المؤلف: عبد الله هرهار

مراجعة: محمد الإدريسي

الناشر: الدار البيضاء: أفريقيا الشرق

سنة النشر: 2020

عدد الصفحات: 304

 

-1-

أصدر عالم الاجتماع والأنثروبولوجي المغربي عبد الله هرهار[1] مطلع هذه السنة كتابًا جديدًا موسومًا بـالتنوع الثقافي: قضايا وإشكالات، يمثل امتدادًا لعمل سابق حول الأرض والثقافة: دراسات مختارة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا[2]. يسلط الكتاب الضوء على تعاطي العلوم الاجتماعية مع مفهوم الثقافة وأبرز القضايا والمفاهيم المجاورة له، وعلى رأسها التنوع والتعدد والاختلاف الثقافي، بالاستناد إلى نصوص مؤسسة لحوالى واحد وثلاثين مفكرًا من خلفيات معرفية وعلمية مختلفة (الفلسفة، الأنثروبولوجيا، السوسيولوجيا، الفلسفة، الأدب، العلوم السياسية…). لا يتعلق الأمر فقط بمفكرين من «دول الشمال»، بخلاف ما دأبت عليه معظم الأدبيات السوسيولوجية والأنثروبولوجية في الموضوع، بل ينفتح الباحث على مفكرين وكتاب من «الجنوب» ينتمون إلى المنطقة العربية من أجل «توفير مادة معرفية غنية ونصوص للاشتغال والتوظيف من إنتاج مفكرين من مجالات معرفية [وتداولية] متنوعة» (ص 7).

يهدف الباحث إلى تبيان الطبيعة الإشكالية والمعقدة لموضوع التنوع الثقافي على صعيدين اثنين. أولًا، «ارتباطه وانشباكه مع مفاهيم عديدة كاللغة، الهوية والقومية وغيرها من المفاهيم» (ص 5). ثانيًا، تشكيله لقضية صعبة ومركبة في مفترق طرق مجموعة من التخصصات المختلفة، بالشكل الذي «يجعل المتمعن ينتقل بين علوم ومعارف مختلفة، تبدأ من الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وتنتهي في الفلسفة والعلوم السياسية…» (ص 5). وتبعًا لذلك، يؤكد الباحث أن الكتاب ذو طبيعة إيبيستيمولوجية ومفهومية ترصد التطور التاريخي لقضية التنوع الثقافي بعيون باحثين من ألوان معرفية مختلفة ومتنوعة، وفي الآن نفسه يتسم بطابع بيداغوجي-جامعي، حيث يقدم مادة معرفية للطلبة والباحثين في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا من منظور الأصول الإيبيستيمولوجية والنظرية التي أسست لتعاطي العلوم الاجتماعية مع موضوع التنوع الثقافي.

تتحدد القيمة الإيبيستيمولوجية للكتاب في كونه يتبنى مرجعية أنثروبولوجية «كونية» الأسس والمنطلقات النظرية والفكرية؛ بمعنى أنه يتجاوز جدلية المركز والهامش في تطوير الممارسة السوسيولوجية والأنثروبولوجية وإنتاج المعرفة العلمية من خلال اختيار وإدراج مقاطع ونصوص لمفكرين وباحثين من مرجعيات ثقافية مختلفة (من دول الشمال كما الجنوب) وتجاوز الحدود الضيقة بين «الإنسانيات» نحو تجسير الحوار المتعدد التخصصات في معالجة ثيمة معقدة مثل التنوع الثقافي، وتزداد تعقيدًا في عصر الأنفوسفير[3] والثورة الصناعة الرابعة[4]. إضافة إلى ذلك، ولتجاوز الإشكالات الايتيمولوجية للترجمة في حقل «الاجتماعيات»، عمد الباحث إلى الاختيار الدقيق لنصوص أصلية أو مترجمة إلى لغة الضاد من جانب متخصصين في المجال تحريًا للدقة واحترام التوافقات المصطلحية بين الجماعات العلمية بالمنطقة العربية من جهة، ووضع القارئ في سياق السجالات النظرية والمفهومية التي أعقبت تلقي المجالات التداولية العربية لقضايا التنوع والتعدد والاختلاف الثقافي منذ النصف الثاني من القرن الماضي من جهة أخرى. كل ذلك مع الحفاظ على «التقاطع والداخل بين موضوعات الكتاب» (ص 6) في إطار سرد سوسيولوجي وأنثروبولوجي دقيق وكتابة رفيعة موجهة للمتخصصين، كما العموم، الأمر الذي يجعل المؤلف مدخلًا أساسًا لأنثروبولوجيا الثقافة والتنوع الثقافي وعملًا فريدًا بالسياق التداولي المغربي والعربي يدفع القارئ نحو الاحتكاك المباشر بالأصول الإيبيستيمولوجية والنظرية الرئيسة ومجاوزة القراءات الثانية والثالثة للمتون المؤسسة التي هيمنت لعقود على العديد من الإنتاج العربية في المجال.

-2-

يضم الكتاب ستة فصول، موزعة على 304 صفحة من القطع المتوسط، تعالج قضايا وإشكالات بحثية رئيسة ضمن نسق اشتغال الإنسانيات والاجتماعيات حول موضوع التنوع الثقافي. خُصص الفصل الأول لتعريف مفهوم الثقافة في علاقتها، بشكل رئيس، بمفهوم الحضارة. ركز الفصل الثاني على علاقة الثقافة بالهوية وشروط بناء الهوية الثقافية. تناول الفصل الثالث التفاعل بين الفردي والجماعي في تشكيل الثقافة، خاصة تلك العلاقة المعقدة بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة. انصب الفصل الرابع على معالجة قضية أو إشكالية الثقافة والاختلافات العرقية في علاقتهما بسؤال المركز والهامش والقول بالتنوع الثقافي. اهتم الفصل الخامس بتسليط الضوء على العلاقة بين مفاهيم التنوع، الاختلاف والتعددية الثقافية من أجل تبيان التفاعلات والتقاطعات الإيتيمولوجية والنظرية فيما بينها والرهانات التي تحكم التعاطي السياسي والاجتماعي معها. أُفرد الفصل السادس والأخير لمعالجة قضية الحقوق الثقافية والسياسية بوصفها نقطة تلاقي بين السياسي والعلمي من جهة، وتقاطع الإنسانيات والاجتماعيات في إطار تطوير ممارسة علمية من المجتمع والثقافة ونحوهما في اتجاه إعادة تفكير العلاقة بين المحلي والكوني من منظور تعددي بالضرورة من جهة أخرى.

يقدم الكتاب نصوصًا منتقاة بعناية عن أصولها الفكرية والنظرية لحوالي واحد وثلاثين مفكرًا وباحثًا في قضايا الثقافة والتنوع الثقافي من مختلف المشارب الفكرية والجغرافية: أندريه ثيفنان، جيروم كيغان، سيغموند فرويد، دنيس كوش، محمد عابد الجابري، سالمون ديورنغ، محمود الذوادي، باتريك سافيدان، ألان تورين، مارسيل غوشيه، حسام الدين علي مجيد، فيليب ديريبارن، كريستوف فولف، أحمد أمين، كلود ليفي ستراوس، إميل دوركايم، علي أومليل، عاطف عقلة عضيبات، إدغار موران، أنطوني جيدنز، أمارتنا صن، ويل كيمليكا، بريان باري، غريب سيد أحمد، صامويل هنتنغتون، عبد الكبير الخطيبي، فليب حتّي، عبد اللطيف اللعبي، برهان غليون. إضافة إلى ذلك، يعرض الكتاب مقاطع من إعلان اليونسكو بخصوص تنوع الثقافة البشرية، وأيضًا مقتطفات حول سياسة عدم التمييز من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من أجل استشكال «العلاقة بين التنوع والاختلاف الثقافيين والحقوق الاقتصادية، الثقافية والسياسية» (ص 6).

-3-

يكسب الكتاب راهنيته الإيبيستيمولوجية لثلاثة أسباب رئيسة. أولًا، قلة المراجع العربية ضمن تخصص الأنثروبولوجيا[5] عامة، والمداخل المنهجية والنظرية الموجهة نحو الطلبة والباحثين خاصة. ثانيًا، ضعف المواكبة النقدية والإيبيستيمولوجية للأعمال النظرية والميدانية المنجزة في الحقل من جهة، والتباعد المتزايد بين المرجعيات النظرية والمنهجية «المشرقية» و«المغربية» من جهة أخرى، وهو ما يعيق تطوير تصور أنثروبولوجي موحد بالمنطقة. ثالثًا، ضعف التأصيل الإيبيستيمولوجي للمفاهيم الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، ضمن سياقاتها ومرجعياتها وتوظيفاتها المختلفة، قبل ربطها بسياق الممارسة العلمية المحلية. وعلى هذا الأساس، يقر الباحث بأن عمله ينصبّ أساسًا على رصد تطور الحقل المغناطيسي لمفهومَي الثقافة والتنوع الثقافي في حقلي الاجتماعيات والإنسانيات وتقديم مادة معرفية خام للباحثين من أجل ضبط المفاهيم الأنثروبولوجية أولًا، والوعي بسياقات الاستعمال والتوظيف ثانيًا، بالشكل الذي يحترم الخصوصيات المفهومية لكل تخصص والتقاطعات الحاصلة مع الحقول المجاورة؛ وبخاصة وأننا أمام قضية أنثروبولوجية معقدة وذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية مختلفة وتزيد تعقيدًا بفعل تحولات العصر الرقمي.

تعج المكتبات العربية بالعديد من المؤلفات الأنثروبولوجية النظرية التي ترصد تاريخ، مفاهيم التخصص وأهم قضاياه الإيبيستيمولوجية على امتداد القرنين الماضيين، إلا أن أغلبيتها تفتقر إلى ذلك الترابط الإيبيستيمولوجي بين القضايا النظرية، المفهومية والمنهجية وسياق تطورها التاريخي وأفق تبيئته بالسياق المحلي. لهذا، نعتبر أن التأصيل الجينالوجي للشروط الموضوعية لتطور المفاهيم الأنثروبولوجية بالعودة إلى المتون النظرية والانخراط في السجالات النظرية حول مناهج وتقنيات الاشتغال الأنثروبولوجي شرطان سابقان لولوج الميدان. تزيد أهمية هذا الأمر في سياق محلي لازال يهمش الأنثروبولوجيا و«يضعها في قفص الاتهام كعلم استعماري»[6] ويعمل على «إضفاء صبغة إثنية على المعرفة السوسيولوجية [والأنثروبولوجية] لأغراض سياسية وإيديولوجية، في أطار مشروع مسكون بهم سياسي أكثر منه علمي… [مرتبط] بالمشروع الوطني الدولاتي»[7].

إضافة إلى كل ذلك، هناك حاجة، من نوع خاص، إلى مثل هذه المداخل الإيبيستيمولوجية والمفهومية مقترنة بنتائج عقود من التهميش وغياب المأسسة الحقيقية لحقل الأنثروبولوجيا بالسياق المحلي. «انتشرت في الآونة الأخيرة موضة انتحال صفة أنثروبولوجي [من خارج دوائر العلوم الاجتماعية بمعناها الضيق: السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا…] من جانب باحثين من مرجعيات الآداب، الثقافة الشعبية، العلوم السياسية والتاريخ… الأمر الذي يشوش على القارئ المبتدئ الذي سيطلع على دراسات كتبت تحت يافطة الأنثروبولوجيا دون توافرها على شروط البحث الأنثروبولوجي من الناحية النظرية والمفاهيمية والمقارباتية»[8]. ونظرًا إلى أن الأنثروبولوجيا لا تدرس كمسلك أو تخصص قائم الذات في العديد من الجامعات العربية، بما في ذلك الجامعة المغربية، يصبح تزويد الطلبة والباحثين بنصوص الاشتغال الأولية، المقاربات والمفاهيم المؤطرة للتخصص – ومداخل أو دلائل نظرية «دقيقة» – جهدًا ضروريًا لقطع الطريق أمام استغلال التخصص لغايات غير علمية من جهة، ومن جهة أخرى ضمان «نقل» معارف وخبرات نظرية وإيبيستيمولوجية «خالصة» نحو المهتمين لتجاوز «الوضعية الضبابية والهجينية التي تتخبط فيها الأنثروبولوجيا في البلدان العربية»[9].

-4-

ضمن العرف الأكاديمي لاشتغال الجماعات العلمية، تلعب المداخل وسلاسل النصوص الموضوعاتية دورًا أساسًا في تطوير الممارسة العلمية وجعل خبرات الأجيال المخضرمة في متناول الأجيال الناشئة. ففي الفلسفة، السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وحتى العلوم السياسية [ضمن المجال التداولي الفرنسي على سبيل المثال] غالبًا ما توكل مهمة وضع دلائل منهجية ونظرية للطلبة والباحثين إلى المفكرين والأساتذة الأكثر خبرة في التخصص (ريمون بودون، مارك أوجي، محمد الشرقاوي، فرانسوا ديبي…) ليس من أجل استثمار جهد سنوات من التفكير النظري والبحث الميداني في تقديم مداخل مبسطة وعلمية من داخل التخصص فقط، وإنما لمشاركة الباحثين الناشئين ما يحدث في «مطبخ أو ورشة التخصص [الأنثروبولوجيا أساسًا]» (بلغة حسن رشيق)[10]. تزيد حاجتنا من جديد لهذا الكتاب في السياق المغربي، حين نصادف انتشار مداخل للسوسيولوجيا وللأنثروبولوجيا مكتوبة من باحثين خارج دوائر «الاجتماعيات» نفسها. لذلك، فالأساس هنا هو الاستفادة من الخبرات النظرية والمنهجية والميدانية للمتخصصين في حقل الأنثروبولوجيا بغية التفكير في مستقبل التخصص نفسه: سؤال الأجيال المستقبلية والمأسسة الإيبيستيمولوجية لهوية التخصص بالسياق المحلي…

تبعًا لقضايا المأسسة والهوية الإيبيستيمولوجية في علاقتها بمسألة البحث والتدريس في حقل الأنثروبولوجيا، انخرط الباحث في غمار تجربة منهجية فردية في ما يخص تقديم الدلائل والمداخل المنهجية، النظرية الإيبيستيمولوجية، والتي اقترنت بالمجال التداولي الفرنسي والأنغلوساكسوني وارتبطت بمجال الفلسفة[11] بالسياق المغربي دون أن تحظى باهتمام كبير في حقل السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. نتحدث هنا عن تجربة اختيار وتقديم نصوص ومفاهيم أنثروبولوجية مرتبطة بثيمة التنوع الثقافي من أجل وضع القارئ في سياق منطق تطور الأفكار والنظريات الأنثروبولوجية وفقًا لترابط إيبيستيمولوجي ومفهومي يعيد تفكير تاريخ الأنثروبولوجيا من خلال قضايا وثيمات موضوعاتية تفتح عيون الباحثين مباشرة على النظريات والأصول المؤسسة للتخصص. بطبيعة الحال، تظل مداخل النصوص متكاملة ومترابطة مع المداخل النظرية والمنهجية، إلا أنها تتسم بصعوبات أكبر.

يعد اختيار المرجعيات النظرية أول صعوبة توجه الباحثين في مجال السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. ويمكن القول بأن فكرة توفير نصوص دقيقة لأنثروبولوجيين ومفكرين متخصصين ستسهم أكثر فأكثر في اختصار الكثير من جهد الباحثين في اختيار المرجعيات النظرية المناسبة واستثماره في التعمق في النظريات المختارة بعينها. وبما أن مهمة اختيار المرجعيات النظرية صعبة، فإن عملية اختيار النصوص أصعب بكثير ولا تتأتى إلا للمتخصصين الذين راكموا سنوات في البحث والتدريس في المجال. وقد نجح الباحث في هذه المهمة من خلال نهج مبتكرة قائم على اختيار النصوص وفقًا للتشابكات المفهومية التي تثيرها قضايا التنوع الثقافي، الأمر الذي يجعل هذه النصوص «متداخلة ومتماسة مع بعضها البعض» (ص 6) انطلاقًا من اختيار وتوظيف النصوص في إطار التطور الإيبيستيمولوجي والنظري للقضايا المعالجة. بهذا المعنى، ليس المهم هو اختيار نصوص عامة حول ثيمة التنوع الثقافي حصرًا، وإنما البحث في الترابط الإيبيستيمولوجي والمفهومي الناظم لتطور نظر الاجتماعيات والإنسانيات لقضايا التنوع الثقافي. على سبيل المثال، يسمح هذا النهج للباحثين والمهتمين بفهم التمفصلات النظرية وسيرورة الانتقال من الثقافة إلى التنوع الثقافي انطلاقًا من شبكات مفهومية دقيقة.

من أجل مجاوزة القضايا التي تطرحها مسألة الترجمة في العلوم الإنسانية، وبخاصة في ظل اختلاف المرجعيات الفكرية وطرائق النظر إلى الأنثروبولوجيا بالبلدان العربية، اختار الباحث نصوصًا مترجمة من جانب باحثين ومفكرين متخصصين ولهم إسهامات كبيرة في التقعيد الإيبيستيمولوجي والإيتيمولوجي لترجمة الأصول والنصوص المؤسسة. لقد تركزت جهود العديد من مؤسسات الترجمة العربية (المنظمة العربية للترجمة (لبنان)، المركز القومي للترجمة (مصر)، المركز الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت)…) على محاولة التقعيد لمعاجم موحدة قصد حصر الاختلافات والاختيارات الترجمية المتنوعة والدفع بسيرورة الترجمة إلى العربية نحو الأمام. لهذا، يظل استثمار هذه الجهود والاعتماد على النصوص المترجمة من قبل هذه المؤسسات، في أفق التطوير والتجويد، اختيارًا موفقًا يتماشى والرهان البيداغوجي للكتاب؛ فالتركيز على التمفصلات التاريخية الإيبيستيمولوجية لتطور المفاهيم في العلوم الاجتماعية أكثر عملية من الانخراط في سجالات الاختيارات الترجمية التي لا تخدم دومًا تطوير ممارسة علمية وجماعات علمية محلية مؤسسة لمجتمع المعرفة؛ على الأقل وفقًا لمنطق الأولويات الإيبيستيمولوجية ومطلب الشرعية الاجتماعية والسياسية للاجتماعيات.

-5-

يشدد الباحث في جل أعماله على أهمية الطابع المفهومي والوعي بالتمفصلات المفهومية للنظريات والمرجعيات الفكرية ضمن نسق الممارسة العلمية من جهة، وتطوير الكتابة في الحقل السوسيولوجي والأنثروبولوجي من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك، يدعو إلى ضرورة جَسْر الحوار بين مختلف التخصصات الاجتماعية تحت توجيه وقيادة المتن الفلسفي. فإذا كانت الفلسفة فن تكوين وإبداع المفاهيم (بلغة دولوز)، فيجب على التماسك المنطقي الإيبيستيمولوجي وشرط العلمية الحقيقية للاجتماعيات أن يقترن بتشكيل وتطوير التماسك المفهومي بين البناءات النظرية وعالم الميدان. إن التمايز الحاصل بين «الثقافتين»[12] العلمية والأدبية (بلغة تشارلز بيرسي سنو) يعود أساسًا إلى استثمار الأولى في التقعيد العقلي والتجريبي للبناءات المفهومية الدقيقة، الأمر الذي مكنها من الحصول على شرعية اقتصادية واجتماعية انعكست إيجابًا على تطورها وموقعها الاعتباري، في حين أن الثانية ظلت بعيدة عن تحقيق هذا الرهان. صحيح أن خصوصيات الإنسانيات والاجتماعيات لا تسمح لها بتقديم مفاهيم ونظريات بحمولات علمية ثابتة وقابلة للتعميم، إلا أنه من الواجب عليها الاستثمار في إضفاء المعنى على المفاهيم والنظريات انطلاقًا من التمفصلات التاريخية لتطور الفكر في تفاعلها مع الميدان. فالممارسة العلمية الحقيقة تكمن في بناء المفاهيم، وهذا البناء لا يتم إلا بإدراك التطور التاريخي والنظري لهذه المفاهيم نفسها.

يمكن القول بأن تركيز الباحث على التمفصلات المفهومية في اختيار النصوص يتماشى والتعقيد الذي يصاحب القضايا المرتبطة بالثقافة والتنوع الثقافي. يتعلق الأمر بمفاهيم تستعمل على نطاق واسع ومن طرف تخصصات مختلفة دون إدراك للشرط التاريخي الإيبيستيمولوجي لتطورها. وفي بعض الأحيان قد توظف لغايات ورهانات سياسية أو أيديولوجية، في إطار ثنائيات المركز والهامش، الشمال والجنوب، الكوني والمحلي… في ثوب علمي. وتبعًا لذلك، من شأن العديد من نصوص هذا المؤَلف أن تسهم في تصويب النظرة العربية خصوصًا، والمحلية عمومًا، إزاء المعرفة الأنثروبولوجية وتدفعنا إلى إعادة التفكير في استعمالاتنا للعديد من المفاهيم المبتورة من سياقاتها الإيبيستيمولوجية والتاريخية.

يعدّ الكتاب واحدًا من الأعمال النادرة بلغة الضاد التي تتجاوز نمط المركزية «الغربية» الخالصة في إنتاج المعرفة وتحيد عن الرهانات الضيقة لابتداع علوم اجتماعية «عربية [إسلامية]» مفصولة عن المنطق التاريخي لتطور المعرفة، من خلال انخراطها في سجال نظري بين ما كتبه «الآخر» والـ«نحن» إزاء قضايا الثقافة والتنوع الثقافي. فما دامت «الكونية التي تتبلور أمام أنظارنا دون أن تقتلعنا عن ذواتنا هي القادرة على ردنا إلى جوهر هويتنا، لكونها في نهاية المطاف ليست سوى استجابة أبرزتها كونية الطبيعة الإنسانية وشموليتها» (ص 6)، فإن الحديث عن كونية المعرفة يفرض بالضرورة التفكير في المحلي بعيون الكونية ومعرفة الذات انطلاقًا مما أنتجه الـ«نحن» و«الآخر» بالشكل الذي لا يتعصب للخصوصيات المحلية ولا ينفي شمولية المعرفة العلمية نفسها. وتبعًا لذلك، عمد الباحث إلى اختيار النصوص التي تبين الطابع الكوني للتفكير في قضايا التنوع الثقافي من جهة، وتقف عند الحوار بين «الآخر» والـ«نحن» إزاء بعض القضايا الشائكة (الهوية، اللغة، الثقافة الوطنية، الترميق الثقافي، التعددية الثقافية الليبرالية، الأقليات الثقافية، صراع الثقافات، الهيمنة الثقافية، الحق في الاختلاف…) من ثانية، وتدفع بالنقاش الفكري خارج حدود الاجتماعيات نحو الأدب، الشعر، السياسة… من ثالثة. كل ذلك من أجل الدفاع عن مسلمة أن التفكير العلمي في قضايا شائكة مثل التنوع والتعددية الثقافية، المحليانية والكونية، القطرية والقومية… لا يستقيم دون انفتاح على المرجعيات الفكرية والمعرفية في تعدديتها النظرية والاختصاصية خارج ثنائية المركز والهامش.

لابد من الإشارة إلى أن المرجعية الأساس للباحث هي السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. لهذا، نجد تركيزًا على النصوص والمفاهيم الأنثروبولوجية والسوسيولوجية وانفتاحًا على الفلسفة، والأدب… في حدود ما يسمح به تشعب القضايا والمفاهيم المعالجة في سياقها التاريخي والنظري، الأمر الذي أكسب الكتاب مزيدًا من التماسك المنطقي. إن جَسْر الحوار بين الإنسانيات والاجتماعيات لا يعني بالضرورة فقدان البوصلة المفهومية الإيبيستيمولوجية لكل تخصص وإنما، بالضرورة، استثمار البناءات النظرية والمرجعيات الفكرية المختلفة في تشبيك القضايا المعالجة وسبر مختلف أبعادها وتمفصلاتها الأساس. لذلك، يمكن إدراج الكتاب ضمن خانة المؤلفات ذات مرجعية «الفكر المركب» (بلغة إدغار موران) التي تتوسل بالتداخل الاختصاصي، خارج الدوائر الضيقة للتخصص، وتتصالح مع الأصول الفلسفية والإيبيستيمولوجية من أجل بناء المعنى الأنثروبولوجي.

-6-

يحمل الكتاب قضايا وإشكالات ستلهم الباحثين والمهتمين من أجل بناء وإعادة تفكير العديد من المسارات والعناصر البحثية المرتبطة بسؤال التنوع الثقافي في سياق تحولات العصر الرقمي. وعلى هذا الأساس، وبقدر ما يفتح الكتاب سجالات فكرية ونظرية عديدة، سيكون من الجيد مواصلة العمل على هذا النهج المبتكر من أجل تقديم دلائل ومداخل نصوص وقضايا سوسيولوجية وأنثروبولوجية تربط الإرث النظري للأصول بتحولات العوالم المعاصرة من أجل توجيه الباحثين لمُدارسة تأثير الثورة الصناعية الرابعة، الأنفوسفير، رأسمالية المراقبة، دولة الشركات، مجتمع المخاطر المنعدمة… على الواقع الحقيقي لمقولات الوحدة والتعددية الثقافية. إن الإنسانية قد انخرطت في مسار جديد من الحياة الرقمية دائمة الاتصال (onlife) (بلغة لوتشيانو فلوريدي) بالشكل الذي انتقلنا بموجبه من الحديث عن عالم افتراضي موازٍ للعالم الواقعي نحو عوالم افتراضية بدأت تستهلك الواقعي والمقولات الفلسفية الكلاسيكية للوجود الإنساني (الهوية، الثقافة، الخصوصية…) لتعيد إنتاجها رقميًا تحت قيادة الموجات الجديدة من الرقمنة والثقانة. لذلك، فرضت تحولات ثورة الذكاء الاصطناعي الحديث عن مجتمع رقمي موازي للمجتمع الواقعي كما ثقافة رقمية موازية للثقافة الواقعية…

في الأخير، لا يسعنا سوى التنويه بالجهد الكبير المبذول من جانب الباحث في سبيل البحث عن المرجعيات النظرية واختيار النصوص الدقيقة المؤسسة لهذا العمل، في ما يشبه الرحلة الكرونولوجية نحو عقود وعقود من البحث الأنثروبولوجي في قضايا الثقافة. ولا بد كذلك من الاعتراف بقوة الفكر في تحقيق التماسك المنطقي والإيبيستيمولوجي والمفهومي بين قضايا الكتاب، بالشكل الذي سيغني القارئ عن المداخل الكلاسيكية إلى الأنثروبولوجيا وسيشجعه على الاحتكاك المباشر بالنصوص الأصلية والمؤسسة لمجال الاجتماعيات عمومًا. تظل مثل هذه المبادرات العلمية الملتزمة، على قلتها وندرتها، القاعدة الأساس لرد الاعتبار للاجتماعيات بالسياق العربي والثالثي من خلال الحرص على الدقة والأصالة الأكاديمية، وفي الآن نفسه ربط هذه المعرفة بعموم المهتمين. فإذا كانت هناك جهود عالمية كبير في سبيل تطوير سوسيولوجيا للعموم خلال السنوات الأخيرة، فلما لا يمكن التفكير أيضًا في أنثروبولوجيا للعموم تصوب النظرة «الكلاسيكية» للأنثروبولوجيا كعلم استعماري أو خاص بالشعوب البدائية، في نظر الفاعل الاجتماعي كما الاقتصادي والسياسي المحلي، والتشديد على مركزتيها وراهنيتها في فهم وتحليل قضايا التنوع الثقافي ضمن العوالم الحضرية كما الرقمية.