قدرُ الصينيين المتجهين غرباً والعرب المتجهين شرقاً أن يلتقوا ليعيدوا أمجاد الشرق العظيم، التي تعود إلى ما يزيد على ألفيتين كاملتين من الزمن.

مقدمة:

تمتد العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية عبر ما يزيد عن ألفيتين كاملتين من الزمن، حيث شكّل طريق الحرير القديم جسراً تاريخياً للتواصل التجاري والثقافي بين العرب والصين. وزاد زخم هذه العلاقات حديثاً، وبخاصة منذ تأسيس منتدى التعاون الصيني – العربي في كانون الثاني/يناير 2004. ومنذ إنشاء هذا المنتدى، تحول الوطن العربي إلى سابع أكبر شريكٍ تجاري للصين، حيث قفز حجم المبادلات التجارية بين الطرفين من 36 إلى 250 مليار دولار أمريكي (2004 – 2014)، كما تسعى مجموعة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، خلال السنوات الأخيرة، إلى التوصل إلى اتفاقيةٍ لإنشاء منطقةٍ للتبادل الحر مع الصين. وفي عام 2013، طرحت الصين مبادرة استراتيجية تهدف إلى إحياء طريق الحرير القديم، في شقيها البري والبحري، حيث يشكل الوطن العربي معبراً حيوياً لهذه الطريق، جغرافياً واقتصادياً.

غير أن اللافت للانتباه هو أن هذا التطور الثابت في العلاقات الاقتصادية بين الطرفين يأتي في سياقٍ دولي مضطرب (Turbulent)، وبخاصة على الصعيدين السياسي والاقتصادي؛ وهو ما يبرر دعوة هذه الدراسة إلى التحول نحو مقاربة العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية من منظور حقل الاقتصاد السياسي الدولي (IPE)، الذي يسمح بمساءلة الكيفية التي يتأثر بها السياسة الدولية والاقتصاد العالمي في مسار العلاقات بين الطرفين؛ حيث إن الاكتفاء بقراءة المؤشرات الكمية، كما يحدث مع قطاعاتٍ كالطاقة، أو الاستثمار في البنى التحتية، أو التبادل التجاري في السلع الاستهلاكية، من شأنه أن يؤدي إلى استنتاجاتٍ متسرعة وقاصرة عن إدراك التعقد المتزايد الذي تعرفه حالياً – والذي تسير نحوه العلاقاتُ الاقتصادية بين الطرفين.

غالباً ما يؤدي الفصلُ بين السياسي والاقتصادي إلى نتائج مضلِّلة، سواءٌ على صعيد تقديم «الوصف» بشأن الراهن أو على صعيد تقديم «الوصفة» (Prescription) بشأن المستقبل، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بما هي عليه وما ينبغي أن تكون عليه العلاقاتُ بين طرفين غير متماثلين: الصين التي تمثل فاعـلاً اقتصادياً جامحاً يعاني فيض الإنتاج وغيض الاستهلاك المحلي من جهة، وفاعـلاً سياسياً مُراجِعاً (Revisionist) يسعى لإعادة النظر في ترتيبات النظام الدولي الأحادي القطب في حقبة ما بعد الحرب الباردة من جهة أخرى؛ والوطن العربي الذي يمثل من جهةٍ فاعـلاً اقتصادياً نامياً يعاني عدة مشاكل اقتصادية بنيوية أهمها التبعية المفرطة لقطاع المحروقات، كما يمثل من جهة أخرى فاعـلاً سياسياً مُثقـلاً بالخلافات والتصدعات السياسية، بعضها مرتبطٌ بميراث الحقبة الاستعمارية وبعضها مرتبطٌ بتحولات ما بعد الربيع العربي.

تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة مباحث. يقدم المبحث الأول مدخـلاً تاريخياً مقتضباً للعلاقات بين الصين والوطن العربي. أما المبحث الثاني فيتصدى لفحص التحديات التي تعرفها العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية: تحدي التبادل اللامتكافئ؛ تحدي «المشترك» في مكاسب مشروع الطريق والحزام؛ تحدي الاستقرار الأمني في المركب الأمني المشرق – الخليج العربي؛ التمركز المفرط للسياسات الخارجية العربية حول الغرب؛ غيض المعرفة والفهم المتبادلين بين الصين والوطن العربي؛ والانقسامات السياسية العربية – العربية.

بينما يسعى المبحث الثالث لاستكشاف الفرص التي ينبغي الاستثمارُ فيها من أجل الوصول إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين: إشراك الوطن العربي في مشروع الطريق والحزام؛ تطوير منتدى التعاون الصيني – العربي؛ وتفعيل مضامين وثيقة السياسات الصينية تجاه البلدان العربية. فضـلاً عن ذلك، يسلط الضوء أكثر على الفرص الاستراتيجية التي ينطوي عليها التكامل الاقتصادي العربي – العربي.

أخيراً، وإذ تحاول هذه الدراسة مقاربة الموضوع من منظور الاقتصاد السياسي الدولي، فإنها تناقش في الخاتمة كيف يمكن أن يؤدي السياسيُّ دوراً محفزاً في مسار العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية، بدلاً من الدور المعوق الذي قد يمارسه، وبخاصة مع تفاقم خلافات وانقسامات ما بعد الربيع العربي، سواءٌ بين البلدان العربية نفسِها، أو بين الصين وبلدان عربية على تباين – وأحياناً تصادم – مع مواقف السياسية لهذه الأخيرة.

أولاً: مدخلٌ تاريخي للعلاقات الصينية – العربية

يمتد تاريخ العلاقات الاستثنائية بين العرب والصين، كما هو معروفٌ، إلى ما يزيد على ألفيتين كاملتين من الزمن؛ حيث شكل طريق الحرير وطريق البخور القديمان‏[1] جسراً تاريخياً للتواصل والتبادل بين الطرفين. ومن ثم شكّل الوطن العربي عبر التاريخ معبراً حيويّاً بين الشرق والغرب. واستمرت هذه العلاقات وثيقة إلى غاية اكتشاف رأس الرجاء الصالح بداية القرن السادس عشر وما نجم عنه من تحولٍ في مسارات التجارة الدولية، تبِعه خضوع الوطن العربي لحكم الخلافة العثمانية.

لم يتم استئناف هذه العلاقات إلا مع قيام جمهورية الصين الشعبية (1949) وحصول البلدان العربية على الاستقلال تباعاً خلال النصف الثاني من القرن الماضي. وكانت مصر أول قطر عربي يقيم علاقات رسمية مع الصين (1956) في إثر اعتراف الرئيس جمال عبد الناصر بحكومة الصين الشعبية بدلاً من حكومة تايوان، بينما كانت السعودية آخر دولة أقامت علاقات رسمية معها (1990)، وذلك بسبب الاستقطاب الدولي، أيديولوجياً وسياسياً، الذي عرفته حقبة الحرب الباردة.

الخريطة الرقم (1)

طريق الحرير الجديد بشقيه البري والبحري


المصدر:  <https://www.weforum.org/agenda/2016/06/why-china-is-building-a-new-silk-road>.

يميز محمد سليم بين أربع مراحل كبرى في تاريخ العلاقات العربية – الصينية. تمتد المرحلة الأولى من القرن الثاني قبل الميلاد حتى ظهور الإسلام في القرن السابع، وهي مرحلة النشأة التي اتسمت بهيمنة التبادل التجاري كمظهرٍ أساسي لها. وتمتد المرحلة الثانية من القرن السابع حتى بداية الحقبة الاستعمارية (القرن السادس عشر)، واتسمت باستمرار علاقات التبادل التجاري فضـلاً عن بروز قضايا دينية وثقافية مع مساعي نشر الإسلام شرق آسيا وتطور التبادل العلمي والثقافي بين الحضارتين الصينية والعربية/الإسلامية‏[2]. أما المرحلة الثالثة فتبدأ من القرن السادس عشر وتمتد حتى بدايات القرن العشرين، وتتسم بالانقطاع تحت تأثير الحقبة الاستعمارية. ولم تشرع هذه العلاقات في العودة إلا خلال فترة ما بين الحربين وفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مع تصاعد حركات التحرر الصينية والعربية، حيث بدأ العامل السياسي في البروز. أخيراً، تمتد المرحلة الرابعة من تأسيس جمهورية الصين الشعبية (1949) حتى نهاية الحرب الباردة‏[3].

غير أن البدء في تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي (1978) يُعد معلماً حاسماً في هذه المرحلة؛ حيث أدى سعي الصين لتعبئة طاقاتها محليّاً من أجل تنمية وتطوير اقتصادها إلى ارتفاعٍ متسارعٍ على نحو غير مسبوق في حجم نمو الاقتصاد الصيني، ما أدى بدوره إلى زيادةٍ مطردة في الطلب على الطاقة، الأمر الذي جعل الحاجة إلى بعث العلاقات مع الوطن العربي الغني بموارد الطاقة أكثر إلحاحاً. مع ذلك، بقيت هذه المرحلة، الممتدة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، تتميز بهيمنة السياسي، حيث شهدت تبادلاً لافتاً للدعم السياسي في العديد من المسائل؛ فأيدت البلدان العربية سياسة «الصين الواحدة» إزاء مشكلة تايوان، كما دعمت استعادة الصين مقعدها في مجلس الأمن الدولي (1971). بينما أيدت الصين قضايا التحرر الوطني في البلدان العربية، وساندت مصر في قضية تأميم شركة قناة السويس، وأيدت موقفها في مواجهة العدوان الثلاثي (1956)، كما حافظت على موقفٍ إيجابي ثابت تجاه القضية الفلسطينية، وهو ما شكّل دافعاً أساسياً نحو مزيدٍ من التقارب الصيني – العربي.

مع نهاية الحرب الباردة، عاد الاقتصادي ليهيمن على مشهد العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية، حيث عرفت مزيداً من التشابك، لكن مزيداً من التعقد أيضاً. وعرفت هذه المرحلة تحول الصين، على خطىً ثابتةٍ، إلى قوةٍ اقتصادية أصبحت اليوم تحتل الترتيب الثاني عالمياً. وأصبحت تمثل نحو 22 بالمئة من الاقتصاد العالمي طامحة خلال السنوات العشر القادمة إلى حجم تصدير سنوي يبلغ عشرة تريليونات دولار واستثمارات في الخارج بخمسمئة مليار دولار‏[4]، حيث يعد الوطن العربي فضاءً واعداً لهذه الحجوم الهائلة من التجارة والاستثمارات (انظر الشكل الرقم (1)). وزاد زخم هذه العلاقات حديثاً، وبخاصة منذ تأسيس منتدى التعاون الصيني – العربي في كانون الثاني/يناير 2004، الذي عقد اجتماعه الوزاري السابع في الدوحة، أيار/مايو 2016. غير أن التطور المطرد في مجال التبادل التجاري الذي تعرفه العلاقات العربية – الصينية لا ينفي وجود تحدياتٍ ومشاق ينبغي على الطرفين التعامل معها، وهو ما يناقشه المبحث التالي.

الشكل الرقم (1)

تطور التبادل التجاري بين الصين والوطن العربي

(مليارات الدولارات)

المصدر: Assem Abu Hatab, ««Economically Aggressive Politically Soft»: Understanding China’s Policy toward the Arab World,» p. 5, paper published on SSRN website, <https://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=2788552>.

ثانياً: تحديات العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية

رغم الطبيعة الواعدة للعلاقات الاقتصادية بين الصين والوطن العربي، إلا أنها تظل مع ذلك تواجه العديد من التحديات والمشاق التي تحتاج إلى المزيد من التفكير واتخاذ خطواتٍ جادة من كلا الجانبين. غير أن الجانب العربي يبقى الطرف المعني أكثر بضرورة اتخاذ مثل هذه الخطوات، وذلك بكونه يشكّل الحلقة الأضعف نظراً إلى قوة الاقتصاد الصيني المتعاظمة، وبخاصة خلال السنوات الأخيرة من جهة، ونظراً إلى المشكلات والمصاعب، السياسية والاقتصادية على حدٍّ سواء، التي تواجهها البلدان العربية من جهة أخرى. يلقي هذا المبحث الضوء على ستة تحدياتٍ هي: تحدي التبادل اللامتكافئ؛ تحدي «المشترك» في مكاسب مشروع الطريق والحزام؛ تحدي الاستقرار الأمني في المركَّب الأمني المشرق – الخليج العربي؛ التمركز المفرط للسياسات الخارجية العربية حول الغرب؛ غيض المعرفة والفهم المتبادلين بين الصين والوطن العربي؛ وتحدي الانقسامات السياسية العربية – العربية.

1 – التبادل اللامتكافئ في العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية

يعتبر اللاتكافؤ في مضامين التبادل الاقتصادي بين الطرفين مسألة اقتصادية من السهل رصدها، فالأمر لا يتطلب إقحام البعد السياسي لملاحظة الكيفية التي تبدو بها هذه المضامين ضرورية للطرفين، لكنها مهمة (Significant) للصين أكثر مما هي عليه بالنسبة إلى الوطن العربي. لذلك، ينبغي على الأدبيات الشائعة أن تتوقف عن استعمال مفهوم التكامل (Integration)‏[5] للتعبير عن نمط العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية‏[6]. من المعروف أن الصين تُصدّر إلى الوطن العربي معظم حاجاته السلعية بأسعارٍ تنافسية مغرية، في الوقت الذي تُصدّر فيه دولٌ عربية محد(و)دة إلى الصين حاجاتها الطاقية المتنامية لتحافظ على تسارع الدوران في عجلة نموها الاقتصادي (قارن بين الشكلين ذواتي الرقمين (2) و(3)). تكمن المشكلة في أنّ سوق المواد الطاقية، على عكس المنتجات السلعية، تتسم على نحو ما هو معروف بخاصيتين أساسيتين، هما التقلب واللااستدامة؛ فتقلُّب الأسعار يجعل عوائد الدول المصدّرة غير مستقرة تماماً كما أن قابلية المواد الطاقية للنضوب تجعل تلك العوائد غير ثابتة.

الشكل الرقم (2)

الواردات الصينية من الوطن العربي (1995 – 2013)

المصدر: المصدر نفسه، ص 6.

الشكل الرقم (3)

الصادرات الصينية إلى الوطن العربي (1995 – 2013)

المصدر: المصدر نفسه، ص 7.

يبقى الأمل معلقاً على الوعود المرتبطة بتوطين، وليس مجرد توريد، التكنولوجيا الصينية، التي لا تتسم فقط بكونها رخيصة ويمكن أن توفر للبلدان العربية بديـلاً من التكنولوجيا الغربية الباهظة، لكن يمكن أن تساهم في حل العديد من المشكلات التقنية، في العديد من المجالات، نظراً إلى التقارب النسبي في نمط الحياة الغالب لدى الطرفين، هذا إذا سلمنا بمقولة أن الصين والبلدان العربية تتشارك الانتماء إلى الجنوب الكبير/عالم المجتمعات النامية.

فضـلاً عما سبق، ينبغي أن يتم نزع الطابع المركزي عن الطاقة في عمليات التبادل الاقتصادي بين الصين والوطن العربي. على البلدان العربية أن تأخذ السوق الصينية ذات القدرة الشرائية المتنامية على محمل الجد، تماماً كما تتعامل الصين مع السوق العربية، وعليها أن تتخذ مزيداً من الخطوات للاستثمار في هذه السوق، عبر تطوير إمكاناتها الواسعة لجعل التبادل أكثر تكافؤاً، بدءاً بالصادرات الزراعية وصولاً إلى الصادرات السياحية. لذلك، يبدو واضحاً أن البلدان العربية إن لم تتخذ الخطوات الكافية والملائمة في هذا الصدد، فإن عملية التبادل ثنائية/متعددة الأطراف ستبقى في مصلحة الصين، التي تدرك تماماً أن الإبقاء على تقدم/ثبات مستويات نموها الاقتصادي يعتمد على تلبية حاجتها المتزايدة لإمدادات الطاقة، فضـلاً عن حاجتها إلى أسواقٍ استهلاكية نامية، وهو ما يبرر حاجتها إلى التعاون مع الوطن العربي. يضاف إلى ذلك، حاجة الصين إلى تطوير التعاون مع البلدان العربية في العديد من المجالات الواعدة، كالمقاولات وتوظيف العمالة الفائضة والاستثمارات الأجنبية المباشرة ونقل التكنولوجيا.

2 – تحدي «المشترك» في مكاسب مشروع الطريق والحزام

يهدف مشروع (إعادة) بناء الطريق والحزام إلى إحياء طريقَي الحرير البري (الطريق) والبحري (الحزام) اللذيْن كانا يربطان الصين ببقية العالم قبل ألفي عام، واللذيْن كان يتم عبرهما تبادلُ الحرير والعطور والبخور والتوابل والعاج والأحجار الكريمة وغيرها، فضـلاً عن الثقافات والعلوم. وقد تم الإعلان عن المشروع من قبل الرئيس شي جينبينغ في 2013. وهو يتضمن إعادة إحياء الطريق والحزام عبر ثلاثة خطوط رئيسة (الخريطة الرقم (1)). أهم هذه الخطوط هو الخط البري الذي يمتد من الصين (الغربية) نحو أوروبا، مروراً بآسيا الوسطى والمشرق العربي، والخط البحري الذي يمتد من السواحل الصينية نحو السواحل الأوروبية، مروراً ببحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي.

سبق أن بشَّر وزير الخارجية الصيني وانغ يي بأن المبادرة لاقت تجاوباً ومشاركة نشطة من نحو سبعين دولة تطل على خط الطريق، بما في ذلك دول المشرق العربي. ويتضمن المشروع، وبخاصة في شق الطريق، المئات من المشاريع التي سيتم تنفيذها على نحوٍ تدريجي، والتي من شأنها ربط الاقتصادات الأوروبية والآسيوية، والأفريقية أيضاً، التي يمر بها الطريق عبر شبكاتٍ مكثفة من الطرق البرية وسكك الحديد وخطوط الطيران، فضـلاً عن قنوات وأنابيب النقل الحيوي، وهو ما يَعِدُ بتهيئة الظروف اللازمة لتنميةٍ اقتصاديةٍ مشتركةٍ لجميع هذه الدول‏[7].

لكن، بالنسبة إلى الوطن العربي، ينبغي إعادة قراءة استراتيجية الطريق والحزام ليس فقط بوصفها خطاباً للسياسة الخارجية الصينية، لكن باعتبارها أيضاً أداة للسياسات الاقتصادية العامة للصين. هناك الكثير مما يكتب فضـلاً عن المؤتمرات والندوات العلمية أو السياسية التي تُعقد والتقارير الإعلامية التي تُعد حول هذه الاستراتيجية. غير أن هذا لا ينفي ضرورة الاستمرار في قراءة وعود وحدود هذا الخطاب على نحوٍ نقدي.

من الناحية الجيوستراتيجية، يتمتع المشرق العربي بأهميةٍ تاريخية حيوية بالنسبة إلى المشروع؛ فهو يمثل تقاطعاً وممراً للوصول إلى أوروبا شمال المتوسط، وإلى المغرب العربي جنوب المتوسط. لذلك، ينبغي على البلدان العربية، وبخاصة في المشرق، أن تعيد تعريف دورها في هذا المشروع، فهي تجد نفسها بالفعل أمام مسارين عليها الاختيار أيهما ستسلك: إما أن تبقى مجرد ممرٍ جغرافي لعبور الواردات و/أو الصادرات ذهاباً وإياباً بين أوروبا وشرق آسيا‏[8]، فضـلاً عن استمرارها في تمثيل دور السوق الاستهلاكية الآخذة في الاتساع بالنسبة للصادرات، وإما أن تسعى لاستبدال دور الممر الجيوستراتيجي بدور اللاعب الجيواقتصادي المشارك بفعالية في الحركية الاقتصادية التي يُنتظر أن تنشط على الطريقين على نحوٍ متسارع خلال العقود القادمة. بعبارة أخرى، على الوطن العربي أن يتوقف عن الوقوع ضحية ما سماه عبد النور بن عنتر «النرجسية السياسية» الناجمة عن توظيفٍ خطابي للمفهوم من دون أن يجد له صدى يذكرُ في الممارسة.

استناداً إلى ما كتبه بن عنتر، في سياقٍ مختلفٍ لكن على صلةٍ وثيقةٍ بموضوع هذه الدراسة‏[9]، ينبغي دائماً مَشكلة مفهوم «الممر الجيوستراتيجي» في الخطاب السائد حول مشروع الطريق والحزام، كما ينبغي الاستمرار والإلحاح في طرح السؤال الأهم: عندما يُسمَّى الوطن العربي ممراً جيوستراتيجياً، فهو كذلك بالنسبة إلى من؟ ولمصلحة من؟ فعـلاً، ليس لأن الآخرين يستعملونه، فالتوصيف بالضرورة حقيقيٌّ وحتماً يمثل شيئاً جيداً بالنسبة إلى الوطن العربي. فعلى عاتق البلدان العربية وحدها تقع مهمة تقدير وزنها الحقيقي، والمرغوب فيه بالنسبة إليها، في هذا المشروع، وعليها أن «لا تنساق نحو لعبة الإغراء السياسي و/أو أن تغرق في النرجسية السياسية. (…) فالمكانة المنشودة تُكتسب وتُنتزع [من خلال الفعل] ولا تُمنح [من خلال مجرد القول]»‏[10]. وإذا كانت البلدان العربية تريد فعـلاً أن تكون ممراً جيوستراتيجياً في مشروع الطريق والحزام، فعليها أن تقوم بما يتطلبه ذلك تماشياً مع مصالحها الاستراتيجية ككتلةٍ واحدة، قادرة على الفعل ولا تكتفي بمجرد رد الفعل حيال المبادرات القادمة من الخارج.

3 – الاستقرار الأمني في المُركّب الأمني المشرق العربي – الخليج العربي

يبقى الاستقرار الأمني في المُركّب الأمني المشرق العربي – الخليج العربي (Middle-East–Arab Gulf Security Complex)‏[11]، على المديين المتوسط والبعيد، تحديّاً على الطرفين مواجهتُه، سواءٌ تعلق الأمر بانعكاسات الربيع العربي طويلة المدى، أو باستعصاء الصراع العربي – الإسرائيلي، أو بالتوتر المتزايد على ضفتي الخليج العربي. وهنا، ينبغي على الوطن العربي أن يضغط على الصين لتبذل جهداً أكبر يتناسب ودورها كقوةٍ عالميةٍ صاعدة، ويتناسب وعمق صداقتها التاريخية مع الوطن العربي، ويتناسب وحجم طموحاتها التي ينطوي عليها مشروع الطريق والحزام. في هذا السياق، على النخبة الحاكمة في الصين أن تعي فعـلاً أن الاقتصاد الصيني طالما أنه من أكبر الاقتصادات المستوردة للطاقة في العالم، وطالما أن معظم وارداته تأتي من دولٍ تقع ضمن حدود هذا المُركب الأمني، فإن السياسة الخارجية الصينية يجب أن تسخر الأدوات والآليات المتاحة لديها لجعل المنطقة فضاءً مستقراً على المديين المتوسط والبعيد.

من بين هذه الأدوات، يمكن الحديث مثـلاً عن علاقات الصين الجيدة مع كلٍّ من إيران وإسرائيل. كما يمكن الحديث عن دور القوة الناعمة الذي تؤديه الصين على صعيد علاقاتها الخارجية، عبر اعتمادها على مبادئ التعايش السلمي في العلاقات الدولية (الاحترام المتبادل للسيادة، احترام وحدة وسلامة الأراضي، عدم الاعتداء، عدم التدخل في الشؤون الداخلية، والمكاسب المتبادلة). وهي المبادئ التي تزعم النخبة الحاكمة في الصين أن مشروع الطريق والحزام يقوم عليها. لكن هذه المبادئ قطعاً لا تتناغم مع موقف الحياد الذي تصر عليه الصين عندما يتعلق الأمر بالاستمرار في تعزيز علاقاتها مع دولٍ تنتهك المبادئ نفسها. لذا ينبغي أن لا تبقى هذه المبادئ أسيرة الخطاب السياسي السائد لدى النخبة الحاكمة في الصين‏[12].

4 – التمركز المفرط للسياسات الخارجية العربية حول الغرب (west-centric)

في سنة 2007، أشار عمرو موسى (أمين عام جامعة الدول العربية حينها) إلى ضرورة الارتقاء بالاهتمام العربي بالصين كدولةٍ كبرى إلى نفس درجة الاهتمام الذي يوليه الوطن العربي لدولٍ كبرى أخرى‏[13]. صحيحٌ أنه ما من شك في أنّ صعود الصين أصبح بمثابة الظاهرة التي فرضت نفسها بقوة على الصعيدين العربي والدولي، إلا أن الفرق واضحٌ بين الصورة التي أصبحت ترتسم بشكلٍ جلي بشأن دور الصين في النظام العالمي الراهن، وبين انعكاسات هذه الصورة على السياسات الخارجية العربية، سواءٌ في الشق السياسي/الأمني أو في الشق الاقتصادي. خلال حقبة الحرب الباردة التي مثلت ذروة الاستقطاب الثنائي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، كان من الطبيعي والمتفهَّم أن يعتمد الوطن العربي على نحو مفرط على (إحدى) القوتين العظميين. لكن، بعد انهيار القطبية الثنائية، بدا الوطن العربي وكأنه أسير اللحظة أحادية القطب التي زعمتها الولايات المتحدة لنفسها، والتي أصبح واضحا الآن، بعد مرور ربع قرن على نهاية الحرب الباردة، أنها كانت لحظية وأن النظام الدولي الراهن نظامٌ آخذٌ في السير نحو التعددية القطبية، خاصة على الصعيد الاقتصادي العالمي. على أنه يجب التأكيد دائماً على أن الفصل هنا بين السياسي والاقتصادي في السياسة العالمية إنما يتم من أجل أغراض تحليلية فقط.

حتى مع تزايد الاهتمام العربي بدور الاتحاد الأوروبي، تبقى السياسات الخارجية العربية متمركزة على نحو مفرط حول الغرب. يتجلى هذا التمركز عبر طيفٍ واسع من القضايا، بدءاً بالمسألة الفلسطينية (في المشرق العربي مثلاً) وصولاً إلى الشراكات الاقتصادية (في المغرب العربي مثلاً). يؤكد هذا التمركزُ الملاحظة التي أبداها تشانغ هونغ في وقت سابق، والتي اشتكى عبرها من أن الدول العربية لا تحظى بمعرفةٍ جيدة حول دور الصين في هذه القضايا. ورغم أن هونغ اكتفى بالحديث عن إمكانات الصين كسوقٍ آخذة في الاتساع للعالم بعامة وللوطن العربي بخاصة، وأن الاستثمارات داخل الاقتصاد الصيني آمنة وأن التعاون مع الصين فيه مصلحة الدول العربية‏[14]، إلا أنه من المهم الانتباه إلى أن تشبيك الاقتصادات العربية بالاقتصاد الصيني، من خلال الشراكات ثنائية/متعددة الأطراف، من شأنه أن يوفر مدخـلاً لإقحام الصين في السياسات الخارجية العربية والتخفيف من حدة تمركزها حول الغرب (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي).

5 – غيض المعرفة والفهم المتبادلين بين الصين والوطن العربي

تحتاج العلاقات العربية – الصينية إلى المزيد من التأصيل المعرفي. في الجانب العربي، هناك غيضٌ واضحٌ في حقل الدراسات الصينية. سبق وأن أكد تشانغ هونغ هذه الملاحظة عندما أشار إلى أن من يتابع باهتمام العلاقات العربية – الصينية يجد أن البحوث والدراسات العربية حول الصين نادرة، فضـلاً عن قلة المعاهد ومراكز البحوث المتخصصة في دراسة الشؤون الصينية، وهو ما يؤثر في حجم ونوع التوصيات ذات القيمة المقدمة إلى دوائر صنع القرار في الحكومات العربية. وهذه الفجوة بطبيعة الحال لا يمكن أن تسدها جمعيات الصداقة العربية – الصينية الموجودة في أغلب البلدان العربية، ولا حتى اللجان المشتركة السياسية والاقتصادية. لسد هذه الفجوة، لا بد من إقحام جماعاتٍ معرفية/إيبيستمية (Epistemic Communities) تضم باحثين وخبراء قادرين على فهم وتأويل السياسات العامة الصينية بمختلف قطاعاتها‏[15]، وقادرين فضـلاً عن ذلك على التأثير في دوائر صنع القرار في حكوماتهم. ينبغي النظر دائماً إلى المعرفة حول الآخر كقوةٍ حاسمة وضرورية للتفاعل معه.

هناك مشكلة أخرى تَنتج من، وفي الوقت نفسه تؤدي إلى، غيض المعرفة العربية بالصين. تكمن في أن صورة العربي حول الآخر الصيني لا يرسمها بنفسه، بل يرسمها من خلال مضامين الإعلام الغربي حول الشؤون الصينية. يتفق هذا كذلك مع الملاحظة التي سجلها هونغ عندما أشار إلى أن مطالعة الصحف والمجلات العربية أو مشاهدة قنوات التلفزيون العربية أو الاستماع إلى قنوات الإذاعة العربية تكفي للاستنتاج أن معظم الأخبار والتقارير والتعليقات حول الصين منقولة عن الوكالات والقنوات الغربية، وهي من وجهة نظره غالباً ما تكون مجانبة للموضوعية والواقعية‏[16]. في نهاية المطاف، ينبغي الانتباه إلى أنه إذا كانت المعرفة قوة، فإن المعرفة غير الصحيحة غالباً ما تقوضها. لا يتعلق الرهان فقط بحجم ما نعرفه حول الصين، ولكن بطبيعة ومدى موثوقية ما نعرفه.

6 – الانقسامات السياسية العربية – العربية

تعرف الدول العربية تبايناً واضحاً على عدة صعد؛ فهي تتفاوت من حيث المصالح السياسية، والظروف الاجتماعية والاقتصادية، ونماذج التنمية السياسية والاقتصادية. كما تتبنى مواقف سياسية تصل إلى حد التعارض. وقد زادت حدة هذه التباينات منذ 2011. ولا يمكن غض الطرف عن الأثر السيئ للتباعد في المواقف السياسية من القضايا الإقليمية، التي تمس الوطن العربي في حد ذاته، على تطور علاقاته مع الصين. لذلك، ينبغي النظر إلى هذا التحدي بوصفه مفصلياً في راهن ومستقبل العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية، وبخاصة بالنسبة إلينا في الوطن العربي، لأن الاستجابة – مرة أخرى – يجب أن تكون عربية خالصة، ولا تتحمل الصين أيّ وزرٍ في إيجاد أو تكريس هذا الوضع. والواقع أن اللاتناغم في المواقف السياسية يؤثر على نحو سلبي في التجانس في كيفية تعريف المصالح الاقتصادية والسعي للدفاع عنها. سنعود إلى هذه المشكلة في المبحث التالي.

 

ثالثاً: الفرص الاستراتيجية في العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية

تنطلق هذه الدراسة من فرضية أن الفرص الاستراتيجية التي تتوافر عليها العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية تفوق التحديات التي تواجهها. لذلك، يسعى المبحث التالي لاستكشاف هذه الفرص التي ينبغي الاستثمارُ فيها من أجل الوصول إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين. ويركز على: فرص إشراك الوطن العربي في مشروع الطريق والحزام؛ تطوير منتدى التعاون الصيني – العربي؛ وتفعيل مضامين وثيقة السياسات الصينية تجاه البلدان العربية. ويسلط الضوء أكثر على الفرص الاستراتيجية التي ينطوي عليها التكامل العربي – العربي.

صادف العام الماضي ذكرى مرور ستين سنة على إقامة علاقات رسمية بين الصين والوطن العربي (1956 – 2016). من الناحية الاقتصادية الصرفة، تبدو مكاسب هذا المسار الحافل من التعاون الاقتصادي جلية، حيث تحولت الصين إلى ثاني أكبر شريك تجاري للوطن العربي والشريك التجاري الأول لتسع أقطار عربية. كما تحول الوطن العربي إلى سابع أكبر شريك تجاري للصين، وأكبر مورد للنفط نحوها، كما أصبحت البلدان العربية سوقاً تعج بمشاريع المقاولات الصينية في مجال البنى التحتية. ورغم أن هذه الإنجازات تؤكد مقولة أن العلاقات الاقتصادية التاريخية بين الطرفين تكون قد صمدت في وجه الامتحانات الصعبة التي مرت بها، إلا أن السؤال بشأن الكيفية التي يلعب بها السياسيُّ عامـلاً مُعوقاً أو محفزاً في مسار العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية يبقى قائماً ويزداد إلحاحاً في المرحلة الراهنة، وهي مرحلة تتسم بالتزامن بين اتجاهين أساسيين: اتجاهٌ اقتصاديٌّ واعد تحركه إنجازات الماضي القريب وتطلعات المستقبل القادم، واتجاهٌ سياسيٌّ مضطربٌ ومفعمٌ بالغموض واللايقين. وتتطلع الصين إلى تثمين مكاسب السنوات الستين الماضية في المجال الاقتصادي، وذلك عبر مسارين أساسيين: مشروع الطريق والحزام ومنتدى التعاون الصيني – العربي.

1 – إشراك الوطن العربي في مشروع الطريق والحزام

تَعدّ الصينُ الوطن العربي شريكاً محورياً واستراتيجياً في مشروع بناء الطريق والحزام الجديد، حيث تُقدِّم هذا الأخير كقناة لتسهيل التبادل التجاري والدفع نحو تنميةٍ اقتصادية مشتركة. عموماً، يتطلب هذا المشروع العملاق استغلال واستحداث آليات تمويل واستثمار جديدة. وتوفر الصين ثلاث آليات أساسية للتمويل، هي: البنك الآسيوي للتنمية، بنك مجموعة بريكس (BRICS) وصندوق طريق الحرير، فضـلاً عن بنك الاستثمار الآسيوي في البنى التحتية الذي بادرت الصين إلى تأسيسه في تشرين الأول/أكتوبر 2014، ورصدت له رأس مالٍ بقيمة 50 مليار دولار ليتجاوز 100 مليار دولار بعد مساهمة بعض البلدان فيه بما في ذلك بلدان عربية‏[17].

يتولى البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية مهمة تمويل مشاريع البنى التحتية في البلدان النامية (من ضمنها البلدان العربية). ويتولى صندوق طريق الحرير مهمة تمويل المشاريع التي ستستفيد منها البلدان المطلة على الطريق والحزام (من ضمنها عدة بلدان عربية). أما بنك مجموعة البريكس للتنمية فيتولى مهمة توفير قروضٍ تنموية في الاقتصادات النامية (من ضمنها الاقتصادات العربية). ويُنتظر أن توفر هذه المؤسسات المالية المستحدثة حجماً معتبراً من القروض للبلدان العربية من أجل تمكينها من تحسين البنى التحتية وخلق مناخٍ استثماري ملائم. فضـلاً عن هذه المؤسسات، يُنتظر أن يستمر دور آليات التمويل القائمة في تقديم المعونات والقروض الميسرة لتمويل المشاريع التنموية الرامية إلى التخفيف من حدة الفقر ورفع المستوى المعيشي في (بعض) الأقطار العربية. وأخيراً، يُعول الصينيون على دور الاستثمارات الأجنبية المباشرة (DFIs) التي تعتبر أكثر حيوية وديناميكية، ومن شأنها أن تسهم في التنمية الاقتصادية المحلية بشكل مباشر، التي تدفعها رغبة الشركات الصينية والعربية، على حدٍّ سواء، في البحث عن كلفةِ إنتاجٍ أقل ومنافذ أسواق أوسع‏[18].

في الوقت الذي يواجه فيه تنفيذ هذا المشروع تحديات ومصاعب سياسية واقتصادية عديدة، فإنه يمثل للصين فرصة استراتيجية على نحوٍ استثنائي، حيث يَعِدُ بتخطي معضلاتٍ بنيويةٍ بارزة في الاقتصاد الصيني، كتصريف فوائض القدرة الإنتاجية، وزيادة الطلب والاستهلاك المحليين، فضلا عن تخطي عقبة الإجراءات الحمائية المتنامية التي يفرضها الغرب على الصادرات الصينية. أما بالنسبة إلى الوطن العربي، فيمكن – أو بالأحرى يجب – أن تشكل الاقتصادات العربية شريكاً حيوياً واستراتيجياً في تنفيذ المشروع، كما يمكن أن تستفيد منه في تخطي المشكلات البنيوية التي تعانيها. يشكل هذا المشروع فرصة أمام البلدان العربية للتفاوض مع الصين من أجل الانخراط في شراكة اقتصاديةٍ بعوائد ذات قيمةٍ مضافة، ما يسمح لها بالتخفيف من حدة اعتمادها، سياسياً واقتصادياً، على الغرب. غير أن هذا يبقى مرهوناً بنجاح النخبة الصينية الحاكمة في طمأنة البلدان العربية، وبقية البلدان المعنية، بأن المشروع لا ينطوي على مضامين هيمنةٍ صينيةٍ مغلفة بخطاب المصالح المشتركة.

2 – تطوير منتدى التعاون الصيني – العربي

تأسس منتدى التعاون الصيني – العربي في كانون الثاني/يناير 2004، حيث أصبح إطاراً نشطاً للتعاون المشترك بين الطرفين في العديد من المجالات. وتنبثق منه أكثر من عشر آلياتٍ للتفاوض وتبادل وجهات النظر. وخلال المؤتمر الوزاري الرابع للمنتدى (تيانجين، 2010)، عرّف الطرفان بشكلٍ رسمي العلاقات التي تربطهما بأنها «شراكة استراتيجية»‏[19]، حيث وفر المنتدى فضاءً للدعوة إلى تأسيس علاقاتِ شراكةٍ استراتيجية تقوم على التعاون الشامل والتنمية المشتركة، وهو ما فتح أمام التعاون المشترك الصيني – العربي آفاق الدخول في مرحلة جديدة من التطور النوعي والشامل.

ويقر المنتدى آلية التعاون التي تعتمدها الصين في علاقاتها مع الوطن العربي، والتي تقوم على معادلة 1+2+3، بمعنى اعتماد مجال الطاقة كمحورٍ رئيسي، ومجالي البنية التحتية وتسهيل التبادل التجاري والاستثمارات كجناحين، إضافة إلى مجالات التقنية العالية الثلاثة، المتمثلة بالطاقة النووية، والفضاء والأقمار الاصطناعية، والطاقات المتجددة، وتعزيز التعاون في الطاقة الإنتاجية‏[20].

بعد مرور عشر سنوات من تأسيس المنتدى، سجل حجم التجارة العربية – الصينية ارتفاعاً من 25.5 إلى 238.4 مليار دولار (معدل نمو سنوي 25 بالمئة)، كما قفزت واردات الصين من النفط العربي من 40.5 إلى 1333 مليون طن (معدل نمو سنوي 12 بالمئة)، كما ارتفعت قيمة عقود مقاولات البناء التي تتولاها الشركات الصينية في الوطن العربي من 2.6 إلى 29.6 مليار دولار (معدل نمو سنوي 27 بالمئة)، وقفز حجم الاستثمارات الصينية في البلدان العربية من 17.25 مليون إلى 2.2 مليار دولار‏[21]، وهو ما جعل الصين تتحول كما هو معروف إلى ثاني أكبر شريك تجاري للوطن العربي، وأكبر شريك تجاري لتسعة بلدان عربية، كما أصبح الوطن العربي شريكاً رئيسيّاً للصين في مجال الطاقة‏[22].

يرتبط المنتدى بفرصةٍ استراتيجية مهمة أمام الطرفين. تتمثل بنجاح مسار المفاوضات لتحرير التجارة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي وانتشار هذا المسار نحو أجزاء أخرى من الوطن العربي‏[23]. في هذا السياق، ورغم ارتفاع حجم المبادلات التجارية بين الصين والبلدان العربية، ينبغي الاستمرار في اتخاذ المزيد من الإجراءات لتحرير التجارة البينية. ويدعو دينغ لونغ إلى التوجه نحو تحويل العلاقة بين الطرفين إلى كتلةٍ اقتصاديةٍ واحدة لتفادي تذبذبات أسعار الطاقة والمعادن التي تؤثر سلباً في التجارة البينية، وبخاصة في ظل وجود مجالاتِ تعاونٍ جديدةٍ وواعدة بين الجانبين، كالاستثمار المشترك في الصناعات البتروكيميائية، والطاقات المتجددة، والزراعة، والتقانة العالية، والاستخدام السلمي للطاقة النووية‏[24].

غير أن إضفاء البعد الاستراتيجي على هذه الفرصة لا ينبغي أن يتم من دون التشديد على مخاطر اللاتكافؤ في عوائد التبادل بين الطرفين. وقد سبق التأكيد، في المبحث السابق، أن مضامين هذا التبادل، على النحو الذي تتم فيه في الوقت الراهن، قد تكون ضرورية للطرفين، لكنها تبقى مهمة بالنسبة إلى الصين أكثر منها إلى الوطن العربي. لذلك، تقع على كاهل الطرفين مهمة مشتركة وشاقة، تتمثل بتحويل نمط التنمية في الاقتصادات العربية التي تتسم بالطابع الريعي غير الإنتاجي، الذي طالما جعلها عرضة لتذبذبات السوق. وإذ تتمتع الصين بطاقةٍ إنتاجيةٍ هائلة، ووفرةٍ ماليةٍ كبيرة، فهي تستطيع المساهمة في عملية التصنيع وتنويع قاعدة الإنتاج في الاقتصادات العربية التي يتمتع عددٌ منها بمقومات صناعية واعدة. من خلال نقل المنشآت الصناعية من الصين إلى البلدان العربية، يمكن أن تسهم الصين في تسريع وتيرة التصنيع في الاقتصادات العربية، وخلق مزيد من الوظائف، وتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة‏[25].

3 – التكامل الاقتصادي العربي – العربي

التكامل الاقتصادي العربي – العربي مرغوبٌ فيه وضروريٌّ ليس فقط من أجل المكاسب الاقتصادية المشتركة بينيّاً، وليس فقط من أجل مواكبة عصر التكتلات الاقتصادية الإقليمية عبر العالم‏[26]، لكن من أجل التعامل ببراغماتيةٍ وكفاءةٍ أكبر مع الشركاء الاقتصاديين من الخارج. غير أن هذا التكامل – أو حتى التعاون كمستوى أدنى – يبقى يميّزُه «ثقل الخطاب وبؤس الواقع»، إذ رغم تأكيد البلدان العربية بأن التكامل العربي – العربي «يبقى خياراً استراتيجياً، إلا أنها تتصرف على العكس من ذلك تماماً، فسلوكها السياسي لا يزال حبيس الرؤى القطرية الضيقة وتصورات السيادة التقليدية التي تجاوزها الزمن»‏[27].

في هذا السياق، يجادل بن عنتر بأن استعصاء أزمة التكامل العربي يرجع إلى أن هذا الأخير يظل مختزلاً «في قراراتٍ ومراسيمَ سياسيةٍ هي نفسُها عرضة لأهواء [النخب الحاكمة] وبورصة التوترات العربية – العربية، في حين أن التكامل هو أصـلاً سيرورة اقتصادية واجتماعية معقدة وطويلة الأمد، فأوروبا [مثـلاً تعمل منذ أكثر من] نصف قرن من الزمن لكنها لم تتوصل بعدُ إلى مستوى من الاتفاق السياسي بين أعضائها يسمح بتبني سياسةٍ خارجيةٍ موحدة، ولكن في المنطقة العربية تبدأ المشروعات بالسياسة والقواسم المشتركة [فلا تصل إلى أية نتيجة]، فكلُّ مشروعٍ تكاملي يُبنى على السياسة ينهار بمجرد نشوب خلافٍ سياسي كما هو شأن اتحاد المغرب العربي، وأما القواسم المشتركة فقد حُمّلت ما لا طاقة لها فيما أهملت العواملُ المادية والموضوعية»‏[28]. هذا من شأنه أن يؤكد فعـلاً تهافت المدخل الأيديولوجي للتكامل والعمل الاقتصادي المشترك بين الأقطار العربية، ذلك المدخل الذي يشدد على القواسم المشتركة القائمة أصـلاً بحكم الجغرافيا أو التاريخ البعيد، كالدين واللغة والقرب الجغرافي، بينما يهمل المقومات الضرورية والحاسمة في أيّ عملٍ تكامليّ واعد، التي تتطلب بذل جهدٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ مناسب، كالإصلاحات الاقتصادية وتحويل الهويات القطرية/الوطنية الضيقة نحو هوية جمعية/إقليمية أوسع.

ينعكس استعصاء التكامل العربي – العربي على نحو سيئ على العلاقات الاقتصادية العربية مع الأطراف الخارجية، بما في ذلك الصين. فقبل التعاون والتكامل‏[29] مع الخارج، يفترض أن تتعاون الأقطار العربية وتتكامل داخلياً بعضُها مع بعض، وقبل أن تتبادل تجارياً مع الخارج، يُفترض أن تتبادل داخلياً بعضُها مع بعض‏[30]، وإلا أصبح عنوان «العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية» فاقداً للمعنى الذي تسوق له الأدبيات السائدة والمتضمن ثنائية الصين – الوطن العربي، ونصبح بذلك أمام ثنائيات ميكروية (micro) أطرافها الصين من جهة، والبلدان العربية فرادى كلٌّ على حدة من جهةٍ أخرى‏[31]. ما يبعث على الشعور بالقلق هنا هو أن المصالح الاقتصادية العربية تبدو متناغمة وغير متعارضة، لكن السلوكات السياسية المتعارضة وأحياناً المتصادمة للنخب الحاكمة تجعلها فاقدة لزخمها وقدرتها على الدفع نحو هندسة أفضل للعلاقات الاقتصادية بين الوطن العربي والخارج.

في هذا الصدد، ينبغي التحذير من الانطباع الخاطئ الذي يتركه خطاب «العلاقات العربية – الصينية/العلاقات بين العرب والصين»، فبالنسبة إلينا في الوطن العربي، لا بد من الإقرار بأن النخب الحاكمة موجودة في حالة متقدمة مما يمكن تسميته انفصاماً مستعصياً بين «القول» بعالمٍ عربيٍّ واحد على مستوى الخطاب، و«الفعل» حسب ما تقتضيه المصالح القطرية/الوطنية الأضيق على مستوى الممارسة والسلوك. هذا الانفصام من شأنه أن يجهض أي مساعٍ نحو عملٍ عربي مشترك، تكاملي أو حتى تعاوني، لأن التكامل الاقتصادي، كما هو معروف لدى طلبة العلاقات الدولية، يقوم على منطق «تجميع السيادات».

فضـلاً عما سبق، يبقى كذلك الخلل البنيوي في الاقتصادات العربية معضلة من شأنها أن تفاقم من حدة اللاتكافؤ في العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية. حيث تتميز بنية الاقتصادات العربية في عمومها بالاعتماد المفرط على الصادرات الطاقية (النفط، الغاز والمعادن)، ما يجعلها اقتصاداتٍ ريعية في الداخل، وتبادلية مع الخارج، وهو ما يبقيها أسيرة ضغوط الشركاء الاقتصاديين، كما يبقيها أسيرة أيضاً لتقلبات الأسعار في الأسواق العالمية. وهي مشكلة سبق أن أكّدت التجارب التاريخية، القريبة والبعيدة، عواقبها الوخيمة على البلدان العربية. تبقى إمكانات التكامل العربي – العربي موجودة ومتنوعة. وإن كان هذا الموضوع لا يشكل مبحثاً أساسياً في هذه الدراسة، إلا أنه لا بأس من التذكير بقوة الإمكانيات التي تتاوفر للقطاع الزراعي، وذلك لسببين رئيسيين: الأول هو تنوع العوامل الطبيعية التي يزخر بها الوطن العربي على شساعته وتعدد خصائصه المساعدة (المادية والاجتماعية)؛ والثاني هو الأهمية الحاسمة للتكامل في هذا القطاع في معالجة إشكالية الأمن الغذائي في الوطن العربي، ذات التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية سيئة العواقب‏[32].

لا بد للنخب العربية الحاكمة من أن تدرك أن التعامل مع تحدي اللاتكافؤ الذي تواجهه العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية يتطلب استجابة عربية في الأساس، إذ إن الصين لا تتحمل وزر الانقسام العربي – العربي، فهي تتعامل مع الواقع المسبق الذي تفرضه العلاقات العربية – العربية ولا تُوجده، تماماً كما أنها لا تسهم في تكريسه حتى – بخلاف دول كبرى تقليدية أخرى كما هو معروف. أبعد من ذلك، يمكن قراءة بعض الدروس من تجربة المغرب العربي، حيث شكلت مثـلاً (وما زالت) الشراكة الأورومغاربية تحدياً، لكن في الوقت نفسه فرصة أمام اقتصادات المغرب العربي للتعاون الإقليمي فيما بينها، فرغم أنها مبنية على أساس العلاقة العمودية شمال – جنوب، فإن الشراكة الأورومتوسطية التي انطلقت مع مسار برشلونة (1995) مبنية أيضاً على أساس العلاقة الأفقية جنوب – جنوب، وكانت تطالب دول الضفة الجنوبية للمتوسط بتحرير تجارتها البينية وعقد شراكات ثنائية/متعددة الأطراف على نمط اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. كما عمل هذا الأخير على تمويل بعض المشاريع الإقليمية لدفع مسار هذه الشراكة الأفقية قدماً، كتمويل مشروع الطريق الساحلي الذي يربط المغرب والجزائر وتونس. كما سعت دول أوروبا الجنوبية دائماً لدفع دول المغرب العربي نحو مزيدٍ من الانفتاح الاقتصادي والتعامل فيما بينها، حتى يتسنى لتلك الدول الدفاع عنها على مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبي والحؤول دون تركيز الجهود الأوروبية على أوروبا الشرقية تحت ضغط ألمانيا‏[33]. غير أن هذا الدور الإيجابي للعامل الخارجي لم يُؤتِ أُكله على مستوى العلاقات المغاربية البينية على مدى عشرين سنة مضت، وذلك لأسباب سياسية داخلية محضة.

ينبغي أن نتذكر، في هذا السياق، أن التعاون الاقتصادي مع الوطن العربي بالنسبة إلى الصين هو خيارٌ ضمن خياراتٍ أخرى عديدة تتفاوت من حيث أهميتها الاستراتيجية؛ فهي تسير على نحو متقدم باتجاه إبرام اتفاقيات تبادل حر مع العديد من الدول والأقاليم الأخرى غير الوطن العربي، حيث وقعت حتى وقت قريب 14 اتفاقية تبادل حر مع 22 دولة وإقليم، من بينها رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، سنغافورة، باكستان، أيسلندا، سويسرا، بيرو، تشيلي وكوستاريكا. وعليه، فإن البلدان العربية مدعوة ليس إلى تفعيل التكامل البيني فقط، على الأقل عبر إعادة بعث الروح في مشروع المنطقة العربية الكبرى للتبادل الحر (GAFTA)، بل إلى تنويع خياراتها الاستراتيجية على صعيد التعاون الاقتصادي مع العالم الخارجي. يمثل مشروع منطقة التبادل الحر بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي نموذجاً جيداً لهذا النمط من التفكير. وكما أشارت هذه الدراسة في المبحث السابق، ينبغي أن تؤدي المكاسب المنتظرة لهذا المشروع دوراً محفزا للبلدان العربية كي تفكر على نحو أكثر جدية في التخلي عن المسارات ثنائية الأطراف مع الصين، وغيرها من التكتلات الاقتصادية، والسعي نحو تفعيل مسار الاندماج الاقتصادي العربي ليتمكن الوطن العربي من التفاوض ككتلةٍ واحدة‏[34].

4 – تفعيل مضامين وثيقة السياسات الصينية تجاه البلدان العربية

تزامنت مناسبة حلول ستينية تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين الصين والوطن العربي مع إصدار الحكومة الصينية (13 كانون الثاني/يناير 2016) الوثيقة الرسمية الأولى حول السياسات الصينية تجاه الدول العربية‏[35]. تستعرض هذه الوثيقة السياسات ومجالات وآفاق التعاون المشترك، فضـلاً عن الروابط التاريخية التي تجمع بين الطرفين. كما تضع الخطوط العريضة الأساسية لتوسيع وتعميق الصداقة التقليدية بين الصين والوطن العربي على المدى الطويل، كما تعبّر على نحو واضح عن استعداد الصين لتأدية دور أكثر نشاطاً وفعالية في المنطقة العربية، فضـلاً عن تطلعها لتحقيق تنمية مشتركة للجميع.

تبقى هذه الوثيقة مهمة، لكنها ليست حاسمة بالنسبة إلى مستقبل العلاقات العربية – الصينية. هي مهمة لأنها تمثل مرحلة جديدة من الاهتمام الصيني بالمنطقة العربية، غير أنها تبقى غير حاسمة بسبب تمحورها الشديد حول الاقتصادي. في حين أن أغلب المشكلات المستعصية التي يواجهها مُركّب العلاقات العربية – الصينية ليست اقتصادية ولا تاريخية أو ثقافية، لكنها سياسية في الأساس. لذلك، فإن الارتباط الذي تصر عليه الصين بين المصالح (الاقتصادية) والمبادئ (السياسية) في سياساتها اتجاه الوطن العربي يبقى بحاجة إلى المَشكلة. فالنخب العربية الحاكمة، وبخاصة في البلدان المحورية في مُركّب العلاقات العربية – الصينية كدول مجلس التعاون الخليجي، تتمسك بقدر متفاوت من الحذر في مواقفها من وجهات النظر (السياسية) للصين حيال ما يحدث في المنطقة العربية، وبخاصة في فترة ما بعد الربيع العربي. طبعاً، لا تتحمل الصين وزر هذه المشكلة لوحدها، فهي تجد نفسها أمام عالمٍ عربيٍّ منقسمٍ على نفسه، ليس إزاء قضايا تتعلق بالسياسة العالمية، ولكن إزاء قضايا تتعلق بمستقبل المنطقة العربية في حدّ ذاتها.

هناك توجهٌ مشترك بين الصين والدول العربية نحو عدم تسييس التعاون الاقتصادي بين الطرفين، خاصة خلال السنوات العشرين الماضية‏[36]. وهذا أمرٌ مرغوبٌ فيه ينبغي تثمينه والتشديد على جدواه. لكن، هناك خطوة أخرى على الدول العربية حتماً أن تقبل عليها. تتمثل هذه الخطوة بالتوقف عن تسييس التعاون والتكامل الاقتصادي العربي – العربي. هذه الخطوة حتمية، والتردد في شأنها يؤشر إلى وجود حالة مستعصية من ازدواجية المعايير لدى النخب العربية الحاكمة، حيث نجدها تختلف مع الصين سياسياً بسبب موقفها من الأزمة السورية أو بسبب علاقاتها مع إيران وإسرائيل، لكنها لا تجد حرجاً في التعاون معها اقتصادياً. بينما نجدها تمانع القيام بخطواتٍ جادة على صعيد التكامل العربي الإقليمي فيما بينها بسبب خلافاتٍ سياسيةٍ عارضة.

من الضروري التذكير بأن التشابك مع الصين اقتصادياً أمرٌ لا مفر منه بالنسبة إلى البلدان العربية. لذلك، على النخب العربية الحاكمة أن تفكر في ما يتطلبه هذا التشابك من استجابات وخطوات للتكيُّف على النحو الذي يُعظّم المكاسب ويُقلل التكاليف بالنسبة للاقتصادات العربية من جهة، وبالنسبة إلى السياسات العربية، الإقليمية والدولية، من جهةٍ أخرى.

خاتمة: السياسيُّ كعاملٍ محفز في العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية؟

يتطلب ثبات العلاقات وتطورها بين أي طرفين في السياسة الدولية شرطين أساسيين: أن لا يكون التفاعلُ طارئاً ومرحلياً (يرتبط بمرحلةٍ مؤقتةٍ وعابرة)، وأن لا يكون التفاعل في مصلحة طرفٍ على حساب الطرف الآخر. لذلك، فإن منطق العلاقات الاستراتيجية بين الصين والوطن العربي يجب أن يقوم دائماً على مقولة أن الصين بحاجةٍ استراتيجية إلى تعاونٍ أعمق مع الوطن العربي، تماماً كما أن الوطن العربي بدوره بحاجةٍ استراتيجية إلى تعاونٍ أعمق مع الصين. فضلاً عن ذلك، على الطرفين أن يفكرَا بمنطقٍ شاملٍ لا يقوم على تجزيء علاقات التعاون قطاعياً، كأن يقتصر على الاقتصادي فحسب، كما في حالة العلاقات العربية – الصينية الراهنة. قد تكون ممارسات التجزيء هذه ضرورية في مراحل معيَّنة، لأغراض براغماتية مثـلاً، لكن التمسك بها على المدى الطويل يمكن أن يضر بمكاسب التعاون في المستقبل. لذلك، على الصين أن تفكر جديّاً في ابتكار مسارات لتطوير اهتمامها بالمنطقة سياسياً، عبر تبني مواقف أقل حيادية لكن أكثر إنصافاً للمصالح العربية في القضايا الأساسية المطروحة في الفضاء الإقليمي العربي، كالمسألة الفلسطينية – الإسرائيلية والمسألة العربية – الإيرانية.

خلال السنوات الأخيرة، بدأت الاستراتيجيات الكبرى للنفوذ الأمريكي في التحول من إقليم الشرق الأوسط نحو إقليم الشرق الأقصى. ويبدو أن هذا التحول يرتبط أساساً بإدراك صنّاع القرار في الولايات المتحدة أن ميزان القوة العالمية آخذ في الميل نحو الشرق‏[37]، وبخاصة في وجود قوةٍ مراجِعة (Revisionist) للسياسة الدولية على نحوٍ جريء (روسيا)، ووجود ثلاث قوى تنتمي إلى مجموعة البريكس (روسيا والصين والهند)، فضـلاً عن امتلاك الصين حجماً متزايداً من مقومات القوة العالمية الصاعدة بمختلف أشكالها، الصلبة والناعمة. وعليه، يبدو أن الولايات المتحدة ستسعى على نحوٍ شرس إلى تطويق الصين ضمن مجالها الحيوي القريب. لذلك، على الصين أن تعمل على تطوير وتنويع استجاباتها، بما في ذلك منافسة الولايات المتحدة ضمن فضاءات نفوذها التقليدية.

في حالة الوطن العربي، وبخاصة المشرق منه، لا تبدو الصين مضطرة إلى خلق دور جديد من الصفر، فالأمر لا يتعدى الاستثمار في الإرث التاريخي العريق لتفاعلاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية مع الوطن العربي. علاوة على ذلك، على الصين أن تستمر في تشبيك اقتصادها الصاعد مع الاقتصادات العربية بسبب حاجتها المتزايدة إلى تأمين موارد ثابتة للطاقة للمحافظة على ثبات نموها الاقتصادي، فضـلاً عن حاجتها إلى بقاء أسواق البلدان العربية الواعدة مفتوحة أمام منتجاتها من أجل المحافظة على استقرار ميزانها التجاري الهش.

أما بالنسبة إلى الوطن العربي، فتبدو الحاجة إلى دورٍ صيني في المنطقة مسألة معقدة جداً. وعلى النخب العربية الحاكمة أن تكون واعية بحجم هذا التعقد من أجل التعامل معه على نحو فعَّال. من الناحية التاريخية، والنفسية على حدٍّ سواء، يحتاج الوطن العربي إلى علاقاتٍ متوازنةٍ ومتكافئةٍ وغيرِ مجحفة مع قوةٍ كبرى غير تقليدية. غيرُ تقليدية هنا بمعنى غيرُ كولونيالية/غيرُ إمبريالية، سواءٌ بالمعنى التقليدي للكلمة أو بمعناها الجديد. في هذا الصدد، تبدو الصين، بالمضامين المعروفة لعلاقاتها الاستثنائية مع الوطن العربي، قديماً وحديثاً، القوة الكبرى الوحيدة التي يمكن أن تقدم وعوداً يمكن الوثوق بها.

من الناحية الاقتصادية، تبقى الاقتصادات العربية بحاجةٍ إلى استلهام المزيد من الدروس من التجربة التنموية في الصين‏[38]، لكن مع ضرورة الوعي بمحاذير المقايسة الشائعة، وبخاصة في الخطاب السائد لدى النخب الصينية، بين معضلات التنمية التي عاناها الاقتصاد الصيني في الماضي وتلك التي تعانيها الاقتصادات العربية في الوقت الراهن. هنا، يجب إفراغ شعار التعاون جنوب – جنوب من مضامينه الأيديولوجية‏[39]: أولاً بسبب التفاوت في مقومات الإقلاع التنموي بين مختلف الاقتصادات العربية نفسِها، وهو تفاوتٌ آخذٌ في التفاقم تحت وطأة أزمة انهيار أسعار النفط؛ وثانياً، بسبب التفاوت بين مستويات التنمية المحققة بين الاقتصاد الصيني والاقتصادات العربية. لا شك في أن هذه المقايسة غير ممكنة ومضلِّلة، وبالتالي علينا العودة مرة أخرى إلى التأمل في مخاطر التبادل الاقتصادي اللامتكافئ بين الطرفين على الاقتصادات العربية.

أما من الناحية الثقافية/الحضارية، فالبلدان العربية بحاجةٍ إلى المزيد من الأصوات الدولية المنصفة التي تناهض مقولات «صراع الحضارات» و«الربط بين الإسلام والإرهاب». ويَعِدُ خطاب السياسة الخارجية الصينية بتلبية هذه الحاجة، حيث تتحدد «مواجهة التطرف» و«تعزيز الحوار بين حضارات وثقافات العالم على نحو متكافئ» كمضامين جوهرية للمصالح الثقافية التي تقوم عليها السياسات الصينية تجاه الوطن العربي‏[40].

عموماً، يواجه الوطن العربي والصين على حدٍّ سواء تحدياً مشتركاً يتمثل في إدارة العلاقات بينهما على نحو استراتيجي لكن في سياق إقليمي مضطرب ويفتقر إلى اليقين (Turbulent and Uncertain). وقد زادت مصادر الاضطراب في هذا السياق حدة بعد تحولات الربيع العربي، بينما تأخذ حدة مصادر اللايقين في الازدياد بفعل تحولات الربيع العربي وبفعل تراجع الأداء الاقتصادي وبخاصة في الاقتصادات العربية التي تعتمد على نحوٍ مفرط على الصادرات الطاقية. مع ذلك، يبدو أن اللايقين السياسي الذي أفرزته تحولات الربيع العربي لم يؤثر بشكلٍ لافتٍ في مسار العلاقات الاقتصادية العربية – الصينية، رغم تباين مواقف السياسة الخارجية الصينية والسياسات الخارجية لعدد من الدول العربية حيال هذه التحولات.

وسواءٌ فُسِّر ذلك بوعي النخب العربية الحاكمة بأن الاقتصادي أهم من السياسي، أو فُسِّر بأنها «تتفهم» السياسة الصينية القائمة على الربط بين المصالح والمبادئ، أو بأنها «تتفهم» مسوغات ممانعة السياسة الخارجية الصينية للتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة‏[41]، فإن مسارات الحوار الصيني – العربي متعدد المجالات‏[42]، التي عرفتها سنوات ما بعد 2011، بيَّنت صحة الافتراض القائل بوجود اعتماد متبادل (Inter-dependence) بين الاقتصادي والسياسي، حيث يمكن للعلاقات الاقتصادية – في حالةٍ متقدمة من التشابك – أن تشكل حالة من المناعة ضد تداعي العلاقات السياسية، كما يمكن في المقابل لأرضيةٍ سياسيةٍ مشتركةٍ قائمة على الحوار والتفاهم المتبادل أن توفر فضاءً ملائماً لتثمين مكاسب العلاقات الاقتصادية والدفع بها نحو الأمام.

على النخب الحاكمة في البلدان العربية أن تدرك أن تحولات الربيع العربي (يمكن أن) توفر مدخـلاً استراتيجياً للصين لإعادة تكييف دورها في المنطقة بما يتلاءم مع متطلبات المرحلة القادمة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ في السياسة الدولية التي تتسم أساساً بالتغير المستمر على سهم الزمان والمكان. لكن التحدي الذي تطرحه هذه التحولات هو تحدي الفعل العربي المشترك، على المستوى السياسي والاقتصادي كليهما. هذا الفعل يبقى غائباً تماماً، بل على العكس من ذلك، تؤدي الخلافات العربية – العربية، التي قد تصل في لحظات معينة إلى حدّ الصدام، إلى حالةٍ من اللافعل المزمن، من شأنه أن يجعل الاستجابات العربية لاستراتيجيات القوى الكبرى في المنطقة، بما في ذلك الصين، مجرد ردود أفعال سلبية لا ترقى إلى متطلبات منطق الألعاب رابح – رابح. طبعاً، وعلى نحو ما هو معروف، كمُّ ونوعُ هذه الخلافات آخذٌ في الزيادة منذ بداية الربيع العربي، وهي لا تعوق فقط تشكيل موقفٍ عربيٍّ مشتركٍ على الصعيد السياسي، لأن العوائق التي تحول دون ذلك مزمنة ولا ترتبط فقط بالربيع العربي، لكنها تؤدي أيضاً وعلى نحو مقلقٍ – ومؤلمٍ – إلى تسييس التعاون العربي – العربي على الصعيد الاقتصادي. في الوقت الذي يستمر فيه مثـلاً تطور التعاون الاقتصادي بين الصين ودولٍ عربيةٍ محددة لديها خلافات في المواقف السياسية مع الصين بشأن مسائل حاسمة مرتبطة بتحولات الربيع العربي.

 

قد يهمكم أيضاً  استراتيجية الوجود الصيني في أفريقيا: الديناميات..والانعكاسات

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العلاقات_العربية_الصينية #العلاقات_الاقتصادية_العربية_الصينية #الصين_والبلدان_العربية #منتدى_التعاون_الصيني_العربي #طريق_الحرير_القديم #طريق_الحرير_الجديد #طريق_البخور  #العلاقات_الخارجية_للدول_العربية

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 460 في حزيران/يونيو 2017.

(**) محمد حمشي: أستاذ مساعد في العلاقات الدولية، جامعة أم البواقي – الجزائر.

[1] يربط طريق الحرير القديم (البـري) مدينة تشانغ آن الصينية بالعراق وسورية ومصر عبـر آسيا الوسطى. أما طريق البخور القديم (البحري)، وهو الـمعروف في الأدبيات الحديثة بالحزام (Belt)، فينطلق في فرعه الأول من السواحل الصينية الغربية ويعبـر مضيق هرمز، بينما ينطلق في فرعه الثاني غرباً من مضيق هرمز نحو الغرب ليمر بسلطنة عمان فمدينة عدن، ثم شمالاً على طول ساحل البحر الأحمر وصولاً إلـى سورية ومصر.

[2] شهدت هذه الـمرحلة انقطاعاً طارئاً في إثر الغزو الـمغولي للصيـن وللوطن العربي في القرن الثالث عشر.

[3] محمد السيد سليم، «السياسة الصينية إزاء القضايا العربية: وجهة نظر عربية،» مجلة الفكر السياسي، العدد 7 (1999)، ص 147 – 148.

[4] انظر: «الصيـن والعالم العربي و10 سنوات على انطلاق منتدى التعاون العربي الصيني،» ورقة لـمركز الخليج للدراسات الاستـراتيجية، <http://www.akhbar-alkhaleej.com/13432/article_touch/121.html>.

[5] يستعمل هذا الـمفهوم على نحو غيـر حذر. على سبيل الـمثال، أشار لافشيـن مولاوي (خبيـرٌ اقتصادي وباحثٌ في مؤسسة (American Foundation إلـى أن وجود تكتل اقتصادي عملاق (بهذه العبارة) بيـن البلدان العربية والصيـن تتشكل ملامحه الأولية، وهو تكتلٌ، في حال تحققه، يخلق فرصاً بلا حدود للاستثمار والنمو الاقتصادي والاستقرار الداخلي في الدول الـمشاركة ويزيد التقارب السياسي بينها‏. تكمن الـمشكلة، كما سيتضح لاحقاً، في أن توظيف مفهوم التكامل في أدبيات العلاقات الاقتصادية الصينية – العربية لا يختلف عن توظيفه في أدبيات العلاقات الاقتصادية شمال – جنوب في فتـرة الستينيات والسبعينيات من القرن الـماضي، حيث كان يتم الادعاء بأن تبادل الـمواد الطاقية الخام والـمواد الـمصنعة من شأنه أن يخلق سوقاً دولية مُكسِبة للطرفيـن. وهو ادعاءٌ ثبت تهافتُه، فقد تبيّـن أنّ هذا النمط من تقسيم العمل الدولي حوّل الدول الـمصنعة إلى دول سائرة في طريق النمو بينما حوّل الدول النامية إلـى دولٍ سائرة في طريق التخلف، على عكس ما توحي به مضاميـن ثنائية (Developed–developing Countries).

[6] ينطبق هذا أيضاً على منطقة التبادل الحر الـمنتظر إنشاؤها بيـن الصيـن ودول مجلس التعاون الخليجي، لأن منطقة التبادل الحر لا تمثل إلا الـمرحلة الأولى من مراحل التكامل الاقتصادي الدولي الخمس في نموذج بيلا بالاسا الـمعروف: منطقة التبادل الحر، الاتحاد الجمركي، السوق الـمشتـركة، الاتحاد النقدي، ثم التكامل الاقتصادي الشامل. انظر: Béla Balassa, The Theory of Economic Integration (California: R.D. Irwin pub., 1961).

[7] عزت شحرور، «طريق الحرير الجديد.. آمال وأشواك،» ورقة منشورة على موقع الجزيـرة، 16 أيار/مايو 2016. من شأن استكمال بناء هذه الشبكات أن يحقق هدفـي ضمان سلاسة النقل والشحن (البـري والبحري والجوي) وتسهيل التعاون في مجال تأميـن قنوات نقل النفط والغاز. غيـر أن الـمشروع يعد أكثـر طموحاً من هذا، حيث يهدف كذلك إلـى بناء ما يسمى أدبياً «طريق الحرير الافتـراضية» عبـر إنجاز شبكاتٍ هائلة للاتصال والـمعلوماتية من أجل تسهيل الـمعاملات الـمالية والتجارية الإلكتـرونية العابرة للحدود، فضـلاً عن «طريق الحرير الخضراء» التي يُؤمل أن تسهل التعاون الدولـي في مجال الطاقات الـمتجددة والاستجابة لتحدي التغيـر الـمناخي.

[8] سبق وأن عبَّـر الإعلامي الفلسطيني عزت شحرور عن هذا الخيار على نحوٍ بليغ قائلاً: «هل سيكتفي [العرب] بموقف الـمتفرج على القطارات الـمحملة بالبضائع التي تمر عبـر أراضيهم إلى أوروبا وتزويدها بالوقود؟»

[9] استخدم بن عنتـر هذه العبارة في سياق نقده لـمفهوم الدولة الـمحورية الذي استخدمته أدبياتٌ أمريكية، منتصف تسعينيات القرن الـماضي، لوصف الجزائر ضمن مجموع تسع دول أخرى. حيث يجادل بأن هذا الـمفهوم تم توظيفه خارجياً من منظور الأمن القومي الأمريكي حصراً، بينما انساق خلفه الخطاب السائد في الجزائر من دون تمحيص في مآربه بالنسبة إلى ـمصالح الولايات الـمتحدة في الـمنطقة. انظر: عبد النور بن عنتـر، البعد الـمتوسطي للأمن الجزائري (الجزائر: الـمكتبة العصرية، 2005)، ص 60 – 63.

[10] الـمصدر نفسه، ص 63.

[11] حول نظرية مركبات الأمن الإقليمي، انظر: Barry Buzan and Ole Waever, Regions and Powers: The Structure of International Security (New York: Cambridge University Press, 2003).

[12] عموماً، يبدو أن الوقت قد حان للإنصات إلـى الأصوات المـطالبة بـمَشكلَة مبدأ عدم التدخل في السياسات الصينية، لأنه يضع مصالحها في خطرٍ على الـمدى الطويل. ويبدو أنه من مصلحة كل من الصيـن والوطن العربي التفكيـر في التنسيق والتكيّف لاستبدال إطار عدم التدخل الحالـيّ. على أن تلتـزم الصيـن بالحفاظ على مستوىً عالٍ من الشفافية في أي شكل من أشكال أنشطة التدخّل الاستـراتيجية في الـمشرق العربي خصوصاً. لأن ذلك سيصبّ في مصلحة الصيـن لأنه سيثبت للعالم أنّ تدخّل الصيـن (في جهود مكافحة الإرهاب مثـلاً) يهدف حقاً إلى حماية أصولها ومواطنيها في الـمنطقة، وليس إلى تحقيق التفوق أو الهيمنة. انظر: تشاولينغ فنغ، «قبول الاعتماد الـمتبادل: ديناميكيات الصين والشرق الأوسط،» موجز السياسة (منشورات مركز بروكنجز الدوحة، 2015).

[13] محمد حسن رزق، «الصيـن والعرب: العلاقة التي لا بد منها،» مجلة الصيـن بعيون عربية، العدد 3 (2007)، ص 6.

[14] تشانغ هونغ، «السياسة العربية تجاه الصيـن والعلاقات العربية – الصينية،» مجلة الفكر السياسي، العدد 7 (1999)، ص 126 – 127. في هذا السياق، يمكن الإشادة على سبيل الـمثال بالاستثمارات السعودية في الاقتصاد الصيـني، ففضـلاً عن زيادة صادراتها من النفط نحو الصيـن (تصل إلى نحو 17 بالمئة من حاجاتها النفطية)، فقد عرضت الـمملكة الـمساهمة في بناء الاحتياطي النفطي الاستـراتيجي الصيني في جزيرة هاينان (أكثـر من 100 مليون طن). إضافة إلى ذلك، تستثمر شركتا ساينوبيك الصينية وأرامكو السعودية في بناء مصافٍ نفطية داخل الصيـن. كما تم تأسيس تكتل هام من شركات صينية وسعودية لإنشاء مصانع ومجمعات ضخمة متخصصة في إنتاج البتـروكيميائيات.

[15] لا شك أن تعلـ(ــيــ)ــم اللغة الصينية في الجامعات العربية يبقى رهاناً حاسماً في هذا السياق.

[16] المصدر نفسه.

[17] شحرور، «طريق الحرير الجديد.. آمال وأشواك».

[18] دينغ لونغ، «الصيـن والعالم العربي: نحو علاقات اقتصادية وتجارية أوثق،» الحياة، 14/5/2016، <http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/15594395/>.

[19] Degang Sun and Yahia Zoubir, «China-Arab States Strategic Partnership: Myth or Reality?,» Journal of Middle Eastern and Islamic Studies, vol. 8, no. 3 (2014), p. 91.

[20] المصدر نفسه، ص 89. انظر أيضاً: Xuewen Qian, «Sino-Arab Economic and Trade Co­operat­ion: Situations, Tasks, Issues and Strategies,» Journal of Middle Eastern and Islamic Studies, vol. 5, no. 4 (2011), pp. 65‑87.

[21] للـمزيد من الـمؤشرات الكمية على تطور العلاقات الاقتصادية الصينية العربية، انظر: Wang Jin, «Selective Engagement: China’s Middle East Policy after the Arab Spring,» Strategic Assessment, vol. 19, no. 2 (2016).

[22] فضـلاً عن هذه الإنجازات الاقتصادية، تحققت إنجازاتٌ أخرى على الصعيد الثقافـي والسياحي، حيث فتحت أكثـر من 20 جامعة صينية أقساماً لتعليم اللغة العربية، كما فتحت الصيـن أكثـر من 10 معاهد في دول عربية لتعليم اللغة الصينية. كما أصبحت 8 بلدان عربية مقاصد رئيسية للسياحة الصينية، علاوة على 145 رحلة طيـران أسبوعيّاً بيـن الصيـن وبلدان عربية. انظر: «الصيـن والعالم العربي و10 سنوات على انطلاق منتدى التعاون العربي الصيني» (مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية).

[23] رسمياً، تتناول مفاوضات منطقة التبادل الحر بيـن الصيـن ودول مجلس التعاون الخليجي تجارة السلع، وتجارة الخدمات، والتعاون الاقتصادي والتقني. لكن على الـمدى البعيد، تضع الصيـن نصب عينيها الوفرة النسبية في الرساميل التي تتمتع بها دول الخليج العربي، مع حاجة هذه الأخيـرة إلـى إعادة هيكلة اقتصاداتها فضـلاً عن تطويـر البنى التحتية وتنويع صناعاتها، خاصة مع أزمة الانخفاض الحاد الذي تشهده أسعار النفط خلال السنوات الأخيـرة.

[24] لونغ، «الصيـن والعالم العربي: نحو علاقات اقتصادية وتجارية أوثق».

[25] المصدر نفسه.

[26] يبقى مجلس التعاون الخليجي استثناءً، الذي يبدو أنه مدفوع بالهاجس الأمني (الخارجي) أكثـر منه بالضرورة الاقتصادية والاجتماعية (الداخلية). بينما يبقى الـمغرب العربي استثناءً أيضاً لكن في مقاومته لانتشار أمواج الإقليمية (Regionalism)، إلى الحد الذي يمكن معه وصفه بـ «إقليم بدون إقليمية» (A Region without Regionalism)).

[27] عبد النور بن عنتـر، «الاتحاد الـمغاربي بيـن الافتـراض والواقع،» ورقة منشورة على موقع مركز الجزيرة للدراسات، <http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/33d78146-e54c-439f-97fd-13f​3785a17​fa>.

[28] المصدر نفسه.

[29] تمت الدعوة سابقاً في هذه الدراسة إلى ضرورة إسقاط مفردة التكامل من الخطاب السائد حول العلاقات الاقتصادية الصينية – العربية، لأنها مفردة مضلِّلة بشأن واقع هذه العلاقات.

[30] يقول عبد النور بن عنتـر، في هذا السياق، إن التجارة البينية الـمغاربية تبقى صورة صادقة للتجارة البينية العربية عموماً التي تبقى ضعيفة جداً لا تتجاوز 10 بالمئة من مبادلات الوطن العربي مع العالم الخارجي، بينما تبلغ التجارة ما بيـن دول الاتحاد الأوروبي ما يزيد على 60 بالمئة من مبادلات أوروبا مع الخارج. وتبلغ نسبة التجارة البينية الـمغاربية حالياً حوالى 3 بالمئة من التجارة الخارجية الـمغاربية. انظر: المصدر نفسه.

[31] في حالة الـمغرب العربي مثـلاً، تربط الدول الـمغاربية الأساسية الثلاثة (تونس، الجزائر والـمغرب) اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي كلٌّ على حدة، وبالتالي فهي تتفاوض معه فرادى في الوقت الذي نجحت فيه دول السوق الـمشتـركة لأمريكا الجنوبية مثـلاً في التحدث بصوت واحد مع الاتحاد الأوروبي.

[32] يرتبط الخلل البنيوي في الاقتصادات العربية أيضاً بالارتفاع القياسي في نسب البطالة الـمتـزامن مع تزايد الضغط السكاني، حيث تبقى معدلات النمو السكاني أكبـر كثيـراً من معدلات النمو الاقتصادي.

[33] انظر: المصدر نفسه.

[34] لا بد من التشديد على جدوى التكامل العربي – العربي في الحد من الانعكاسات السيئة لظاهرة اللاتوازن في الاهتمام الصيني بالبلدان العربية، وهي ظاهرة تسوغها مضاميـن الـمصالح الاقتصادية الصينية في التـركيـز على دول معينة دون أخرى.

[35] للاطلاع على النص الكامل للوثيقة، انظر: <http://news.xinhuanet.com/english/china/​2016‑01/​13/​c_135006619.htm>.

[36] تعزز هذا التوجه مع قرار الصيـن نزع الطابع الأيديولوجي عن سياساتها الاقتصادية الخارجية، حيث من الـمعروف أن بعض البلدان العربية كانت لديها تحفظات على دور السياسات الخارجية لدول معينة (من بينها الصيـن) في نشر الأيديولوجيا الشيوعية في الوطن العربي.

[37] Gao Zugui, «The New Development of China-Middle East Relations since the Arab Upheaval,» Journal of Middle Eastern and Islamic Studies, vol. 8, no. 4 (2014), p. 67.

[38] مفردة الاستلهام هنا لا تعني التعامل مع التجربة الصينية على أنها خالية من الانعكاسات غيـر الـمرغوب فيها، مثل بـروز الكثير من الـمعضلات الاجتماعية والاقتصادية كآثار جانبية للتنمية الاقتصادية الـمتسارعة في الصيـن، كعدم توازن النمو الاقتصادي بيـن الأقاليم، التفاوت الـمتـزايد في توزيع الثـروة، الفساد، التدهور البيئي وغيـرها.

[39] قدمت الصيـن، وما زالت تقدم، نفسها على أنها أقرب إلى دول الجنوب من بقية القوى الكبـرى الطامحة نحو الهيمنة (أوروبا والولايات الـمتحدة أساساً)، فهي من جهة تُعتبـر ضحية هي الأخرى للسياسات الاستعمارية التقليدية وليست صانعاً لها، ومن جهة أخرى تُعتبـر دولة من دول الجنوب، وبذلك تكون قد عملت، وما زالت تعمل، بشكلٍ أو بآخر على بناء ما يسميه بن عنتـر «أيديولوجية الجنوب/الانتماء للجنوب الواحد». انظر: عبد النور بن عنتـر، «الصيـن والـمغرب العربي: فرص ومخاطر،» في: مجموعة من الباحثيـن، «الـمغرب العربي في الاستـراتيجيات الدولية،» نشرة مجموعة الخبـراء الـمغاربييـن (مركز الدراسات الـمتوسطية والدولية، استانبول)، العدد 2 (2014)، ص 6.

[40] يحدد وو بنغ بنغ مضاميـن الـمصالح التي تستند إليها السياسات الصينية تجاه الوطن العربي كما يلي: الـمصلحة الاستـراتيجية في تعزيز التعاون مع دول رئيسية وتنفيذ مبادرة «الطريق والحزام»؛ الـمصلحة السياسية في اضطلاع الصيـن بدورٍ مسؤولٍ بوصفها قوّة رئيسية؛ الـمصلحة الاقتصادية في تسهيل التبادل التجاري والاستثمار فضـلاً عن الطاقة؛ الـمصلحة الأمنية في مواجهة التطرّف والقضاء عليه؛ والـمصلحة الثقافية في تعزيز الحوار بيـن الحضارات والجمع بيـن التقليد والحداثة. انظر:      <http://islamonline.net/16868>.

[41] تعتبـر هذه الـمسوغات تاريخية وسياسية في الوقت نفسه، حيث يعرف تاريخ الصيـن القديم والحديث (نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين) عقدة التدخل الأجنبي، كما أن مسائل هونغ كونغ (سابقاً) وتايوان والتبت (راهناً) وتأثيـرها في مبدأ «الصيـن الواحدة» تدفع بالصيـن إلى التمسك بمبدأ عدم التدخل أياً كانت أشكاله. أما «التعاطف» الصيني الواضح مع التدخل العسكري الروسي الـمباشر في سورية، فيأتي تحت مسوغ تأييد الحرب ضد الجماعات الـمتطرفة.

[42] يبدو أن النخب العربية، السياسية والاقتصادية، تلقت توضيحات كافية حول الـموقف الصيني خلال الزيارات البارزة التي قادت، في سنة 2013، كـلاً من الـملك عبد الله الثاني، الـملك حمد بن عيسى آل خليفة، الرئيس عبد ربه منصور، والرئيس محمود عباس على سبيل الـمثال، فضـلاً عن وزراء الخارجية العرب الستة لكلٍّ من مصر، السعودية، سورية، السودان، اليمن والصومال، ناهيك بزيارات الـمسؤوليـن الصينييـن الـمتكررة للـمنطقة منذ 2011. هذا إضافة إلى عدم انقطاع دورات الهيئات واللجان الـمشتـركة، كمؤتمر رجال الأعمال العرب والصينييـن، وندوة الاستثمارات التابعة لـمنتدى التعاون العربي الصيني، فضـلاً عن اجتماعات الحوار الاستـراتيجي بيـن دول مجلس التعاون الخليجي والصيـن التي تبحث مشروع منطقة التبادل الحر بيـن الطرفيـن.


محمد حمشي

أستاذ مساعد في العلاقات الدولية، جامعة أم البواقي- الجزائر.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز