحو سافر في العواصم أكثر من غيرها، حيث لا تستطيع السلطة ممارسة لعبة الإخفاء إلى أمد بعيد؛ وتسهم علاقة القرب من مركز السلطة في فك السحر الاجتماعي المزيف الذي يغلف ممارساتها ويزيل عنها تلك الهالة التي تتمتع بها في أوساط الفلاحين والموظفين والعمال الذين تفصلهم مسافات كبيرة عن العاصمة حيث مركز النظام. إن عجز المؤسسات الشكلية عن الاشتغال وفق القواعد المدنية للدولة الحديثة، يسرِّع وتيرة انكشاف الخدعة السياسية لأنظمة الحكم العربية أمام أعين الشباب المديني المتعلم. فإدراك التناقض بين خطاب السلطة وممارساتها يمثّل المدخل المعرفي لحصول الاستياء السياسي على مستوى الوجدان الجمعي. أضف إلى ذلك، أن الأشخاص ذوي التوجهات الامتثالية في العاصمة العربية لا ينظرون نظرة شاعرية ومثالية إلى نظام الحكم. فقد تكيف هؤلاء مع النظام وخبروا دروبه وتعلموا من ثم، كيف يستفيدون منه بأقل تكلفة. لقد اكتسبوا بالتجربة اقتصاداً نفسياً قائماً على التملق الاستعراضي المغرض وأضحت اتجاهاتهم السياسية السلطوية تكتسي طابعاً تكتيكياً ينهل كثيراً من الواقعية السياسية؛ وذلك على عكس الامتثاليين البدويين المفعمين بالأحاسيس المسحورة تجاه السلطة والتي وصفها أدورنو في الشخصية السلطوية[16].
يجسد الديمقراطي المستاء النموذج الأمثل للتوق إلى الديمقراطية. ويتمثل سخطه السياسي من خلال تقييمه السلبي لمخرجات النظام. إنه يعتبر اشتغال منظومة الحكم بعيدة من الأسلوب الديمقراطي، وأن التنمية السياسية شبه معطلة، مضيفاً أن مظاهر الفساد تخترق الطبقة السياسية وتستشري في أوساط موظفي القطاع العام. ويتميز من خلال هذه الأقوال التقييمية من الأشخاص الامتثاليين (F=85.86;p<0.001). ويبين الشكل الرقم (3) فروقاً جوهرية في طريقة تقييم مخرجات الحكم، حيث يتربع المستاؤون على الدرجات الدنيا من الرضى عن الوضع الديمقراطي في البلد.
أما في ما يتعلق بمدخلات النظام، فإن تدهور المشروعية التمثيلية أمر لا تخطئه العين. ويبدي الديمقراطي المستاء مثله مثل السلطوي المحبط، شكوكاً كثيرة تجاه المؤسسات الهرمية كالشرطة والجيش والعدالة ويرفض تمثيلية الأحزاب، ولا يذهب إلا نادراً إلى صناديق الاقتراع. ويوضح الشكل الرقم (4) تغيرات مشروعية الأحزاب السياسية لدى ذوي الاتجاهات الديمقراطية والسلطوية.
الشكل الرقم (3)
الرضا عن الوضع الديمقراطي عند الفئات الأربع
لكنّ ثمة سؤالاً جديراً بالمناقشة، ويتعلق بوزن التأثير الذي يمارسه الإدراك السلبي لمدخلات ومخرجات نظام الحكم في انبثاق الاتجاهات الديمقراطية المستاءة في سياق ثقافي – عربي إسلامي موسوم من الناحية الاستشراقية بالتناقض الجذري بين الخطاب السياسي للإسلام والعمق الفلسفي للديمقراطية.
لقد ظل النظام في المنطقة العربية بارعاً في إنتاج السلطوية بأبعادها الامتثالية والمستاءة. ففي أحسن الأحوال، يتم استبدال عشيرة أبوية بأخرى قليـلاً ما تنأى من القاعدة الأزلية في ممارسة السلطة. ويمكن الافتراض أن أفول السلطوية وسطوع شمس الاتجاهات الديمقراطية لا ينتمي مباشرة إلى الأعراض الجانبية للحكم السلطوي كما ذكرنا، وإنما إلى التأثير الكبير الذي أضحت عوامل التحديث تمارسه على الخريطة النفسية والثقافية للإنسان العربي. لقد أسهم التحديث الجزئي للذهنيات في اتساع آفاق الإدراك السياسي لجزء مهم من ساكنة العواصم العربية وأصبح التقييم السلبي لمدخلات ومخرجات الحكم تحصيلَ حاصلٍ، مع التطور النوعي لبنى التعبئة المعرفية والمنظومة القيمية للأجيال الشابة.
الشكل الرقم (4)
عدم الثقة في الأحزاب السياسية لدى الفئات الأربع
ينبني الاتجاه نحو الديمقراطية حول خطاطات معرفية، وجدانية وقيمية، تتطلب تنشئة سياسية واجتماعية طويلة الأمد. إنها كما يقول غيلنر، أشبه بمزروعات البستان، التي تحتاج إلى التشذيب والرعاية المحكمة. أما الثقافة السلطوية، فتشبه نباتات الأدغال التي تترعرع بشكل متوحش في أحضان الطبيعة[17]. وتقوم هذه الثقافة الأخيرة، كمنظومة شبه طبيعية للأدوار والمراكز والألقاب، على نظام من التراتبيات الجامدة، وتحتاج إلى الفرد المجبول على الانصياع والتفاني في الخضوع للسلطة[18]. وبينما تنشأ الثقافة السلطوية عن المشاعر الفطرية الجياشة، تساعد ثقافة البستان على خلق المشاعر المدنية الميالة إلى الحرية والتسامح والمساواة. وهي ذات المشاعر التي تحتاج إليها الديمقراطية سواء كنظام للحكم أو كبوتقة للقيم المتحضرة. وتشكل هذه الثنائية تناقضاً ثقافياً ينذر بالمخاطر في الدول الجديدة. ولعل ما يشهده الوطن العربي في مرحلة ما بعد الثورة ليس في منأى من التناقض بين الاتجاهات المدنية الديمقراطية من جهة والاتجاهات السلطوية الغريزية من جهة ثانية. يقول كليفورد غيرتز في مقطع بليغ[19]:
«إن الغضب المدني يجد متنفساً طبيعياً له في القبض على أجهزة الدولة، بشكل قد يكون شرعياً أو لا شرعياً. أما الغضب الفطري، المرتكز على نوازع فطرية، فيذهب إلى أعمق في نضاله، ويكون إرضاء مثل هذا الغضب أعقد وأصعب. وفي حال وصلت به الحدة إلى أمد معين، لا يعود مثل هذا الغضب يطالب برأس سوكارنو أو نهرو أو مولاي الحسن، بل يأخذ بالمطالبة برأس إندونيسيا أو الهند أو المغرب».
والواقع أن معظم العواصم العربية قيد الدراسة تبين هذا التقاطب الجذري بين المشاعر المدنية والمشاعر الفطرية. ولا تزال المدينة العربية بصفة عامة تعيش على إيقاع هذا المخاض الصعب بين الغريزة والعقل. وتعد الحرية والمساواة من أبرز القيم التي يحتدم الصراع حولها في الإيوكولوجيا الحضرية. وتشير المعطيات إلى أن الرغبة في الحرية ما زالت تتوارى إلى الخلف بحكم وطأة علاقات الاجتماع المبنية على العرق واللسان والنسب والدين والعادات على المستوى القاعدي، بينما تحتل المساواة موقعاً طليعياً عند ذوي التوجهات الديمقراطية. ومن المحتمل أن يكتسي مفهوم الديمقراطية عند هؤلاء بعداً اجتماعياً وليس ليبرالياً، بحكم موقع الحرية الثانوي في سجل الدوافع الثقافية للمبحوثين. ويبين الشكل الرقم (5) موقع ذوي الاتجاهات الديمقراطية على مقياس المساواة كقيمة مدنية، مقارنة بالاتجاهات السلطوية.
الشكل الرقم (5)
الفروق في الاتجاه نحو المساواة عند الفئات الأربع
إن المسألة الأساسية التي تميز المساواة هي أن الأحاسيس التي ترتبط بها لا تنساب من التقارب الطبيعي ولكن من ماجريات التفاعل الاجتماعي. وهو ما يجعل منها قيمة مدنية بامتياز. وتشكل الرغبة في المساواة للجميع أحد الأسس الرئيسية للوعي السياسي الديمقراطي، لأنه يسهم في تجاوز الفروق الموروثة عن الطبيعة والناتجة من الثقافة والاجتماع على حد سواء. وما يثير الانتباه حقاً هو الارتباط الجيد بين التعبئة المعرفية لساكنة العواصم والاتجاه الإيجابي نحو قيمة المساواة؛ حيث تصل قيمة معامل سبيرمان ما يقارب 0.3 في أوساط الديمقراطيين المستائين، وهي قيمة دالة عند مستوى 0.001. ومن بين الفضائل المثلى لانتشار مبادئ المساواة وتطور التعبئة المعرفية لدى ساكنة المدن، قطع جذور الاهتمام الوسواسي بالسياسة من منظور الأخلاق الجبلية.
ينطوي مفهوم التعبئة المعرفية على تحول عميق في الخطاطات الذهنية التي يعقل الأشخاص من خلالها قضايا السياسة والاجتماع، وذلك في اتجاه الإقبال على معانقة الجوانب غير الرسمية للسياسة وتحدي النخب الحاكمة من خلال الاحتجاج والتظاهر[20]. ويختلف بذلك عن التنظير الذي حظي به مفهوم غريم في المدرسة السوسيولوجية الفرنسية والمتعلق بالكفاية السياسية الذاتية. ويؤدي ارتفاع معدلات التعبئة المعرفية إلى اتساع دائرة المطالبة بالتغيير السياسي. تجدر الإشارة إلى التفوق الكبير الذي يحرزه الديمقراطيون والأوتوقراطيون المستاؤون على هذا المتغير المركب مقارنة بالأشخاص ذوي التوجهات الامتثالية (F=11,86; p<0.001). ويلاحظ أيضاً أن تصاعد التعبئة المعرفية تهم على الخصوص الأجيال الناشئة التي أخذت قسطاً وافراً من التعليم وأضحى النقاش السياسي من أهم محاور اهتمامها. ويبين الشكل الرقم (6) تغيرات هذه الكفاية عند كل من الاتجاهات السياسية الأربعة.
الشكل الرقم (6)
الفروق في التعبئة المعرفية عند الفئات الأربع
وإذا كانت العاصمة فضاءً إيكولوجياً مساهماً، بحكم زخم التفاعلات الاجتماعية والديمغرافية، في تدفق مشاعر الحرمان السياسي وانسياب السخط الاجتماعي، فإنها في المقابل، تدك عبر سيرورة تعاقب الأجيال، الشخصية الجماعية المفعمة بالمشاعر الفطرية لتعوضها رويداً رويداً بالشخصية الفردية التوّاقة إلى الاستقلال الذاتي والتي ترتبط مع الآخرين في تكامل قسري، يفرضه تقسيم متقدم للعمل الاجتماعي. صحيح أن هذا التحول المتوقع والجاري ببطء يتطلب عقوداً طويلة من الاجتياف المعياري؛ ولكن تأثيراته على مستوى تهذيب الأخلاق السياسية للجماهير أمر ساري المفعول. والملاحظ أن العاصمة تحظى بقسط كبير من عوامل التحديث والتثقيف، ما يجعلها مهداً خصباً لتحولات مهمة في الخرائط القيمية والمعرفية لساكنتها. ويوضح الشكل الرقم (7) كيف تؤثر التعبئة المعرفية، عند ساكنة العواصم، في الاتجاه نحو تبني قيم الانعتاق التي تشكل الرغبة في المساواة وتكافؤ الفرص جزءاً أساسياً منها.
الشكل الرقم (7)
التأثير الهامشي للتعبئة المعرفية في الرغبة في الانعتاق
يفيد الشكل الرقم (7) أن اكتساب مستوى تعليمي عال والانخراط في النقاش السياسي، كمتغيرات دالة على التعبئة المعرفية، يسهمان في انكفاء الدوكسا التي تغلف الفروق الاقتصادية والتقسيمات الاجتماعية. ويبدو أن الانقلابات المعرفية التي تحدث عند فئات اجتماعية معينة من شأنها تجريد التمايزات الاجتماعية والسياسية من الأسس الطبيعية التي تتأسس عليها في البنى الإدراكية للمقهورين. غير أن التوترات المتوقع حدوثها جراء هذه الانقلابات تظل محدودة ما لم تمس قيم الانعتاق مجمل الشرائح الاجتماعية من خلال الانتشارية الثقافية[21].
ثالثاً: العاصمة، المجال وتدفق طاقات الحياة:
في تشكل الجمهور النفسي للاحتجاج الثوري في العاصمة العربية
لا يتوقف الاحتجاج في العواصم العربية على الوجود الموضوعي للفضاءات الفسيحة التي تسمح بالاستعمال السياسي للجسد المتمرد فحسب، ولكنه يحتاج أيضاً إلى وجود استعدادات ثقافية وقيمية ومعرفية إضافة إلى شروط اجتماعية ذاتية تدفع الناس إلى تحدي السلطات القائمة. يستوجب الاحتجاج أيضاً تطور رأسمال اجتماعي قائم على روابط مرنة بين ساكنة العاصمة العربية.
1 – من الروابط الصلبة إلى الروابط المرنة: في أسس البنية السوسيومترية للثورة
في مقدمة دراسته الظاهرة البيروقراطية في المجتمع الفرنسي، ينطلق ميشال كروزيي من مصادرة مفادها أن مركزية المنظمات في صياغة الاجتماع في المجتمعات الحديثة يجعل من المدخل التنظيمي منهجاً ملائماً لفهم جوانب مهمة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعاصرة. والواقع أن المدن تشكل منظمات كبرى زاخرة بأنساق من التبادلات يتفاعل في مضمارها الأفراد بشكل يصعب ضبط تفاصيله على مستوى الواقع. فإذا كانت المدينة تبدو كفضاء للاختلاف والغيرية والحرية في التماس أساليب العيش المتنوعة، فإنها تجابه، أي المدينة، هذا التنوع بالعمل الحثيث على حفظ النظام الاجتماعي، وذلك من خلال تكنولوجيات سلطوية تبتغي إخضاع الأجساد والنفوس للضبط والمراقبة. والملاحظ أن آليات الإخضاع لا تتوقف عند حدود المؤسسات التي تحتكر ممارسة العنف الفيزيقي والرمزي المشروعين، ولكنها تمتد أيضاً إلى الاستراتيجيات المجالية التي تسمح للسلطة بالتحكم في النوازع والحد من الطاقات الانفعالية للجماهير. وبذلك يسهم المفهوم القانوني للمجال، حينما يتحول إلى ثقافة مجالية لاشعورية، في تعضيد الأسس الاجتماعية والنفسية لمنظومة السلطة القائمة. غير أن المجال الذي أفرزه التخطيط الحضري في مرحلة الاستعمار من أجل تكثيف الرقابة على التدفقات الديمغرافية، قد تحول في غفلة من السلطات، إلى فضاء للتنازع مع الحركات الاجتماعية. ولقد أوضحت يوميات الثورة فشل السلطات في تجريد الثوار من احتلال الفضاءات العامة الحيوية.
شهدت العاصمة العربية تدفقات ثورية كاسحة واستعمالات سياسية للمجال لم يسبق لها مثيل في تاريخ الانتفاضات في الوطن العربي. ففي الماضي، ظل المفهوم الهندسي للمدينة الإسلامية بعيداً من منطق الساحات العامة والشوارع العريضة القابلة للتوظيف السياسي في إطار ما يسمح به تأويل معيَّن للناموس الإلهي. وقد هيمنت مفاهيم الدين والسلطة والتجارة والسكن على التنظيم المجالي في دار الإسلام[22]، كما صاغت الأزقة الضيقة والدروب الملتوية الحس الثقافي العملي للمجال العام عند المسلمين. ويبدو أنها شكلت صلة وصل بين المنزل والسوق والمسجد والقلعة. وقد لاحظ لوتورنو أن التنظيم المجالي للعاصمة الروحية للمغرب (فاس)، بالرغم من تعقيداته الثقافية، فإنه قد ظل على حاله لمدة قرون[23]؛ إلا أن لحظة اللقاء مع المستعمر، كانت صدمة مجالية وانتهاكاً لقدسية الطابع المعماري للحاضرة العربية. ويمكن القول بأن التنازع المتعلق بالاستعمال الاحتجاجي للمجال في الوسط الحضري، هو سليل الأعراض الجانبية للتخطيط الحضري الاستعماري بأهدافه المضمرة والمعلنة.
ولكن بالرغم من أهمية المجال في تحقيق الامتداد الجغرافي للاحتجاج، فإن العاصمة العربية لم تكن مجرد وعاء طبوغرافي سلبي. على العكس من ذلك تماماً، فهي تمتلك مقومات علائقية تجعل من الاحتجاج حصيلة للعلاقات الاجتماعية بين عدد هائل من الأفراد المختلفين والذين يعيشون في تجاور مجالي ضيق[24].
لقد اشتغلت العاصمة كحاضنة للحركات الاحتجاجية والانتفاضات الشعبية منذ سبعينيات القرن الماضي، وبخاصة مع تراجع الثقل الديمغرافي للأرياف العربية. وأسهم تصاعد الاستياء السياسي المؤسس على تحولات الخرائط المعرفية والثقافية للشباب المتعلم في تأجيج الطلب الاجتماعي على الكرامة والعدالة الاجتماعية. ولكن مركزية المدينة في توفير الشروط القبلية للاحتجاج، لا يعني أن المد الثوري الذي اجتاح العواصم العربية يندرج في إطار ما يسمى «الحق» في المدينة. فبالرغم من كونها ثورات ذات طابع حضري، فإنها تتجاوز على نحو لا جدال فيه، القضايا الصغيرة المتعلقة بحكامة المدن وسياساتها.
ما لا شك فيه أن الفاعلية السياسية للحركة الثورية قد انتعشت إلى حد كبير من طبيعة الروابط الاجتماعية والثقافية المبنية على التكامل الوظيفي. وهو ما كان يسمح ببناء هوياتي ممتد للفعل الجمعي يتجاوز حدود العلاقات المجالية الأولية. ويعتقد الباحثون بأن المدينة توفر الأسس الاجتماعية والجغرافية والثقافية التي تجعل الاحتجاج السياسي ممكناً، وتعد بمنزلة مختبر تتفاعل فيه المتغيرات المسؤولة عن انبثاق التحدي السياسي للسلطة[25]. وبينما تنهل الانتفاضات القروية من سجلات المشاعر الطبيعية، تميل الحركات الاجتماعية الحضرية إلى توظيف الركائز الأخلاقية للاجتماع السياسي المبني على الاختلاف. وقد تجسدت هذه الركائز في التركيبة الأيديولوجية والسياسية للثوار من دمشق حتى الرباط مروراً بالقاهرة وتونس.
وتسهل المدينة على حد تعبير والتر نيكولس، أنماطاً من العلاقات والروابط تعد موارد قابلة للتعبئة في الأفعال الجمعية ضد السلطة القائمة. إنها تسمح بتشكل شبكات متعددة من العقد تسهم في الامتداد الاجتماعي والمجالي للثورة[26]. تدفع هذه الأطروحة إلى التساؤل حول البنية السوسيومترية للحراك الثوري في العواصم العربية، وهو سؤال في غاية التعقيد من الناحية الواقعية بسبب صعوبة تتبع التفاصيل الدقيقة والوقوف على التراكمات العلائقية الجزئية للفعل الثوري. فالملاحقة العلمية للحدث الثوري بهذا الشكل، أمر غير ممكن من الناحية العملية، نظراً إلى الحتمية الزمانية والمكانية للذوات العارفة. ولا شك في أن النماذج الرياضية هي وحدها القادرة على إعطاء صورة عن الاحتمالات التي يمكن أن تتبلور وفقها شبكة العلاقات بين الأفراد في الجمهور النفسي للثورة. ويمكن الاستعانة بنموذج مارك كرانوفيتر حول الروابط الصلبة والروابط المرنة من أجل فهم تبسيطي للانتشار الشبكي للفعل الثوري داخل الإيكولوجيا الحضرية[27].
وبينما تشكل الفئة الأولى من الروابط النواة الرئيسية لانبثاق الاحتجاج في أوساط ناشطين تجمعهم الحميمية والارتباط الوجداني والتبادلية، تساهم الروابط المرنة في الانتشار الأفقي للفعل الثوري من شبكة علائقية إلى أخرى. ويبين الشكل الرقم (8) التبسيطي حالتين مختلفتين من الامتداد العلائقي بين الأفراد والمجموعات. ويوضح التخطيط (أ) انحسار علاقات التواصل عند حدود الروابط الضيقة بسبب ضعف الروابط المرنة. أما التخطيط (ب) فيوضح الدور الكبير الذي يعود للروابط المرنة في توسيع الاتصال بعدد من الشبكات العلائقية. وتشير الخطوط المتقطعة إلى الروابط المرنة، بينما ترمز الخطوط المتصلة إلى الروابط الصلبة.
يعكس حجم الروابط الاجتماعية بين الأفراد مدى تطور وتعقيد النظام الاجتماعي الذي يتأثر بدوره بمدى التقدم التكنولوجي. ولعل الدور الكبير الذي أداه الإعلام الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصال في تشبيك الثوار بعضهم ببعض، قد تجسد في التدفقات الثورية الهائلة التي ما فتئت تغرق شوارع العواصم العربية وميادينها الشهيرة.
ولا غرو أن الانخراط الكبير للجماهير الغفيرة لا يمكن فصله عن الروابط المرنة التي أدت دوراً لا يستهان به في توسيع البنى السوسيومترية للفعل الثوري. وقد تأكد ذلك بالملموس في ميدان التحرير، حيث أسهم اعتصام الناشطين في بناء رأسمال اجتماعي قائم على طاقات وجدانية ومعايير مشتركة وإطارات للإدراك والفهم متفق حول توجيهها لدحر التسلط.
الشكل الرقم (8)
الروابط الصلبة والمرنة عند مارك كرانوفيتر
(أ)
(ب)
المصدر: Mark Granovetter, «The Strength of Weak Ties,» The American Journal of Sociology, vol. 78, no. 6 (1973), p. 1365.
تسهم عوامل التحديث المتمركزة في المدينة العربية في تحرير الأفراد من قبضة المجموعات الطبيعية الأولية التي تهيمن فيها الروابط الضيقة بشكل مطلق وتفتح آفاقاً من التعدد والحرية في اختيار الفضاءات العلائقية المرغوب فيها. وقد أوضحت دراسات كينيث براون أن العلاقات الاجتماعية بمدينة سلا المغربية، التي لا يفصلها عن العاصمة المغربية سوى نهر أبي رقراق، لا تنضبط بخصائص ثابتة؛ ولكنها تأخذ شكل تعاملات وتبادلات مائعة أقل خضوعاً لمنطق الدين والعرق واللغة[28]. ومن بين أوجه تأثيرات الحداثة على المستوى الثقافي، التشكل التدريجي لما يسميه إرنست غيلنر الشخص «المائع». ويشكل هذا الملمح القاعدة النفسية والثقافية الكامنة للاجتماع السياسي والمدني في نظره[29].
غير أن السؤال الذي يطرح في هذا المضمار، يتعلق بنسبة الشخص المرن في أوساط الاتجاهات السياسية قيد الدراسة. وإذا كان ممكناً فهم شخص غيلنر على أساس موضوعي متعلق بالتشبع بقيم التعاون الأفقي والقدرة على الفعل في المنظمات المدنية، أمكن القول، بناء على تقنية التحليل العاملي التقابلي وجود روابط بين الانخراط الطوعي في المنظمات المناضلة وفئة الديمقراطيين المستائين. وهو ما يعني أن توصيف غيلنر ينطبق أكثر على ذوي الاتجاهات الديمقراطية المستاءة أكثر من غيرهم. ويبين الشكل الرقم (9) نتيجة تلك التقابلات:
الشكل الرقم (9)
التحليل العاملي التقابلي للعضوية في بعض المنظمات المدنية
والاتجاهات الديمقراطية والسلطوية
2 – الإقبال على التظاهر في العواصم العربية: بحث في السجلات القيمية والذكاء الاجتماعي عند محترفي الاحتجاج السياسي
ليس هناك ملمح متماسك قادر على اختزال الاقتصاد الثقافي والنفسي للجماهير الثائرة. وذلك لا يرجع فقط إلى الاختلاف بين السياقات الاجتماعية والسياسية التي مهدت لاحتضان الثورة في العواصم العربية قيد الدراسة، ولكن أيضاً إلى التباين الثقافي والاجتماعي لوضعيات الأفراد ومؤهلاتهم داخل المدينة الواحدة. وبالتالي فإن الحديث الأكثر ملاءمة يتجسد في دراسة نماذج مثالية من المواصفات تندرج داخلها طبقات معينة من الناشطين، إذ من الصعب إجراء تنميط معرفي للجماهير الثائرة وذلك على اعتبار أن الدوافع الذاتية وأنساق المعاني الكامنة وراء السلوك الثوري ليست بذلك المستوى من الانسجام الذي تقدمه الصور ما فوق – الواقعية المبثوثة من طرف وسائل الإعلام. فالثورة التي يشارك فيها الفقير والغني، الرجل والمرأة، المثقف والأمي إضافة إلى الطبيب والمهندس والفلاح والعامل، لا تتغذى من نفس الخلفيات الفينومنولوجية ولا تستشرف المستقبل القريب أو البعيد بعقلانية متماسكة. والدليل على ذلك أن النظريات الثورية التي تبدو أكثر تناقضاً، تجد في المعطيات الميدانية ما يبرر صلاحيتها الإيبيستمولوجية. إن اتحاد السيكولوجيا الجمعية ضد الزعيم لا يخفي تعدد السجلات الثقافية والأخلاقية والسوسيو – اقتصادية التي ظلت تنعش تحركات الجماهير. فالثوار لا يشكلون صورة طبق الأصل بعضهم عن بعض كما هو مفترض في العشيرة البدائية القاتلة للفحل في التحليل النفسي الفرويدي. ولا شك في أن دحر بعض أيقونات التسلط السياسي في الوطن العربي قد فتح الباب على مصراعيه أمام صراع دموي بين السجلات القيمية وأنساق مختلفة من المعاني، لا يبدو أنه سيتوقف في المستقبل القريب.
لا يمتلك الثوار مفهوماً موحداً حول أهداف الثورة ولا يتفقون بالضرورة حول الملامح العامة لأنظمة سياسية بديلة. فليست كل الأحلام تكون تواقة إلى الحرية بالمعنى الثقافي والسياسي، بعد إزاحة التسلط، ما لم تكن هناك تحولات جذرية تكبح إعادة الإنتاج الثقافي للأب من خلال صيغ ذكية ووصفات محبوكة. وقد بيَّنت دراسة معتمدة على معطيات الموجة الثانية للبارومتر العربي أن الدوافع الحقيقية للثوار تتجلى في مطالب العدالة الاجتماعية والعيش الكريم أكثر من الحريات المدنية والسياسية[30].
تبدو هذه الخلاصة منطقية إلى حد كبير حين يأخذ المرء بعين الاعتبار موقع الساكنة العربية على هرم الحاجات لماسلو. فالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة لمعظم الشرائح الاجتماعية في البلدان العربية تشكل مصدراً أساسياً لمشاعر الحرمان النسبي والاستياء، وبخاصة مع تدخل المؤسسات الدولية في الاقتصادات الوطنية وتقليص الدور الاجتماعي للدول[31]. لكن هذه الفرضية لا تنطبق بالضرورة على فئات اجتماعية، داخل العواصم، تتوق إلى الحرية وترغب في الانعتاق السياسي. فالعاصمة تفرز بشكل منتظم فئات من الناشطين ينازعون الدولة في احتكار المجال العام ويحرضون المجتمع على مقاومة التسلط والتصدي له. إنهم أشبه بمحترفي الثورة عند حنة أرنت[32]. ويتوقع أن يختلف هؤلاء على المستوى المواصفات الثقافية والديمغرافية، عن رجل الشارع العادي الذي انتشى أول مرة في حياته، لذة الاحتجاج واستعاد الحق في الكلام في الميدان العام. حيث قال أحدهم إنه يحس لأول مرة بأنه رجل بعد مرور أربعين عاماً من حياته.
شكل الناشطون المحترفون النواة المركزية للاحتجاج السياسي إبان الربيع العربي، وتلقفوا بسرعة فائقة الرسالة الأخلاقية لانتفاضة سيدي بوزيد؛ ولكن بناء على سجلات وموارد ذاتية وموضوعية مغايرة.
كانت تجربة العاصمة العربية، وبخاصة في مصر والمغرب ولبنان، غنية وكافية من أجل احتضان حدث كبير بحجم الثورة التي بدا للبعض أنها تشكلت تحت جنح الظلام. ويبين الشكل الرقم (10) تطور الاحتجاج السياسي لدى ساكنة العواصم العربية. ويبدو واضحاً ذلك المنحى التصاعدي للطاقة الاحتجاجية، وبخاصة تلك المتعلقة بالتظاهرات والاعتصامات، وذلك ابتداء من سنة 2001، قبل أن تتفجر الأوضاع خلال مرحلة الثورة. وتجدر الإشارة إلى أن الأشكال الناعمة للاحتجاج، كتوقيع العرائض مثـلاً، قد بدأت تعرف انحساراً أمام الاستعراض السياسي للجسد المتمرد في الساحات العامة.
الشكل الرقم (10)
تطور الاحتجاج السياسي في العاصمة العربية
ولا شك في أن الأشخاص ذوي التوجهات الديمقراطية المستاءة قد ظلوا يشكلون قطب الرحى في هذه الاحتجاجات، متبوعين بالسلطويين المصابين بالإحباط الاجتماعي والسياسي. ويبين الشكل الرقم (11)، الفروق بين هذين الصنفين من التوجهات السياسية (F= 10.89; p<0.001). أما الامتثاليون، فقد ظل انخراطهم مرتبطاً بالظرفيات والحسابات الصعبة.
يكمن السؤال المركزي في طبيعة الاستعدادات التي تحفز محترفي التظاهرات والاعتصامات على الاحتجاج والانخراط في تشكيل الجمهور النفسي للثورة. ويرتبط هذا السؤال أيضاً بعلاقة تلك الاستعدادات بنظريات الحرمان الاجتماعي والاستياء السياسي من جهة، ومن جهة أخرى بالموارد التي توفرها الحداثة الاجتماعية التي تؤهل الأفراد من الناحية الديمغرافية والمعرفية والقيمية وكذلك العلائقية، للإقبال على الاحتجاج.
الشكل الرقم (11)
الاحتجاج عند الديمقراطيين والسلطويين المحبطين
لقد أثبت تحليل التباين وجود فروق دالة في ما يتعلق بالانخراط في الاحتجاج السياسي بين الأشخاص ذوي التوجهات السياسية – الثقافية المختلفة، وذلك لمصلحة الديمقراطيين المستائين، متبوعين بالسلطويين المستائين والديمقراطيين الامتثاليين (F=12.66 ;p<0.001). ويحتل ذوو التوجهات السلطوية الامتثالية المرتبة الأخيرة. وتجدر الإشارة إلى أن الفروق ظلت دالة على جميع مستويات المقارنة باستثناء المستوى المتعلق بالديمقراطيين الامتثاليين والسلطويين المستائين. ويبين الشكل الرقم (12) النتائج المتوصل إليها.
بناء على ذلك، فمن المتوقع أن تتشكل الطلائع الأولى للحث على الثورة في العواصم العربية من الديمقراطيين المستائين. ومن المفترض أيضاً أن يشكل هؤلاء فئة رئيسية من بين مهندسي التظاهرات الثورية السلمية، وذلك قبل أن تلتحق الجماهير المغبونة بالحراك الاحتجاجي.
تبرر هذه الافتراضات دراسة العوامل الثقافية والسياسية والديمغرافية والعلائقية في نشأة هذه الاتجاهات في العاصمة العربية لدى الديمقراطيين المستائين. ومن أجل ذلك، تم استعمال أسلوب الانحدار المتعدد خطوة خطوة من أجل تحديد مقدار التباين الذي تفسره المتغيرات المستقلة. تجدر الإشارة إلى أن اختيار هذه المتغيرات يعكس هاجس اختبار الفرضية الرئيسية للدراسة والمتعلقة بضلوع التحولات القيمية والمعرفية والعلائقية المرتبطة بالتحديث الاجتماعي، في نشأة النواة المركزية للثورة في العواصم العربية.
الشكل الرقم (12)
الاحتجاج السياسي حسب الاتجاهات الثقافية – السياسية
وتندرج المتغيرات المعتمدة في تحليل الانحدار ضمن أربع مجموعات:
أ – المتغيرات المتعلقة بالحرمان النسبي
تهم هذه المتغيرات على الخصوص مشاعر الاستياء من الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمبحوثين، وتعكس عدم الرضى عن الحياة والوضع المالي للأسرة. وتقوم نظرية الحرمان النسبي على مصادرة مفادها أن تغيرات الوضع السوسيواقتصادي تساهم في انتشار مشاعر الحرمان النسبي وبخاصة في أوساط الشرائح الاجتماعية التي تعتمد أسلوب المقارنات الاجتماعية في البناء الرمزي لأوضاعها الاجتماعية. ويعتقد روبرت تيد گير، صاحب نظرية الحرمان النسبي، بأن هذه المشاعر تشكل الأساس النفسي – الاقتصادي لقيام التوترات الاجتماعية والثورات السياسية[33].
ب – المتغيرات المتعلقة بالموارد المتاحة
وهي تهم الإمكانات الذاتية والموضوعية التي يكتسبها الناس في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية، والقابلة للتعبئة في سياقات معينة. تقوم نظرية الموارد على فرضية وجود علاقة سببية بين المؤهلات الاقتصادية والمعرفية والرأسمال الاجتماعي من جهة والإقبال على الفعل الجمعي الاحتجاجي. وتشمل هذه المتغيرات المستوى التعليمي والدخل واستعمال الوسائط الاجتماعية والانخراط في المنظمات الطوعية، إضافة إلى الاهتمام بالسياسة.
ج – المتغيرات المتعلقة بالتحولات الثقافية والقيمية
تندرج هذه المتغيرات ضمن الثقافة السياسية التي تنتج من التعرض لموجات التحديث الاجتماعي والاقتصادي. وتمثل قيم التعبير عن الذات أهم الأطياف الثقافية الدالة على حدوث تحولات ثقافية. وعادة ما تكون مصحوبة بالرغبة في تحدي السلطة القائمة والاتجاه نحو الانخراط في الحركات الاجتماعية ذات النزعة الاحتجاجية.
د – المتغيرات الديمغرافية
وهي تتعلق بالجنس والعمر والوضع العائلي.
ويقدم الجدول الرقم (2) نتائج أسلوب تحليل الانحدار المتعدد، حيث ينتظم الاحتجاج السياسي عند الديمقراطيين المحبطين، كمتغير تابع.
تركز هذه النتائج على محترفي الاحتجاجات الذين شكل معظمهم نواة الثورة، وتبحث في السجلات الثقافية والاجتماعية والعلائقية، ما يفسر انخراطهم في التظاهرات والاعتصامات التي اجتاحت العواصم العربية. وكما كان متوقعاً من خلال فرضيات الدراسة، ترجح نتائج الانحدار المتعدد كفة الحداثة الاجتماعية ومفعولاتها الثقافية على حساب مشاعر الحرمان النسبي.
والواقع أن تأثيرات الحداثة لا تقتصر فقط على توفير الموارد الرقمية والاقتصادية الموضوعية، بل تؤدي أدواراً خاصة على مستوى تطوير الجوانب المعرفية والقيمية والعلائقية للأفراد، وهو ما يجعلهم مؤهلين لتحدي السلطات والمؤسسات السلطوية. ويتضح ذلك على نحوٍ جلي على مستوى معاملات الانحدار لكل من الانخراط في المنظمات الطوعية (=0.71; p<0.001β) واستعمال وسائط الإعلام الاجتماعي (=0.21; p<0.001β) والاهتمام بالسياسة (=0.16 ; p<0.001β) والتشبع بقيم التعبير عن الذات (=0.13; p<0.001β). في المقابل يبقى تأثير متغيرات الحرمان النسبي على السلوك الاحتجاجي دون دلالة (=0.04; p>0.05β)، وذلك بالرغم من وجود علاقة ارتباط دالة بينهما (r=0.084; p<0.001).
تنسجم هذه المعطيات إلى حد كبير مع النتائج المتوصل إليها في بحث حول عينة مكونة من 553 ناشطاً في حركة 20 فبراير بالمغرب. فبالرغم من الارتباط الجيد بين مشاعر الحرمان النسبي والاحتجاج السياسي (r=0.15; p<0.01)، فإن الانحدار المتعدد لم يحتفظ بهذه المشاعر كمؤثر في الاحتجاج الثوري[34]. ولكن، إذا كان هذا المتغير لا يحظى بأهمية كبيرة في أوساط الديمقراطيين المحبطين، فإنه يؤدي رغم ذلك دوراً أساسياً في حث الجماهير المقهورة اقتصادياً على الانخراط في الثورة. وهو ما تتأتى ملاحظته حين يتم التعامل مع ساكنة العاصمة كعينة مختلطة (ß=0.083; p<0.001).
الجدول الرقم (2)
نتائج تحليل الانحدار المتعدد (Stepwise Regression): السلوك الاحتجاجي كمتغير تابع
المتغيرات المستقلة | B | Sig | R‐deux | |
المتعيرات السوسيوديمغرافية | الجنس | −0.12*** | 0.001 | 7.2% |
العمر | 0.05 | 0.2 | ||
المستوى التعليمي | 0.03 | 0.5 | ||
الدخل | 0.02 | 0.6 | ||
الوضع السوسيوقتصادي الذاتي | 0.04 | 0.4 | ||
المتغيرات المتعلقة بالموارد المتاحة | الانخراط في المنظمات الطوعية | 0.71*** | 0.001 | 14.40% |
الاهتمام بالسياسة | 0.16*** | 0.001 | 3.60% | |
استعمال وسائط الإعلام الاجتماعي | 0.21*** | 0.001 | 5.40% | |
الاطلاع على الجرائد والمجلات | 0.07 | 0.1 | ||
متغيرات الحرمان النسبي النسبي | عدم الرضا عن الحياة | 0.04 | 0.3 | |
عدم الرضا عن الوضع المالي للأسرة | 0.04 | 0.4 | ||
المتغيرات القيمية | قيم التعبير عن الذات (Self-Expression Values) | 0.13*** | 0.001 | 9.50% |
مقدار التباين الإجمالي المفسر | 40.20% |
من الناحية الديمغرافية، لا يزال الاحتجاج السياسي في طبقة الديمقراطيين المحبطين مهووساً بالتمايزات الجنسانية. فبالرغم من الحضور النسوي الكثيف في الاحتجاجات الثورية، ظلت البصمة الأنثوية أقل تأثيراً مقارنة بالذكور (ß=-0.12; p<0.001). في حين ينكشف المستوى التعليمي والدخل دون دلالة إحصائية حين يتم التعامل مع الديمقراطيين المستائين كعينة مستقلة.
إن ما يثير الانتباه حقاً هو الوزن الذي يرجع للموارد الرقمية والجمعوية والسياسية في تفسير الانخراط في الاحتجاج. ويصل مقدار التباين المتعلق بهذه المتغيرات إلى 24 بالمئة. ويفسر الانخراط في المنظمات الطوعية لوحده 14 بالمئة من التباين في السلوك الاحتجاجي. وتسمح هذه النتائج بإدراك الأهمية الميدانية للروابط المرنة المشار إليها أعلاه، في الانتشار العلائقي والمجالي للثورة. وتنسجم هذه النتائج مع الأطروحات المتعلقة بأهمية رأس المال الاجتماعي المؤسس على الروابط الأفقية في نشأة الحركات الاجتماعية. أما وتيرة استعمال شبكات التواصل الاجتماعي، فتفسر 5.4 بالمئة من التباين، وهو ما يتوافق مع عدد من الدراسات التي تجعل من الثورة التكنولوجية مدخـلاً للتحولات المعرفية والاجتماعية والسياسية.
ويلاحظ أيضاً التأثير الكبير الذي تمارسه قيم التعبير عن الذات على السلوك الاحتجاجي في أوساط الديمقراطيين المحبطين. وتشكل هذه القيم متلازمة – نفسية ثقافية تكرس الرغبة في الاستقلالية وتحفز على التعبيرات السياسية المشاكسة، وتحتل المرتبة الثانية في نسبة التباين المفسرة (9 بالمئة)، وتسهم إلى حدٍ كبير في تغذية المشاعر المدنية الضرورية للانخراط الطوعي في المنظمات (ß=0.02; p<0.01) والاهتمام بالقضايا السياسية (ß=0.08; p<0.01). وبذلك، فهي تمارس فعـلاً مباشراً على الاتجاه نحو الاحتجاج، وفعـلاً غير مباشر عبر جسر النقاش السياسي والانخراط في المنظمات الطوعية اللذين يؤهلان للاحتجاج من خلال إكساب المهارات المعرفية والذكاء الوجداني. وتتوجب الإشارة إلى أن المتغيرات المدرجة في النموذج أعلاه، تفسر مقدار40 بالمئة من السلوك الاحتجاجي على المستوى الفردي. وهي نتيجة جيدة بالنظر إلى مستوى التحليل ومحدودية المتغيرات المعتمدة.
خاتمة
حاولت هذه الورقة دراسة العلاقة بين الثقافة السياسية الناشئة في العواصم العربية والانخراط في الاحتجاج السياسي. وقد تبين، من خلال التحليل الإحصائي، وجود فروق جوهرية بين الاتجاهات الثقافية المستاءة والاتجاهات الامتثالية، وذلك في ضوء المتغيرات الديمغرافية والقيمية والمعرفية والسياسية. انكشف الديمقراطي المستاء، في هذه المعادلة التحليلية، كملمح ثقافي – سياسي يستحق الملاحقة العلمية نظراً إلى المواصفات الثقافية والسلوكية التي أبان عنها. وبالرغم من الاختلافات المرتبطة بالسياقات الثقافية، ينسجم الديمقراطي المستاء في العاصمة العربية، في الخطوط العريضة، مع النماذج التي تمت دراستها في المجتمعات الغربية والآسيوية والأفريقية، وهو ما يوحي بالدور الكبير الذي أضحت عوامل التحديث تؤديه، في سياق العولمة، على مستوى التنميط الثقافي لأساليب التفكير والفعل السياسيين. فالديمقراطي المستاء في العاصمة العربية الثائرة، ينتمي إلى الأجيال الشابة ويتوافر على مستوى تعليمي عال ودخل متوسط على العموم. ومن الناحية العلائقية والمعرفية، ينخرط في المنظمات الطوعية ويظهر مستويات عليا من التعبئة المعرفية ويهتم بالسياسة في معناها غير الرسمي، وتراه أيضاً ينأى بنفسه من صناديق الاقتراع. وكنتيجة لذلك، يعانق الحركات الاحتجاجية أكثر من ذوي الاتجاهات الأخرى. وقد كشف تحليل الانحدار المطبق على الديمقراطيين المستائين كعيِّنة مستقلة، على دور التشبع بقيم التعبير عن الذات من جهة، والذكاء الاجتماعي المتمثل بالقدرة على بناء رأسمال اجتماعي مرن، في التأثير على الاحتجاج السياسي. وأظهر التحليل أيضاً تفوق الذكور على الإناث في هذا الحراك.
والحقيقة أنه لا يمكن فصل نشأة هذا الاتجاه في الثقافة السياسية عن السياق الثقافي والاقتصادي والديمغرافي للعاصمة العربية. وهو ما تؤكده نسب المقارنة في توزيع الصنوف الثقافية الأربعة. فباعتبارها مركزاً للرساميل المختلفة، تنتج العاصمة، في غفلة من الأنظمة الحاكمة، الشروط الخصبة لانتشار الاستياء السياسي والحركات الاجتماعية. وتنسجم هذه الأطروحة مع الكثير من الدراسات في علم الاجتماع والجغرافيا الحضرية(*).
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 458.
(**)بن أحمد حوكا: باحث في علم الاجتماع السياسي، جامعة محمد الخامس، الرباط.
البريد الإلكتروني: hougua2010@gmail.com
[1] Max Weber, La Ville, traduit de l’allemand et introduit par Aurélien Berlan (Paris: La Découverte, 2014).
[2] Ernest Gellner, «Tribalism and Social Change in North Africa,» in: William H. Lewis, ed., French-Speaking Africa: The Search for Identity (New York: Walker and Company 1965), pp. 107‑118.
[3] Jürgen Habermas, L’Espace public: Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise (Paris: Payot, 1992), pp. 54‑66.
[4] إرنست غيلنر، مجتمع مسلم، ترجمة وتحقيق أبو بكر أحمد باقر ورضوان السيد (بيروت: دار المدار الإسلامي، 1994).
[5] Ronald Inglehart, La Transition culturelle dans les sociétés industrielles avancées (Paris: Économica, 1993), pp. 15‑29.
[6] Ronald Inglehart, The Silent Revolution: Changing Values and Political Styles Among Western Publics (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1977), pp. 293‑295.
[7] Ronald Inglehart, Modernization and Postmodernization: Cultural, Economic, and Political Change in 43 Societies (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1997), pp. 293‑323.
[8] David Easton, «A Re-assessment of the Concept of Political Support,» British Journal of Political Science, vol. 5, no. 4 (October 1975), pp. 435‑475.
[9] Pippa Norris, Democratic Deficit: Critical Citizens Revisited (Cambridge, MA: Cambridge University Press, 2011), pp. 19‑31.
[10] Hans-Dieter Klingemann, «Evidence from Old and New Democracies,» in: Russell J. Dalton and Christian Welzel, eds., The Civic Culture Revisited: From Allegiant to Assertive Citizens (Cambridge, MA: Cambridge University Press, 2013), pp. 116‑157.
[11] United Nations Human Settlements Programme, The State of Arab Cities: Challenges of Urban Transition (Nairobi, Kenya: United Nations Human Settlements Programme, 2012), p. 15.
[12] Seymour Martin Lipset, Political Man: The Social Bases of Politics (Garden City, NY: Doubleday, 1960), p. 102.
[13] Dale F. Eickleman and Jon W. Anderson, eds., New Media in the Muslim World : The Emerging Public Sphere (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2004).
[14] Klingemann, «Evidence from Old and New Democracies».
[15] Henri Terasse, L’Histoire du Maroc, des origines à l’établissement du protectorat (Casablanca: Atlantides Casablanca,1949), tome 1, p. 361.
[16] Theodor Adorno, Etudes sur la personnalité autoritaire, traduit de l’anglais par Hélène Frappat (Paris: Editions Allia, 2007), pp. 370‑399.
[17] Ernest Gellner, Nations and Nationalisme (Ithaca, CA; New York: Cornell University Press, 2006), pp. 48‑50.
[18] Adorno, Ibid.
[19] كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات: مقالات مختارة، ترجمة محمد بدوي؛ مراجعة بولس وهبة، سلسلة علوم إنسانية واجتماعية (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص 511.
[20] Inglehart, The Silent Revolution: Changing Values and Political Styles Among Western Publics, pp. 303‑314.
[21] Christian Welzel, Freedom Rizing: Human Empowerment and the Quest for Emancipation (Cambridge, MA: Cambridge University Press, 2013), p. 110.
[22] Dale F. Eickelman, The Middle East: An Antroplogical Approach (New York, Prentice-Hall, Inc., Englewood Cliffs, 1981), pp. 270‑271.
[23] Roger Le Tourneau, Fès avant le protectorat: Etude économique et sociale d’une ville de l’Occident musulman (Casablanca: Publications de l’Institut des Hautes Etudes Marocaines, 1949).
[24] Justus Uitermark, Walter Nicholls and Maarten Loopmans, «Cities and Social Movements: Theorizing beyond the Right to the City,» Environment and Planning, vol. 44, no. 11 (2012), pp. 2546–2554.
[25] Byron Miller and Walter Nicholls, «Social Movements in Urban Society, the City as a Space of Politicization,» Urban Geography, vol. 34, no. 4 (2013), pp. 452‑473.
[26] Walter Nicholls, «The Urban Question Revisited: The Importance of Cities for Social Movement,» International Journal of Urban and Regional Resaerch, vol. 32, no. 4 (December 2008), pp. 841‑859.
[27] Mark Granovetter, «The Strength of Weak Ties,» The American Journal of Sociology, vol. 78, no. 6 (1973), pp. 1360–1380.
[28] Kenneth L. Brown, People of Sale: Tradition and Change in a Moroccan City, 1830‑1930, (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1976), p. 6.
[29] Ernest Gellner, Conditions of Liberty: Civil Society and Its Rivals (London: Penguin, 1996), pp. 97‑102.
[30] Mark R. Beissinger [et al.], «Who Participated in the Arab Spring?: A Comparison of Egyptian and Tunisian Revolutions,» Princeton University, <http://www.princeton.edu/~mbeissin/beissinger.tunisiaegyptcoalitions.pdf>.
[31] Abderrahim El Maslouhi, «La Banque mondiale, bailleur de «l’Etat social au Maroc»: La Politique sociale saisi par l’ingénierie,» Revue Marocaine de science politique, no. 1 (2010), pp. 119‑137.
[32] Hannah Arendt, On Revolution (New York: The Viking Press, 1963), pp. 262‑263.
[33] Ted Robert Gurr, Why Men Rebel (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1970).
[34] B. A. Hougua, «Autoritarisme de droite et action collective dans le contexte culturel Marocain: Données empiriques et leçons sur le «le printemps arabe»,» dans: Said Bennis et H. Tarik, eds., Trajectoires de la vie et de la science: Sur la fondation et l’engagement, les sciences sociales et la réflexion sur la politique, l’Etat et les politiques, hommage au Abdellah Saaf (Publication de la revue Marocaine des politiques publiques, 2016), tome 2, pp. 29‑50.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.