المؤلف: خالد شهبار
مراجعة: محمد بن همور
الناشر: دار القلم للطباعة والنشر، الرباط
سنة النشر: 2024
عدد الصفحات: 192
مقدمة
أصدر عالم الاجتماع المغربي خالد شهبار في نهاية سنة 2024 كتابًا سمّاه التيارات الإيكولوجية الراهنة: تمرين في التصنيف والنمذجة. ركز الباحث في عمله على تيمة الإيكولوجيا، بوصفها موضوعًا مركَّبًا وراهنيًا، ولارتباطها المتين بالتحولات السوسيواقتصادية والسياسية. سلّط شهبار الضوء بوجه خاص على قضية أساسية تهمّ تنوع المقاربات والتيارات الإيكولوجية الراهنة، التي تتجاذب اليوم المشروع الإيكولوجي على المستوى العالمي.
يهدف الكتاب إلى تعريف أبرز المقاربات الإيكولوجية الراهنة، وتنوير القارئ العربي بأبرز تياراتها، وإطلاعه على السجالات البيئية الحيوية الدائرة حاليًا خارج ساحتنا الثقافية العربية، إضافة إلى تعميق وعيه بالمخاطر والتحديات الكبرى التي يواجهها كوكب الأرض، وتعضيد ثقافته الإيكولوجية وتغذيتها؛ بل وجعله قادرًا على الانخراط في النقاش الكوني حول طبيعة المداخل الضرورية والوصفات الأساسية لوقف النزيف البيئي المستمر، وبخاصة أن الاهتمام بالقضايا البيئية في الوطن العربي لا يزال، رغم أهميته الراهنة والحارقة، يُنظر إليه في أغلب الأحيان، بوصفه مجرد تعبير عن انشغالات هامشية، وهواجس تافهة تحملها الطبقات المتوسطة الحضرية المهووسة بالاحتفاظ بنمط عيشها المرفَّه والمخملي، والسعي الحثيث إلى تجويده أكثر فأكثر.
تتحدّد القيمة العلمية للكتاب بكونه من الإسهامات الريادية والنوعية، التي جعلت من موضوع الإيكولوجيا موضوعًا للتفكير السوسيولوجي. وتتبين القيمة الأساسية في جدته وأصالته على مستوى المقاربة والموضوع. كما يكتسب راهنتيه الإبستيمولوجية لعدة أسباب: أولًا، قلة المراجع ضمن هذا التخصص العلمي. ثانيًا، ضعف المواكبة النقدية والإبستيمولوجية للأعمال النظرية المنجزة في هذا الحقل. ثالثًا، ضعف التأصيل النظري والإبستيمولوجي، فضلًا عن عدم إغفال أهمية الموضوع وخطورته، التي تتطلب معالجة فورية للتدهور البيئي بإجماع جُلّ التيارات الإيكولوجية.
تأتي أهمية الكتاب من كونه يثير قضية راهنية تتعلق بالنقاش الواسع حول التدهور البيئي الكبير، وتأثير السياسات الاقتصادية للرأسمالية على كوكب الأرض. علاوة على تظهيره أهم النقاشات العلمية المحتدمة بين أبرز التيارات الكونية، التي تناولت المشروع الإيكولوجي. سنحاول التركيز في هذه المساهمة العلمية، على أبرز ما جاء به الكتاب، والتعريف بأهم مضامينه وإشكالاته، والخلاصات، التي توصل إليها الباحث، بعد فحصٍ، وتمحيصٍ، ونقدٍ لأهم أطروحات التيارات الإيكولوجية المعاصرة في المجتمعات الغربية.
أولًا: تصنيف ونمذجة الحركات الإيكولوجية في العالم المعاصر
يضم الكتاب عشرة فصول موزعة على 192 صفحة من القطع الكبير، تعالج قضايا وإشكالات بحثية رئيسية ضمن نسق اشتغال العلوم الاجتماعية، التي تتمحور حول الإيكولوجيا السياسية في العالم. وقد ركَّز الباحث في بناء موضوعه على معالجة إشكاليته المركزية المتشعبة، وإخضاعها للدراسة والتحليل والنقد، وهو فصل منهجي أملته طبيعة الإشكالية نفسها. لذلك، جاءت هندسة الكتاب لتُجيب شكلًا وموضوعًا على هذا التمفصل.
عالج الباحث في الفصل الأول «محددات اليقظة الإيكولوجية الراهنة» حيث تطرق إلى أبرز مؤثرات هذه اليقظة الإيكولوجية الراهنة ومشاتلها ومحاضنها، من خلال تبيين أن هناك إجماعًا واسعًا حول حقيقة التدهور البيئي، ومخاطره في ظل خفوت وهج السرديات الكبرى وتزايد الانهمام بالذات، وتوثين السعادة. أما الفصل الثاني «أنصار نظرية الانهيار الشامل والحتمي» أو (الكولابسولوجيون Collapsoloques)، أو (الكارثيون (Effondristes catastrophistes)، فقد تطرق الباحث في هذا الفصل إلى مفهوم الانهيار وتاريخ وقوعه وأسبابه وخصائصه. ليعرِّج بعد ذلك، على تبيان معالم عالم ما بعد الانهيار، وليوضح كيفية تدبير مرحلة ما قبل الانهيار.
ركز الباحث في الفصل الثالث «قارعو أجراس النُّذُر الثوريون المنافحون عن اللانموّ» على أهمية هذا الاتجاه، الذي يعدّ الإيكولوجيا كأولى الأوليات، ويتطرق إلى مسألة بناء مجتمع اللانموّ، ويقترح الحدّ من النمو الديمغرافي والعودة إلى التكنولوجيات الخافتة، كحلول للخروج من الأزمة البيئية الحادة التي يشهدها كوكب الأرض. وانصبّ اهتمام الباحث في الفصل الرابع على تيار «قارعي أجراس النُذُر الإصلاحيين المنافحين عن النمو الأخضر»، حيث سعى إلى إبراز النقاش حول أهمية النموّ الاخضر وموضوع التنمية المستدامة من وجهة نظر هذا التيار. وقدّم بعض الأمثلة للإجراءات البيئية ذات النفَس الإصلاحي، وتطرَّق إلى سيناريو الانهيار، كما وضع مشروع اللانموّ تحت المجهر.
حاول الباحث في الفصل الخامس إبراز منظور «الإيكولوجيين الديكولونياليين»، للأزمة الإيكولوجية الحالية، حيث يرى هذا التيار أنه لا يمكن فهمها من دون وضعها في سياق المسألة الكولونيالية، من خلال استحضار معطيات ومنعطفات التاريخ الاستعماري والعبودي للعالم الحديث. لهذا توقف الباحث عند الزوايا الميتة في السردية الإيكولوجية المهيمنة وبين الكسر المزدوج للكولونيالية، وللبيئة، وللحداثة. أما الفصل السادس فقد خصصه الكاتب لتيار «النباتيين الصِّرف» (أو الخضرية veganisme)، حيث لم يكتفِ الباحث بالتوقف عند العوامل السوسيو – تاريخية، التي ساهمت خلال العقدين الأخيرين في تمدد هذا التيار الإيكولوجي، وانتشاره بالمجتمعات الغربية، بل ورصد بعض أهم أسسه ومرتكزاته، وحاول استجلاء بعض أوجه قصوره وثغراته.
أفرد الفصل السابع لـ«أنصار الإيكولوجيا النسائية»، عبر التطرق إلى سياقات ظهور هذا التيار، وتعدُّد الرؤى وتنوع مقاربته، والقواسم المشتركة، التي تمثل موضوع اجماع واسع بينها، لتتكثف بالاستتباع معنى الإيكولوجيا النسائية ودلالتها اليوم. كما مثّل الفصل الثامن محطة للتعريف بأهم رموز تيار «الإيكولوجيين التحديثيين» (Eco modernisme)، من خلال التطرق إلى أهم منطلقاته وأسسه وأهداف مشروعه. حاول أن يقدم تلخيصًا شاملًا لمعالمه العامة، من خلال تبيين أنه يتأسس على الاعتقاد بأن وقف النزيف البيئي المتواصل مشروط بضرورة فك الارتباط (découplage) بين البحث عن النمو، والإنتاج، والاستهلاك، والتقدم، والسعادة الإنسانية من جهة، وتدمير البيئة من خلال الأثر السلبي للنشاط البشري من جهة أخرى.
اهتم الكاتب في الفصل التاسع بـ«موقع السؤال الإيكولوجي في المتن الماركسي وراهنيته»، حيث قدَّم في هذا الفصل نقدًا للفيلسوف الفرنسي لوك فيري لتجاهله أهمية «الإيكولوجيا الاشتراكية»، ضمن محاولته التوصيفية والتصنيفية لمختلف أطياف المجرَّة الإيكولوجية الراهنة. ويحاول الباحث في هذا الفصل توضيح أهم أسس هذا التيار ومرتكزاته، الذي يستلهم نظرياته من أبرز المسلّمات الماركسية في مقاربتها للأزمة البيئية الحالية. توقف الباحث عند طبيعة السؤال الإيكولوجي وموقعه في نصوص كارل ماركس، كما رآها أهم قرّاء المتن الماركسي وشرّاحه. وبذلك، يكون الكاتب من خلال تقديمه أهم التيارات الإيكولوجية، قد عمل بدقة كبيرة على تصنيفٍ ونمذجةٍ للحركات الإيكولوجية في العالم المعاصر، مستعينًا بأدوات العلوم الاجتماعية في رصد الدينامية وتشخيصها ومتابعتها، وهي التي يتميز بها حقل الإيكولوجيا المعاصر.
ثانيًا: التوجّه الإصلاحي
يحاول الكتاب الإجابة عن الإشكاليات الآتية: هل النظام الرأسمالي السائد حاليًا في معظم دول العالم قابل للإصلاح؛ أم يجب تغييره جذريًا، والاستعاضة عنه بنظام بديل يؤسس لنمط إنتاج جديد، ووعي اجتماعي مختلف ومغاير؟ هل الإنسان هو مركز الكون؛ أم مجرد كائن كبقيّة العناصر والموجودات والمنظومات الحيوية الأخرى المكوِّنة لكوكب الأرض، الذي يجب أن ينعم بالحقوق؟ هل يجب تمتيع الطبيعة بالشخصية القانونية (Sujet de droit)؛ أم يجب أن تظل مجرد موضوع للقانون (Objet de droit)؟ هل يجب السعي إلى حماية كوكب الأرض لذاته – أي بمعزل عن مصلحة الإنسان وحاجاته – أم أنه لا يحمل أية قيمة في ذاته، أي بصرف النظر عن الوجود البشري، وباستقلال عن مصالحه الحيوية؟
أفرزت الإجابات عن هذه الأسئلة توجُّهين كبيرين؛ أولًا، التوجّه الإصلاحي، الذي يسمى أنصاره «الإيكولوجيون السطحيون» (de surface/shallows) في أمريكا، وكندا وفرنسا؛ والواقعيون (Realos) في ألمانيا، على غرار الاشتراكيين الديمقراطيين. يسعى هذا التوجه نحو إصلاح الآثار الجانبية غير المرغوب فيها للنظام الرأسمالي وتصحيحها، في أفق تحسينه وتنقيحه ليصبح «أكثر استدامة» من دون البحث عن نظام بديل له؛ أي من دون السعي إلى التخلي عن الملكية الخاصة، واقتصاد السوق، وبيع قوة العمل وشرائها والاهتجاس بإعادة النظر في منطق البحث عن الحد الأقصى من الربح والتراكم؛ أو مساءلة مشروعية سيرورة التسليع المعمم للاقتصاد ولكل مظاهر الحياة البشرية… إلخ.
ثانيًا، توجه ثوري/راديكالي، يسمى أنصاره في أمريكا وكندا وفرنسا «الإيكولوجيون العميقون» (Profonds/Deep Ecologosits) وفي ألمانيا «الأصوليون» (Fundis). يرى هذا التوجه أن النظام الرأسمالي، المهيمن حاليًا في معظم بلدان العالم، لا يمكن إصلاحه، ما دامت تناقضاته واختلالاته ليست مجرد انجرافات عرضية وطارئة، بل هي أعطاب بنيوية عميقة مرتبطة بطبيعته كنظام اقتصادي وسياسي وثقافي، وكمشروع يعَدّ – بالطبيعة والجوهر – مدمِّرًا للبيئة وللإنسان. ومن ثم، يجب مناهضته، والسعي إلى تقويضه واجتثاثه، وتجاوزه عبر البحث عن بدائل جذرية له.
ثالثًا: خريطة التوجهات الإيكولوجية السياسية
تستند محاولة الكاتب هذه، في رسم خريطة شاملة ودقيقة لأبرز التوجهات الإيكولوجية السياسية في الحقبة الراهنة، إلى قراءة نقدية للعمل الريادي التصنيفي للفيلسوف الفرنسي لوك فيري[1](*)، وبخاصة من خلال مؤلفاته الأربعة: النظام الإيكولوجي الجديد: الشجرة، والحيوان والإنسان (1992)؛ فلسفة الإيكولوجيا: النمو الأخضر أو اللانمو (2013)؛ الإيكولوجيات السبع: من أجل إيجاد بديل للنزعة الكارثية المعادية لما هو حديث (2021)؛ مستقبل الإيكولوجيا… ومستقبلنا (2021).
استند الكاتب إلى أعمال لوك فيري في تسليط الضوء على أبرز تيارات الإيكولوجيا، ويرجع هذا الاستناد في نظره، إلى أن فيري عمل على استعراض مسلّماتها العامة وأركانها الركينة، من خلال كشفه النقاب عن ملامحها القوية وتميُّزها، ومكامن حدودها وقصورها، وأوجه مثالبها وانحرافاتها؛ ناشدًا، في الآن نفسه، استجلاء أهم أوجه التقاطع والاختلاف بينها. بعد أن عمل لوك فيري على المسح الدقيق والشامل لأبرز أطياف المجرة الإيكولوجية، عمد إلى تصنيف التيارات الإيكولوجية وتكثيفها في سبعة تيارات أساسية تُجمع كلها، رغم تمايزها الفكري والسياسي الشديد، على كون العالم يسير على نحو سيئ جدًّا، وأن كوكب الأرض يتعرض للتدمير العضال والتخريب المستفحل من دون توقف، وتنبَّه إلى أن الاستمرار في هذا المنحى والاستسلام لإملاءات الواقع، من دون الاسراع بمسك ثور التدهور الإيكولوجي من قرنَيه، سيقود البشرية حتمًا إلى التهلكة بعد ارتطامها بالحائط.
يؤكد الباحث أن تقريبه للقارئ العربي من خلال أعمال لوك فيري في ما يخص الأزمة الإيكولوجية الراهنة، لا تسكنه الرغبة في الدفاع عن المخارج والحلول التي يقترحها من أجل حماية البيئة، والحفاظ على الموارد الطبيعية، وتقليص البصمة الإيكولوجية، على غرار دفاعه المستميت عن «الإيكولوجيا التحديثية» أو تجاهله الإشارة، ولو بصورة خاطفة، إلى تيار آخر – ثامن – أي «الإيكولوجيا الاشتراكية»، رغم توهجه الكبير خلال العقود الأخيرة. كما لا يمليه الانجراف نحو تزكية بعض مواقفه تجاه بعض التوجهات الإيكولوجية ومباركتها، في أفق تسويغها في العالم العربي.
خلافًا لذلك، ينبّه الكاتب، إلى أن كل حديث عن الإيكولوجيا السياسية (أو الحركة الإيكولوجية) بصيغة المفرد يعدّ شاردًا ومنفصلًا عن الواقع، لتعدُّد دروب ومسالك الدفاع عن البيئة، وتنوُّع الوصفات المقترحة لوضع حد للتدهور الإيكولوجي المستمر. وأن القيمة المضافة لمحاولة لوك فيري بما تضمنته من وصفات لحماية البيئة ووقف تخريب المجال الحيوي والحفاظ على الموارد الطبيعة وتقليص البصمة الإيكولوجية، لا يعني أنها تتعالى على المساءلة النقدية الجادّة والرصينة؛ لكونها لا تخلو، مثلها مثل أي مجهود علمي، من نواقص، ولا تنجو من مآخذ وثغر، يمكن حصر أهمها في ما يأتي:
أولًا، يرى الكاتب أن لوك فيري في سياق محاولته استجلاء الأسباب العميقة والعلل الفاعلة التي تقف وراء اليقظة الإيكولوجية الراهنة، وكشف النقاب عن المحاضن والمشاتل التي تغذي قوتها الدافعة بالكثير من بلدان المعمور، توقف لوك فيري عند ثلاثة متغيرات سوسيو – تاريخية، وصفها بمداخل مركزية لفهم شروط وسياقات تفجُّر الوعي البيئي واستمراره في الترعرع، والتوطُّد والتكرُّس، هي كالآتي:
– تمثل نوعًا من الاجماع الكوني العريض حول خطورة ما يتعرَّض له كوكب الأرض من تخريب وتدمير على يد الإنسان بفظاعة لا تضاهى، واقتناع قسط واسع من الرأي العام بضرورة تحويل المنظور، وتغيُّر الوجهة كما لوحة القيادة لتجنُّب الكارثة.
– الفراغ الشاسع الذي خلّفه تراجع بعض أهم «السرديات الكبرى» وخفوت وهجها في المجتمعات الغربية، مع ما استتبعته من إحساس مواطنيها بالفراغ وفقدان المعنى.
– تزايد منسوب التطلع إلى الرفاهية والصحة والسعادة، وانتشار منطق الانهمام بالذات والحرص على العناية بها والإنصات إلى حاجاتها؛ ومن ثم البحث المستمر عن محيط إيكولوجي سليم وصحي.
في المقابل، وبالرغم من أنه لا يمكن إنكار دور هذه المتغيرات في تصاعد المدّ الإيكولوجي وضخ مزيد من الوقود في محركاته، يرى شهبار أن لوك فيري قد أغفل ظاهرة «الحرمان الاجتماعي النسبي» التي سبق لهوبير بيلمون أن نبّه إلى ثقل مفعولها، في سياق بحثه عن أسباب بروز «الحركات الإيكولوجية» في فرنسا.
ثانيًا، لاحظ الباحث أن لوك فيري يسلِّم، في سياق حديثه عن مؤشرات المد الإيكولوجي الكوني الراهن، بأن الانشغال بالقضايا البيئية يظل حكرًا على الدول الصناعية الغنية فقط دون سواها، إذ يختزل الظاهرة الإيكولوجية في ما يسمى «إيكولوجيا الوفرة» (أو «إيكولوجيا الأغنياء»)، و«عبادة الطبيعة البكر» اللتين تعرفهما بلدان الشمال. فيتجاهل بذلك ما يسمّيه عالم الاقتصاد الإسباني جوان مارتنيز ألبير «إيكولوجيا الفقراء» التي تعرف إشعاعًا قويًّا داخل الكثير من بلدان «الجنوب».
ثالثًا، ينتقد شهبار تجاهل لوك فيري وجود تيار إيكولوجي ثامن، مثل «الإيكولوجيا الاشتراكية» التي تستلهم أبرز المسلَّمات الماركسية في مقاربتها الأزمة البيئية الحالية؛ فتؤكد تبعًا لذلك، الترابط الوثيق بين طبيعة النظام الرأسمالي السائد بمعظم بلدان العالم والأزمة الإيكولوجية الحالية، والتعالق الشديد بين التدهور البيئي والاستغلال الطبقي، بين المسألة الاجتماعية، وبين الإنصات لتأوّهات الـ غايا (Gaia) العظيمة والإصغاء إلى صرخات الفقراء ومهمَّشي بلدان «الشمال» و«الجنوب».
رابعًا، يدحض الباحث تصوُّر لوك فيري، الذي ينتصر للوصفة البيئية التي تقترحها الإيكولوجيا التحديثية، وإيمانه الشديد بأن التكنولوجيا قادرة على وقف تدمير المجال الحيوي، حيث يرى أنه سقط، على غرار كل المتشبِّعين بالنزعة التكنولوجية المتفائلة (Le techno-optimisme) الذين يعتقدون بقدرة التقدم المستقبلي المحتمل للعلم والتكنولوجيا على حل كل مشاكل البشرية (le techno-solutionnisme) في فخاخ النزعة الانتظارية، التي تفضل الهروب إلى الأمام والاستسلام لإملاءات الواقع، عوضًا من الإسراع، هنا الآن، بمسك ثور التدهور الإيكولوجي من قرنَيه لتجنب الارتطام بالحائط.
خامسًا، يستهجن شهبار إيمان لوك فيري بكون النظام الرأسمالي شكلًا نهائيًا للإنتاج الاجتماعي وأفقًا يستحيل تجاوزه بوصفه جزءًا من نظام الأشياء. كما ينتقد توهُّم لوك فيري بإمكان «أكلجته»، عبر جعله أخضرَ ونظيفًا، وتسليمه بإمكان إصلاحه من الداخل عبر التحكّم في «تجاوزاته» و«انحرافاته» البيئية. وهو ما يبيِّن أنه ليس مؤمنًا لا بإمكان وجود «أنثروبوسين جيد» (Bon anthropocène)، ولا بـ«كابيتاسولين جيد» (Bon capitalocène) أيضًا، وهذا ما يعني أن لوك فيري يتجاهل الترابط الشديد بين النظام الرأسمالي بنزعته الإنتاجية والاستهلاكية المفرطة، ومنطقه التنافسي المحموم القائم على معيار التكلفة/العائد، وسعيه بالطبيعة إلى التسابق نحو التراكم غير المحدود للرساميل والأرباح والبضائع من جهة؛ والتدهور الإيكولوجي الحالي، من جهة أخرى. ورغم هذه الثغر، ينوّه شهبار بمحاولة لوك فيري التوصيفية والتصنيفية الريادية للقوى الأساسية الفاعلة في المشهد الإيكولوجي اليوم، التي تمثل، من دون مبالغة، قيمة مضافة ونوعية للتراكمات العلمية التي تم إنتاجها خلال العقود الاخيرة حول القضية البيئية.
خلاصة
لا يسعنا سوى الإشادة بهذا العمل العلمي الرصين، الذي لم يكتفِ بالمساهمة في تعريف القارئ بالسجالات البيئية الحادة، التي تدور رحاها اليوم في المجتمعات الغربية بين مختلف التيارات المدافعة عن الحق في التمتع ببيئة نظيفة وسليمة ومستدامة، وتغذية ثقافته الإيكولوجية وتخصيبها وتعضيدها، بل تحسيسه أيضًا بالمخاطر البيئية الكارثية التي تحوم حول الانسان والموجودات الأخرى، في أفق جعله «كوليبريًا» في قناعاته الفكرية وسلوكاته اليومية. ولا بد كذلك، من الاعتراف، بالعمل النقدي الذي قام به الباحث اتجاه مجموعة من القضايا، والتيارات، والرموز العلمية والفلسفية في العالم الغربي. هذا، من دون إغفال الطابع المنهجي الدقيق، الذي ميَّز الكتاب، والتماسك المنطقي والإبستيمولوجي والمفهومي لقضاياه.
لا شك أن مثل هذا العمل المتميِّز يعدّ إضافة حقيقية للمكتبة العربية، وبخاصة أنه ينفتح على عدة حقول ويربط بينها بصورة متينة جدًا. استطاع الباحث، انطلاقًا من موضوع الإيكولوجيا، أن يوضح قصور السياسة، وعماء الاقتصاد، وتهميش الشعوب وتفقيرها، واستبعادها من صنع القرار الجماعي وتحديد المصير المشترك. عمومًا، تظل مثل هذه المبادرات العلمية الملتزمة، على ندرتها، القاعدة الأساس لردّ الاعتبار للعلوم الاجتماعية في السياق العربي، من خلال الحرص على الدقة والأصالة الأكاديمية، وفي الآن نفسه ربط هذه المعرفة بعموم المهتمّين.
المصادر:
نُشرت هذه المراجعة في مجلة المستقبل العربي العدد 555 أيار/مايو 2025.
محمد بن همور: مختبر الإنسان، المجتمعات والقيم، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة ابن طفيل، القنيطرة – المغرب.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.