مقدمة:

تعود جذور العلاقات بين البرازيل وأفريقيا إلى عهد تجارة العبيد، فنسبة معتبرة من السكان البرازيليين منحدرة من دول أفريقيا الغربية. وبعد استقلال هذه الأخيرة، حرصت القيادات البرازيلية على توسيع علاقاتها معها عبر توظيف العامل الثقافي وتبنّي توجّه يكرّس منطق الهوية المشتركة والمصير المشترك، تحت شعار: حق تقرير المصير، وعدم التدخّل، والسلم والتعايش. مع ذلك، فإنّ مجالات التعاون كانت محدودة جدّاً، لينحصر الدعم البرازيلي في تعاطف مع القضايا الأفريقية[1].

لكن مع حلول عام 1967، شهدت السياسة التعاونية البينية انتعاشاً ملحوظاً، فقد شكّلت كل من الأزمة النفطية عام 1973، والتهديدات الأمنية في منطقة جنوب الأطلسي، وموجة التصنيع، رهانات فعليةً للقيادة البرازيلية، وبخاصة في عهدة أرنستو غيزيل (Arnesto Giesel) وإميليو مديتشي (Emilio Médici)، حيث زار وزير الخارجية آنذاك غيسبون باربوسا (Gisbon Barbosa) تسع دول أفريقية في سنة واحدة بهدف تأمين أسواق النفط وتمويل الآلة الصناعية البرازيلية‏[2]. وخلال هذه الزيارات، أعلن أنّ بلاده تسعى لتحويل التكنولوجيا، ومحاربة الحمائية، ودعم مبدأ تقرير المصير، والمساواة بين الدول، ورفض جميع أنواع التمييز الثقافي والعرقي‏[3]، ودعم الحركات التحررية في الدول المستعمرة‏[4].

وبهدف شرعنة السياسة التعاونية الجديدة، احتضنت الحكومة البرازيلية خطاب المساواة الاقتصادية بين الشمال والجنوب ووجّهت انتقادات واسعة للعالم الرأسمالي، حيث اعتبرت سياسة القوى الكبرى عائقاً أمام صعود القوى الجديدة في الساحة الدولية، كما أكّدت أنّ تقليص التبعية للغرب لا يكون إلّا عبر البحث عن شركاء جدد واستغلال الفرص الاستثمارية في القارة الأفريقية. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ هذا التوجه الجديد لا يرتبط بمنطق التبعية الاقتصادية فقط، بل هو ذو صلة وثيقة بالاستقطاب الثنائي بين المعسكرين الشرقي والغربي، وكذا صعود القوى الجديدة، كاليابان وأوروبا الغربية؛ فحالة اللايقينية التي كانت تميّز البيئة الدولية قد فرضت على الإدارة العسكرية في البرازيل تبنّي توجّه براغماتي وأكثر مرونةً للحفاظ على مكانتها الإقليمية والدولية‏[5].

لكن مع حلول النصف الثاني من الثمانينيات، شهدت العلاقات البينية تقهقراً ملحوظاً لاعتبارات اقتصادية وسياسية، منها: انكماش الاقتصاد الأفريقي بفعل سوء التسيير وفشل برامج التصحيح الهيكلي، والفوارق الكبيرة في القدرات الاستهلاكية بين الدول الأفريقية، التمايز اللغوي، المستويات المنخفضة للتصنيع، قلّة القروض الاستثمارية، وهيمنة القوى الاستعمارية التقليدية على الأسواق الأفريقية‏[6]. إضافة إلى هذه العوائق البنيوية والوظيفية، أفرز فشل النموذج التصنيعي البرازيلي اختلالات سياسية ومجتمعية عميقة، فقد كانت البلاد تواجه مرحلة انتقال ديمقراطي غير مستقرة، وأزمة مديونية خارجية، وتوترات مجتمعية‏[7]. لهذا السبب، كان الحضور البرازيلي في القارة محدوداً جدّاً، باستثناء الاجتماعات الدورية لمنطقة السلام والتعاون لجنوب الأطلسي في 1990، 1994، و1998، ومشاركة الجيش البرازيلي مع البعثة الأممية في عملية السلام في أنغولا. حتى إنّ محاولات كل من الرئيس فيرناندو كولور (Fernando Color) ومن بعده إتامار فرانكو (Itamar Franco) لدعم استقلال ناميبيـا وتنسيق التعاون الثقافي مع المستعمرات البرتغالية السابقة لم تحدث تغييراً جوهرياً في مسار التعاون بين الطرفين، وخلال عهدة فيرناندو هنريك كاردوسو (Fernando Henric Cardoso)، تعمّقت مستويات تهميش القارة الأفريقية بسبب تركيزه على العلاقات شمال – جنوب لكسب تأييد المجتمع الدولي والاندماج في النظام الرأسمالي الجديد‏[8].

لكن وصول لولا دا سيلفا إلى السلطة عام 2003 كان الإعلان الرسمي عن إعادة مراجعة عميقة للسياسة التعاونية البرازيلية – الأفريقية، من خلال طرح استراتيجيات تعاونية جديدة، وغزو فضاءات جغرافية وقطاعية أكبر.

سوف نسلّط الضوء في هذا البحث على أهم مميزات السياسة البرازيلية التعاونية تجاه أفريقيا منذ وصول دا سيلفا إلى يومنا هذا، موضّحين أهم التحديات والرهانات ومجالات التعاون.

أولاً: إنعاش التعاون الأفريقي – البرازيلي: عهدة لولا دا سيلفا

كان صعود دا سيلفا إلى الحكم في البرازيل عام 2003 نقطة انعطاف محورية في السياسة الخارجية لبلاده تجاه أفريقيا. وهذا الانعطاف لم ينفصل عن سياسة الرئيس الجديد الهادفة إلى الدفع بالنمو الاقتصادي وتعزيز مكانة بلاده في الساحة الدولية. ففي الخطاب الافتتاحي في 1 كانون الثاني/يناير 2003 أمام الكونغرس البرازيلي، أكّد دا سيلفا أنّ حكومته سوف تحرص على تعزيز الروابط العميقة مع القارة الأفريقية‏[9]. وبالفعل، خلال عهديه، سُجّل ما يقارب 28 زيارة رئاسية و67 زيارة من طرف رئيس الوزراء سيلسو أموريم (Celso Amorim) لنحو 34 دولة أفريقية. شارك في هذه الزيارات رجال أعمال وممثّلو وزارات ومثقفون، وجهات صحافية‏[10]. كما فتحت الحكومة 17 سفارة و400 منصب دبلوماسي في القارة‏[11]. وفي بعض الدول، لم يقتصر دا سيلفا على زيارة نظيره فقط، ولكن شارك في الملتقيات والدورات البرلمانية، في جنوب أفريقيا ولواندا عام 2007‏[12].

من دون شك، أثارت الدبلوماسية النشيطة للرئيس المنتخب نقاشات واسعة في الأوساط الصحافية والأكاديمية على حدّ سواء؛ فهناك من اعتبرها دبلوماسية هيبة يسعى دا سيلفا من خلالها إلى تعزيز صورته الخارجية على حساب مصلحة البلاد‏[13]، وشق آخر، يعتقد أنّها أمبريالية مرنة (Soft Imperialism) حاولت الحكومة من خلالها فرض الهيمنة على دول العالم الثالث، كما هي حال الصين، وشقّ أخير يرى أنّ سياسة دا سيلفا قائمة على دبلوماسية تجارية تحاول البلاد من خلالها توسيع مصالحها في المنطقة من أجل تغطية حاجاتها الاقتصادية‏[14]. وبحسب لايال وايت، فإن سياسة حكومة دا سيلفا تجاه أفريقيا مبنية على مقاربة وسطية تتموقع بين النموذجين الصيني والهندي: حيث يقوم الأول على الشركات الوطنية المدعومة دعماً مطلقاً من طرف حكومة بيكين، ويرتكز الثاني بالأساس على القطاع الخاص، ولا تتدخل الدولة كثيراً في قرارات المستثمرين. أما سياسة دا سيلفا فتعتمد على القطاعين العام والخاص‏[15]، وهي مستندة إلى ثلاثة محاور أساسية: الدبلوماسية السياسية؛ والتعاون التنموي؛ والمركنتيلية الأفريقية الجديدة. الدبلوماسية السياسية – أو بصيغة أدق الدبلوماسية الرئاسية – تبرز في الزيارات المتعاقبة من طرف السلطة التنفيذية للمنطقة وتأييدها المطلق لقضايا الجنوب في المنظمات الدولية، أما التعاون التنموي فينعكس في برامج التعاون التقني المكثّفة، في حين، العامل المركنتيلي يمثل الحضور القويّ للشركات البرازيلية في القارة، التي تسعى لتوسيع تجارتها وتنويعها، سواء على مستوى البنية أو على مستوى الجغرافيا‏[16].

لفهم مقاربة حكومة دا سيلفا لا بدّ من استيعاب عميق للهدف الرئيسي لسياسته الخارجية، ألا وهو تعظيم المكانة الدولية، فقد حقّقت البرازيل نجاحاً معتبراً على المستوى السياسي والاقتصادي مقارنة بالدول النامية، واستطاعت ترسيخ دعائم قطاع صناعي عام وخاص، بحيث أصبحت الشركات البرازيلية في القطاع الاستخراجي تنافس الشركات الغربية، وبالتالي هي لا تبحث عن القوة، ولكن تسعى بالدرجة الأولى إلى توسيع هامش النفوذ على المستوى الدولي حتى تضمن مكانة معتبرة في الساحة الدولية، كالحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي. ويبرز هذا المسعى في استراتيجية الحكومة البرازيلية على المستوى الخارجي، التي يشار لها في الأدبيات الغربية باستراتيجية التوازن الناعمة (Soft Balancing Strategy)، التي لا تهدف إلى مواجهة القوى الكبرى ولا إلى خدمتها، بل تسعى إلى تأخير وإحباط السياسات الأحادية الطرف للعالم الغربي، وخلق توازن في هذه العولمة اللاتناظرية‏[17]. وبالفعل، بعد ما يقارب العقد، استطاعت حكومة دا سيلفا إضفاء الطابع الدولي (Internationalised) على التوجّهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلاد، وأصبحت البرازيل من مصدّري رؤوس الأموال والتكنولوجيا والمواد الخام والخدمات والمواد المصنّعة؛ ونموذجاً للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. ومن أهم خصائص السياسة التعاونية البرازيلية – الأفريقية خلال عهدي دا سيلفا، نذكر:

1 – تبنّي مقاربة تعاونية نخبوية – مجتمعية

خلافاً لسياسات الدول الغربية التي أُسّست على العلاقات العمودية بين نخب الدول الأفريقية ونخب الدول الغربية، حاول دا سيلفا تعزيز التبادلات التعاونية سواء على المستوى الحكومي، أو على مستوى التنظيمات المجتمعية، من خلال تمويل ودعم التنظيمات غير الحكومية‏[18]. وتستهدف هذه السياسة كسر الفوارق المجتمعية وإدماج السكان المحليين في مسار الإصلاح داخل البلاد، إلى جانب إدراج الشرائح المجتمعية المهمّشة. وقد استطاعت الحكومة في فترة وجيزة التغلغل إلى المجتمعات الأفريقية عبر آليات مختلفة، مثل: توظيف اليد العاملة المحلية، وإنشاء مشاريع مشتركة في مجال البحث الزراعي، وتنظيم ورش عمل واسعة النطاق من أجل تدريب اليد العاملة المحلية والاستفادة من الخبرات المحليّة في مجال الزراعة الاستوائية‏[19].

2 – دعم الدبلوماسية المتعدّدة الأطراف والبرامج الإقليمية

لم تقتصر المبادرات التعاونية البرازيلية تجاه المنطقة على التعاملات الثنائية فقط، فقد كانت هناك قيادة نشيطة في النوادي المتعدّدة الأطراف والمنظمات الإقليمية والدولية، التي تدافع عن ضرورة تشكيل نظام دولي سلمي ومتعدّد الأقطاب أو دمقرطة المؤسسات الدولية، إذ حرصت حكومة دا سيلفا على تعزيز المشاريع التعاونية الإقليمية والمبادرات الجماعية، سواء في المجالات الأمنية، أو الثقافية، أو الاقتصادية. نلمس هذا الدور النشيط للقيادة المنتخبة على مستوى كل من: قمة جنوب أمريكا – أفريقيا؛ ومنتدى حوار جنوب أفريقيا – البرازيل – الهند؛ ومنطقة السلام والتعاون جنوب الأطلسي؛ ومنظمة الدول الناطقة باللغة البرتغالية؛ فضـلاً عن حضور البرازيل كضيف شرف في اجتماعات الاتحاد الأفريقي عام 2009 في تموز/يوليو 2011‏[20].

3 – مبدأ التضامن البيني

من خلال خطاب الرئيس المنتخب في قمة الاتحاد الأفريقي عام 2009، يمكن استشعار هذا البعد التضامني في السياسة الحكومية، حيث أشار إلى أنّ أفريقيا، التي لطالما اعتُبرت مرجعية للفساد والفقر والمعاناة، من حقها أن تحظى بمعاملة على أساس المساواة‏[21]؛ فالعلاقات البينية البرازيلية – الأفريقية لا ترتكز فقط على الاعتبارات المصلحية والمكسب المادّي، كما أنّ مبدأ التضامن ليس تابعاً بالضرورة للمصالح التجارية، كما هي الحال مع النموذج الصيني. حتى إنّ القيادة البرازيلية توظّف مصطلح التعاون (Cooperation) بدل المساعدة (Aid) في جميع خطاباتها ووثائقها الرسمية، تأكيداً لتلك القناعة الراسخة بضرورة بناء علاقة على مبدأ المساواة والاعتماد المتبادل‏[22]. وفي هذا الصدد، ذكر رئيس وكالة التعاون البرازيلية ماركو فراني (Marco Farani)، أنّ المساعدة في البرازيل تعني التعاون، أي التنسيق وتقاسم المعرفة عبر البنية الأفقية وليس عبر القنوات العمودية الحكومية‏[23].

على المستوى الواقعي، يتجسّد البعد التضامني للسياسة التعاونية البرازيلية في مبادرات مختلفة، نذكر منها: إلغاء المديونية، المساهمة في برامج تقليص الفقر، والدفاع عن مصالح الجنوب في المنتديات والمؤسسات الدولية كمنظمة التجارة العالمية، والمبادرة إلى اقتراح برنامج لإصلاح منظّمة الأمم المتحدة والدفاع عن السوق الزراعية للدول النامية ضد الاحتكارات الرأسمالية‏[24]. وتعتبر هذه المساعي الجماعية من ضمن أسباب اختيار البرازيل من طرف المفوضية الأممية لترسيخ السلام (Commission for the Consolidation of Peace) كمنسّق لعملية السلام في غينيا بيساو‏[25]، وانتخاب خوسي غرازيانو دا سيلفا (José Graziano da Silva) لقيادة منظمة الزراعة والغذاء الأممية عام 2012‏[26]، وروبرتو أزيفيدو (Roberto Azevedo) مديراً عاماً لمنظمة التجارة العالمية عام 2013‏[27].

4 – الحرص على نشر الديمقراطية وتعزيز الحكم الراشد

خلافاً للسياسة الصينية، حرصت حكومة دا سيلفا في سياستها التعاونية على تعزيز الأنظمة الديمقراطية واحترام حقوق الانسان؛ ولهذا، غالباً ما كانت تتجنّب التورّط في المناطق النزاعية أو فضاءات التوتّر المسلّح. ومن أهم الدول الأفريقية التي تحصّلت على دعم الحكومة البرازيلية لترسيخ المسار الديمقراطي، هي: ساوتاومي وبرانسيب‏[28].

من خلال الخصائص السابقة الذكر، نستنتج أنّ سياسة دا سيلفا لم تهدف إلى الاستفادة من خزّان الموارد الطبيعية فقط، مثلما رُوّج في الأوساط الإعلامية الغربية، ولكنها تسعى لتعزيز مكانة الدولة من خلال تبنّي استراتيجية على المدى البعيد. وبالرغم من أنّ بعض المحللين يعتبرون أنّ سياسة لولا هي امتداد لسياسة الحكومات السابقة، أو استمرارية لسياسة كاردوسو القائمة على التنويع والدبلوماسية الرئاسية، إلا أنّنا نعتقد أنّها إعادة قراءة للسياسات السابقة وتجديد لها، إما على مستوى المجال أو الفضاء، وهي تعكس النضج السياسي لدى الرئيس اليساري. فقد لقيت السياسة الجديدة شرعية وإجماعاً سياسياً واجتماعياً غير معهود في المجتمع البرازيلي، تمّ التعبير عنهما في مؤسسات مختلفة: كالبرلمان، والجامعات، والتنظيمات البرازيلية ذات الأصول الأفريقية وتنظيمات الرأي العام، كما أنها شملت أبعاداً عميقة ترتبط ارتباطاً وثيقاً ومباشراً بالمواطنة والاعتراف‏[29]، و«ثقافة التنمية المستدامة» بدل «ثقافة العالم الثالث» التي رُوّج لها طول العقود الماضية‏[30].

ثانياً: السياسة التعاونية البرازيلية – الأفريقية بعد لولا دا سيلفا: أولوية الاعتبارات الداخلية

أكّدت المناضلة اليسارية ديلما روسيف (Delma Roussef) بعد وصولها إلى سدّة الحكم في 2010، أنّ أفريقيا سوف تبقى من أولويات السياسة الخارجية البرازيلية، لكن تبيّن بعد مدة وجيزة أنّ الرئيسة الجديدة لا تمتلك الحماسة نفسها تجاه القارة، إذ بعد عام 2011، تراجع الوضع الاقتصادي في البرازيل على نحوٍ ملحوظ، وتنامت تخوّفات الإدارة الجديدة من عدم استقرار سعر الصرف؛ وارتفاع مستويات التضخم؛ وتقلّص تنافسية المنتجات البرازيلية في السوق الدولية؛ وتراجع حركة التصدير؛ وارتفاع نسبة الواردات وبخاصة الصينية منها. بناءً على ذلك، شجّعت الحكومة البرازيلية على تبنّي أجندة قائمة على الحمائية التجارية، من خلال إصدار إجراءات جديدة تستهدف حماية الصناعة الوطنية‏[31].

أما على المستوى الخارجي، فقد اهتمت روسيف بتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وتشجيع التكامل الإقليمي على حساب العلاقات جنوب – جنوب. وبين كانون الثاني/يناير 2011 وأيلول/سبتمبر 2013، زارت روسيف 47 دولة، من بينها سبع دول أفريقية، في حين قام دا سيلفا بـ 263 زيارة ما بين 2003 و2010، شملت 28 دول أفريقية: من الناحية النسبية، لا يمكن القول إنّ القارة الأفريقية قد تراجعت أهميتها، ولكن إذا قمنا بدراسة الدول التي زارتها الرئيسة الجديدة والمشاريع المقترحة، سوف نلمس تلك النزعة السلبية؛ فمعظم المهمات والزيارات اقتصرت على الدول التي توجد فيها مصالح برازيلية اقتصادية وتجارية واسعة. إضافة إلى ذلك، ومن ضمن أهم المؤشرات الدّالة على تراجع مكانة أفريقيا في الأجندة الجديدة، هو تراجع ميزانية وزارة الخارجية والوكالة البرازيلية من أجل التعاون ابتداءً من عام 2011، إلى جانب تقليص عدد البعثات التمثيلية البرازيلية الدبلوماسية في المنطقة‏[32]. ويمكن تلخيص أسباب تقهقر السياسات التعاونية البرازيلية – الأفريقية بعد دا سيلفا، وانحسارها بقوة بعد عام 2014، في ما يلي:

  •  تأثّر البلاد بالأزمة الاقتصادية العالمية، وكذا ارتفاع المنافسة الآسيوية في الأسواق المحليّة، فالبرازيل تبحث عن استراتيجيات جديدة بهدف تعويض قدراتها الاستثمارية المحدودة‏[33].
  •  التغييرات الحاصلة داخل الطبقة السياسية البرازيلية، فالاتهامات الموجّهة إلى ديلما روسيف وصعود ميشال تامر (Michel Temer) إلى الحكم قد أفرز تغييرات عميقة على مستوى السياسات الداخلية والخارجية، فأصبح هناك اهتمام محدود جدّاً بالتعاون جنوب – جنوب. سابقاً كان سيلسو أموريم هو المحرّك الأساسي للسياسة الخارجية البرازيلية، وقد ترك حضوره وقعاً عميقاً في المحاور الكبرى لهذه الأخيرة طوال المرحلة 2003 – 2010 لما كان يرأس وزارة الخارجية، وخلال المرحلة 2011 – 2014 لما كان يرأس وزارة الدفاع، إذ بالرغم من تراجع العلاقات البينية خلال عهد روسيف، إلا أنّ الحكومة كانت حريصة على الحفاظ على الشق التجاري من هذا الرصيد التاريخي للعلاقات البينية، وبخاصة في قطاع الاستيراد والتصدير. إلى جانب ذلك، حرص أموريم على تدعيم وتطوير السياسة الدفاعية في المنطقة من خلال توسيع مجالات التعاون العسكري مع عدد من دول غرب أفريقيا. لكن، خلال المرحلة الحالية، من الصعب جدّاً أن نتوقّع هذه الاستمرارية، ولو نسبياً، حيث عرفت البرازيل خلال سنتين فقط ثلاثة وزراء دفاع متعاقبين: جاك واينر (Jacques Wagner)، وألدو ربيرو (Aldo Rebero)، وراوول جانمان (Raul Jungmann). كما شهدنا تعاقب ثلاثة وزراء خارجية خلال ثلاث سنوات: لويس ألبرتو فيغيريدو (Louis Alberto Figueiredo)، ومورو فييرا (Mauro Vieira)، وخوسي سيرا (José Serra)، وجميع المعاهدات الدفاعية التي وقّعت مع الدول الأفريقية في السنوات الأخيرة، ما زالت عالقة في الكونغرس تنتظر المصادقة النهائية ‏[34].
  •  الهشاشة المؤسسية: غياب التنسيق ومؤسسات مركزية تتولّى التعاون بين الدول الأفريقية والبرازيل من أحد الأسباب الرئيسية خلف تراجع العلاقات البينية. فإنشاء عدد من الهياكل لإدارة التعاون يشتّت المبادرات التعاونية ويحول دون خلق سياسة مستمرة على المدى البعيد، ففي مجال التعاون التقني مثلاً، تعتمد البرازيل على بعثات خبراء مشكّلة من عناصر محدودة، ومدة نشاطها قصيرة جداً‏[35]. أما على المستوى الدفاعي، بالرغم من إنشاء وكالة التعاون البرازيلية جهازاً جديداً يتوّلى برامج التدريب العسكري مع القارة بصفة رسمية منذ عام 2010، فإنّ بعض المهمات بقيت تحت الإدارة المباشرة للقوات البحرية. ولا يقتصر الأمر فقط على البناء المؤسسي، ولكن، تفتقد البرازيل حتى الأطر القانونية الواضحة التي تحدّد النسب المخصّصة للتعاون وكيفية توزيعها، فغالباً ما يكون تحويل الهبات والمساعدات إلى الدول الأفريقية ظرفياً عبر قنوات ثالثية، مثل برنامج التنمية الأممي، وهذا ما يرفع التساؤلات حول صدقية وشفافية آليات التعاون الخارجي‏[36].

ثالثاً: مجالات التعاون البرازيلي – الأفريقي

تتميّز السياسة التعاونية البرازيلية تجاه القارة الأفريقية بالتعدّد والتداخل، فهي لا تنحصر في المجالات التجارية والاقتصادية فقط، بل تشمل حتى البرامج التعليمية، والمساعدات الإنسانية، والدفاع. ومن أهم الفواعل المموّلة لهذه البرامج التعاونية، هي: وزارة الشؤون الخارجية، وزارة الدفاع، بنك البرازيل، بنك التنمية البرازيلي لدعم المؤسسات المتوسطة والصغيرة، والمؤسسة البرازيلية للبحث الزراعي‏[37]. وتتمثل مجالات التعاون البرازيلي – الأفريقي بالآتي:

1 – القطاع الزراعي

تبنّت الحكومة البرازيلية الكثير من البرامج من أجل تعزيز التعاون الزراعي مع أفريقيا، ومن أهم المبادرات: «مشروع القطن 4» في 2008، بمشاركة كل من مالي وتشاد وبينين وبوركينافاسو وتوغو. يتكوّن المشروع من مرحلتين أساسيتين: الأولى تمتد ما بين عامي 2010 و2014؛ والثانية، من عام 2014 إلى يومنا الحالي. وتستهدف هذه المبادرة التعاونية توفير المعدّات والإمكانات اللازمة لتنمية الصناعة القطنية، ونقل التجربة الزراعية البرازيلية إلى المنطقة، وتعزيز الأمن الغذائي، وتحسين الظروف المعيشية للمزارعين، وتنمية الاستخدام العقلاني للموارد الطبيعية، وتعزيز الدراسات والأبحاث. شارك في هذا المشروع ما يقارب 56 باحثاً من الدول الأفريقية الأعضاء والبرازيل، يتوّلون تقديم دورات تكوينية متخصّصة للتحسين الجيني للقطن، وتحسين الإنتاج الزراعي، ومراقبة الأوبئة. خلال المراحل الأولى، واجه المشروع كثيراً من العراقيل الميدانية، مثل: نقص الاتصالات؛ ونقص المعدّات؛ والاستخدام غير العقلاني للمواد الكيميائية؛ وتراجع نوعية التربة الزراعية، وقلّة البذور ذات النوعية الجيّدة. لكن، هذه العراقيل لم تقف عائقاً أمام تعزيز القدرات الانتاجية في الدول المستفيدة، إذ ارتفعت معدّلات إنتاج القطن بين عامي 2009 و2010 بما يقارب 10 بالمئة‏[38].

في المقام الثاني، نجد المشاريع التنموية في موزمبيق كمشروع «الدعم التقني لتنمية الابتكار الزراعي في الموزمبيق»، الذي شاركت فيه ثلاث مؤسسات أساسية، وهي: معهد البحث الزراعي في موزمبيق؛ والمؤسسة الزراعية البرازيلية للبحث الزراعي؛ والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. دخل المشروع حيّز التنفيذ في سنة 2010، ويرتكز على محاور أساسية، وهي: تعزيز هياكل ومؤسسات معهد البحث الزراعي لموزمبيق؛ وتحسين نظام البذور؛ والرقابة على الأول بهدف تحسين البحث التقني وقدرات تحويل التكنولوجيا من أجل تنمية الزراعة في الموزمبيق، والمشروع الثاني عرف بـ «الدعم التقني للأمن الغذائي والتغذية»‏[39].

أخيراً، تجدر الإشارة إلى آلية «سوق الابتكار الزراعي» (Agriculture Innovation Market Place) في 2010، التي ضمّت نحو 125 باحثاً زراعياً من 15 دولة أفريقية، فضلاً عن باحثين من البرازيل، لمناقشة موضوع تعزيز الروابط بين المؤسسة البرازيلية للبحث الزراعي والباحثين الأفارقة، وعلى رأس قائمة الدول المشاركة: بوركينافاسو، تنزانيا، توغو، كينيا، موزمبيق‏[40].

2 – برامج التعاون التقني

تقود البرازيل الكثير من برامج المساعدة التقنية وتحويل المعرفة، سواء في القطاع الصحي أو القطاع التربوي، وقد بلغ عدد مشاريع المساعدة التقنية عام 2009 نحو 413 مشروعاً‏[41]. هذا النمط من البرامج، لم ينتشر في الدول الناطقة بالبرتغالية فقط، ولكن شمل دولاً أخرى، مثل الجزائر وبينين وبوتسوانا وبوركينافاسو والكاميرون، وكوت ديفوار وغامبيا وليبيريا ومالي والمغرب ونيجيريا وكينيا والسنغال وسيراليون وجنوب أفريقيا وتوغو وتونس وزامبيا؛ حيث يهتم الخبراء بتقديم المساعدة التقنية اللازمة للحكومات الأفريقية من أجل تصميم وتنفيذ برامج الحماية الاجتماعية والإغاثة الإنسانية والمساعدات الإنسانية‏[42].

أكاديمياً، أعلنت البرازيل عن عدّة منح دراسية لدعم الطلبة والأساتذة الأفارقة، كما نظّمت ملتقيات تناقش القضايا المشتركة لدول الجنوب، كالمؤتمر الدولي للدارسين الأفارقة والشتات في السلفادور في تموز/يوليو‏[43]. أما على المستوى الصحي، فقد خصّصت حكومة دا سيلفا ميزانية معتبرة لمحاربة الأوبئة في الدول الأفريقية، مثل مشروع مكافحة الملاريا في أنغولا، والكاميرون، والكونغو الديمقراطية، ومشروع مكافحة السيدا في بوتسوانا، وغانا، وكينيا، وليبيريا، وسيراليون، وتنزانيا، وزامبيا‏[44]. وفي سنة 2007، أعلنت النيابة البرازيلية في كايب تاون، خلال الاجتماع الرابع لفريق ملاحظة الأرض (Group On Earth Observation)، عن إمكان توزيع صور حول القارة الأفريقية من المنظمة الصينية – البرازيلية للموارد الأرضية (Sino-Brazilian Earth Resources) لمضاعفة قدرات الحكومات والمنظمات في أفريقيا على استخدام صور الأقمار الصناعية من أجل مراقبة الكوارث الطبيعية: كالجفاف والتصحر. ولم تكتفِ الحكومة البرازيلية بتقديم المعلومات فقط، بل تكفلّت بتقديم المساعدات الإنسانية وشحنات الأدوية إلى معظم الدول المتضرّرة من الفيضانات كموزمبيق، وزامبيا، وغينيا بيساو، وأنغولا‏[45].

3 – التعاون في مجال الطاقة والبناء

تنشط الشركات البرازيلية على نحو بارز في قطاع النفط، والوقود الحيوي، وبناء السدود، والهندسة والتخطيط الحضري؛ ومن أهم الفواعل الاقتصادية البرازيلية في هذه الميادين، نذكر:

  •  شركة بيتروباس (Petrobas): قدّرت القيمة الاستثمارية للشركة بين عامي 2010 و2014 نحو 224 مليار دولار، حيث تمتلك الشركة الكثير من مشاريع التنقيب عن النفط، وبخاصة الأوفشور.‏[46] ومع حلول 2010، كانت لها أنشطة في نحو 28 دولة أفريقية، في مقدمتها: أنغولا، وبنين، والغابون، ونيجيريا، وناميبيا، والسنغال، وتنزانيا، كما وقّعت معاهدتين ثنائيتين لإنتاج الوقود الحيوي مع كل من أنغولا وموزمبيق‏[47]. حالياً، تمتلك الشركة 50 بالمئة من حقوق الاستغلال على طول فضاء يمتد لـ 7400 كم2 في ساحل بنين، كما أنّها حظيت بـ 50 بالمئة من حقوق الاستغلال في المياه العميقة في نامبيا‏[48].
  •  شركة فال Vale، ناشطة في مجال التنقيب والبحث في القطاع المنجمي. باشرت أنشطتها في القارة رسمياً عام 2004، وحالياً، لديها مكاتب تمثيلية في كل من: أنغولا، والكونغو الديمقراطية، والغابون، وغينيا بيساو، وموزمبيق، وجنوب أفريقيا. تستثمر الشركة في جنوب أفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية في قطاع الكوبالت والنحاس، أما في أنغولا فتركّز أساساً على استغلال النحاس والنيكل. من أهم المشاريع الاستثمارية والاتفاقيات التجارية التي وقّعتها الشركة، هي: مشروع استخراج المعادن في منطقة ماوتيز (Moatize) في موزمبيق وفي مقاطعة موكسيكو (Moxico) على الحدود الزامبية، وشراء 51 بالمئة من أسهم الشركة الوطنية لاستغلال الحديد الخام (BSG Resources Guinea Ltd) في غينيا كوناكري‏[49]؛ وشركة لإنتاج النحاس في جنوب أفريقيا عام 2009، بقيمة 65 مليون دولار، ومشروع إنتاج النحاس ومشروع الحديد الخام في ليبيريا عام 2010 ‏[50].
  •  شركة أوديبريخت (Odebrecht)، دخلت القارة الأفريقية عام 1984 بعد توقيع معاهدة لبناء محطة الطاقة الكهرومائية في كابندا (Capanda) بأنغولا‏[51]. خلال عهد دا سيلفا، شاركت هذه الأخيرة في مشاريع في كل من: جنوب أفريقيا، وأنغولا، وبوتسوانا، والكونغو – كينشاسا، وجيبوتي، والغابون، وليبيريا، وليبيا، وموزمبيق. وهي تهتم بصفة خاصة، بالتنقيب في قطاع الغاز والنفط، والبنى التحتية، والهندسة الحضرية، ومناجم الذهب، والمشاريع الغذائية، والمنشآت الصناعية والمنجمية، والمشاريع الاجتماعية (التربية، الصحة، البيئة، التعاون الثقافي). من أهم المشاريع التي تولّاها هذا الفاعل الاقتصادي، هي: بناء سد ليسوبوغو (Letsiobogo) في بوتسوانا؛ والتنقيب عن النفط في جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ وتوفير الخدمات في القطاع النفطي الغابوني؛ وبناء مصنع الفحم في موزمبيق‏[52]؛ وبناء أنابيب الوقود وميناء دورالي (Doraleh) في جيبوتي‏[53].
  •  انترادي غوتيراز (Antrade Gutierez)، كامارغو كوريا (Camargo Correa)، كويروز غالفاي (Quieroz Galvao): كلها شركات رائدة في مجال بناء المنازل، والتنظيم المدني، وبناء الطرق وخطوط الطاقة. وهي تنشط في: أنغولا، والكاميرون، والكونغو الديمقراطية، وغينيا، وغينيا الاستوائية، ومالي، وموريتانيا، وموزمبيق‏[54].

من أهم المشاريع الطاقية البرازيلية، التي أثارت اهتمام الأوساط الدولية، هو مشروع الوقود الحيوي. فالبرازيل ثاني منتج في العالم لهذه السلعة بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تسعى لنقل تجربتها أو ما أسمتها «ثورة الوقود الحيوي» إلى القارة الأفريقية، وبخاصة أنّ هذه الأخيرة، لديها مستويات عالية من الإنتاج الزراعي. على هذا الأساس، فتحت مؤسسة البحث الزراعية البرازيلية عام 2008 مكتباً لها في آكرا، غانا، لتنمية البحث الزراعي وصناعة الإيتانول في البلاد. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2010، أعلنت الحكومة البرازيلية أنه من الممكن استثمار ما يقارب 300 مليون دولار في مزارع قصب السكر في ماكاندو. وسعياً لتوسيع التجربة إلى باقي دول العالم، وقّعت البرازيل اتفاقيات جديدة مع دول أخرى: كاتفاقية موزمبيق في تشرين الثاني/نوفمبر 2006؛ واتفاقية مع الشركة الوطنية الأنغولية للنفط سونانغول (Sonangol)؛ واتفاقيتان لتقديم دورات التدريب والتكنولوجيا والتمويل لإنتاج الوقود الحيوي من سكر القصب وزيت النخيل في الكونغو برازافيل في تشرين الأول/أكتوبر 2007، ومشروع بناء مدينة الوقود الحيوي في نيجيريا، الذي أعلن عنه عام 2007‏[55].

4 – التعاون في القطاع الأمني

تتموقع منطقة جنوب الأطلسي في قلب الفكر الاستراتيجي لوزارة الدفاع البرازيلية، بسبب عوامل اقتصادية وأمنية وسياسية. يتضح هذا الاهتمام البرازيلي في جميع الوثائق والخطابات الرسمية لقيادات الحكومة الفدرالية، وبخاصة خلال عهد دا سيلفا؛ فقد تم تسليط الضوء على محورية الفضاء الجنوب الأطلسي في السياسة الدفاعية في كل من: سياسة الدفاع الوطني (National Defence Policy)؛ واستراتيجية الدفاع الوطنية (National Defence Strategy)؛ والكتاب الأبيض للدفاع (Defence White Book).‏[56] والاهتمام البرازيلي بمنطقة جنوب الأطلسي ليس حديث العهد، بل يعود إلى حقبة الحكومات الدكتاتورية، التي تبنّت الخطوات الأولى لمأسسة الأمن في المنطقة عبر إنشاء منطقة السلام والتعاون في منطقة جنوب الأطلسي (21 دولة أفريقية وثلاث دول من أمريكا الجنوبية) عام 1986، أي بعد حرب الفوكلاند مباشرة، تجنباً لوقوع المنطقة تحت وصاية حلف شمال الأطلسي، أو انتشار الأسلحة النووية، أو التدخلات الأجنبية للقوى الكبرى‏[57].

خلال التسعينيات، عرفت هذه المنظمة الأمنية تراجعاً كبيراً، بسبب التوجّهات الخارجية الجديدة للحكومة، وكذا أزمة التضخم التي كانت تعانيها البلاد، لكن وصول دا سيلفا إلى الحكم وتعيين سيلسو أموريم على رأس الخارجية وبعدها على رأس وزارة الدفاع، أنعش التعاون الأمني مع دول أفريقيا الغربية، سواء على المستوى الثنائي أو على المستوى المتعدّد الأطراف، إذ صرّح أموريم علانية أنّ القوة الصلبة ضرورية في العلاقات الدولية، وأنّ قدرة التأثير البرازيلية على المستوى الخارجي مرهونة بصورة أكبر بزيادة قوتها العسكرية النسبية، وفي عام 2013، أشار إلى أنّه لا يوجد بلد يعتمد على القوة المرنة فقط من أجل الدفاع عن مصالحه، فصعوبة التنبؤ في عالم تتزاوج فيه التهديدات التقليدية مع التحديات الجديدة، يفرض على صنّاع القرار ضرورة الاهتمام بالقوة الصلبة، لأنّ القوة تردع التهديدات وتدعم السلام، وتدعم الدور البنّاء للبرازيل في الحفاظ على الاستقرار الشامل، وقد أكّد أموريم موقفه هذا في الاجتماع الأخير لمنطقة السلام والتعاون في جنوب الأطلسي عام 2013، في الأورغواي‏[58].

إنّ منطقة جنوب الأطلسي تؤدي دوراً محورياً في السياسة الخارجية البرازيلية، سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى الدولي. فالجزر البريطانية الموجودة في المنطقة ما زالت هاجساً أمنياً لقيادات الدفاع البرازيلي، بوصفها منطقة نفوذ للحلف الأطلسي، وبناءً على ذلك، تسعى الهيئات الرسمية جاهدةً لكي تمنع تغلغل أو تمديد فضاء عمليات الحلف الأطلسي إلى المنطقة، وبخاصة في الآونة الأخيرة، حيث باتت الولايات المتحدة الأمريكية تؤكد على نحو دوري محورية غرب أفريقيا في حملتها لمحاربة الجريمة المنظمة والحركات المسلّحة الجهادية.

على المستوى التجاري، تمثل المنطقة فضاءً جغرافياً مهمّاً لاستقرار النظام السياسي البرازيلي، فنحو 95 بالمئة من المعاملات التجارية البرازيلية تمرّ عبر البحر، وأغلب المدن ذات الكثافة السكانية العالية والموانئ التجارية منتشرة على طول السواحل الشرقية، مثل: سانتوس (Santos)، وريوديجانيرو، وباراناغوا (Paranagua)، وفيتوريا (Vitoria)، وسالفادور (Salvador)، وريسيف (Recif) ‏[59]. إضافة إلى ذلك، أعلنت حكومة دا سيلفا عام 2007 عن اكتشاف احتياطيات نفطية واسعة على طول إقليمها البحري، وهذا ما يبرّر لنا الطلب الذي قدّمته عام 2004 إلى منظمة الأمم المتحدة من أجل توسيع الحدود القارية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت القيادات الرسمية توظّف على نحوٍ مكثّف في تصريحاتها ما يعرف بـ «الأمازون الأزرق»، تأكيداً للدور القيادي للدولة في المنطقة أو لتلك الهوية الجنوب الأطلسية، فالاحتياطيات النفطية المكتشفة تمتد على مساحة تصل إلى 800 كلم، ومن المحتمل أن تتضمن موارد قيّمة أخرى، مثل: الغاز الطبيعي، والبلاتنيوم، والألماس، والقصدير، والنيكل، والنحاس، والكوبالت، والفوسفور‏[60].

لم تكتفِ البرازيل بإبرام معاهدات متعدّدة الأطراف في المجال الأمني، بل حاولت جاهدة توسيع أنشطتها على المستوى الثنائي. إذ وقّعت بين عامي 2003 و2013، تسع اتفاقيات تعاونية في مجال الدفاع مع كل من: أنغولا (2010)، وغينيا الاستوائية (2010)، وغينيا بيساو (2006)، وموزمبيق (2009)، وناميبيا (2009)، ونيجيريا (2010)، وساوتاومي وبرانسيب (2010)، والسنغال (2010)، وجنوب أفريقيا (2003)‏[61]. ويمكننا حصر أغلبُ البرامج التعاونية على المستوى الدفاعي في ثلاث نقاط أساسية: برامج التدريب العسكري للضباط الأفارقة من طرف القوات البحرية البرازيلية أو الأكاديميات المتخصّصة، التي اتسعت على نحوٍ ملحوظ بعد توقيع معاهدة التدريب العسكري من طرف وزارة الدفاع ووكالة التعاون البرازيلية عام 2010 مع بعض دول غرب أفريقيا‏[62].

في المقام الثاني، نجد اتفاقيات بيع المعدّات الحربية وتقديم المنح أو الهبات، وبخاصة في غرب أفريقيا. وتعتبر شركة إمبراير (Embraer) من أهم المموّلين للدول الأفريقية بالمعدّات الحربية، إذ وقّعت اتفاقيات مع دول مختلفة، في مقدّمتها: وأنغولا (2011)، وموريتانيا وبوركيانافاسو (مايو 2013)، والسنغال (2004)، كما منحت السلطات البرازيلية للسلطات الناميبية معدّات حربية لحماية السواحل وتعزيز القطاع الأمني. أما النمط الأخير من التعاون الدفاعي فهو التمارين العسكرية، وزيارات النوايا الحسنة، أو مهمات الملاحظة. فقد سُجّلت في عدة حالات زيارات للقيادات العسكرية أو الطاقم الحربي البرازيلي لسواحل غرب أفريقيا، نذكر منها على سبيل المثال: زيارة السفينة الحربية باروسو (Baroso) لكل من أنغولا، وغينيا الاستوائية، وغانا، وناميبيا، ونيجيريا، وساوتاومي وبرانسيب عام 2010، في حين، قضت سفينة دورية المحيطات (Ocean Patrol Vessel) شهر آب/أغسطس 2012 في الملاحة بين كل من بينين والرأس الأخضر ونيجيريا وساوتاومي وبرانسيب. أمّا سفينة آبا (Apa) فقد زارت موريتانيا والسنغال وغانا وأنغولا وناميبيا خلال آذار/مارس ونيسان/أبريل 2013. يشترك طاقم السفينة في كل مرة مع القوات المحليّة في تمارين مشتركة، إلى جانب تقديم دورات في الصيانة، واستعراضات عسكرية لمحاربة القرصنة‏[63].

إلى جانب المهمات السابقة الذكر، شاركت البرازيل كعضو ملاحظ في مهمات وتمارين تدريبية، مثل تمرين أوبانجامي اكسربرس بين 27 شباط/فبراير وأول آذار/مارس 2012، الذي ترعاه محطّة الشراكة الأفريقية تحت القيادة الأمريكية. وبين 19 و28 شباط/فبراير 2013 أيضاً، شارك ملاحظون برازيليون في مناورات في المنطقة نفسها، كما شاركوا في عمليات لمحاربة القرصنة على طول السواحل الصومالية خلال عامي 2012 و2013‏[64].

خلاصة

من خلال ما سبق، يمكن القول إنّ السياسات التعاونية للحكومة البرازيلية مع القارة الأفريقية، تتمحور حول أربعة محاور أساسية:

1 – السعي لكسب التأييد الدولي وتوسيع المكانة والنفوذ في الساحة الدولية، وبخاصة في منطقة جنوب الأطلسي، عبر دبلوماسية التنويع والتحالفات الدولية جنوب – جنوب، سواء على المستوى الثنائي أو على المستوى المتعدّد الأطراف.

2 – مواجهة التحديات الأمنية الجديدة، التي يمكن أن تشكّل تهديداً للأمن القومي وعلى المكانة الإقليمية للبلاد، مثل: تجارة المخدرات والقرصنة النفطية على طول خليج غينيا، والحركات المسلّحة المتطرّفة، وسعي منظّمة الحلف الأطلسي والقيادات العسكرية الأمريكية لتوسيع صلاحيات التدخّل في منطقة جنوب الأطلسي.

3 – دعم شرعية النظام السياسي وكسب تأييد البرازيليين ذوي الأصول الأفريقية، فتعزيز العلاقات البينية مع القارة الأفريقية قد يكون له الوقع الإيجابي على الاستقطاب العرقي في البلاد.

4 – تأمين الموارد الطبيعية والأسواق للمواد المصنّعة البرازيلية، وفتح المجال أمام الشركات البرازيلية الدولية، الأمر الذي قد يمنح البلاد قدرات وسلطات تفاوضية أوسع في السوق الدولية.

لقد نجحت القيادة البرازيلية إلى حدّ ما في تحقيق الأهداف السابقة الذكر، وبخاصة في عهد لولا دا سيلفا. مع ذلك، ما زالت العلاقات التعاونية البينية تعاني العديد من العقبات والعراقيل، سواء على المستوى البنيوي أو على المستوى الوظيفي. ومن أهم هذه العراقيل: هشاشة مسار المأسسة، الأمر الذي يفرز لنا سياسة تعاونية غير مستمرة وغير مستقرة. فتطوّر البرامج التعاونية خاضع بالأساس للاعتبارات شخصية والصراع الفصائلي داخل الطبقة السياسية الحاكمة. إضافة إلى ذلك، يشكّل تردّد النخبة السياسة البرازيلية بين الهوية الأمريكية لسياستها الخارجية أو الهوية الجنوبية رهاناً عميقاً. ولقد اختلفت مواقف القيادات البرازيلية عبر الزمان، ما بين التأييد المطلق والتردّد والتأييد المتحفّظ. تحاول البرازيل الحفاظ على علاقات مستقرة مع العالم الغربي، لكن في المقابل، لا ترغب في فقدان البعد الجنوبي لسياستها الخارجية، ليس لكونها من عالم الجنوب، بل لكونها قوة إقليمية تؤدي دوراً محورياً، سواء في أمريكا الجنوبية أو عالم الجنوب.

 

قد يهمكم أيضاً  إدارة طرامب وأفريقيا : التصورات والرهانات

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #لولا_دا_سيلفا #البرازيل_وأفريقيا #سياسة_البرازيل_اتجاه_أفريقيا #البرازيل_وأفريقيا #منطقة_جنوب_الأطلسي #أمريكا_الجنوبية #عالم_الجنوب #التعاون_البرازيلي_الأفريقي #القارة_الأفريقية #السياسة_البرازيلية_في_أفريقيا