المؤلف: امبارك حامدي

مراجعة: الشريف زيتوني(**) 

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

سنة النشر: 2017

عدد الصفحات: 431 ص

ISBN: 9789953827742

 

 

– 1 –

يأتي كتاب امبارك حامدي الموسوم بـ: التراث وإشكالية القطيعة في الفكر الحداثي المغاربي: بحث في مواقف الجابري وأركون والعروي ضمن الانشغال، الهاجس المتمثل بإشكالية العلاقة بين التراث والحداثة أو كيف نتعامل مع التراث لكي نبني حداثة عربية تُخرج الفكر العربي من تخلفه؟ وقد اختار الكاتب مقاربة هذه الإشكالية من خلال تحليله ثلاثة مشروعات فكرية عربية كبرى تنتمي إلى الحيِّز العربي المغاربي المعاصر تتقاطع في نقطة مركزية تتمثل بإيجاد حل لمسألة التراث وكيفية التعامل معه لبناء حداثة عربية مرتكزها العقل النقدي كأداة لخلخلة هذا التراث، وتفكيكه، وهذا ما أدى بروّاد هذه المشاريع (الجابري، أركون، العروي) إلى نقد التراث مستخدمين مناهج جديدة استمدوها من الإيبيستيمولوجيا الغربية المعاصرة. وقد نادوا جميعاً – وبصور متفاوتة – بالتعامل مع التراث بمنطق القطيعة معه، الأمر الذي جعل الكاتب يُعمل نظره في مدى نجاعة تطبيق هذه القطيعة التي نشأت متأثرة بأرضية علمية وفلسفية لها جذورها الضاربة في أعماق تاريخ الحضارة الغربية، وتوظيفها في بناء حداثة عربية. ولهذا فإن الكاتب ضمن تقديمه في هذا الكتاب الأطروحة التي دافع عنها والمتمثلة بقوله: «إن إشكالية العلاقة بالتراث (والقطيعة وجه من تلك العلاقة) هي إشكالية موصولة وصـلاً وثيقاً بمشروع التحديث العربي وتجديد النظر فيها، ومقاربة أسئلتها واستشكالاتها من آليات البحث في إشكاليات التحديث المختلفة» (ص 33). من هنا تتضح استراتيجية نص الكتاب بكاملها، وهي استراتيجية سيعمل الكاتب على تحقيقها عبر منعرجات، ومنحيات منهجية ومعرفية استقاها من تاريخية الفكر الغربي في بعده العلمي والفلسفي، ومن نظره المدقق في المشاريع التحديثية المغاربية التي نشأت مرتكزة على المنتجات العلمية، والرؤى الإيبيستيمولوجية للحضارة الغربية المعاصرة. وقد اختار لتدعيم مقاربته النقدية المقارنية ثلة من فلاسفة العلم الذين قالوا بالقطيعة كأس لتطور العلم وتقدمه، مقابـلاً ذلك، بالموقف القائل بالتراكم، مركزاً على مطلبه المتمثل بتطبيق القطيعة على التراث، من طرف رواد الفكر العربي المعاصر لتحقيق مشروعهم التحديثي العربي مع إعمال نظره النقدي في هذه المحاولة التي تبدو – من وجهة نظره – مفتقدة المسوغات المنطقية التي تجعلها منسجمة مع الذات العربية وتاريخيتها بحجة أن تلك القطيعة – كما قلنا سابقاً تنبع من أرضية تاريخية لها مرجعياتها الحضارية التي تختلف عن الآليات التي تحكم التراث العربي.

كل ذلك، جاء محمـلاً في أربعة فصول، شكلت بنية الكتاب، ومضمونه المعرفي، حيث تناول الكاتب في الفصل الأول: «جذور القطيعة في الفكر الغربي (مدخل نظري)»، ويعتبر – في نظرنا – مدخـلاً وظيفياً، إذ إنه، أراد من خلاله أن يبين كيف نشأت القطيعة، ومفهومها، وما أحدثته من تغيير عميق في بنية العلوم المختلفة في حضارة الغرب المعاصرة، وذلك، لكي يمهد إلى فكرته المركزية، المتمثلة بكيف تلقى الفكر العربي المعاصر، هذا المفهوم، من خلال محاورة ثلاثة رواد ينتمون إلى الفكر الحداثي المغاربي (الجابري، أركون، العروي). لذا، شكلت القطيعة مفهوماً أساسياً في عمل الكاتب في تناوله لإشكالية العلاقة بينها وبين التراث العربي في الفكر الحداثي المغاربي. وبما أن هذا المفهوم دخيل على الثقافة العربية، وينتمي في نشأته، وأصوله إلى فضاء الفلسفة الغربية، فإن الكاتب ارتأى أن يستكشفه في التربة التي نبت فيها، الأمر الذي حتم عليه ملامسته في أعمال فلاسفة العلم المعاصر وكيف طبقوه في العلوم الدقيقة، والعلوم الإنسانية. وعليه تابع الكاتب جذور نشأته (مفهوم القطيعة) التي تعود – في رأيه – إلى التطورات التي حصلت في حقول المعرفة العلمية: «القطيعة نشأت في أحضان مباحث تتعلق بالعلوم الدقيقة، كالبحث في أسسها وآليات تطورها ومنطق هذا التطور» (ص 38). فكان تحديد المناخ العلمي والفلسفي الذي نشأ فيه هذا المفهوم من الأوليات المنطقية لدراسته في منبته الغربي أولاً، ثم تطبيقاته في التراث العربي على يد الحداثيين العرب. هذا، وقد رأى الكاتب أن هذا المفهوم «يستدعي مفهومياً وتاريخياً ضده المقابل له، وهو التراكم والتواصل…» (ص 38).

وبعد أن عرض الكاتب بصورة سريعة، ومقتضبة الثورات التي حدثت في المجال الرياضياتي، والفيزيائي، والتي أسفرت عن تغيير جذري في أسس العلوم ومبادئها، وذلك بالمقارنة التي أحدثها بين وضعية العلوم في القرن التاسع عشر، ووضعيتها في القرن العشرين، هذا الأخير الذي حصلت فيه تحولات كثيرة كتحول ما هو يقيني إلى الارتيابي، والمطلق إلى النسبي، والحتمي إلى اللاحتمي، والمتعيّن إلى اللامتعيّن… فهو قرن الطفرات العلمية من دون شك. أدى كل ذلك إلى إعادة النظر في الآليات التي كان يرتكز عليها المسار التطوري للعلم، الأمر الذي جعل الإيبيستيمولوجيين ومؤرخي العلم يتساءلون عن تلك التطورات التي حدثت في ميادين العلوم: «ما هي القيم الإيبيستيمولوجية التي أفرزت تلك الثورات وما طبيعة التقدم العلمي، هل يتم بصفة تراكمية اتصالية … أم بصفة ثورية أي عبر سلسلة تحولات … ينفصل فيها الحديث عن القديم، وينقطع عنه؟» (ص 42). هذه التساؤلات وجهت الكاتب ليبحث وبشيء من الإسهاب في عوامل نشأة مفهوم القطيعة، وقابله بمفهوم التراكم والتواصل الذي سيطر على حركة العلوم وتطورها مدة من الزمن من خلال رؤى المنتصرين له (رواد المدرسة التجربية، والوضعية الكلاسيكية، ورواد الوضعية المنطقية).

وقد رأى الكاتب أن الوضعية المنطقية التي جاءت متأثرة بالفلسفة التجربية، وفلسفة التحليل، والقائلة بالانتقال من الوقائع والملاحظات والاستقراء، للوصول إلى اكتساب المعرفة واكتشاف نظريات علمية جديدة، فكانت نظرتها إلى العلم وتطوره، متسمة بالتراكمية والاتصالية، وهي بذلك ليست سوى نظرية ستاتيكية، كان من نتيجتها أن حدث «رد فعل مخالف لها، استبدل منطق الكشف بمنطق التبرير مصوِّباً الأنظار إلى دراسة تلك اللحظة: لحظة الكشف وكيفية ميلاد الجديد في العلم» (ص 46). فالقول بالتراكم والتواصل في تفسير تطور العلم وتقدمه، بدا للقائلين بالقطيعة، لا يفيد في تفسير حركة العلم المعاصرة التي أصبحت مبنية على منطق علمي جديد، فكانت لهم مواقف نقدية حاسمة وصارمة من الفلسفة التجريبية، والوضعية الكلاسيكية، والوضعية المنطقية، على اعتبار أنها فلسفات تؤمن بأن نظرية التطور في العلم تقول بالتراكم والتواصل، وهي في نظرهم مبنية على آليات تعتد بما تقدمه التجربة من قوانين، تحصل نتيجة الانتقال من المنطوقات الجزئية إلى القوانين العامة. الأمر الذي أدى برواد الوضعية المنطقية الذين اعتمدوا على معيار التحقق أساساً لتبرير رؤيتهم التراكمية، إلى أن يقولوا: إن العلم يتقدم وفق سلسلة متواصلة من الاكتشافات الجديدة التي تضاف إلى الاكتشافات القديمة.

غير أن هذا المسار الستاتيكي للعلم، لم يعد في منظور دعاة القطيعة هو الآلية التي يقوم عليها العلم في سيرورته. وقد بيّن الكاتب ذلك من خلال عرضه وتحليله لمواقف جماعة من الإيبيستيمولوجيين المعاصرين الذين كان لهم الفضل في التأسيس لمفهوم القطيعة وهم: كارل بوبر، غاستون باشلار، طوماس كون، وبول فيرباند. وأما كارل بوبر فقد رد على دعاة الوضعية المنطقية، وقام بثورة على مبادئهم، وبخاصة معيار التحقق، واتخذ من معيار التكذيب منهجاً له في تفسير تطور العلم بكل صوره. هذا، ويحلل الكاتب مفهوم القطيعة الإيبيستيمولوجية عند رائدها غاستون باشلار الذي يتفق مع كارل بوبر في الكثير من الأفكار وبخاصة منها فكرة التعلم بالأخطاء. وقد لخص لنا الكاتب الأسس النظرية التي تقوم عليها القطيعة عند غاستون باشلار إذ تتمثل بموقفه الرافض للسائد من النظريات، والمناهج، كالديكارتية، والأرسطية، والهندسة الإقليدية، وهذا ليؤسس نظريات جديدة منفتحة، ومنهجاً مرناً خاصاً بكل مجال معرفي. بعد ذلك، ينتقل الكاتب إلى طوماس كون، صاحب كتاب بنية الثورات العلمية، ولكي يحدد مفهوم القطيعة عنده، بيَّن أولاً: مفهوم الثورة عنده، ويمكن تلخيصه في ما يلي: «… هو انتقال جذري إلى مرحلة أعلى آن أوانها لانتهاء المرحلة السابقة، أو استنفاد مقتضياتها، هذا هو المقصود على وجه الدقة من القول بالطابع الثوري للتقدم العلمي (ص 67)، هذا ما يتفق مع مدلول الثورة في منطوق طوماس كون الإيبيستيمولوجي، إذ إن، الثورات العلمية عنده ليست سوى أحداث تطورية غير تراكمية، يبدل فيها نموذجاً إرشادياً قديماً كلياً أو جزئياً، بنموذج جديد يتعارض معه، يظهر نتيجة وقوف بعض العلماء أن النموذج الذي يحتكم إليه العلم العادي صار عاجزاً عن حل المشكلات الجديدة.

وأما فايربند صاحب كتاب ضد المنهج، فإنه يتخذ من الفوضوية مبدأ لتفسير حركة العلم؛ إذ إنه، يرى – حسب الكاتب – أن هناك مبدأً واحداً يستحق أن يقع الدفاع عنه في كل الظروف وعلى جميع الأصعدة، إنه «مبدأ كل شيء حسن». وحجة فيرباند في تأكيد صحة ذلك، تتجلى في صمود هذا المبدأ أمام النقد، بالإضافة إلى ذلك، فإنه، لا العلم، ولا ميتودولوجيا برامج البحث تستطيع أن تقدم حججاً ضد الفوضوية. ويتلخص موقفه الإيبيستيمولوجي من القطيعة في القول بنسبية الحقائق، وعدم اختلاف النسق المعرفي العلمي عن الأنساق المعرفية التي طورها الإنسان، وتسفيه القول بتقدم العلم وفق منهج ما، ثم القول بلا قياسية النظريات العلمية سعياً إلى نسف القول بطبيعة التقدم التراكمي، والزعم بوجود منهج لذلك التقدم (ص 70). هذا، ولكي يعمم الكاتب تحليله لمفهوم القطيعة، وتوسيعه إلى العلوم الإنسانية، فإنه عرض في عجالة موقفين إيبيستيمولوجيَّين لهما أهميتهما في الدراسات الفلسفية المعاصرة، وهما: فوكو، وألتوسير، حيث طبق فوكو القطيعة في مجال العلوم الإنسانية، ونحت منهجاً حفرياً (أركيولوجيا)، سعى من خلاله إلى الكشف عن الخصائص المشتركة التي تجمع بين مختلف الخطابات في فترة تاريخية ما، والتي تعمل، في الحين ذاته، بوصفها بنية ذهنية موجهة (إيبيستيمية) من قواعد التفكير. وإذ ذهب فوكو، إلى هذا الرأي فلأنه رأى أن لكل عصر معرفيته. وأما ألتوسير، فقد اهتم بالفكر الماركسي، في مرحلتيه (الشباب، الكهولة) والذي استفاد من الأعمال الإيبيستيمولوجية لكل من فوكو، وباشلار، وفرويد… في استخدامه لمفهوم القطيعة، خاصة في دراسة أعمال ماركس، التي أفضت إلى الوقوف مثـلاً: على القطيعة من الأيديولوجي إلى العلمي، من «الكل الاجتماعي» إلى «الكل الاجتماعي» العلمي، وما يلاحظ على موقف ألتوسير من القطيعة هو حصرها في الموروث الماركسي لا غير».

– 2 –

هذا، وبعد أن بسط الكاتب مفهوم وجذور القطيعة، وما أحدثته من تغيرات في الحقول المعرفية في الفكر الغربي، وتبيين جهود القائلين بها وتباينهم في منطلقاتهم، ورهاناتهم، تحول إلى البحث في المجال المعرفي العربي، وتحديداً في المجال المغاربي المعاصر مركّزاً على مشاريع حداثية لثلاثة رواد (الجابري، أركون، العروي) وجهتهم فكرة البحث في التراث، وفق مناهج استعاروها من حضارة الغرب المعاصرة، وهذا ما جعل الكاتب يُعمل نظره في الفصل الثاني في «مسألة القطيعة والبحث في دواعيها في الفكر المغاربي المعاصر».

لقد كان عرض وتحليل الكاتب لدلالات التراث وأسباب تخلفه، وأزماته…، كما جاءت في أعمال هؤلاء المفكرين ملمّاً بكل إشكاليات التراث العربي، قديمه وحديثه، ويتجلى ذلك، في تحديد نشأة التراث التي يبدو أن المفكرين الثلاثة، قد اتفقوا على أن مصطلح التراث نشأ في عصر النهضة، وأنه مرتبط بنتائج الوضع الحضاري الحديث المعروف بالتأخر والتبعية وولوج ثقافة الآخر الساحة الفكرية العربية. هذا هو السبب الذي دفع المفكرين إلى الاهتمام بالطابع الأيديولوجي بدرجات متفاوتة عكست اختلاف مناهجهم ورهاناتهم ومنطلقاتهم الفكرية والمنهجية، وتحديداتهم لأزمة التراث؛ فهي عند الجابري ذات طبيعة ثقافية، وعوائقها إيبيستيمولوجية، وهي عند أركون أزمة تأويل، وهي عند العروي تاريخية، بسبب أن العرب لم يشعروا بها إلا بعد أن تحقق سقف التاريخ في أماكن أخرى من الكون، هذا، وقد تباينوا أيضاً في التأريخ للأزمة؛ إذ يؤرخ الجابري لها بداية من عصر التدوين، وعند أركون فقد مرت بعدة مراحل متفاوتة من حيث الانفتاح والمرونة، وأما العروي فقد رأى أنها حديثة وإن كانت متأصلة في الماضي. غير أن المسألة الجوهرية في كل ذلك، تكمن في كيف يمكن تجاوز أزمة التراث؟ وما هي المناهج التي يمكن بواسطتها مراجعة التراث وتحديثه؟ هل يمكن اتباع قراءات السلف أم لا بد من تغيير آليات وأدوات البحث والتحليل، لأجل تكوين قراءة جديدة وأصيلة للتراث؟

– 3 –

ولكي يبين الكاتب ذلك، خصص الفصل الثالث لتناول قضية جوهرية في بحثه تتمثل بـ «القطيعة: بحث في مستوياتها» عند الجابري، وأركون، والعروي، وبعدما حلل مواقفهم من القطيعة ومستوياتها وحدودها والأسس المعرفية التي أقام عليها كل منهم قراءته للتراث، والمناهج التي استخدموه لتفسيره وفهمه، خلص إلى أن هناك اختلافات واضحة بين المفكرين الثلاثة في تناولهم للتراث؛ إذ إن، الجابري بعد نقده للقراءات المختلفة: القراءة السلفية الدينية، والقراءة السلفية الاستشراقية، والقراءة الماركسية، رأى أن هذه القراءات كلها تشترك في كونها سلفية، وهذا ما جعل – في رأيه – «الفكر الحديث والمعاصر مهما تعددت تياراته واختلفت في الظاهر، فإنها جميعاً منشدّة إلى نموذج – سلفي (داخلي، خارجي) بوصفه السلطة المرجعية التي توجه التفكير وترشد إلى الحلول» (ص 204). ولهذا فإن القطع مع هذه القراءات، يستلزم استحداث قراءات علمية جديدة للتراث.

ومن هنا، دعا الجابري إلى تأسيس منهج جديد، للوقوف على نقائص القراءات التراثية السابقة، فميز بين حركتين تأسيسيتين: إحداهما موضوعية تتمثل بفصل المقروء عن القارئ؛ والأخرى تواصلية تربط القارئ بالمقروء لتأسيس معقولية التراث وأستمراريته. ولتحقيق ذلك، اعتمد الجابري على ثلاثة طروحات: بنوية، وتحليلية تاريخية، وأيديولوجية. لكن ما الذي ينبغي القطع معه في منطوق الجابري؟ ينطلق الجابري من مسلّمة، تتمثل بأن: ليس كل تراثنا صالحاً، يعانق راهننا ومشاكله، وهذ ما يدعونا إلى إعمال النظر، والتركيز على ما ينبغي القطع معه. ولهذا في منظور الجابري لا يوجد إلا جزء معين من التراث قابل لأن يعاصر مشاكلنا، ويتجاوب مع التغيرات الكونية المعاصرة.

وهكذا، يمثل الفصل/الوصل مع التراث وجهَي القطيعة مع التراث، وهي قطيعة صغرى أو جزئية، قطيعة مع الأدوات المعرفية التي نشأت في حقول معرفية ما، وهنا فإن المشكلة ليست متعلقة بموضوع التراث، بل بالآليات التي يتناول بها هذا التراث، إذ عندما نصل إلى نقطة يتعذر معها الرجوع إلى الطرق السابقة، «… نقول: إن هناك قطيعة إيبيستيمولوجية» (ص 226). القطيعة الإيبيستيمولوجية الباشلارية، التي – تبدو – عند الكاتب أنها لا تخص سوى مرحلة الفصل، وأما الوصل، فإن الجابري، يرى أن له طابعه الأيديولجي، لأن، الجابري قد استبعد نهائياً المحتوى المعرفي للتراث على اعتبار أن المادة الفلسفية مثـلاً، في معظمها ميتة، إذ إن المحتوى المعرفي يحيا بحياة واحدة، ويموت حين يموت، مرة واحدة، أما المضمون الأيديولوجي فله حياة أخرى يظل يحياها على مر الزمن في صور مختلفة. وبجملة واحده ينتهي الكاتب بعد المعالجة الدقيقة لموقف الجابري من القطيعة مع التراث، إلى القول: إن القطيعة الجابرية مع التراث هي قطيعة صغرى أو (جزئية) تروم الانفصال عن جزء من التراث» (ص 229).

يواصل الكاتب تحليله لفكرة القطيعة في الفكر العربي المغاربي الحداثي، بتناوله لرائد الإسلاميات التطبيقية مبيناً كيف استخدم أركون القطيعة في قراءته للتراث. التراث الذي يبدو عند أركون أنه يمتد من التراث الجاهلي، إلى التراث الإسلامي، مروراً بالشامل، والكلي، والحي؛ فالتراث الإسلامي بوصفه جزءاً من التراث السامي الإغريقي. وبذلك، فإن أركون قد تجاوز الرؤية التقليدية الأحادية للتراث، وأما القطيعة مع التراث فقد جاءت نتيجة رصده للعوائق المتكثرة والذي تسبب فيها العقل الأورثوذكسي، والمتمثلة بزعم السلف الصالح بأنه هو وحده الذي تلقى الرسالة، وهو القادر على فهمها لا غير، بالإضافة الى فكرة التقديس التي امتدت لتشمل عدداً كبيراً من النصوص والرجال، والإيمان بالحقيقة الواحدة … لهذا دعا أركون إلى القطع مع مستويات متعددة من التراث، مثل: القطع مع النسيان والطمس، والعمل على زحزحة إشكاليات التراث من التعالي والتقديس، ورفص احتكار التأويل، وواحديته، والقطع مع العالم العجيب والساحر… وقد سميت قطيعة أركون بالقطيعة الوسطى.

وأما الطرق التي استخدمها أركون في قراءة التراث وتجسيد القطيعة معه فقد كانت متعددة. وما يلفت الانتباه هو أنه وظف بصورة واضحة كل مناهج العلوم الإنسانية التي أنتجتها الثقافة الغربية المعاصرة، (التاريخ، علم الاجتماع، علم النفس، الأنتربولوجيا، النقد الفلسفي، اللسانيات) وقد حللها الكاتب بصورة عميقة، ودقيقة، ووضح كيف وظفها أركون في قراءة التراث، ولاحظ أن التعدد المنهجي عند أركون إنما يعود بعضها إلى المؤلف (صورته عن نفسه: هاجس الوساطة بين ثقافتين، ورهاناته: تحديث التراث) وبعضها الآخر متعلق بالمادة التراثية نفسها (ص 267). ويخلص الكاتب إلى وسم القطيعة عند أركون بالوسطى – لأنها – في رأيه – اقتربت من مستوى المنهج والطرح الفكري من تصورات العروي حيناً ومن أطروحات الجابري حيناً آخر (ص 267).

وأما العروي فإن القطيعة الكبرى عنده، تقوم على مرتكزات نظرية ومنهجية، تابعها الكاتب بتحليل أفضى به إلى جعل أطروحتَي التاريخية والتاريخانية في صدراة مبحثه، على اعتبار أنهما مطلبان يفضي تبنيهما إلى ضرورة استدعاء ماركسية مؤولة على نحو ما بوصفها مدرسة للفكر التاريخي والتاريخانية (ص 267)، ذلك، أن تجلي تاريخ مجتمع تقليدي لا يصير ممكناً إلا في إطار الدعوة التاريخانية، التي يراها العروي في الماركسية؛ إذ إنه، (العروي) يذهب إلى تقرير ضرب من الحتمية والتلازم المطلق بين حالة التخلف والتأخر التاريخي الذي قد يجد مجتمع ما نفسه فيها (وضع تاريخي)، وظهور النزعة التاريخية بوصفها السبيل الوحيد لوعي التخلف، والطريقة المثلى لمعرفة كيفية الانتقال من واقع التأخر الموجود إلى واقع التقدم (وعي أيديولوجي) (ص 272). لذلك يرى الكاتب أن العروي قد طبق منهجاً مميزاً وهو النقد الأيديولوجي الذي بيَّن له عدم اكتمال المفاهيم التراثية، وعدم مطابقتها للفكر الحديث، في مقابل اكتمالها في الفكر الغربي الحديث، وعليه ولكي يحصل اكتمالها، لا بد من تبني الحداثة الغربية، وهذا لكي تحصل القطيعة في الثقافة العربية، التي ما يزال اهلها مترددين في تبني الفكر الحديث. وبجملة واحدة فإن القطيعة الكبرى عند العروي يمكن النظر إليها من زاويتين، إذ إنها، واقعية من جهة ولا واقعية من جهة ثانية، وعلة ذلك، تكمن في تغيير زاوية النظر: «فهي واقعية بالنسبة إلى الواقع والوعي الغربيين، وكذا في الواقع العربي، أما في الوعي العربي فإنها ما تزال دعوة تحتاج إلى جهد وإقناع كي تتحقق» (ص 301).

– 4 –

يتبين مما سبق، أن الكاتب، قد ألمّ بموقف الجابري، وأركون، والعروي من القطيعة في الفكر الحداثي المغاربي، وذاك عبر تشريح عميق لها، ومقاربته لها بصورة شاملة وموسعة ودقيقة، حيث بين بشيء من التدقيق العلمي القطيعة ومستوياتها عندهم، والمناهج التي استخدموها في التعامل مع التراث، وهي مناهج مستلهمة من مناهج العلوم الإنسانية التي ازدهرت في الغرب. ويبدو أن هذا التوجه إلى علوم الغرب ومناهجه، لم يكن من وجهة نظر الكاتب موفقا، الأمر الذي جعله يخصص فصـلاً رابعاً، وسمه بـ: «القطيعة في فكر ثالوث الحداثة المغاربي: مقاربة نقدية مقارنية». وقد ضمنه نقده لأسس القطيعة وخصائصها ورهانتها، عند الثالوث المذكور أعلاه، فضـلاً عن تبيين أوجه الائتلاف والاختلاف في مستوى الأسس المنهجية، وطبيعة القطيعة ونتائجها ورهاناتها.

لقد كان الكاتب واضحاً في نقده لطروحات الرواد الثلاثة، وما يبرر ذلك هو أنه لم ينكر الجهود الإيجابية التي بذلها هؤلاء في الاهتمام بالتراث، ومحاولتهم الجادة في إخراج الفكر العربي من تخلفه، وهذا هو السبب الذي جعله لا يتحدث عنها في هذا الكتاب، وذلك لكي يركز على ما هو سلبي في مواقفهم، بإعمال النظر النقدي في مواقفهم من القطيعة مع التراث، والطرائق التي استخدموها، وقد خلص إلى تأكيد مجانبتهم للصواب في الكثير من المسائل المنهجية، والمعرفية، من أهمها: أنهم انطلقوا في دراسة العقل من رؤية كانطية لا تشتغل بالنصوص والمضامين بل بالآليات والأسس وطرائق التفكير المنتجة لتلك النصوص والمضامين، من خصائص هذا العقل، الوقوع في النسبية وعدم الثبات، وغياب المطلق والثابت. كما أنهم وظفوا مرجعيات غربية في بلورة مفهومهم الخاص للقطيعة، فضـلاً عن أنهم وقعوا في مطبات أيديولوجية من حيث أرادوا تجنبها. وقد أنهى الكاتب ذلك بعبارة قوية يؤكدها الواقع تتمثل بأن «المفكرين الثلاثة قد انتهوا، من جهة النتائج والمحصول، إلى الخيبة وهم يرون عودة في الواقع الثقافي والسياسي العربي إلى نزعة من التقليد أكثر تصلباً» (ص 388).

وما يمكن قوله في كل ما جاء به الكاتب، من تحليل لإشكالية القطيعة في الفكر المغاربي الحداثي من خلال طرحه لمفهومها عند كل واحد منهم، وجذورها التاريخية والعلمية والفلسفية، ومدى ارتباطها بالمنجز العلمي والفلسفي الغربي، فضـلاً عن مستوياتها وحدودها، ثم مقاربتها نقدياً، هو أنه قدم مقاربة جديدة لإشكالية القطيعة جامعة لمشاريع ثلاثة رواد في الفكر المغاربي الحداثي المعاصر، وإن كان قد سبقه في ذلك إدريس هاني الذي بحث هذه الإشكالية في ثلاثة مقالات منفصلة. غير أن الكاتب ببحثه الآكاديمي، هذا، كان أكثر إلماما بهذه الموضوعة، وأكثر توغـلاً في مضامينها. كما أن قراءته للقطيعة وعلاقتها بالتراث متميزة من حيث طرحها لإشكالية من أدق الإشكاليات في الفكر العربي المعاصر. قراءة توجه عقل القارئ العربي المعاصر إلى الخروج من القراءات السلبية، أعني الخالية من النقد، والنظر إلى المشاريع العربية لا كحلول جاهزة لمشكلاتنا المعاصرة بل كإشكاليات، لكونها تشغل حيزاً نظرياً مجرداً على مستوى الوعي العربي، وأما على مستوى الواقع، فإن واقعنا ما يزال أسير الرؤى التقليدية، من جهة، والإشكاليات التي تتوالد باستمرار في واقعنا المعاصر، وتمر من دون وعي منا، من جهة أخرى. كما أن دعوته تحمل توجهاً نقدياً مزدوجاً، يتمثل بنقد المشاريع العربية المؤسسة على المرجعيات الغربية، من جهة، ومن جهة أخرى، التعامل مع الوافد الغربي بروح نقدية فاحصة، وعدم تقديسه، وعرضه كما هو، وهذا موقف يختلف عما عودتنا عليه بعض القراءات التي كان هدفها عرض الثقافة الغربية لا غير، وقد دام الحال كذلك مدة ليست بالقصيرة من الزمن.

لذا، فإن محاولة الكاتب تندرج ضمن القراءات النقدية للمنتوج المحلي المتأثر بنتائج العلوم الغربية من دون النظر في خلفياتها التاريخية والحضارية، وهي محاولة في غاية من الأهمية، غير أن، هناك، إشكالات أخرى لا تقل أهمية عنها تتمثل مثـلاً بالتصالح مع المرجعيات الحضارية الحية التي تشكل الوعي العربي، وتعبر عن ذاتيته، وهويته، ومباشرة تأسيس علوم وإيبيستيمولوجيا نقدية في الوطن العربي المعاصر. إيبيستيمولوجيا نقدية بديلة تكون هي الأداة المعول عليها في النقد الإبداعي، والبناء الحضاري، وهذه تحديات تحتم على الفكر العربي المعاصر مواجهتها. تحديات تستلزم الانفتاح على الذات بكل مكوناتها أولاً، وعلى الكوني في أبعاده الحضارية التي تخدم الإنساني ثانياً.

المصادر:

(*) نُشرت هذه المراجعة في مجلة المستقبل العربي العدد 466 في كانون الأول/ ديسمبر 2017.

(**) الشريف زيتوني: أستاذ في جامعة الجزائر.

البريد الإلكتروني:  cherif_zitouni33@yahoo.fr

 

 


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز