كلمة عن الترجمة

بدايةً، لا بد من الاعتراف بأن ما دفعني لتعريب هذا العمل كان الشعور بالغضب، إذ عقب وفاة بيل هوكس في كانون الأول/ديسمبر 2021 – قُبيل عيد ميلادها السبعين ببضعة شهور – امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي (وخصوصًا منصة تويتر، إكس حاليًا) بالاقتباسات والمقولات المنسوبة إلى هوكس، ودراسات النعي والتذكر. وقد غلب على هذا الاحتفاء التركيز على جانب أو زاوية بعينها من أعمال هوكس، وهو الجانب المتعلق بالحب والشعر والرعاية والتفاؤل والاهتمام (care) … إلخ. ونادرًا ما أُشير إلى أعمال هوكس النقدية الجذرية، أو جرى مناقشتها كنسوية سوداء مناهضة للعنصرية. ذكرتني – بحسرة – هذه القراءات «الاحتفائية والنيو ليبرالية» من نسويات بيض و/أو من نسويات ملونات لاراديكاليات (بما في ذلك الكتابات العربية القليلة التي نشرت عنها) بالتناقض الكلي بين أعمال هوكس التي قرأتها أو استخدمتها في التدريس داخل قاعات البحث، وبين شخصية الباحثة الحاضرة والنابضة بالحياة في أغلب أعمالها المنشورة، والتي تكاد تتجسد شاخصة من بين السطور. إنني ما زلت أتذكر القشعريرة التي انْتابَتني بعد قراءة هذا النص للمرة الأولى بعد توصية شديدة من صديقة بريطانية كويرية (Ellie Carbtree)، وتشجيع من شريكتي (Darya Tsymbalyuk) وتحمّس صديقي العزيز، المخرج والناقد الفني وشريك في الترجمة إسلام ميلبا، على ترجمة هذا النص تحديدًا إلى العربية لأهميته النظرية والمنهجية، كيف أصبحت أعمال هوكس بعد ذلك من أهم المصادر النقدية التي جعلتني أكثر نقدية وراديكالية وإلمامًا (وبصورة تقاطعية) بالتحيُّزات العرقية والقومية والجندرية والطبقية والمنهجية المتوارثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتحديدًا حقول العلوم السياسية والنظرية السياسية وعلم الاجتماع السياسي الدولي.

نعم، كتبت هوكس عن الحب والرعاية والشوق، ولكنها أيضًا، وبصورة أساسية، كتبت الكثير والكثير عن المعاناة والأذى والعنصرية، والاستبعاد، والعنف الذكوري والمؤسساتي ضد المرأة، وعن العرق، والعرقنة، والعنصرية الممنهجة والإقصائية ضد النسويات السود والملوَّنين في الولايات المتحدة‏[1](*)، والأهم عن ضرورة إيجاد نظرية نسوية ونقدية أجندتها المركزية هي تحويل المجتمع.

رغم المسحة المتحاملة أو الاستعلائية أو العجرفة الذكورية (Mansplaining) (بوصفي رجلًا يتحاشى التحدث عن النساء أو التعليّق أو الشرح لهن بطريقة فيها تعال وثقة زائدة) التي قد يعتقدها البعض، فإنني بصراحة نظرت إلى مثل هذه القراءات والتعليقات (وليس إلى شخوص الكاتبات أو المعلقات أنفسهن) كتجسيد لما أسمته هوكس نفسها في هذا النص المُعّرب بـ «النسوية التافهة» (lifestyle based-feminism) التي خشيت أن تحوَّل الحركة النسوية إلى أسلوب حياة فارغ من أي معنى حقيقي. زد على ذلك، تكون هذه القراءات قد عملت، عبر تركيزها على هذا الجانب الأحادي من مسيرة هوكس النسوية النضالية، على تحقيق ما كانت هوكس نفسها تخشى حدوثه لها، أي أن يتم تدجين العملية النسوية التحويلية (أي الساعية إلى تغيير المجتمع) بسهولة إن لم تكن متجذرة في الالتزام السياسي للحركة النسوية الجماهيرية ونضالاتها، إلى نمط حياة وشيء لطيف (cute) لا يثير الغضب أو أي مشاعر «سلبية» أو يقوض أسس البنى الرأسمالية العنصرية والإقصائية المهيمنة.

إنني، وبكل صراحة – وربما بتحامل – رأيت هذه النوعية من بعض كتابات وقراءات نسويات بيض أوروبيين وغير راديكاليات عن هوكس، نوعًا من التشويه والاستيلاء والاستحواذ على إرث ناقدة ومناضلة نسوية راديكالية، بشكل، مرة أخرى، وكما تنبأت هوكس نفسها في هذا النص المُترجم، أن تصبح معه الحركة النسوية والنظرية النسوية عمومًا «سلعة لا يقدر على تكلفتها إلا ذوو الامتيازات أو تتحول النسوية لشكل من أشكال الرفاهية».

بوعي أو بلا وعي نقدي، لم تقم الكتابات الرثائية إلا بالنقيض لكل ما دعت إليه ودافعت عنه هوكس. وعليه، فقد شعرت بالغضب الشديد من هذه التعليقات والاقتباسات المنتشرة عبر منصات التواصل الاجتماعي والتي تصورها وتقدمها (بصورة أحادية) بوصفها «مُحّبة» و«وردية» و«لطيفة» وتدعو إلى «التصالح» مع العالم. تتسرب هذه القراءات في رأيي بصورة خفية وناعمة، عاملة على حذف ومسح، وربما حتى التبرؤ من، التاريخ النضالي والكتابات المناهضة للعنصرية والطبقية، المناهضة لذوي الامتيازات والاستحقاقات التي وفرتها لهم/لهن هذه البنى الهرمية العنصرية والإقصائية. في التحليل الأخير، أرى أن ما جرى هو النقيض. فكان لزامًا أن تُستثمر ذكرى وفاة هوكس لتعزيز وتوجيه أغلب نظرياتنا النسوية نحو تحويل الوعي، أو تعطيل وتقويض عمليات التسليع والتشيؤ التي تقوم بها النسويات البيض النيوليبراليات، والتي تقف حائلًا منيعًا ضد تعزيز قيام حركة نسوية ثورية عالمية أكثر عدالة وإنصافًا.

النص الأصلي

اسمحوا لي أن أبدأ بالقول بأنني لجأت إلى التنظير‏[2](*) لأنني كنت أتألم – وكان الألم في داخلي شديدًا إلى درجة أنني لم أستطع الاستمرار في الحياة. لجأت إلى التنظير يائسة، راغبة في الفهم – فهم ما كان يحدث حولي وفي داخلي. والأهم من ذلك أنني أردت لهذا الألم أن ينطوي ويزول. لقد وجدت في فعل التنظير حينها ملاذًا للتعافي.

تعرَّفت إلى النظر مبكرًا، عندما كنت لا أزال طفلة، كتب تيري إيغلتون في كتابه أهمية النظرية يذكرنا بأهمية النظرية قائلًا:

«إن الأطفال هم أفضل المُنظّرين/المنظّرات، لأنهم لم يتعلموا بعد قبول ممارساتنا الاجتماعية الروتينية بوصفها أشياء «طبيعية»، ولذلك يصرّون دائمًا على طرح الأسئلة العامة والأساسية الأكثر إحراجًا حول تلك الممارسات، وينظرون إليها بنفور مدهش، وهذا سلوك نسيناه نحن الكبار منذ أمد بعيد. وبما أنهم لم يدركوا بعد أنّ ممارساتنا الاجتماعية هذه بمنزلة أمر لا مفرَّ منه، فإنهم لا يفهمون لماذا لا نفعل الأشياء بشكل مختلف» (Eagleton, 1990: 34).

في طفولتي، كنت دائمًا ما أعاقَب كلما حاولت إجبار الناس من حولي على القيام بالأشياء بنحو مختلف، والنظر إلى العالم بنحو مختلف، وذلك عبر استخدام النظرية كوسيلة للتدخل لمساعدتي على فهم العالم وتحدي الوضع الراهن. ما زلت أتذكر محاولتي في سن مبكرة جدًا أن أشرح لأمي لماذا اعتقدت أنه من غير المناسب أبدًا لأبي، هذا الرجل الذي نادرًا ما يتبادل معي أطراف الحديث، أن يكون له الحق في تأديبي، ومعاقبتي جسديًا بالجَلد‏[3](*) كان ردُّها على كلامي الادعاء بأنني فقدت عقلي، وأحتاج إلى المزيد من العقاب المتكرر ليتم تأديبي.

تخيل لو شئت كيف يكافح هذان الزوجان الشابان الأسودان أولًا وقبل كل شيء الامتثال لتنفيذ الأعراف الأبوية (أي تلك الداعية لبقاء المرأة في البيت وقيامها برعاية الأطفال، بينما الرجل هو الذي يكسب العيش) حتى لو كانت مثل هذه الترتيبات تعني من الناحية الاقتصادية، أنهم سيعيشون دائمًا بأقل مما يستحقون. حاولوا التخيُّل كيف كان الأمر بالنسبة إليهما، كلاهما يعمل بجد طوال اليوم، ويكافح من أجل إعالة أسرة مكونة من سبعة أطفال، علاوة على اضطرارهما للتعامل مع طفلة بعيون لامعة، تتساءل بلا هوادة، وتجرأت على تحدي سلطة الذكور، وتمردت على القاعدة الأبوية ذاتها التي كانوا يحاولون جاهدين للتطبيع معها ومأسستها.

يبدو أنه بدا لهما أن وحشًا ما قد ظهر بينهما في هيئة وجسم طفل – كشخصية شيطانية صغيرة تهدد بتخريب وتقويض كل ما كانوا يسعون إلى بنائه وتحقيقه. فلا عجب إذًا أن ردهم على محاولة التمرد هذه كانت بالقمع والاحتواء والمعاقبة. لذا، فليس مستغربًا أيضًا أن تقول لي أمي بين الفينة والأخرى، بنبرات غاضبة ومحبطة: «لا أعرف من أين أتيت بك، لكني بالتأكيد أتمنى إعادتك من حيث أتيت».

لكم أن تتخيلوا الآن أيضًا، لو شئتم ذلك، معاناتي وأنا طفلة. حيث لم أشعر مطلقًا بأنني مرتبطة حقًا بهؤلاء الأشخاص الغرباء، بأهلي الذين لم يفشلوا فقط في فهم نظرتي إلى العالم، ولكنهم ببساطة لم يرغبوا في سماعها. عندما كنت طفلة صغيرة، لم أكن أعرف من أين أتيت، وعندما لم أكن أسعى بشدة إلى الانتماء إلى هذا المجتمع العائلي الذي لا يبدو أنه يقبلني أو يريدني، كنت أحاول يائسة اكتشاف مكان انتمائي. كنت أحاول مرارًا أن أجد طريقي إلى المنزل‏[4](**). لقد كنت دومًا أحسد «دوروثي» على رحلتها في «ساحر أوز»‏[5](***)، وكيف أنها استطاعت السفر إلى أسوأ مخاوفها وكوابيسها، لتكتشف في نهاية رحلتها أنه «لا يوجد مكان مثل البيت». عندما كنت أعيش مرحلة الطفولة دونما الشعور بالانتماء إلى بيت ما، وفرت لي عملية «التنظير» مكانًا وملاذًا، وساعدتني على فهم ما يجري من حولي. لقد وجدت ملاذًا يمكنني فيه أن أتخيل مستقبل محتمل، مكانًا يمكنني أن أعيش فيه الحياة بصورة مختلفة. وقد أصبحت هذه التجربة «المعاشة» للتفكير النقدي والتحليل، مكانًا عملت فيه على فهم الأذى، بل وإخفائه. لقد تعلمت، بصورة أساسية، أن النظرية يمكن أن تكون مكانًا للتعافي.

تخبرنا المحللة النفسية أليس ميلر (Alice Miller) في مقدمتها لكتاب سجناء الطفولة (Miller, 1990: xi-xv) كيف أن كفاحها الشخصي للتعافي من جروح الطفولة هو ما دفعها إلى إعادة التفكير والتنظير للفكر الاجتماعي والنقدي السائد حول معنى ألم الطفولة وإساءة معاملة الأطفال. خلال حياتها البالغة، وعبر ممارستها العملية، كيف عُدّت النظرية مكانًا للتعافي. على نحو ملحوظ، كان عليها أن تتخيل نفسها في فضاء الطفولة، وأن تنظر مرة أخرى من هذا المنظور، لتستدعي «معلومات مصيرية، وإجابات عن الأسئلة التي لم يتم الرد عليها طوال دراستها للفلسفة والتحليل النفسي» (Miller, 1990: 14). فعندما ترتبط تجربتنا الحياتية في التنظير بشكل أساسي بعمليات التعافي الذاتي والتحرر الجماعي تختفي حينها الفجوة بين النظرية والتطبيق. في واقع الأمر، ما تظهره وتعكسه هذه التجربة بصورة جلية هو الرابطة التي تجمع بين الاثنين، وكيف أنه خلال تلك العملية المتبادلة في نهاية المطاف يعمل أحدهما على تمكين الآخر.

ليست النظرية بطبيعتها عملية علاجية أو تحررية أو ثورية. فالنظرية تؤدي هذه الوظيفة فقط عندما نطلب منها القيام بذلك، ونوجه جهود تنظيرنا نحو هذه الغاية. فعندما كنت طفلة، لم أصف بالتأكيد عمليات التفكير والنقد التي انخرطت فيها على أنها فعل «تنظير». ومع ذلك، وكما اقترحت في كتابي النظرية النسوية: من الهامش إلى المركز (Hooks, 1984)، فإن امتلاك مصطلح لا يؤدي بالضرورة إلى ظهور عملية أو ممارسة؛ وفي الوقت نفسه، فقد يمارس المرء فعل التنظير دون معرفة/امتلاك هذا المصطلح على الإطلاق، تمامًا كما يمكننا أن نعيش ونتصرف في وضع مقاومة نسوية دون استخدام كلمة «النسوية» على الإطلاق (Hooks, 1984: 17-31).

غالبًا لا يكون الأفراد الذين يستخدمون مصطلحات معينة بِحرية، مثل «النظرية» أو «النسوية»، هم ممارسيها، أي الذين تجسد عاداتهم في الوجود والفعل ممارسة التنظير أو الانخراط في النضال النسوي. في الواقع، غالبًا ما يتيح فعل التسمية المتميز لمن هم في السلطة الوصول إلى أنماط الاتصال التي تمكنهم من تقديم تفسير وتعريف ووصف لعملهم وأفعالهم وما إلى ذلك. تكون هذه التفسيرات والتعريفات عادةً غير دقيقة، وقد تحجب عنا حقيقة ما حدث. تقدم مقالة كاتي كينغ (Katie King) «إنتاج الجنس والنظرية والثقافة: إعادة رسم الخرائط المثلية/الغيريَّة في النسوية المعاصرة» (King, 1990) مناقشة مثمرة حول الطريقة التي يمكّن بها الإنتاج الأكاديمي للنظرية النسوية، المصاغة في بيئات هرمية، النساء (وتحديدًا النساء البيض، من ذوات المكانة/حيثية الاجتماعية العالية والنفوذ) من الاستفادة من أعمال الباحثات النسويات اللاتي قد يحظين بمكانة أقل، أو معدومة، أو حضور، أو تأثير أقل، وعدم الاعتراف بهذه المصادر‏[6](*). إن مناقشة الطريقة التي يتم بها تخصيص العمل و/أو الطريقة التي ينسب بها القراء في كثير من الأحيان الأفكار إلى باحثة/مُفَكِّرٌة نسوية معروفة، حتى لو ذكرت تلك الشخصية في عملها أنها تبني عملها على أفكار مستمدة من مصادر أقل شهرة، والتركيز بنوع خاص على عمل المُنظِّرة، التي تنحدر من قبائل تشيكانا، شيلا ساندوفال (Chela Sandoval). حيث تخبرنا كينغ بأنه: «لم يتم نشر أعمال ساندوفال إلا بشكل غريب ومتقطع، ومع ذلك فإن أطروحتها غير المنشورة المتداولة‏[7](*) ويتم الاستشهاد بها على نطاق واسع، غالبًا ما يتم الاستيلاء عليها، ونادرًا ما يُفهم نطاق تأثيرها» (King, 1990: 90). وبالرغم من أن كينغ تخاطر بوضع نفسها في دور القائمة بالرعاية بينما تتولى بصورة بلاغية موقف السلطة النسوية، وتحدد مدى ونطاق تأثير ساندوفال، فإن النقطة الحاسمة التي تشدد عليها هي أن إنتاج النظرية النسوية معقد/مركب. بمعنى أوضح أنها ليست ممارسة فردية كما يُعتقد في كثير من الأحيان، وعادة ما تنشأ عبر التعامل مع المصادر الجماعية. تشجعنا كينغ على أن يكون لدينا منظور موسع حول ماهية عملية التنظير، مرددة في ذلك صدى المُنظّرين/المنظّرات النسويين، وخاصة المُنظّرات النساء من ذوات البشرة الملونة اللاتي عملن باستمرار لمقاومة بناء الحدود النقدية المقيدة داخل الفكر النسوي.

يسهل علينا التفكير النقدي في الإنتاج المعاصر للنظرية النسوية فهمَ كيف أن التحول من المفاهيم المبكرة للنظرية النسوية، التي أُصر على أنها كانت أكثر أهمية عندما شجعت ومكّنت الحركات والممارسات النسوية، يبدأ بالحدوث أو على الأقل يصبح أكثر وضوحًا مع عملية الفصل العنصري ومأسسة عملية التنظير النسوي في الأكاديميا، مع الميل لتفضيل اتجاهات الفكر/النظرية النسوية المدونة عن الروايات الشفهية. في سياق متصل، كانت تُصر الجهود التي تبذلها النساء السود وذوات البشرة الملونة لتحدي وتفكيك «الأنوثة»، على الاعتراف بأن الجنس ليس العامل الوحيد الذي يحدد بُنى الأنوثة كتدخل حاسم أدى إلى ثورة عميقة في الفكر النسوي، وهي نظرية استجوبت وخلخلت النظرية النسوية المهيمنة التي أنتجتها في المقام الأول النساء الأكاديميات، ومعظمهن من البيض.

عقب هذا التشويش أو الإخلال، فإن الهجوم الحاسم على التفوق الأبيض‏[8](*)، كما تجلى في شكل تحالف الممارسات النقدية النسوية بين الأكاديميات البيض وأقرانهن من الذكور البيض، يبدو أنه تم تكوينه ورعايته حول الجهود المشتركة لصوغ وفرض معايير التقييم النقدي والتي ستستخدم لتمييز ما هو نظري عما هو ليس كذلك. وغالبًا ما أدت هذه المعايير إلى الاستيلاء على و/أو خفض قيمة العمل «غير الملائم» والذي عُدّ فجأة غير نظري، أو غير نظري بما فيه الكفاية. في بعض الدوائر، يبدو أن هناك علاقة مباشرة بين تحوُّل الباحثين النسويين البيض نحو العمل النقدي والتنظير من جانب الرجال البيض، وبين امتناعهم عن إبداء الاحترام الكامل وتقييم الرؤى النقدية والعروض النظرية التي تقدمها باحثات ومنظرات سود ومن ذوات البشرة الملونة.

إن العمل الفكري/النقدي الذي تؤديه النساء من ذوات البشرة الملونة والمجموعات المهمشة من النساء البيض (على سبيل المثال، المثليات، والمهوسات جنسيًا‏[9](*))، وبخاصة إذا كانت مكتوبة بطريقة تجعلها في متناول جمهور عريض من القراء، حتى ولو كان هذا العمل يسهم في تمكين وتعزيز الممارسة النسوية، فإنه غالبًا ما يتم حسبانه غير شرعي في الأوساط الأكاديمية. وعلى الرغم من أن مثل هذا العمل الفكري غالبًا ما يتم الاستيلاء عليه من قبل الأفراد أنفسهم الذين يضعون هذه المعايير النقدية التقييدية، فإن العمل ذاته الذي يزعمون القيام به في أغلب الأحيان ليس نظريًا أصيلًا، أو أنه ليس نظريًا بدرجة كافية. وهنا يبدو جليًا أن أحد استخدامات هؤلاء الأفراد للنظرية هو استخدام ذرائعي/نفعي. فهم يستخدمون هذه الأعمال لإنشاء تراتبيات فكرية تنافسية غير ضرورية؛ تسهم في إعادة تشكيل سياسات الهيمنة من خلال تصنيف بعض الأعمال على أنها أقل شأنًا أو متفوقة أو تستحق الاهتمام إلى حد ما. في مقالتها سالفة الذكر تؤكد كينغ أن «استخدامات النظرية تتباين حسب مواقع توظيفها» (King, 1990: 89). فمن الواضح أن إحدى الوظائف المتعددة للنظرية في المواقع الأكاديمية هو إنتاج تسلسل فكري هرمي وطبقي، حيث يكون العمل الوحيد الذي يتم حسبانه عملًا نظريًا حقًا هو العمل الذي يكون شديد التجريد، والرطانة، وصعب القراءة، ويحتوي على مراجع غامضة قد لا تكون واضحة أو يمكن شرحها على الإطلاق. وترى الناقدة الأدبية ماري تشايلدرز (Mary Childers) أنه أمر مثير للسخرية أن يتم النظر إلى «نوع معين من الأداء النظري لا يمكن أن يفهمه إلا مجموعة صغيرة من الناس» (Childers and Hooks, 1990: supra note 6, at 60 and 77) على أنه تمثيل لأي إنتاج للفكر النقدي الذي سيجري الاعتراف به في الكثير من الأوساط الأكاديمية بوصفه تجسيدًا لما يسمى «النظرية». من المثير للمفارقة بوجه خاص عندما يكون هذا هو الحال مع النظرية النسوية. فمن السهل علينا تخيُّل مواقع ومساحات مختلفة خارج التبادل الأكاديمي، حيث لن يُنظر إلى هذه النظرية على أنها عديمة الفائدة فحسب، ولكن على أنها غير تقدمية سياسيًا، وكنوع من الممارسة النرجسية المتمركزة حول الذات التي تسعى معظمها غالبًا لخلق فجوة بين النظرية والممارسة، من أجل إدامة البنية النخبوية الطبقية. في هذا البلد (الولايات المتحدة الأمريكية) هناك الكثير من الأماكن، حيث الكلمة المكتوبة لها معنى بصري بسيط‏[10](*)، لا يجد الأفراد الذين لا يجيدون القراءة أو الكتابة أي فائدة للنظرية المنشورة، بغضّ النظر عن مدى وضوحها أو غموضها. ومن ثم، فإن أي نظرية لا يمكن تداولها عبر المحادثات اليومية لهؤلاء الأفراد، لا يمكن التعويل عليها لتثقيف الجمهور.

لنا أن نتخيل ما يحدث من تغيير داخل الحركات النسوية عندما يأتي الطلاب، وأغلبهم من النساء، إلى فصول «دراسات المرأة»‏[11](**) ويقرأون ما يقدم لهم على أنه نظرية نسوية، فقط ليشعروا أن ما يقرأونه ليس له أي معنى، ولا يمكن فهمه، وحتى في حال فهمه لا يمكن بأي حال من الأحوال ربطه بالحقائق «المعاشة» خارج الفصل الدراسي. مثل هذا الشعور يدفعنا كناشطين/ناشطات في مجال حقوق المرأة لنسائل أنفسنا، ما جدوى النظرية النسوية التي تهاجم النفوس الهشة للنساء اللاتي يكافحن من أجل التخلص من نير النظام الأبوي القمعي. يجب أيضًا أن نسائل أنفسنا، ما فائدة النظرية النسوية التي تهزم النساء حرفيًا، وتتركهن يتعثرن بعيون دامعة داخل الفصول الدراسية ويشعرن بالإهانة، كمن يقف عاريًا في غرفة المعيشة أو غرفة النوم أو في مكان ما مع شخص غريب، (س) يحاول إغوائهن، أو كأنهن يُخضعن لتبادل يُهينهن، ويجردهن من إحساسهن بقيمتهن الإنسانية. ومن الواضح أن النظرية النسوية القادرة على القيام بذلك تعمل على إضفاء الشرعية على الدراسات النسائية والبحث النسوي في نظر السلطة الأبوية الحاكمة، لكنها أيضًا تقوّض وتخرّب الحركات النسوية. ولعل وجود هذه النظرية النسوية المهيمنة هو الذي يدفعنا إلى الحديث عن الفجوة بين النظرية والتطبيق. وذلك لأن هدف هذه النظرية (الأبوية السلطوية – المترجمان) في الواقع هو بث الفرقة، والنزعة الانفصالية، والإقصاء، وإبعاد المخالفين. ولأن هذه النظرية لا تزال تستخدم لكتم مختلف الأصوات النظرية النسوية وفرض رقابة عليها والتقليل من قيمتها، فلا يمكننا ببساطة تجاهلها. لكنها، وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من استخدامها كأداة للهيمنة؛ فإن هذه النظرية تحتوي أيضًا على حزمة من الأفكار والتصورات والرؤى المهمة، والتي يمكن، إذا تم توظيفها بصورة مختلفة، أن تؤدي وتقوم بوظيفة التعافي والتحرر‏[12](***). ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل المخاطر التي تشكلها على النضال النسوي، والذي من الواجب تجذيره في نظرية تُعلَم وتُشكَل وتجعل الممارسة النسوية ممكنة.

في الدوائر النسوية، كان رد فعل الكثير من النساء على هيمنة النظرية النسوية، هو التخلّص تمامًا من النظرية كونها لا تخاطبهن بوضوح، الأمر الذي عزز الانقسام الزائف ما بين النظرية والممارسة. ومن ثم، فهن بذلك يتواطأن مع من يعارضونهن، عبر استيعاب الافتراض الخاطئ بأن النظرية ليست ممارسة اجتماعية، فإنهم يشجعون على تكوين تسلسل هرمي قمعي محتمل داخل الدوائر النسوية، حيث يُنظر إلى كل الإجراءات الملموسة على أنها أكثر أهمية من أي نظرية مكتوبة أو منطوقة. أخيرًا، ذهبت إلى تجمع نسائي، معظم الحضور كان من النساء السود، حيث ناقشن ما إذا كان ينبغي أن يتعرض القادة الذكور السود، مثل مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس، لانتقادات نسوية تطرح أسئلة صعبة حول موقفهم من قضايا النوع الاجتماعي أم لا. واستغرقت المناقشة بأكملها أقل من ساعتين. ومع اقتراب نهاية التجمع، تحدثت امرأة سوداء، كانت حاضرة، ولكنها ظلت صامتة بشكل خاص، لتقول إنها ليست مهتمة لا بالنظرية ولا البلاغة ولا بكل هذا الثرثرة، وأنها مهتمة أكثر بالعمل، بفعل شيء ما، وأنها «متعبة» من كل هذا اللغو.

أزعجني رد هذه السيدة: إنه رد فعل مألوف. فربما تعيش في حياتها اليومية عالمًا مختلفًا عن عالمي. في العالم الذي أعيش فيه يوميًا، من النادر أن تجتمع النساء السود وذوات البشرة الملونة معًا لمناقشة قضايا العرق والجنس والطبقة والجنسانية بشكل جدي. لذلك لم أعرف من أين جاءت هذه المرأة عندما عبرت عن رأيها، وكأن المناقشة التي كنا نجريها كانت شائعة، شائعة جدًا إلى درجة أنه يمكن الاستغناء عنها أو إجرائها بدونها. لقد شعرت بأننا منخرطات في عملية حوار نقدي وتنظير لطالما كان من المُحرمّات. ومن ثم، من وجهة نظري، فقد كنا نخطط لبدء مسارات جديدة، نطالب لأنفسنا كنساء سود بأرضية فكرية، لنبدأ البناء الجماعي للنظرية النسوية.

في الكثير من التجمعات السوداء، كنت شاهدة على ممارسات نبذ المثقفين والتقليل من شأن النظرية، ومع ذلك فقد بقيت صامتة في وجه مثل هذه الأفعال. أدركت اليوم أن صمتي كان بمنزلة عمل من أعمال التواطؤ التي تساهم في إدامة فكرة أننا نستطيع الانخراط في التحرر الثوري للسود و/أو النضال النسوي من دون الحاجة إلى النظرية. ومثل الكثير من المثقفين السود المتمردين، الذين غالبًا ما يدور عملهم الفكري وتدريسهم في وسط بيئة يهيمن عليها البيض، غالبًا ما أكون سعيدة جدًا بالتعامل مع مجموعة جماعية من الأشخاص السود إلى درجة أنني لا أرغب في إثارة ضجة، أو في أن أجعل نفسي غريبة بمخالفتي للجماعة. في مثل هذه الظروف، عندما يتم التقليل من قيمة عمل المثقفين، نادرًا ما عارضت في الماضي الافتراضات السائدة، أو تحدثت بإيجابية أو بسعادة غامرة عن العملية الذهنية (التنظير – المترجمان). وكنت أخشى إن اتخذت موقفًا يصرّ على أهمية العمل الفكري، وبخاصة التنظير، أو إذا ذكرت ببساطة أنني أعتقد أنه من المهم القراءة على نطاق واسع، فإنني سأخاطر بأن يتم النظر إلى أنني متغطرسة، أو متسلطة. لهذا السبب كنت ألتزم الصمت في كثير من الأحيان.

تبدو المخاطرة بهذه الهجمات المباغتة ضد الشعور بالذات الآن أمرًا مبتذلًا عند النظر إليها في ما يتعلق بالأزمة التي نواجهها كأميركيين من أصل أفريقي‏[13](*)، ولحاجتنا الماسة إلى إحياء شعلة النضال من أجل تحرير السود والحفاظ عليها متقدة. في الاجتماع الذي ذكرته آنفا، تجرأت على الكلام، فقلت ردًا على القول بأننا كنا نُضيع وقتنا في اللغو فقط، بأنني أعدّ كلماتنا كأفعال، وأن نضالنا الجمعي لمناقشة قضايا النوع الاجتماعي والسواد دون رقابة هو بمنزلة ممارسة تخريبية. يحثنا ذلك على الأخذ في الحسبان أن الكثير من القضايا التي لا نزال نواجهها كمجتمع أسود – مثل تدني احترام الذات، وتفاقم العدمية واليأس، والغضب المكبوت والعنف الذي يدمر سلامتنا الجسدية والنفسية – لا يمكن معالجتها باستراتيجيات بقاء عفّا عليها الزمن، حتى وإن كانت قد نجحت فيما مضى. إن الإصرار أمام الجماعة على أننا بحاجة إلى نظريات جديدة، يمكنها أن تنقلنا نحو النضال الثوري، متجذرة في محاولة لفهم طبيعة مأزقنا المعاصر، وتعيين الوسائل التي يمكننا من خلالها الانخراط بصورة جماعية في المقاومة التي من شأنها أن تغير واقعنا الحالي. ومع ذلك، لم أكن صارمة أو قاسية، كما لو كنت في وضع مختلف في جهودي للتشديد على أهمية العمل الفكري، وإنتاج النظرية كممارسة اجتماعية يمكن أن تكون تحررية. وعلى الرغم من أنني لم أكن خائفة من التصريح، إلا أنني لم أرغب في أن يُنظر إلي على أنني الشخص الذي «أفسد» الوقت الجميل‏[14](*)، والشعور الجماعي بالتضامن الجميل حول فكرة السواد. لقد ذكّرني هذا الخوف بما كان عليه الوضع في الأوساط النسوية قبل أكثر من عشر سنوات، عندما كان طرحُ أسئلة حول النظرية والتطبيق، ولا سيما في ما يتعلق بقضايا العرق والعنصرية‏[15](**)، يُنظر إليها على أنها قد تؤدي إلى تمزيق عرى الأخوة وتشتيت جهود تعزيز التضامن.

بدا لي الأمر مثيرًا للسخرية أنه أثناء تجمُّع عَقد لتكريم زعيم أسود‏[16](*) كان كثيرًا ما يجرؤ على التحدث والحث على مقاومة الوضع الراهن، كانت النساء السود ما زلن ينكرن حقنا في المشاركة في الحوار والنقاش السياسي المعارض، وبخاصة أن هذا ليس أمرًا شائعًا في مجتمعات السود. لماذا شعرت النساء السود هناك بالحاجة إلى مراقبة بعضهن بعضًا، وحرمان بعضهن بعضًا من مساحة داخل السواد، حيث يمكننا التحدث عن النظرية من دون أن نخجل من أنفسنا؟ لماذا، عندما نستطيع أن نحتفل معًا بقوة المفكر النقدي الذكر الأسود الذي تجرأ على الوقوف بمفرده، كان هناك هذا الحرص على قمع أي وجهة نظر قد توحي بأننا قد نتعلم بشكل جماعي من أفكار ورؤى المثقفات/المُنظّرات السود المتمردات اللاتي، بحكم طبيعة العمل الذي يقمن به، يكسرن بالضرورة تلك الصورة النمطية التي تجعلنا نعتقد أن المرأة السوداء «الحقيقية» هي تلك التي تتحدث دائمًا بشجاعة، وتمجد الحقائق الملموسة على الأفكار المجردة، والمادي على النظري؟

مرارًا وتكرارًا، تجد النساء السود أن جهودهن في التحدث وكسر الصمت التي تمكنهن من الانخراط في مناقشات سياسية تقدمية جذرية على عدد من الجبهات تتعارض بعضها مع بعض. في الحقيقة هناك صلة بين الإخراس الذي نختبره، والرقابة، ومعاداة الفكر في الأماكن التي يغلب عليها السود والتي من المفترض أن تكون داعمة (مثل المساحات الخاصة بالنساء السود) من جانب، ومن جانب آخرـ فإن هذا الإخراس الذي يحدث في المؤسسات حيث يتم إخبار النساء السود/النساء ذات البشرة الملونة بأنهن لا يمكن سماعهن أو الاستماع إليهن بشكل كامل لأن عملهن ليس نظريًا بدرجة كافية. ويذكرنا الناقد الثقافي كوبينا ميرسر (Kobena Mercer) بأن «السواد … مركب ومتعدد الأوجه» وأنه «يمكن الجمع بين السود في السياسات الرجعية والمعادية للديمقراطية» (Mercer, 1990)‏[17](1). تمامًا كما يفعل بعض الأكاديميين النخبويين الذين يبنون نظريات عن «السواد» بطرق تجعل منه مجالًا خطرًا لا يمكن أن يدلف إليه إلا القلة المختارة، واستخدام العمل النظري حول العرق لتأكيد سلطتهم على تجربة السود، وحرمانهم من الوصول الديمقراطي إلى عملية صنع النظرية، وتهديد النضال الجماعي لتحرير السود، كذلك يفعل بعض أعضاء الحركة النسوية بيننا اللاتي يدفعهن رد الفعل تجاه هذه الاتجاهات ناحية الترويج لمناهضة الفكر من خلال إعلان أن كل النظريات عديمة القيمة‏[18](**). ومن خلال تعزيز فكرة وجود انقسام بين النظرية والممارسة أو من خلال خلق مثل هذا الانقسام، تنفي كلا المجموعتين قوة التعليم التحرري للوعي النقدي وبالتالي إدامة الظروف التي تعزز استغلالنا وقمعنا الجماعي.

لقد تذكرت مؤخرًا هذه المعارضة الخطيرة للفكر والنظرية عندما وافقت على المشاركة في برنامج إذاعي مع مجموعة من النساء والرجال السود لمناقشة كتاب شهرزاد علي (Sherazade Ali) دليل الرجل الأسود لفهم المرأة السوداء (Ali, 1990) حيث استمعت إلى المتحدث تلو الآخر وهم يعبرون عن ازدرائهم للعمل الفكري، ويتحدثون ضد أي دعوة لإنتاج النظرية. وكانت إحدى النساء السود حادة في إصرارها على التصريح بــ «أننا لا نحتاج إلى أي نظرية». كتاب شهرزاد علي، على الرغم من أنه مكتوب بلغة واضحة، وبأسلوب يستخدم العامية السوداء (أي اللهجة الإنكليزية الأمريكية – المترجمان)، إلا أنه يحتوي على أساس نظري قوي. يوضح الكتاب بشكل متعمق كيف أن كراهية النساء المتجذرة في نظريات النظام الأبوي (أي تلك النظريات التي تؤمن في الاعتقاد الجوهري المتحيز جنسيًا في أن سيطرة الذكور على الإناث هي أمر «طبيعي») هي الرد الوحيد للرجال السود لمواجهة أية محاولة من جانب النساء لتحقيق ذواتهن بشكل كامل. بينما سيتبنى الكثير من القوميين السود بلهفة النظرية النقدية والفكر كسلاح ضروري في النضال ضد التفوق الأبيض، إلا أنهم فجأة، يفقدون البصيرة والوعي بكون النظرية أيضًا مهمة عندما يتعلق الأمر بمسائل الجندر، وتحليل التمييز والاضطهاد الجنسي بطرق خاصة ومحددة كما تتجلى في تجربة النساء السود. إن مناقشة كتاب شهرزاد علي واحدة من الأمثلة الممكنة التي تكشف لنا الكيفية التي يمكن لازدراء النظرية وتجاهلها، أن يقوض النضال الجماعي لمقاومة القمع والاستغلال.

ضمن الحركات النسوية الثورية، ومن داخل نضالات تحرير السود الثورية، يجب علينا أن نطالب باستمرار بالنظرية/التنظير بوصفها ممارسة ضرورية، ضمن إطار شامل للناشطية التحررية. كما يتعين علينا أن نفعل أكثر من مجرد لفت الانتباه إلى الطرق التي يُساء بها استعمال النظرية من قبل الآخرين، ولا نكتفي بمجرد انتقاد الاستخدامات المحافظة وربما الرجعية التي ترتكبها بعض النساء الأكاديميات للنظرية النسوية. كذلك يجب أن نعمل بنشاط على لفت الانتباه لضرورة إيجاد نظرية يمكنها أن تجدد دماء الحركات النسوية وتدفعها إلى الأمام، وبوجه خاص تسليط الضوء على تلك النظريات التي تسعى لتعزيز المعارضة النسوية ضد التمييز الجنسي والقمع الجنسي. عبر القيام بذلك فإننا وبصورة حتمية نكون قد احتفينا وقدرنا النظرية/التنظير التي يمكن استخدامها ومشاركتها، سواء في صورة سرديات شفهية ومكتوبة معًا.

بالتأمل في أبحاثي الخاصة في النظرية النسوية، أجد أن الكتابة – المناقشات النظرية – تمثل أكثر أشكال الفكر دلالة، التي تدعو القراء إلى الانخراط في التفكير النقدي والاشتباك في ممارسة النسوية. فمن جهتي أرى هذه النظرية نابعة من الواقع القاسي، عبر سعي إلى فهم تجارب ومعاناة الحياة اليومية، ومن خلال جهدي وتدخلي النقدي في حياتي وحياة الآخرين. وهذا في رأيي ما يجعل التحول النسوي ممكنًا. تمثل كل من الشهادة الشخصية والتجربة الشخصية أرضًا خصبة لإنتاج النظرية النسوية التحررية، كونها عادة ما تمثل قاعدة صنع نظريتنا. وبينما نعمل على حل تلك المشكلات الأكثر إلحاحًا في الحياة اليومية (مثل حاجتنا إلى محو الأمية، ووضع حد لعنف الرجال‏[19](*) ضد النساء والأطفال، وحل مشكلات صحة المرأة وحقوقها الإنجابية، والحاجة إلى السكن، والحرية الجنسية، وما إلى ذلك على سبيل المثال لا الحصر) فإننا ننخرط في عملية تنظير شديدة الأهمية تمكننا وتقوينا. إنني ما زلت مدهوشة من حجم الإنتاج الكثير للكتابات النسوية، ورغم ذلك، فإن هناك شحًا في النظرية النسوية التي تسعى للتحدث إلى النساء والرجال والأطفال، حول الطرق التي يمكننا من خلالها تغيير حياتنا عبر التحول إلى السياسة النسوية وممارساتها. أين يمكننا أن نجد مجموعة من النظريات النسوية الموجهة نحو مساعدة الأفراد على دمج التفكير والممارسة النسوية في مسارات وأنشطة الحياة اليومية؟ على سبيل المثال، في مسعانا لإحداث التغيير النسوي، ما هي النظرية النسوية الموجهة نحو مساعدة النساء اللاتي يعشن في كنف أسر متحيزة جنسيًا؟

نحن نعلم أن الكثير من الأفراد في الولايات المتحدة استخدموا التفكير النسوي لتثقيف أنفسهم بطرق تسمح لهم بتغيير حياتهم. إنني غالبًا ما انتقدت في أبحاثي النسوية التافهة (أي التي يُنظر إليها كونها نمط حياة)، لأنني خشيت من تدجين أي عملية نسوية تحويلية، تسعى إلى تغيير المجتمع بسهولة، إن لم تكن متجذرة في الالتزام السياسي للحركة النسوية الجماهيرية. في إطار النظام الأبوي الرأسمالي العنصري القائم على تفوق العرق الأبيض، شهدنا بالفعل كيفية تسليع الفكر النسوي (تمامًا كما رأينا تسليع السواد) بطرق جعلت الأمر يبدو كما لو أن المرء يستطيع أن يشارك في «المنافع/المكاسب» التي أوجدتها هذه الحركات، دون أي التزام بسياساتها وممارساتها التحويلية. في ظل هذه الثقافة الرأسمالية، سرعان ما أضحت الحركة النسوية والنظرية النسوية سلعة لا يقدر على كلفتها إلا ذوو الامتيازات. سرعان ما صارت النسوية شكل من أشكال الرفاهية. ولن يتم تعطيل وتخريب عملية التسليع هذه إلا عندما تؤكد الناشطات النسويات التزامهن بحركة نسوية ثورية مسيّسة، تكون أجندتها المركزية هي العمل على تغيير المجتمع. انطلاقًا من هذه النقطة، يجب أن نفكر بطريقة تلقائية في إيجاد نظرية تخاطب الجمهور الأوسع من الناس. لقد كتبت في مكان آخر وشاركت في الكثير من التجمعات والمناقشات العامة التي جعلت قراري بشأن أسلوب الكتابة الخاص بي (بعدم استخدام الأشكال الأكاديمية التقليدية) قرارًا سياسيًا مدفوعًا بالرغبة في أن تكون كتاباتي شاملة، وأن تصل إلى أكبر عدد ممكن من القراء، في أكبر عدد ممكن من المواقع المختلفة. وقد كان لهذا القرار عواقب إيجابية وسلبية. فمثلًا، غالبًا ما يشتكي الطلاب/الطالبات في الكثير من المؤسسات الأكاديمية، من عجزهم/عجزهن عن إدراج أعمالي البحثية في قوائم القراءات المطلوبة للامتحانات التأهيلية الموجهة نحو الحصول على درجات علمية، لأن أساتذتهم لا يرون أنها علمية بما فيه الكفاية (قاصدين – المترجمان). أي باحث/ة منا، أي الذين يبتكرون نظرية وكتابة نسوية في الأوساط الأكاديمية التي يتم تقييمنا فيها باستمرار، ت/يعلم أن العمل الذي يعدُّ «غير علمي» أو «غير نظري» يمكن أن يؤدي إلى عدم الحصول على الاعتراف والتقدير والمكافأة المستحقة‏[20](*).

تبدو مثل هذه الاستجابات السلبية في اللحظة الراهنة من حياتي أقل أهمية لو قورنت بردود الفعل الإيجابية تجاه أبحاثي داخل الأكاديمية وخارجها. لقد تلقيت مؤخرًا حزمة من الرسائل من رجال سود محبوسين، قرأوا أعمالي وأرادوا إخباري وإشراكي في ما يبذلونه من جهد لتخليص أنفسهم من سلوكيات وممارسات التمييز الجنسي التي ارتكبوها ضد النساء. في واحدة من هذه الرسائل، تفاخر كاتبها بمودة بأنه جعل من اسمي «كلمة مألوفة داخل السجن». يتحدث هؤلاء الرجال (المحبوسون) عن التفكير النقدي الانفرادي، وعن استخدام هذا العمل النسوي لفهم تبعات النظام الأبوي كقوة تمثل هوياتهم، وأفكارهم عن الرجولة. بعد تلقي رد نقدي قوي من أحد هؤلاء الرجال السود على كتابي الجديد الشوق: العرق، الجنس، والسياسة الثقافية (Hooks, 1990) أغمضت عيني وتخيلت أن عملي يُقرأ ويُدرّس ويُحكى عنه داخل السجن. نظرًا إلى أن المكان الوحيد الذي يتم فيه الاشتباك نقديًا مع أبحاثي عادةً ما يكون موقعًا أكاديميًا، إنني لا أشارككم مثل هذه الحوادث من أجل التباهي أو التبجح، ولكن من أجل أن أُدلي بشهادتي، لإخباركم أنه من خلال تجربتي المباشرة أن كل نظريتنا النسوية الموجهة نحو تحويل الوعي، والتي تريد حقًا التواصل مع جماهير متنوعة، تؤتي أُكلها: وهذا ليس محض خيال ساذج.

في أحاديثي الأخيرة، تحدثت عن مدى امتناني تجاه الطريقة التي يتم بها التشديد على أهمية أعمالي البحثية، والتي تجعلني ضمن مجموعة المٌنظرات النسويات اللاتي يبتكرن أعمالًا بحثية يُنظر إليها كمحفز للتغيير الاجتماعي الذي يتجاوز الحدود الزائفة. تعرضت أعمالي البحثية في أزمان غابرة لأشكال متعددة من الرفض والتقليل من قيمتها، وهو ما أوجد وخلق بداخلي إحساسًا عميقًا باليأس. وأعتقد أن كل مُفَكِّرٌة/مُنظّرة سوداء وذات بشرة ملونة، تتسم أعمالها البحثية بالمعارضة وتسبح ضد التيار، قد مرت بشعور يأس مماثل. وقد عبرت ميشيل والاس (Michele Wallace) على نحو أكيد عن ذلك الشعور حين سطرت بصورة مؤثرة في مقدمتها للطبعة الثانية من كتابها الرجل الأسود مفتول العضلات وخرافة المرأة الخارقة (Wallace, 1979) كيف أوذيت وتم إخراسها لبعض الوقت بسبب ردود الفعل النقدية السلبية لعملها البحثي المبكر.

أشعر بالامتنان لقدرتي اليوم على الوقوف هنا والإقرار بأنه إذا تمسكنا بمعتقداتنا بأن التفكير النسوي يجب أن يتشاركه الجميع، سواء من خلال التحدث أو الكتابة وإنشاء النظرية مع وضع هذه الأجندة في الحسبان، يمكننا أن نعزز وجود حركة نسوية يطمح الناس، بل ويتشوقون، إلى أن يكونوا جزءًا منها. إنني أشارك التفكير والممارسة النسوية أينما كنت. وعندما يُطلب مني التحدث في الأوساط الجامعية، أبحث عن منابر أخرى للتحدث، أو أرد على أولئك الذين يبحثون عني حتى أتمكن من مشاركة ثراء التفكير النسوي الذي أحمله مع الآخرين. تظهر في بعض الأحيان هذه الترتيبات بصورة عفوية. على سبيل المثال، في الشهر الماضي (وقت كتابة المقال في 1991 – المترجمان) كنت في مطعم يملكه شخص أسود في إحدى الولايات الجنوبية، حيث قضيت ساعات مع مجموعة متنوعة من النساء والرجال السود، من خلفيات طبقية مختلفة، يناقشون قضايا العرق والجنس والطبقة. بعضنا حاصل على تعليم جامعي، والبعض الآخر لم يكن كذلك. أجرينا نقاشًا ساخنًا خلال هذا اللقاء، حول الإجهاض، وناقشنا ما إذا كان ينبغي أن يكون للنساء السود الحق في الاختيار. وجادل الكثير من الرجال السود الحاضرين من أنصار التوجه الأفروسينتريزم (المركزية الأفريقية‏[21](*)) بأن الذكور يجب أن يكون لديهم الحق نفسه في الاختيار مثل النساء. وتحدثت إحدى النسويات السود الحاضرات، وهي مديرة عيادة صحية للنساء، ببلاغة مقنعة عن حق المرأة في الاختيار.

كانت إحدى النساء السود الحاضرات خلال هذه المناقشة الساخنة، والتي ظلت صامتة مدة طويلة، قد تردَّدت قبل أن تشارك في النقاش، كونها لم تكن متأكدة مما إذا كانت قادرة على نقل أفكارها المركبة باللغة العامية (الإنكليزية الأمريكية – المترجمان) السوداء (أي بطريقة تجعلنا، نحن المستمعين/المستمعات، نسمع ونفهم، ولا نسخر من كلماتها)، وفي النهاية تحدثت وعبرت عن رأيها. ولما أن هممت بالمغادرة، اقتربت مني هذه الأخت وشدت على يدي، وشكرتني على المناقشة. واستهلت كلمات امتنانها بإخباري كيف أن هذه المناقشة لم تمكنها فقط من التعبير عن المشاعر والأفكار التي «احتفظت بها» دومًا لنفسها، ولكنها مكنتها أيضًا بعد إطلاقها العنان لمناقشة تلك المشاعر والأفكار في خلق مساحة لتغيير الفكر والعمل لها ولشريكها. حدقت بي مباشرة، وباهتمام، وقفنا في مواجهة بعضنا بعضًا وجهًا لوجه، ممسكين بأيدي بعضنا بعضً نعيد القول مرارًا وتكرارًا، «أنا تعبانة قوي»‏[22](*). وأعربت لي عن شكرها لأن اجتماعنا، وطريقة تنظيرنا للعرق والجنس والجنسانية بعد ظهر ذلك اليوم قد خفف عنها بعضًا من آلامها. وشهدت بأن هذه المناقشة جعلتها تشعر بجراحها وهي تلتئم، وأنها يمكن أن تحس بالتعافي الذي يحدث في داخلها. أمسكت بيدي، وقفنا جسدًا لجسد، وعينًا لعين متقابلين، وسمحت لي أن أشاركها دفء هذا الشفاء بتعاطف. لقد أرادت مني أن أشهد، وأن أسمع مرة أخرى وهي تكشف اللثام عن ألمها، وأشعر بالقوة التي ظهرت عندما شعرت أن الجرح يلتئم.

ليس من السهل تمييز آلامنا، وجعلها مكانًا للتنظير. تُذكرنا باتريشيا ويليامز (Patricia Williams) في مقالتها «أن تكون موضوعًا للملكية» (William, 1991: 216) بأنه حتى أولئك «الواعون» منا يشعرون بالألم الذي تسببه جميع أشكال الهيمنة (رهاب المثلية، الاستغلال الطبقي، العنصرية، التمييز الجنسي، والإمبريالية). تقول باتريشيا ويليامز، مشاركةً تجربتها الشخصية معنا:

«هناك لحظات كثيرة في حياتي أشعر فيها وكأن هناك جزءًا مني مفقودًا. هناك أيام أشعر فيها بأنني غير مرئية إلى درجة أنني لا أستطيع تذكّر في أي يوم من أيام الأسبوع نحن الآن، عندما أشعر بأنه يتم التلاعب بي إلى درجة أنني أعجز عن تذكر اسمي، عندما أشعر بالضياع والغضب إلى درجة أنني لا أستطيع التحدث بكلمات متحضرة للأشخاص الذين يحبونني بصدق. هذه هي الأوقات التي أرى فيها انعكاس صورتي في نوافذ المتاجر وأفاجأ برؤية شخص ينظر إلى الوراء … يجب أن أغمض عيني في مثل هذه الأوقات وأتذكر نفسي، وأرسم نمطًا داخليًا سلسًا وكاملًا لذاتي» (Williams, 1991: 228‑229).

ليس من السهل أبدًا تسمية هذا الألم، فما بالنا بالتنظير له من مثل هذا الموقع.

إنني ممتنة للكثير من النساء والرجال الذين تجرأوا على التنظير من موقع الألم والنضال، ويقومون بتعرية جراحهم بشجاعة ليقدموا لنا خبراتهم للتدريس والتوجيه، كوسيلة لرسم رحلات نظرية جديدة. أعمالهم البحثية تلك هي أفعال تحررية. فهي لا تمكننا فقط من تذكر واستعادة أنفسنا، إنما هي تشحننا وتتحدانا لتجديد التزامنا نحو تحقيق نضال نسوي نشط وشامل. ومع ذلك لا يزال يتعين علينا القيام بثورة نسوية بصورة جماعية. كذلك، إنني ممتنة لأننا نبحث جماعيًا كمُنظّرات نسويات عن طرق لتحقيق هذه الحركة. وبحثنا هذا يقودنا إلى حيث بدأ كل شيء، إلى تلك اللحظة التي كانت الواحدة منا، كامرأة أو طفل، والتي ربما ظنت أنها تقف وحيدة، لتستهل الانتفاضة النسوية، وتبدأ في تسمية ممارساتها، وتشرع بالفعل في صوغ نظرية من التجربة الحية. دعونا نتخيل أن هذه المرأة أو الطفلة كانت تعاني آلام التمييز والاضطهاد الجنسي، فقط لأنها أرادت أن تُنهي هذا الأذى. أنا أيضًا ممتنة لأنني أستطيع أن أكون شاهد عيان، أشهد بأننا قادرون على خلق نظرية نسوية، وممارسة نسوية، وحركة نسوية ثورية يمكنها مخاطبة الألم الكامن داخل الناس مباشرة، وتقديم كلمات الشفاء التي تواسيهم، واقتراح استراتيجيات ونظريات للتعافي. لا يوجد أحد بيننا لم يشعر بألم التمييز والقمع الجنسي، والمعاناة الذي يمكن أن تخلقه هيمنة الذكور في الحياة اليومية، والبؤس والحزن العميق الذي لا يلين.

أخبرتنا ماري ماتسودا (Mari Matsuda) اليوم كيف «يتم إقناعنا بكذبة مفادها أنه لا يوجد ألم في الحرب» (Matsuda, 1991)‏[23](2). كذلك كيف أن النظام الأبوي يجعل مثل هذا الألم ممكنًا. وتُذكّرنا كاثرين ماكينون (Catharine MacKinnon) بأننا «نعرف أشياءً في حياتنا ونعيش تلك المعرفة بما يتجاوز ما تفترضه أي نظرية حتى الآن» (MacKinnon, 1991: 13‑22). إن عملية صنع مثل هذه النظرية هو التحدي الحقيقي الذي يواجهنا. ففي إنتاجها يكمن الأمل في تحررنا، وتكمن أيضًا إمكانية تسمية كل الآلام، فعبر التنظير تختفي كل الآلام. وإننا إذا نجحنا في تأسيس نظرية نسوية، وحركات نسوية تعالج هذا الألم، فلن نجد صعوبة في بناء مقاومة نسوية جماهيرية. عندها فقط ستختفي الفجوة بين النظرية النسوية والفعل/الممارسة النسوية.

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة إضافات (المجلة العربية لعلم الاجتماع)، العدد المزدوج 66-67، شتاء – ربيع 2025.

أحمد محمد أبو زيد: قسم علم الاجتماع، جامعة كامبريدج، المملكة المتحدة، Leverhulme Early Career Fellow.

إسلام ميلبا: مخرج وناقد فني مستقل – مصر.

[1](*) يجب أن يكون واضحًا للقراء العرب أن مصطلحات ومفاهيم من العرق (Race) والعرقنة (Racialization) والعنصرية (Racism) لها مسارات تاريخية وخصوصيات سياقية زمنية محددة يجب احترامها والتحدث عنها. فالحديث عن هذه المفاهيم في سياق أمريكا الشمالية، والمرتبطة بنيويًا بتاريخ تجارة الرقيق الوحشية ودستور المستعمرات الاستيطانية (والرأسمالية العنصرية) لا تتشابه مع سياقات أخرى ما قبل صناعية؛ على سبيل المثال السياقات العربية – الإسلامية، الصينية، أو الهندية ذوي تاريخ الإمبراطوريات الطويل. بكلمة أخرى، إننا إذا لم نقم بهذا العمل الشاق المتمثل باحترام السياقات التي نكتب منها، فمن الممكن التلاعب بعمل هوكس (وغيرها) وانتزاعه من السياقات التي جاءت فيها. ومن المفارقات أن مثل هذه الممارسات (سواء أكانت متعمدة أم عن جهل) تعكس شكلًا آخر من أشكال الهيمنة والاستيلاء (المترجمان).

[2](*)  اخترنا ترجمة كلمة «النظرية/Theory» إلى «تنظير» في بعض المواضيع، كونها تعبِّر – من وجهة نظرنا وحسبما فهمتها – عن المعنى الأقرب الذي أرادته المؤلفة. أي النظر للعمل النظري والنظرية بوصفها «فعلًا وممارسة عملية»، وليس نشاطًا عقليًا مخمليًا، يقوم به مجموعة من الناس (غالبًا من الرجال – وأحيانًا النساء – البيض) الأغنياء، المرفهين، المعزولين في مكاتبهم الفاخرة وأبراجهم العاجية عن الشارع والعامة وزخم المجال العام (المترجمان).

[3](*) غالبًا بضربها بحزام البنطلون كما اعتاد بعض الآباء والأمهات فعله مع أطفالهم (المترجمان).

[4](**)   المراد هنا الوجهة أو المصير، وليس الطريق إلى المنزل بالمعنى الحرفي (المترجمان).

[5](***) الشخصية الرئيسية في رواية ساحر أوز العجيب من تأليف الكاتب الأمريكي ليمان فرانك بوم. نشرت للمرة الأولى في شيكاغو في عام 1900. وتحولت فيما بعد إلى فيلم تحت عنوان «ساحر أوز» في عام 1939. ورشح الفيلم لخمس جوائز أوسكار، حصد منها جائزتين (جائزة أحسن موسيقي تصويرية، وجائزة أحسن أغنية). وقد أصبح الفيلم فيما بعد من كلاسيكيات السينما العالمية، مما أكسب الرواية شهرة عالمية (المترجمان).

[6](*) لا يسعى المرء هنا سوى تذكر نموذج لمُفَكِّرة نسوية مناهضة للاستعمار مؤثرة جدًا داخل الدوائر النقدية يتم تجاهلها من الدوائر الاكاديمية الرسمية والمهيمنة. هنا أتحدث عن غلوريا أنزالدوا (Gloria Anzaldúa) (1942 – 2004) ونظريتها ذائعة الصيت عن التفكير الحدودي – التُخومي (Borderlands/La Frontera). نشرت غلوريا عملها الرائد، الذي يعدّه الكثيرين قطعة رائدة في أدب تشيكانا، في عام 1987. في هذا العمل قامت غلوريا أنزالدوا بدراسة تجربة مجتمعات التشيكانا وذوي الأصول الأمريكية الجنوبية من خلال عدسة قضايا مثل الجنس، والهوية، والعرق، والاستعمار. حيث سَكَّت مصطلح «التخوم/Borderlands» للإشارة إلى المناطق الجغرافية والهوياتية الأكثر عرضة للتهجين (La Mezcla) أي تلك المناطق التُخومية التي لا تنتمي لعالم واحد، ولكنها مختلطة. وقد اعتمدت غلوريا أنزالدوا في تنظيرها على تجاربها الشخصية المعاشة، بوصفها تشيكانا (إحدى مجموعات السكان الأصليين التي غالبًا ما يتم استبعاد سرديتهم) وامرأة مثلية ذات بشرة ملونة في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، تنتمي إلى إحدى قبائل السكان الأصليين دائمة الترحال والعبور بين الحدود الرسمية، فهي ليست تابعة للمكسيك بالكامل ولا للولايات المتحدة. وهو ما يجعل من قدرة عدد متزايد من هؤلاء السكان الأصليين على تحديد والتمييز بين هذه «الحدود» غير المرئية صعب جدًا. وقد طورت غلوريا هذا المفهوم لفهم ديناميات تجسيد التسلسل الهرمي الحالي من العنصرية وعدم المساواة، والكشف عن تفاصيل «الحدود» غير المرئية الموجودة بين اللاتينيين وغير اللاتينيين، والرجال والنساء، والمغايرين جنسيًا والمثليين جنسيًا، والمجموعات الأخرى، الذين تعلموا بدلًا من ذلك أن يصبحوا جزءًا من كلا العالمين. كما يعزز هذا المفهوم الدعوة إلى تعزيز الاهتمام النشط بالمضطهدين وتغيير مواقفهم نحو هويات أكثر شمولية من الناحية العرقية والجنسانية التي تعمل على تعميم تجربة الكْوِير (هذا المفهوم من أصعب المفاهيم على الترجمة إلى اللغة العربية. فبينما تستخدمه أغلب الكتابات بالعربية للإشارة إلى مجتمعات «العابرون جنسيًا» أو «أحرار الجنس» إلا أن المترجم يُفضل الحفاظ على الأصل الإنكليزي للكلمة – كما فعلت الكثير من الدوائر المتخصصة في دراسات الجندر والتنوع الجنسي وخصوصًا في لبنان مثل قاموس الجندر الصادر عام 2016، ص 86 – 88، رغم اعتراض فريق التحرير في مجلة إضافات على هذا الاختيار. وعليه فإنني سأشير اليها بالدراسات والحركات الكْوِيرية) من خلال دمج فئات الهوية المختلفة في نظريتها عن المناطق الحدودية كما جادل إيان برنارد (Ian Barnard)، بدلًا من تلك التي تعزز نمو الحدود والقيود. إلى جانب كتابها هذا، فإن أطروحتها غير المكتملة للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز، كانت من أكثر الأعمال اقتباسًا وقراءة وتحميلًا من الموقع الإلكتروني للجامعة. ومع ذلك، فقد ظلت أطروحة غلوريا غير معترف بها كعمل نظري جدير بالاحترام (كما تخبرنا بيل هوكس بحسرة) داخل الدوائر الاكاديمية الأمريكية الرسمية. في هذه الأطروحة قدمت غلوريا أنزالدوا – اعتمادًا على رواياتها وتصوراتها الشخصية للتعليق على الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية العالمية – تجربة للكتابة بوصفها ممارسة فنية وروحية وسياسية مجسدة بالكامل. والأهم من كل شيء، قامت خلال هذه الأطروحة بإعادة تقدير واكتشاف أشكال وأساليب مهملة وغير معترف بها حول المعرفة، والوجود، والإبداع المعرفي التي تم تهميشها من جانب الفكر الغربي. الجدير بالانتباه أنه بعد عقد من وفاة غلوريا أنزالدوا، وفي خضم الحركة الكْوِيرية ومناهضة الاستعمار، تم الاعتراف بالإسهامات النظرية التي قدمتها غلوريا أنزالدوا من أكبر الدوائر الاكاديمية في الولايات المتحدة. حيث نشرت مطبعة جامعة ديوك المرموقة هذه الأطروحة تحت عنوان: نور في العتمة: إعادة كتابة الهوية، الروحانيات والحقيقة عام 2014، وقام بتحريرها أحد أمناء منظمة «صندوق غلوريا إي أنزالدوا الأدبي» (Gloria E. Anzaldúa Literary Trust) وأستاذة دراسات المرأة والنوع الاجتماعي متعددة الثقافات في جامعة تكساس آنا لويز كيتنغ (Ana Louise Keating) التي أصدرت في عام 2009 كتابًا أخر عن العمل والإسهام النظري لغلوريا تحت عنوان كَشَّافٌ غلوريا أنزالدوا (The Gloria Anzaldúa Reader) ونشر أيضًا بواسطة مطبعة جامعة ديوك، وتم وصفها بأنها كانت «منظّرة ثقافية مشهورة عالميًا.» المثير للأسى والغضب أنها لم تكن على قيد الحياة لترى مثل هذا الاحتفاء بعدما تم نبذها والتقليل من قيمة عملها في حياتها (المترجمان).

[7](*) شيلا ساندوفال (ولدت في عام 1956) هي أستاذة دراسات مجتمع التشيكانا (Chican@ Studies) في جامعة كاليفورنيا في سانت باربرا. تعدُّ واحدة من أهم المفكرات اللاتي أثرن في الموجة الثانية للنسوية في الولايات المتحدة الأمريكية التي بزغت في بداية تسعينيات القرن العشرين. نالت الدكتوراة من جامعة كاليفورنيا سانتا كروز. وكانت أطروحة الدكتوراة الخاصة بعنوان الوعي المعارض في عالم ما بعد الحداثة: النسوية العالمثالثية في الولايات المتحدة، السيميوطيقا، ومنهجية المضطهدين والتي قامت عبرها بتطوير ومعارضة فكرة استاذها فريدريك جيمسون (Frederic Jameson) حول الوعي المعارض التفاضلي وقد نشرت بعد تطوريها في كتابها الشهير منهجية المقهورين والذي كتبت مقدمته المناضلة النسوية السوداء الشهيرة أنجيلا ديفيس (Angela Davis). وصدر عن دار نشر جامعة مينيسوتا في عام 2000. اعتمادًا على نموذج الخطاب المناهض للعنصرية، اقترحت ساندوفال خلال هذا العمل الرائد فكرتها عن النسوية المناهضة للجنسانية كنوع من النسوية التي تعدّ الجندر بمنزلة بناء اجتماعي ضار. حيث طورت نمطًا من «الممارسة الأيديولوجية» المتجذرة في نسوية العالم الثالث في الولايات المتحدة، هذا النموذج يقاوم التقسيم الثنائي المتزمت للهويات الجندرية، لمصلحة نموذج أو تقسيم أكثر سيولة لهذه الهويات. هذا النموذج كان له دور مؤثر في تعبيد الطريق لثورة الدراسات الكْوِيرية التي بزغت لاحقًا (المترجمان).

[8](*) هنا يمكن الاستعاضة أو الاستعانة بمفهوم آخر ساد عقب نشر هذه الدراسة وهو «البياض المنهجي» (Methodological Whiteness). بحسب جورميندر بهامبرا (Gurminder Bhambra) أستاذة علم الاجتماع في جامعة ساسكس، يشير مفهوم «البياض المنهجي» إلى إيضاح وتفكيك الطرق التي نظم بها العرق، كعملية بنيوية، العالم الحديث وتأثير ذلك في طرقنا في معرفة العالم. وتجادل بهامبرا بأن العمليات المعرفية التي تفشل في الاعتراف بهيمنة «البياض» كأي شيء آخر غير الحالة المعيارية ويتعامل مع المنظور المحدود – المشتق من تجربة البيض بصورة حصرية – بوصفه منظورًا عالميًا. وفي الوقت نفسه، الإصرار على التعامل مع وجهات النظر الأخرى (ضيقة الأفق كما توصم والتي لا يُنظر إليها على قدم المساواة مع البيض) بوصفها أشكالًا من سياسات الهوية (وليست كتجارب معرفية). حيث جادل روبرت فيتاليس، بأن بياض الأوساط الأكاديمية يؤدي إلى تحيُّز عنصري في بناء المعرفة حيث يتم تمثيل وجهات النظر والأفكار البيضاء بدرجة أكبر من نظرائهم من غير البيض (المترجمان). للمزيد، انظر: Gurminder K. Bhambra. «Postcolonial Reflections on Sociology,» Sociology, vol. 50, no. 5 (2016), pp. 960-966, and Robert Vitalis, White World Order: Black Power Politics: The Birth of American International Relations (Ithaca, NY: Cornell University Press, 2015).

[9](*) نظرًا إلى ما قد يضمره هذا المفهوم من «وصم اجتماعي» والتعاطي مع سلوك/ميل جنسي يتم تشخيصه حاليًا بوصفه نموذجًا للسلوك القهري (بلغة علم النفس) كاتجاه سياسي (وليس كفرع من فروع دراسات النوع الاجتماعي) يتوجب هنا أيضًا مراعاة السياقات التاريخية والزمانية التي كتبت هذه الدراسة، والعلاقة بين هذه السياقات والمصطلحات والمفاهيم والتعابير والاشارات (السيميوطيقا) التي تستخدمها. فكما ذكرنا فقد كتبت هوكس المقالة في أوائل تسعينات القرن الماضي. وقتها لم تكن دراسات النوع الاجتماعي أو دراسات الكوير قد حققت الطفرة التي نعلمها الآن، أو أصبحت كما هي عليه الآن من رحابة وشمولية. كذلك، فإن أفكارًا مثل التقاطعية والصوابية السياسية قد أثرت معاجم دراسات النوع الاجتماعي بحصيلة ممتازة من التعريفات والأوصاف والوسوم المقبولة اجتماعيًا وسياسيًا أكثر من غيرها التي تحمل في طياتها «وصمًا اجتماعيًا ما». ولعل أشهر مثال هو ما يعرف بمجتمعات LGBTQIA+ (وقرينها بالعربية هي مجتمع الميم الذي يشير إلى مثليِّي الجنس ومزدوجي التوجه الجنسي وللعابرين والمتحيِّرين جنسيًا واللاجنسيين) (المترجمان).

[10](*)   المقصود هنا الإشارة إلى العلامات والإشارات الإرشادية والدلالية الموجود في تفاصيل الحياة اليومية (مثل إشارات المرور، علامات الطريق، يافطات المتاجر، … إلخ) التي أصبحت بمنزلة ما يشبه لغة (بصرية) عالمية لا تستدعي أو تتطلب مجهودًا ذهنيًّا معقدًا لفهم دلالتها ومعانيها المرجوة (المترجمان).

[11](**)  الآن تسمى مثل هذه الفصول في الغالبية العظمي من جامعات العالم بـ «دراسات النوع الاجتماعي أو دراسات الجندر» (المترجمان).

[12](***) بقليل من التأويل، وعبر الاستعانة بالتصورات الفوكودية (وبغيرها بصورة أقل) على وجه التحديد عن السلطة، يمكن القول بأن ما أردت المؤلفة قوله هنا هو أن قدر الذات (مهما كانت على المستوى الكلي أو الجزئي أو الفردي) أن تعيش في السلطة وبالسلطة الساعية للهيمنة. فأينما ولت الذات وجهها، إلا وتوجد سلطة وحيثما توجد سلطة يوجد فعل المجابهة والمقاومة. بل ووصل الأمر بفوكو إلى الادعاء بأن «أليست الحياة، تلك القدرة على مقاومة القوة». ويقول لنا عبد السلام حيدوري في دراسته المعنونة فوكو راهنًا أو في فلسفة المقاومة شارحًا قصد فوكو بأنه في اللحظة التي اتخذت فيها السلطة الحياة موضوعًا وهدفًا تشكلت مقاومة للسلطة تستند بدروها إلى الحياة. فإذا كانت السلطة هي قدر الذات، فإن المقاومة هي سلاح الذات ضد السلطة لذلك يجب أن نبحث في الإنسان ذاته عن القوى التي تقاوم موت الإنسان. بمعنى آخر، «إنه حيثما توجد سلطة توجد المقاومة (…) فلا يمكن أن تنوجد هذه العلاقات إلا تبعًا لتعدد نقاط المقاومة (…) فنقاط المقاومة هذه موجودة في كل مكان في الشبكة السلطوية». وطبقًا لهذا التصور الفوكودي، تصبح المقاومة جزءًا لا يتجزأ من السلطة ذاتها التي تقاومها. فالمقاومة تتبنى أفكار السلطة ومبادئها وأسلوبها البراغماتي، سواء عبر استخدام العنف أو القوة بين الطرفين أو غير ذلك من أشكال المقاومة (كالمقاومة السلبية أو المقاومة بالحيلة التي تحدث عنها جيمس سكوت وآخرون). وبالتالي فإن المقاومة ليست منفصلة عن السلطة أو يمكن وصف العلاقة بينهما كعلاقة تضاد، بل هي في حقيقة الأمر نتاج لها، أو كما ذكر فوكو، أن المقاومة تندرج في علاقات السلطة (وهو ما يفسر وجهة نظر فوكو القائلة بالفشل المتكرر، وربما شبه الحتمي، لأفعال المقاومة سواء المقاومة النسوية أو المقاومة ضد الكولونيالية. وهذه النقطة تحديدًا تعتبر واحدة من أكثر الانتقادات شيوعًا التي توجه إلى فوكو في هذا الصدد). ففي وجه الطبيعة التوليدية للسلطة الانضباطية والقهرية، يتجلى تصور الذات عن نفسها (أي وكالتها أو إرادتها الحرة) بكونها قادرة على تشكيل ذاتها داخل حقل تكون فيه حرة (أو نسبية التقيد) تجاه إجراءات وديناميات المنع والحجز وبواسطة إجراءات الإذْعانُ والإخضاع، التي هي إجراءات أخلاقية (Éthicité) في جوهرها. حيث لم يعد الأمر يتعلق بالحجز والمنع والعزل، فالسلطة التي تصف المراقبة والعقاب والتعذيب وترسيماتها واستراتيجياتها تترك المجال لتجارب المتع والملذات، وتفسح المجال للرغبة حيث يجب على الذات أن تدير حياتها بحسب أشكال محددة (ومرسومة بعناية بصورة مُسبقة) من الممارسة، وأن تحول وجودها إلى عمل جمالي وفقًا لأسلوب مخصوص في الوجود: «هذا ما حاولت تشكيله من جديد نشأة وتكون ممارسة ذاتية هدفها هو أن يجعل المرء نفسه صانعا لجمال حياته الخاصة» على حد قول فوكو. للمزيد، انظر: ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة علي مقلد (بيروت: مركز الإنماء العربي، 1990)، وتاريخ الجنسانية: الجزء الأول: إرادة المعرفة، ترجمة مطاع صفدي (بيروت: مركز الإنماء العربي، 1990)؛ جيل دولوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1987)؛ جيمس سكوت، المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم، ترجمة إبراهيم العريس ومخايل خوري (بيروت: دار الساقي، 1995)، وعبد السلام حيدوري، «فوكو راهنًا أو في فلسفة المقاومة،» الفكر العربي المعاصر، السنة 35، العدد 166 – 167 (شتاء 2015)، ص 79 – 85 (المترجمان).

[13](*)   بات معلومًا الآن، وبخاصة عقب حركة «حياة السود مهمة» (Black Lives Matter) أن الأغلبية من الكتاب يفضلون مصطلح «أمريكي أسود» حيث لم يعد السواد (Blackness) وصمة اجتماعية يتوجب التبرؤ منها (المترجمان).

[14](*)   تذكرنا هذه الملاحظة بالمصطلح الشهير الذي سَكَّته فيما بعد الباحثة النسوية الشهيرة سارة أحمد (في العام 2010) المعروف باسم «Feminist Killjoys» أو «النسوية النكدية/قاتلات البهجة». (المترجمان). للاطلاع على الدراسة، انظر: Sara Ahmed, «Feminist Killjoys (and Other Willful Subjects),» Cahiers du Genre, vol. 53, no. 2 (2012), pp. 77-98.

وقد ترجمت هذه الدراسة إلى العربية في عام 2017، بواسطة المترجمة أ. دانا علاونة ونشرت تحت عنوان: نسويات قاتلات البهجة (إضافة إلى مواضيع قصدية أخرى). ونشر نص الدراسة ضمان إصدار للموقع النسوي «اختيار» حمل عنوان قاتلات البهجة. نص الدراسة والإصدار بالكامل متاح عبر الرابط الإلكتروني التالي: <https://www.ikhtyar.org/wp-content/uploads/2017/02/12-2-2017.pdf>.

[15](**)  يجب أن يكون واضحًا للقراء العرب أن مصطلحات ومفاهيم من العرق (Race) والعرقنة (Racialization) والعنصرية (Racism) لها مسارات تاريخية وخصوصيات سياقية زمنية محددة يجب احترامه والتحدث عنه. فالحديث عن هذه المفاهيم في سياق أمريكا الشمالية، والمرتبطة بنيويًا بتاريخ تجارة الرقيق الوحشية ودستور المستعمرات الاستيطانية (والرأسمالية العنصرية) لا تتشابه مع سياقات أخرى ما قبل صناعية؛ مثل السياقات العربية – الإسلامية، الصينية، أو الهندية ذوي تاريخ الإمبراطوريات الطويل. بكلمة أخرى، أننا إذا لم نقم بهذا العمل الشاق المتمثل باحترام السياقات التي نكتب منها، فمن الممكن التلاعب بعمل هوكس (وغيرها) وانتزاعه من السياقات التي جاءت فيها. ومن المفارقات أن مثل هذه الممارسات (سواء أكانت متعمدة أو بجهل) تعكس شكلًا آخر من أشكال الهيمنة والاستيلاء. يعرب المترجمان عن امتنانهما للمحكِّم/المحكِّمة الرقم 1 على التعليقات والملاحظات الثاقبة (المترجمان).

[16](*)   في النسخة الأولى (الصفحة 7) التي نشرت في دورية ييل للقانون والنسوية (1991) لم تذكر هوكس اسم هذا الزعيم الأمريكي الأسود، بينما في النسخة الموجود في الكتاب الصادر عن دار روتليدج (1994) تم ذكر أسم مارتن لوثر كينغ في الصفحة الرقم 68 (المترجمان).

[17](1) والاقتباس المذكور مأخوذ من مقابلة تمت مع المؤلفة وبموافقتها.

[18](**)  هنا قد يكون مفيدًا الإحالة إلى ما يعرف بـ «النظرية النقدية للعرق» (Critical Race Theory) أو «الدراسات النقدية للعرق» (Critical Race Studies) التي بزغت كفعل مضاد لمثل هذه التحيزات المنهجية العرقية والقومية داخل الأكاديميا الأمريكية البيضاء. باختصار، النظرية النقدية للعرق هي وسيلة لفهم كيف شكلت العنصرية [في الولايات المتحدة تحديدًا] السياسة العامة. حيث يستخدم مناصرو هذا الاتجاه النقدي في علم الاجتماع لشرح الهياكل الاجتماعية والسياسية والقانونية وتوزيع السلطة من خلال «عدسة» تركز على مفهوم العرق وتجارب العنصرية. حيث يجادل مناصرو هذه النظرية بأن البناء الاجتماعي والقانوني للعرق يعزز مصالح الأشخاص البيض على حساب الأشخاص الملوّنين، حيث تستمر القوانين الرسمية التي تعاني تحيزات صارخة في إحداث نتائج تمييزية عنصريًا. على سبيل المثال، يدرس الإطار المفاهيمي للنظرية النقدية للعرق التحيز العنصري في القوانين والمؤسسات القانونية، مثل معدلات السجن المتباينة جدًا بين المجموعات العرقية في الولايات المتحدة. والنظرية النقدية للعرق هي مفهوم أكاديمي عمره أكثر من أربعين عامًا. انبثقت المبادئ الأساسية للنظرية من إطار التحليل القانوني في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، والذي أنشأه علماء القانون ديريك بيل (Derrick Bell)، وكيمبرلي كرينشو (Kimberlé Crenshaw)، وريتشارد ديلجادو (Richard Delgado) وآخرون. كما ترتبط النظرية أيضًا بتيارات فكرية أخرى، بما في ذلك أعمال علماء الاجتماع والمنظّرين الأدبيين الذين درسوا الروابط بين السلطة السياسية والتنظيم الاجتماعي واللغة. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، أثرت أفكارها في مجالات أخرى، مثل العلوم الإنسانية، والعلوم الاجتماعية، والتدريس، والتربية. تجادل الفرضية البحثية الأساسية للنظرية بأن العرق بناء اجتماعي ليس له أساس بيولوجي، وأن العنصرية ليست مجرد نتاج للتحيز الفردي أو التحيز، ولكنها أيضًا شيء متأصل في الأنظمة والسياسات القانونية. بوجه عام، تشير الدراسات النقدية للعرق إلى المدرسة الفكرية التي ترى أن المؤسسات الكبرى في الولايات المتحدة عنصرية بطبعها ومبنية على ضمان استمرار تفوق العرق الأبيض، وتجريم العرق الأسود (على سبيل المثال نظرية «المشتبه بهم الاعتياديين (The Usual Suspect) التي تربط بنيويًا بين السواد والجريمة). فأحد مبادئ النظرية النقدية للعرق هو أن العنصرية والنتائج العرقية المتباينة هي نتاج لديناميات اجتماعية ومؤسسية معقدة ومتغيرة ودقيقة في كثير من الأحيان، وليس التحيزات الصريحة والمتعمدة للأفراد. ويذكر أن المترجم أحمد محمد أبو زيد كان من أوائل الأكاديميين في الجامعات البريطانية الذين قاموا بتدريس فصلين كاملين (لطلبة الدراسات العليا والمرحلة الجامعية) في جامعة ساوثهامبتون حول هذا الموضوع في حقول العلوم السياسية، العلاقات الدولية والدراسات الأمنية. وقد كان إقبال الطلبة على التسجيل في هذين الفصلين غير مسبوق. أخيرًا، وكما هو معلوم للجميع، فقد أثارت هذه النظرية منذ صعود ترامب السلطة عام 2018 الكثير من اللغط والضجيج الأيديولوجي والديماغوجي (والقليل من النقاش الجدي) إلى الحد الذي وصل إلى قيام نحو سبع عشرة ولاية أمريكية إلى التوقيع على مشروع قانون ليصبح قانونًا أو تمت الموافقة على إجراء مماثل على مستوى الولاية ضد تدريس هذه النظرية أو توفير تمويل حكومي أو فدرالي لدعم تدريسها في المدارس بدعوى أنها نظرية «عنصرية» وتقوم بنشر خطاب مثير للانقسام يحرِّض الأشخاص الملونين ضد الأشخاص البيض (المترجمان). للمزيد، انظر: Richard Delgado and Jean Stefancic, Critical Race Theory: An Introduction. (New York: NYU Press, 2001), and Sarah Schwartz, «Map: Where Critical Race Theory Is Under Attack,» Education Week (11 June 2021), <https://www.edweek.org/policy-politics/map-where-critical-race-theory-is-under-attack/2021/06>.

[19](*)   أحد أكثر الأشكال انتشارًا للانحياز الجندري والغفلة عنه هو الحديث عن العنف الذكوري ضد النساء بصيغة الغائب أو المبني للمجهول، فيقال «العنف الموجه ضد النساء» دون تحديد والإشارة لمرتكبي هذا العنف والقائمين به – أي الرجال (المترجمان).

[20](*)   تشمل هذه الاستحقاقات الترقيات الوظيفية، وحتى الحصول على وظائف دائمة داخل الجامعات نفسها (Tenure Track) (المترجمان).

[21](*)   المركزية الأفريقية هي حركة علمية تسعى إلى إجراء البحوث والتعليم حول موضوعات التاريخ العالمي، من منظور الشعوب والحكومات الأفريقية التاريخية. وقد صيغت مصطلحات المركزية الأفريقية (Afrocentrism)، وعلم الأفرقة (Afrocology) والتمركز الأفريقي (Afrocentricity) في ثمانينيات القرن العشرين من جانب المفكر والفيلسوف والناشط الأمريكي البروفيسور موليفي أسانتي (Molefi Asante) أستاذ علم الأفرقة في جامعة تامبل الأمريكية. وبحسب الموسوعة البريطانية، تتخذ المركزية الأفريقية موقفًا نقديًا من الافتراضات والأساطير الأوروبية حول تاريخ العالم، ويحاجج أنصارها بضرورة عمل المنحدرين من أصل أفريقي في الولايات المتحدة والعالم بوجه عام على تطوير تقدير لإنجازات الحضارات الأفريقية التقليدية. ووفقًا للمركزية الأفريقية، يبدأ التاريخ والثقافة الأفريقية في مصر القديمة (الفرعونية)، التي كانت مهد الحضارة العالمية. ويؤمن أنصار هذه المدرسة الفكرية بأن مصر الفرعونية ترأست أفريقيا السوداء الموحدة إلى أن سُرقت أفكارها وتقنياتها وطمس الأوروبيون سجل إنجازاتها. حيث تزعم المركزية الأفريقية أن الأوروبيين سيطروا على الأفارقة وغيرهم من غير البيض لقرون من الزمن، من خلال العبودية والاستعمار، وأن الثقافة الأوروبية في أحسن الأحوال غير ذات صلة – وفي أسوَئها تتعارض تمامًا – مع الجهود التي يبذلها غير الأوروبيين لتحقيق تقرير المصير. ويزعمون أن الاهتمام المتجدد بهذه الثقافة يمكن أن يفيد الأميركيين من أصل أفريقي نفسيًا من خلال تذكيرهم بأن ثقافتهم، التي قلل الأميركيون من أصل أوروبي من قيمتها مدة طويلة، تتمتع بتراث غني وقديم. وعليه، فإن أسلافهم الأفارقة بحاجة إلى توضيح تاريخهم ونظام قيمهم الخاص. إضافة إلى التركيز على الماضي، تشجع المركزية الأفريقية الحفاظ على الثقافة الأمريكية الأفريقية المعاصرة والارتقاء بها كما تتجلى في اللغة والمطبخ، والموسيقى، والرقص، والملابس… إلخ.

الجدير بالذكر أنه خلال الأعوام الأربعة الاخيرة (وخصوصًا منذ عرض مسلسل الملكة كليوباترا على منصة نتفليكس في العام 2023) شهدت مصر جدلًا قوميًا وشوفينيًا (بل وعنصريًا) تجاه أنصار هذه المدرسة الفكرية. حيث رفضت جماعة من المثقفين (مثل المناظرة الشهيرة بين المؤرخ المصري المرموق خالد فهمي عالمة الآثار المصرية مونيكا حنّا في نيسان/أبريل 2021) ومشاهير السوشيال ميديا – وبصورة عنصرية بغيضة – هذه الدعاوي حول الأصول الأفريقية للحضارة المصرية القديمة. ونشرت مئات الصور العنصرية ضد المواطنين الأفارقة وكيف أنهم كانوا (مستعبَدين) في مصر الفرعونية، وكيف أنهم يحاولون (بوقاحة) سرقة تاريخ الحضارة المصرية ونسبه إليهم. بل وقامت السلطات المصرية بإلغاء عرض للممثل الكوميدي الأمريكي الشهير كيفين هارت، كان مقررًا في القاهرة في 21 شباط/فبراير 2023، بعد مزاعم بأنه يروّج خلال جولته العالمية لفكرة المركزية الأفريقية (المترجمان). للمزيد عن هذه المدرسة الفكرية، انظر: Cheikh Anta Diop, The African Origin of Civilization: Myth or Reality, translated from the French by Mercer Cook (New York: L. Hill, 1974); Molefi Asante: Afrocentricity: The Theory of Social Change (New York: Amulefi Publishing Company, 1980), and An Afrocentric Manifesto: Toward an African Renaissance (Cambridge, UK: Polity, 2007), and Stephen Howe. Afrocentrism: Mythical Pasts and Imagined Homes (London: Verso, 1999).

[22](*)   منذ أن ذكرت المؤلفة أن السيدة كانت تتحدث بالعامية الإنكليزية الأمريكية، فقد ارتأى لنا ترجمة هذه العبارة بالعامية العربية (في مصر على سبيل المثال عادة ما تستخدم النساء كلمة «موجوعة» و«تعبانة» لوصف حالة الإعياء والألم والمعاناة التي تحيط بهن في أغلب جوانب الحياة، ولكننا اخترنا كلمة «تعبانة» كونها الأقرب إلى الفصحى وأكثر سلاسة من المعنى المصري الذي ربما يكون أكثر واقعية) لجعل الترجمة أقرب إلى روح النص وتسهيلًا على القراء العرب (المترجمان).

[23](2) هكذا وردت في الصفحة الأخيرة من النص الأصلي.

 

المراجع

حيدوري، عبد السلام (2015). «فوكو راهنًا أو في فلسفة المقاومة.» الفكر العربي المعاصر: السنة 35، العددان 166 – 167، شتاء.

دولوز، جيل (1987). المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو. ترجمة سالم يفوت. بيروت: المركز الثقافي العربي.

سكوت، جيمس (1995). المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم. ترجمة إبراهيم العريس ومخايل خوري. بيروت: دار الساقي، 1995

فوكو، ميشيل (1990). المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن. ترجمة علي مقلد. بيروت: مركز الإنماء العربي.

فوكو، ميشيل (1990). تاريخ الجنسانية: الجزء الأول: إرادة المعرفة. ترجمة مطاع صفدي. بيروت: مركز الإنماء العربي.

Ahmed, Sara (2012). «Feminist Killjoys (and Other Willful Subjects).» Cahiers du Genre: vol. 53, no. 2.

Ali, Shahrazad (1990). The Black Man’s guide to understanding the Black Woman. Philadelphia: Civilized Publications.

Asante, Molefi (1980). Afrocentricity: The Theory of Social Change. New York: Amulefi Publishing Company.

Asante, Molefi (2007). An Afrocentric Manifesto: Toward an African Renaissance. Cambridge: MA: Polity.

Bhambra, Gurminder K. (2016). «Postcolonial Reflections on Sociology.» Sociology: vol. 50, no. 5.

Childers, Mary and Bell Hooks (1990). «A Conversation about Race and Class.» in: Marianne Hirsch, Evelyn Fox Keller (eds.). Conflicts in Feminism. London: Routledge.

Diop, Cheikh Anta (1974). The African Origin of Civilization: Myth or Reality. Translated from the French by Mercer Cook. New York: L. Hill.

Eagleton, Terry (1990). The Significance of Theory. Oxford: Blackwell.

Hooks, Bell (1984). Feminist Theory: From Margin to Center. Berkeley, CA: South End Press,

Hooks, Bell (1990). Yearning: Race, Gender and Cultural Politics. New York: Routledge.

Howe, Stephen (1999). Afrocentrism: Mythical Pasts and Imagined Homes. London: Verso.

King, Katie (1990). «Producing Sex, Theory, and Culture: Gay/Straight Remapping in Contemporary Feminism.» in: Marianne Hirsch, Evelyn Fox Keller (eds.). Conflicts in Feminism. London: Routledge.

MacKinnon, Catharine A. (1991). «From Practice to Theory, or What is a White Woman Anyway?.» Yale Journal of Law and Feminism: vol. 4, no. 13.

Matsuda, Mari (1991). speech given at the Conference. 9 February.

Mercer, Kobena (1990). Travelling Theory: The Cultural Politics of Race and Representation. Berkeley, CA: University of California Press.

Miller, Alice (1991). The Drama of the Gifted Child: The Search for the True Self. New York: Basic Books. (earlier published as Prisoners of childhood, 1981).

Richard Delgado and Jean Stefancic (2001). Critical Race Theory: An Introduction. New York: NYU Press.

Schwartz, Sarah (2021). «Map: Where Critical Race Theory Is Under Attack.» Education Week: 11 June.

Vitalis, Robert (2015). White World Order: Black Power Politics: The Birth of American International Relations. Ithaca, NY: Cornell University Press.

Wallace, Michele (1979). Black Macho and the myth of Superwomen. London: Verso.

Williams, Patricia (1991). «On Being the Object of Property.» in: Patricia Williams, The Alchemy of Race and Rights: Diary of a Law Professor. New Heaven, CT: Harvard University Press.


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز