مقدمة:

تداول الفكر الإنساني على مدى العصور القديمة، ثم العلم الإنساني والاجتماعي في العصور الحديثة، قيمة (المساواة) وأهميتها، حيث حلمت الشعوب بالعدل الاجتماعي، وأدخلت ذلك في مذاهبها ورؤاها الطوباوية، ثم في فلسفاتها ونظمها الدينية والأخلاقية والقانونية. وما زالت المساواة، وما زال العدل بعيديْن عن الواقع، وعن الناس. ولكن العلم الاجتماعي المعاصر وضع أيدينا على معنى ملموس للعدل ومؤشر صادق للمساواة، فالمساواة هي اندماج الناس في مجتمعهم على صعد: الإنتاج، والاستهلاك، والعمل السياسي، والتفاعل الاجتماعي. أما اللامساواة، فتعني الاستبعاد أو الحرمان أو الإقصاء عن هذه المشاركة. وقد شغلت قضية الاستبعاد الاجتماعي بال الكثيرين من علماء الاجتماع، وذلك لأنها تُعدّ سبباً مباشراً في تقسيم المجتمعات، وظهور بؤر التوتر والانقسام فيها، فالاستبعاد الاجتماعي يعمل في تضادّ تام مع عملية الاندماج التي تقوم عليها المجتمعات (عياد، 2014).

والاستبعاد الاجتماعي مفهوم، ربما يكون جديداً على قاموسنا الثقافي، وهذا لا يعني أن ميدان الدراسات الاجتماعية لم يلتفت إليه بكونه ظاهرة جديرة بالاهتمام، لكننا لا نملك حتى هذه الساعة أية محاولة لتأطير هذه الظاهرة ودراسة أبعادها أو مراقبة آثارها السلبية في بنية المجتمع، لأننا لا نملك أصلاً أية وحدة متخصّصة في هذا الميدان، في حين يبذل المجتمع الغربي، جهوداً واضحة في البحث الميداني المتخصّص، وإجراء المسوحات الدورية لمستويات الظاهرة وأنماطها، ووضع البدائل الكفيلة بتخفيف آثارها، على الرغم من سعة فرص الاندماج المجتمعي، وتوفر العوامل المساعدة على إقامة العدالة الاجتماعية، من خلال النظم والآليات الديمقراطية المتّبعة، ومنظومة الحقوق والواجبات التي تتكفلها سياقات المواطنة، ومنظومة حقوق الإنسان التي تلتزم بها المجتمعات الغربية بصورة أوضح وأكثر شفافية من مجتمعاتنا (شغيدل، 2014).

أولاً: الاستبعاد الاجتماعي:
نشأة المصطلح وتطوره

في البداية، تجدر الإشارة هنا إلى أنه قبل ظهور مصطلح «الاستبعاد الاجتماعي» (Social Exclusion) استخدمت مصطلحات أخرى، فمثلاً هيمن مفهوم «العرق» أو «الطائفة» عند الحديث عن الاستبعاد الاجتماعي لفترة طويلة، حيث عانت المجتمعات البشرية العديد من التمايزات الطبقية والثقافية والجنسوية، فنشأت جراء ذلك العديد من المصطلحات والمفاهيم لتأطير بعض مظاهر التمايز، كمصطلحات: التمييز العنصري، والحقد الطبقي، والطبقات المسحوقة، ومساواة المرأة، ومفاهيم الجنوسة (الجندر)، وغير ذلك، فالسود – على سبيل المثال – مبعدون عن عالم البيض، والأقليات الدينية والعرقية مبعدة عن الأغلبية الاجتماعية، والفقراء مطرودون من جنّة الأغنياء، وطبقات القاع مقصيّة ومهمّشة عن عالم الرفاه الأرستقراطي، والمرأة مغضوب عليها في المجتمعات الذكورية. وهكذا يتم تكريس الفوارق الطبقية والعزلة في خضمّ تآكل الطبقات الوسطى التي يمكن أن تشكّل عامل تقريب بين طبقات المجتمع.

وعند محاولة رصد نشأة وتطور مصطلح الاستبعاد الاجتماعي، نجد أن هذا المصطلح استخدم لأول مرة في عام 1974 في فرنسا، من قبل رينيه لينوار (René Lenoir)، وزيرة الخارجية للعمل الاجتماعي آنذاك، وكانت تستخدمه للإشارة إلى الأفراد الذين يعانون مشكلات اجتماعية، ولا يتلقون الحماية من قبل التأمين الاجتماعي، كالأفراد المعاقين جسدياً، والمعاقين عقلياً، وغير المنسجمين اجتماعياً، وقد ترتب عليها، كما أشارت، بهذا المعنى، تقطيع العلاقات بين الفرد والمجتمع. واعترفت لينوار، بضرورة تحسين ظروفهم الاقتصادية، لأجل تعزيز التماسك الاجتماعي. وفي السنوات التالية لطروحات لينوار، تم تطوير المفهوم، وتوسيع آفاقه، ليشمل جميع الناس المحرومين جزئياً أو كلياً من المشاركة في مجتمعهم، وفي المجالات المختلفة للحياة الاجتماعية (Beall, 2002: 6).

وعند نهاية ثمانينيات القرن الماضي، اهتمت اللجنة الأوروبية ذات العلاقة، باعتبار الاستبعاد الاجتماعي نتاجاً مباشراً لمشكلات البطالة المطّردة، وافتقاد العمال للمهارات الضرورية للعمل. وفي أوائل التسعينيات، اعتمد مصطلح «الاستبعاد الاجتماعي» على مستوى الاتحاد الأوروبي، وبحلول منتصف التسعينيات، كان استخدام مصطلح «الاستبعاد الاجتماعي» أكثر شيوعاً وانتشاراً بين السياسيين (Burchardt, [n. d.])، وداخل مناخ سياسي لم يكن يعترف فيه هؤلاء السياسيّون من حزب المحافظين بوجود الفقر في المملكة المتحدة. وقد أدّى تبنّي المصطلحات الخاصة بـ «الاستبعاد الاجتماعي» إلى إتاحة الفرصة للمناقشات الدائرة حول السياسة الاجتماعية لتمتدّ على مستوى القارة الأوروبية من دون الإساءة إلى مشاعر أولئك السياسيّين المحافظين.

وفي الواقع، إن هذا المصطلح الذي جاء في معناه الجديد في أواخر العقد الأخير من القرن العشرين، والذي برز أكثر عندما تولّى حزب العمال الحكم في إنكلترا، وأحدث رئيس الحكومة البريطانية ما سمّاه آنذاك «وحدة الاستبعاد الاجتماعي» (SEU)، وتم بعد ذلك إحصاء أربعة آلاف حيّ سكني تعاني الإقصاء والاستبعاد الاجتماعي، وتعاني بشكل حادّ البطالة والجريمة المتشابكة على نحو ميئوس منه، مع حالة متدنية في الصحة والإسكان والتعليم، بل تحوّلت إلى أحياء محظور دخولها ومحظور مغادرتها على البعض الآخر (هيلز، لوغران وبياشو، 2007: 29).

وقد بدت تحولات أيديولوجيا المفهوم (الاستبعاد) واضحة تماماً في بريطانيا، بعد أن تم ربطه تقليدياً بالفقر ضمن طروحات محافظة، فالتعريف البريطاني الحديث لـ «الاستبعاد» يشير إلى أنه يعتبر الفرد مستبعداً اجتماعياً عندما يرغب في المشاركة في النشاطات المقبولة بوجه عام في المجتمع، ولكنه لا يتمكّن من المشاركة. ويتضح من خلال هذا التعريف أنه جعل «الاستبعاد» خارج الإرادة الفردية، أو بمعنى آخر، استئصال الإرادة الناتج من اصطدام المرء بواقع مغلق يقصيه عن حقه في المشاركة النسقية العادلة (اﻟﺤﻮراﻧﻲ، 2012: 235).

ومنذ أواخر العقد الأخير من القرن العشرين، تزايد الاهتمام بالمفهوم، وأخذ معاني متباينة، تجمع بين التباينات الاجتماعية لأعضاء مجتمع معيّن، والتي تفرز صوراً ونتائج للإضرار ببعض الأفراد والجماعات، والحرمان (Deprivation) من مهارات وفرص المشاركة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. ورغم التباينات النسبية بين محاولات تحديد المفهوم، إلا أنها تكاد تتفق على أن «الاستبعاد الاجتماعي» هو حالة من فقدان القدرة ومعظم مقوّمات القوة، وهو ما تم التعبير عنه بمصطلح «Disempowerment»، أو «Powerlessness»، كما في الأدبيات النقدية في العلوم الاجتماعية – مدرسة فرانكفورت – وبهذا فالاستبعاد هو الحال التي تحول دون مشاركة الفرد أو الجماعة في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في مجتمع ما (عبد المعطي، 2009: 20).

ثانياً: الاستبعاد الاجتماعي:
التأصيل النظري للمفهوم

يستخدم مصطلح «الاستبعاد الاجتماعي» باعتباره محصّلة نمط اجتماعي – سياسي سائد في المجتمع، تترابط وتتنوع فيه الملامح والأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فتعمل على إقصاء وتهميش أفراد وجماعات داخل المجتمع، طبقاً لاعتبارات تقرّرها وتُفعّلها المنظومة، وتعيد إنتاجها بصور مختلفة. ففي نطاق الحياة الاجتماعية واليومية للأفراد والجماعات، قد يُحرم كثير من الجماعات من فرص الوصول والمشاركة في كثير من المرافق الاجتماعية (غدنز، 2005: 394). فـ «الاستبعاد الاجتماعي» يقصد به حرمان الأفراد من حقوق المواطنة المتساوية على كل المستويات: كالمشاركة في الإنتاج والاستهلاك، والعمل السياسي، والمشاركة في الحكم والإدارة والتفاعل الاجتماعي (Mok and Lau, 2014).

ويعرّف «الاستبعاد الاجتماعي» في أبسط صوره بأنه إبعاد لبعض فئات المجتمع، وعدم القدرة على المشاركة بفاعلية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فـ «الاستبعاد الاجتماعي» هو عدم الحصول على الموارد، وانعدام القدرة على الاستفادة منها، والحرمان من الحقوق والفرص التي تعزّز الوصول إلى هذه الموارد واستخدامها (McDowell [et al.], [n. d.]). وترى صوفي بسيس (Sophie Bessis) أن مصطلح «الاستبعاد الاجتماعي» تعريفياً هو الحرمان من الموارد والحقوق، بالإضافة إلى أنه مجموعة العوامل التي تحول دون مشاركة الفرد والجماعة في الأنشطة المجتمعية، وعدم القدرة على التفاعل والانصهار في بوتقة المجتمع الأوحد الذي يستوعب الكلّ بلا استثناء. وعلى هذا، فإن «الاستبعاد الاجتماعي» هو الذي يفرّق بين البشر …، فكلنا ندور في حلقة «الاستبعاد الاجتماعي» المفرغة، ويبدو أن الفكاك من هذه الحلقة هو أمر شبه مستحيل على الأقل في زماننا هذا. وترى بسيس أيضاً أن «الاستبعاد الاجتماعي» لا يعني بالضرورة نقص المال، أي الفقر، رغم أن المال والدخل هو عامل أساسي في تحديد نسبة الاستبعاد وشكله، بل هو مجموعة من المشكلات والمعوقات التي تتراكم، والتي تفرز شخصاً غير مندمج في مجتمعه (Bessis, 1995).

وقد أشار أنتوني غدنز إلى أن أغلب الباحثين المحدثين اليوم يستخدمون مصطلح «الإقصاء الاجتماعي»، بدلاً من مفهوم «الطبقة المسحوقة». كما أشار إلى أن علماء الاجتماع هم أول من وضعوا معالم هذا المفهوم، غير أن السياسيين هم الذين يستخدمون هذا المصطلح أكثر من غيرهم في الآونة الأخيرة للإشارة إلى أحد المصادر الأساسية لظاهرة اللامساواة. ويدل هذا المفهوم على السبل التي تسدّ فيها المسالك أمام أعداد كبيرة من الأفراد للانخراط الكامل في الحياة الاجتماعية الواسعة (غدنز، 2005: 394). وذهب غدنز إلى أن هناك شكلين من أشكال «الاستبعاد الاجتماعي» في المجتمعات المعاصرة: الشكل الأول هو الاستبعاد اللاإرادي لأولئك القابعين في القاع، والمعزولين عن التيار الرئيسي للفرص التي يتيحها المجتمع. أما الشكل الثاني، فهو الاستبعاد الإرادي، حيث تنسحب الجماعات الثرية من النظم العامة، وأحياناً من القسط الأكبر من ممارسات الحياة اليومية، في ما يطلق عليه «ثورة جماعات الصفوة»، وتعيش هذه الجماعات داخل مجتمعات محاطة بالأسوار بمعزل عن بقية أفراد المجتمع، وتنسحب من نظم الصحة العامة والتعليم العام والخدمات الأخرى المتاحة في المجتمع الكبير (هيلز، لوغران وبياشو، 2007: 10).

ويرى آخرون أن «الاستبعاد الاجتماعي» هو عملية معقّدة ومتعددة الأبعاد، حيث إنه ينطوي على النقص أو الحرمان من الموارد والحقوق والسلع والخدمات، وعدم القدرة على المشاركة في العلاقات والأنشطة العادية المتاحة لغالبية الناس في المجتمع، سواء في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أو السياسية، إذ إنه يؤثر في كل من نوعية حياة الأفراد، والإنصاف والتماسك في المجتمع ككلّ (Lakshmanasamy, 2013: 23).

وقد ذهب مصطفى خلف عبد الجواد إلى أن المقصود بـ «الاستبعاد الاجتماعي» هو «عملية تحول دون المشاركة الكاملة للأفراد والجماعات في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما تحول دون ممارسة حقوقهم». وبذلك ينطوي تعريف «الاستبعاد الاجتماعي» على ثلاثة عناصر: الأول أن «الاستبعاد» يشير إلى الأفراد والشرائح والجماعات. والثاني أنه يجسّد الحرمان القائم في المجتمع. والثالث أنه يتأسس على العلاقات الاجتماعية الموجودة (عبد الجواد، 2008: 43).

بينما ينظر فيبر إلى «الاستبعاد» بوصفه أحد أشكال الانغلاق الاجتماعي، فمن الطبيعي أن ينشأ ذلك الانغلاق على خلفية عوامل ناتجة من استحواذ البعض على المكاسب والمغانم والمصالح التي تحتاج إلى نوع من الحماية والهيمنة، فـ «الاستبعاد» هو محاولة البعض لتأمين مركز متميّز على حساب جماعة أخرى بإخضاعها، ومن ثم إضعافها واختزال مصالحها، أو مسخ هويتها إلى حدّ التنكيل والتشويه والقمع (هيلز، لوغران وبياشو، 2007: 24).

وفي الاتجاه نفسه، يلفت جوردان (Jordan) الانتباه إلى ما تقوم به جماعة من «الاستبعاد الفعال لجماعة أخرى»، بينما يرى بريان باري أن الاستبعاد الاجتماعي لا يعدو أن يكون إعادة تسمية لما اعتاد الناس تسميته بـ «الفقر»، أما ما يسمّى بالتعريف الإجرائي لـ «الاستبعاد الاجتماعي»، فهو ينصبّ على فكرة المشاركة، إذ «يُعدّ الفرد مستبعداً اجتماعياً إذا كان لا يشارك في الأنشطة الأساسية للمجتمع الذي يعيش فيه»، ونجد بأنه تعريف مبتسر وقاصر عن الإحاطة بأشكال «الاستبعاد» وأنماطه، فعدم المشاركة قد تكون خياراً إراديـاً، فماذا عن الاستبعاد القسري، ولا سيما في المجتمعات ذات المنظومات الاستبدادية؟، إذ تستفيد السلطة المهيمنة عادة من تشرذم المجتمع وانقسامه إلى جماعات متفرّقة لإحكام السيطرة عليه، ما يدفع جماعة السلطة إلى دعم إنتاج الأنساق الأيديولوجية المكرّسة لمظاهر الاستبعاد، وذلك من خلال ترسيخ فكرة مشروعية السلطة، وتبرير التسلط مقابل تهميش الآخرين الموضوعيين في عزلة اجتماعية قسرية لا تتيح لهم المشاركة الفعلية في الحياة العامة (شغيدل، 2014).

ويرى روبن (Robin) أن «الاستبعاد الاجتماعي» هو اختصار لتسمية ما يمكن أن يحدث للأفراد أو المناطق التي تعاني مجموعة من المشكلات المرتبطة بأثر الاستبعاد، كالبطالة، وضعف المهارات، والدخل المنخفض، والسكن الرديء أو العشوائي، وسوء الحالة الصحية والبيئية، وارتفاع معدلات الجريمة، والتفكك الأسري. كما ذهب روبن إلى أنه يوجد ما لا يقل عن 15 نوعاً من الإقصاء، ومن هذه الأنواع: التهميش الاجتماعي، والحرمان المادي، وقبول الحدّ الأدنى من الحياة، والاستبعاد على أساس العرق أو الجنس، والاستبعاد من الأسرة والمجتمع، والاستبعاد من دولة الرفاهية، والفقر على المدى الطويل، والاستبعاد من تيار الحياة السياسية والاقتصادية، الاستبعاد من سوق العمل (Peace, 2001: 17).

وقد وصف بوركهارت (Burchardt)، «الاستبعاد الاجتماعي» بأنه عدم المشاركة في الأنشطة الاجتماعية الأساسية، ويتضمن أربعة أبعاد، هي: عدم الاستهلاك (التمكّن من شراء السلع، والخدمات، وامتلاك مسكن) وحيازة نظام توفير(امتلاك مدخرات، ومخصّصات المعاش …. إلخ)؛ وعدم المشاركة في الأنشطة الاقتصادية الاجتماعية (إتاحة فرص العمل، ومستوى الدخل، والتعليم، والتدريب، والخدمات العامة …)؛ وعدم المشاركة السياسية من خلال المشاركة في عملية صنع القرار على المستويين المحلي والوطني؛ وعدم التفاعل الاجتماعي – التكامل الأسري، والحماية، والتضامن والتكامل على مستوى المجتمع المحلي، ثم الوطني  (Burchardt, Le Grand and Piachaud, 2002: 30-43).

وقد أوضحت صوفي بسيس أن هناك ثلاثة أبعاد للاستبعاد: أولاً البعد الاقتصادي، وهو ينتج مباشرة من الفقر، مثل الاستبعاد عن العمل، والحرمان بالتالي من دخل منتظم. وثانياً البعد الاجتماعي، ويتعلق بوضع الفرد في المجتمع، الأمر الذي يؤدي إلى التمزّق في النسيج الاجتماعي والتضامن. وثالثاً البعد السياسي، ويتعلق بوضع بعض الفئات من السكان، مثل النساء، والمجموعات العرقية والدينية – المحرومون من كل أو جزء من نظمها السياسية – والأقليات أو المهاجرين وحقوق الإنسان. وتعتقد بسيس أن من أسباب الاستبعاد الاجتماعي في العصر الحديث تقديم تعليم رديء للغالبية العظمى من أفراد المجتمع، وقصر التعليم الجيد على جماعة محدّدة في المجتمع (Bessis, 1995). وتتسم أسباب الاستبعاد الاجتماعي بأن لها أبعاداً معقدة ومتعددة، الأمر الذي يخلق العديد من المشكلات العميقة، والتي تكون ذات أثر طويل المدى في الفرد والمجتمع، وفي الاقتصاد، وقد يمتد هذا التأثير من جيل إلى جيل.

ولـ «الاستبعاد الاجتماعي» سمات عديدة: تتحدّد السمة الأولى بشكل الاتصال (Relationality)، ويشير إلى العلاقات بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع، أو التباعد بينهما، وكذلك المشاركة المجتمعية غير المتكافئة. وتتحدّد السمة الثانية بالدينامية (Dynamicity)، والتراكمية (Cumulativity)، حيث يتسم «الاستبعاد الاجتماعي» بالعمليات التراكمية والتطورية التي يتم فيها تشكيل الخبرات الحالية نتيجة الخبرات الماضية، والتي تؤثر بالتالي في الخبرات والظروف الحياتية المستقبلية. وتتحدّد السمة الثالثة بالنسبية (Relativity)، حيث يقاس «الاستبعاد الاجتماعي» في ضوء المعايير المجتمعية التي تميّز مجتمعاً من الآخر، ومن ثم فعند قياسه يختلف التقييم في الزمان، وكذلك المكان، أي أن الحكم ليس مطلقاً. أما السمة الرابعة، فهي تعدد الأبعاد (Multi-dimensionality)، حيث يتحدّد «الاستبعاد الاجتماعي» بأبعاد عديدة، منها: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والجغرافية، وكذلك يتحدّد بالمواطنة. والسمة الخامسة هي القوة (Agency)، فـ «الاستبعاد الاجتماعي» يعبّر عن إرادة أصحاب القوة القادرين على السيطرة، وعلى اتخاذ القرار وتنفيذه (Scutella, Wilkins and Kostenko, 2009: 12).

وعلى الرغم من وجود علاقة ارتباط بين الترتيب الطبقي الاقتصادي وظاهرة «الاستبعاد الاجتماعي»، فإن الحقيقة أن «الاستبعاد الاجتماعي» ظاهرة تتعدّى مجرد أن يكون الفرد فقيراً في المجتمع، حيث إن «الاستبعاد الاجتماعي» يتميّز من الفقر بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن الاستبعاد يركّز على منظومة واسعة من العوامل التي تمنع الأفراد والفئات والجماعات من الفرص المتاحة لأغلبية السكان. فهو لا يعني بالضرورة نقص المال، رغم أن المال والدخل هما عاملان أساسيان في تحديد نسبة الاستبعاد وشكله، كما يُعدّان نذيراً مبكراً أو علامة أساسية أو مكوّناً أساسياً للاستبعاد الاجتماعي. فالاستبعاد بشكل ما هو أكثر من الفقر الذي يرتبط بالإخفاق الاقتصادي وأزمات التنمية، كذلك يتجاوز المتغيّرات الاقتصادية الأخرى، كحالة العمل أو الوضع المهني، حيث يمثل مجموعة المشكلات والمعوقات التي تتراكم، والتي تفرز شخصاً غير مندمج في مجتمعه، وتتمثل بالحرمان من الحقوق التي تدخل في صلب التعاقد الاجتماعي، وبالحرمان من حق المشاركة في اتخاذ القرار وصناعة المصير. فالاستبعاد ناتج من نواتج الحرمان المتعدد الذي يمنع الأفراد أو الجماعات من المشاركة الفعلية في مجالات الحياة المختلفة في المجتمع الذي يعيشون فيه (الميتمي، 2013).

كما يُعدّ «الاستبعاد الاجتماعي» نقيضاً لـ «الاندماج الاجتماعي» (Social Inclusion) (جلبي، 2014: 5)، ويعرّف البنك الدولي «الاندماج الاجتماعي» بأنه عملية تحسين قدرات الناس المحرومين، ومنحهم الفرصة للمشاركة في المجتمع (World Bank, 2013). هذا مع ملاحظة أن تحقيق الاندماج لا يتوقف على قدرة الفرد أو الجماعة على استيعاب متطلبات بقاء النظام الاجتماعي وحسب، بل يتوقف أيضاً على درجة الاندماج التي يبديها المجتمع نفسه، على نحو يدفع الفرد إلى الانخراط فيه والمشاركة، أو العكس صحيح. فالاندماج من منظور الاستبعاد، ويطلق عليه أوين «دمج المستبعدين»، يتضمن سلسلة من العمليات المقصودة التي تقوم بها الحكومات والمؤسسات المعنية، بغرض إعادة دمج الفئات المستبعدة في المجتمع، سواء كان سبب الاستبعاد هو الفقر، أو ضيق مجال المشاركة، أو سوء توزيع الموارد، أو التمييز الاجتماعي. ويتطلب تحقيق الاندماج بهذا المعنى، تفكيك «القواعد الهيكلية للاستبعاد»، وليس مجرد تحسين بعض المؤشرات المتعلقة بالصحة، وبمعدل الالتحاق بالمدارس، وبالتسجيل في قوائم الناخبين.

ويتداخل مفهوم «الاستبعاد الاجتماعي» مع «الحرمان الاجتماعي»، الذي يشير إلى انخفاض مستوى التفاعل الثقافي الطبيعي بين الفرد وباقي المجتمع أو توقفه تماماً. ويدخل هذا الحرمان الاجتماعي في إطار شبكة كبيرة من العوامل المترابطة التي تسهم في وقوع «الاستبعاد الاجتماعي». وتتضمن هذه العوامل المرض النفسي، والفقر، والتعليم السيئ، والوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض. إذاً، يبدو أن جزءاً من الغموض الذي يكتنف تعريف الحرمان الاجتماعي ينشأ عن التشابه الظاهري مع الاستبعاد الاجتماعي. وبالرغم من ذلك يمكن ربط الحرمان الاجتماعي بالاستبعاد الاجتماعي أو المشاركة في حدوثه، وذلك عندما يكون أحد الأشخاص في مجتمع معيّن منبوذاً من باقي أفراد المجتمع. ويحرم الشخص المستبعد من حق الوصول إلى الموارد التي تتيح له التفاعل الصحي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وقد حدّد بيرسون خمسة عوامل أساسية تؤدي إلى بدء الاستبعاد الاجتماعي، وهي: الفقر، وعدم الحصول على وظائف، ورفض الدعم الاجتماعي أو شبكات الأقران، والاستبعاد من الخدمات، والموقف السلبي من الجوار المحلي. ويرتبط أيضاً بالرعاية المؤذية، وتأخر النمو، والمرض النفسي، والانتحار لاحقاً[1].

ومن خلال ما سبق، يمكن القول إنه قد تعدّدت وتباينت التعريفات العلمية لـ «الاستبعاد» كمفهوم، ولكن اتفقت مجمل التعريفات على أن الاستبعاد يقصد به طرد المواطن خارج المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بشكل لا يعتبره أحد المكونات الرئيسية في البناء الاجتماعي، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً. فـ «الاستبعاد» بكل صوره وأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليس مجرد مشكلة تحتاج إلى هندسة اجتماعية للتعامل معها، إنما هو مشكلة هيكلية تقوم على الاختلاف في درجات القوة، داخلياً وخارجياً، ذلك لأن الاستبعاد يعكس غياب مشاركة الأفراد، وتوقف الدور الذي تقوم به الشبكات الاجتماعية في الربط بين القوى المجتمعية من ناحية، وتبرز مصالح وأصوات القوى المجتمعية للدولة من ناحية أخرى. الأمر الذي يراكم اللامساواة الاجتماعية، ويدفع المجتمع إلى العزلة والضعف (Komter, 1996: 299-316).

إذاً لا يعني «الاستبعاد الاجتماعى» بالضرورة نقص المال، أي الفقر، رغم أن المال والدخل هو عامل أساسي في تحدّي نسبة الاستبعاد وشكله، بل هو مجموعة من المشكلات والمعوقات التي تتراكم، والتي تفرز شخصاً غير مندمج في مجتمعه. فـ «الاستبعاد الاجتماعي» ظاهرة متميّزة من الفقر، ومميزة أيضاً من عدم المساواة الاقتصادية، فهي ليست أمراً شخصياً، ولا راجعاً إلى تدني القدرات الفردية، بقدر ما تمثل حصاد ونتاج بنية اجتماعية معينة، ورؤي محددة، ومؤشراً على أداء هذه البنية لوظائفها. فهو [الاستبعاد الاجتماعي] يحول دون تمتع الأفراد والجماعات بالمشاركة الاقتصادية والسياسية والثقافية الكاملة (Bessis, 1995).

ثالثاً: أسباب انتشار الاستبعاد الاجتماعي

لقد جعل الاختلاف في تحديد مفهوم موحّد لـ «الاستبعاد الاجتماعي» رؤى العلماء والباحثين تتسع في تحديد الأسباب الرئيسية المتصلة به والمؤدية إلى حدوثه، فبرز، في هذا المجال، ثلاث مدارس فكرية، وهذه المدارس الثلاث في اهتمامها بالأسباب الرئيسية لـ «الاستبعاد الاجتماعي»، باعتباره ملمحاً أساسياً في الجدل الدائر حول «الاستبعاد الاجتماعي»، تبحث عن إجابة عن السؤال القائل: من الذي يقوم بالاستبعاد؟ فكانت إجابات المدارس الثلاث، بحسب منطلقاتها الفكرية المختلفة، كما يلي:

1 – تضع المدرسة الأولى سلوك الأفراد وقيمهم الأخلاقية في المقام الأول، حيث شدّدت هذه المدرسة على أهمية القيم الأخلاقية، وعلى التفسيرات السلوكية، وركّزت تحليلها على الأفراد المستبعدين اجتماعياً، وألقت عليهم اللوم لأنها تعتبرهم المسؤولين عن وضعهم هذا، بل هي تؤكد أنهم هم الذين وضعوا أنفسهم في هذا الموضع.

2 – تشدّد المدرسة الثانية على أهمية دور المؤسسات والنظم، ابتداءً من دولة الرعاية أو الاشتراكية إلى الرأسمالية والعولمة. وهي ترى أن المؤسسة المدنية والاقتصادية تجعل من الفرص المتاحة أمام بعض الأفراد والجماعات دون غيرهم، فيه نوع من تقييد الفرص أمام الآخرين، الأمر الذي يعطي الانطباع بانتفاء وجود فعل الاستبعاد على جانبين: الجانب الأول هو حصيلة هذا النظام أو المؤسسة، فهي في العادة غير مقصودة، أو على الأقل خارج نطاق سيطرة أي فرد أو منظمة؛ والجانب الثاني هو أنه لا يملك الأفراد المستبعدون اجتماعياً فرصة معالجة وضعهم.

3 – تشدّد المدرسة الثالثة على أهمية التميّز ونقص الحقوق المنفّذة فعلاً، كسبب رئيسي في عملية الاستبعاد، وبتحليلها يكون المستبعدون اجتماعياً واقعين تحت رحمة الأقوياء، وبالتالي فهم يلقون بالمسؤولية على الصفوة بصورة كاملة.

وبعيداً عن المدارس الفكرية وتحليلاتها للأسباب التي ينجم عنها ظاهرة الاستبعاد الاجتماعي، يمكن أن نذكر الأسباب التي يمكن أن تنتج منها هذه الظاهرة، وذلك كما يلي:

أ – الأسباب السياسية: يؤدي انفراد بعض الأفراد بسلطة القرار، وغياب التنظيم الذي يكفل للأفراد المشاركة في تناولهم قضاياهم ومشكلاتهم، إلى إحساس الأفراد بالضيق الذي يظهر على هيئة توتر واستعداد كبير للانفجار.

ب – الأسباب الاقتصادية: يعتبر العامل الاقتصادي أهم العوامل التي تؤدي إلى بروز مظاهر الاستبعاد من عمق النسق الاجتماعي، نظراً إلى ما للعامل الاقتصادي من دور في تحديد فعالية الأفراد في النظام الاجتماعي، ومدى تحكمها في توسيع أو تضييق دوائر النشاط لدى الفرد، فالثورة أهم محدّدات استبعاد الفرد أو اندماجه في المجتمع.

ج – الأسباب النوعية: يحدّد جنس الفرد في المجتمع دوره ومكانته، وحتى منطلق التربية، فالثقافة العربية تفرّق بين الذكور والإناث في إعدادهم لأدوار متباينة يحددها النوع الذي ينتمون إليه، وهو ما جعل العديد من الحركات الداعية إلى رفع القيود وأشكال التهميش والاستبعاد للمرأة، في أداء العديد من الأدوار الجديدة، والتي تكون في العادة نتيجة للتغيّرات الاجتماعية والاقتصادية التي تعرفها المجتمعات العربية.

رابعاً: مخاطر الاستبعاد الاجتماعي
على النسق الاجتماعي للمجتمع

إن تفشي ظاهرة «الاستبعاد الاجتماعي» بين أجزاء النسق في المجتمعات، لها تأثير واضح في التكامل بين أجزائه، وخاصة في الجانب الوظيفي، وقد يتجسّد الأثر البالغ لهذه الظاهرة من خلال قيمتَي العدالة الاجتماعية والتضامن الآلي بين أفراده، على اعتبار أنهما أهم قيمتين يقوم عليهما التكامل الوظيفي لأجزاء البناء الاجتماعي لأي مجتمع.

1 – مخاطر الاستبعاد الاجتماعي على قيم العدالة الاجتماعية

تمثّل «العدالة الاجتماعية» كمفهوم، الحدّ الأدنى للعدالة، وهي نوع من تكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع، كما أنها تتيح للفعل البشري الفردي المجال لإعطاء صفة مميزة للأفعال الشرعية، مع التشديد في الوقت نفسه على وجود مظاهر الحرمان في المجتمع، والذي ينبغي أن يثير الطلب المشروع للحصول على المعونة أو الإنصاف من الظلم والتعويض عنه. وقد اختلف العلماء حول دلالات الفرد المتكافئة، لذلك يمكن أن نقول إن هذا المفهوم ليس دقيقاً لسببين:

أ – السبب الأول يتعلق بالأمور التي هي من حق الأفراد أن يتميّزوا بها (ومن ثم ما يترتب عليها من مكافآت مرتبطة بها) أو الأمور التي يحملون المسؤولية عنها (وبالتالي ما يترتب على ذلك من الخسائر والعقوبات المرتبطة بها).

ب – السبب الثاني: ما يتعلق بالأمور التي تُعدّ مسألة حظ سعيد أو حظ سيئ أو ما يسمّى بـ «المواهب الطبيعية».

ويتعارض «الاستبعاد الاجتماعي» مع مبدأ العدالة الاجتماعية أو الفرص المتكافئة بين الأفراد على الأقل في جانبين اثنين:

(أ) – الجانب الأول: يؤدي «الاستبعاد الاجتماعي» إلى وجود فرص تعليمية ومهنية غير متكافئة.

(ب) – الجانب الثاني: يشكّل «الاستبعاد الاجتماعي» في الواقع إنكاراً للفرص المتكافئة في ما يتصل بالأمور السياسية. فـ «الاستبعاد الاجتماعي» بإمكانه أن يؤدي إلى انتهاك مقتضيات العدالة الاجتماعية، باعتبارها فرصاً متكافئة. ففي بعض الظروف يمكن لـ «الاستبعاد الاجتماعي» أن يشكّل بصورة فعلية إنكاراً للعدالة الاجتماعية.

2 – مخاطر الاستبعاد على قيم التضامن الاجتماعي

تختلف العدالة الاجتماعية والتضامن الاجتماعي في علاقتهما بـ «الاستبعاد الاجتماعي»، سواء كان ذلك طوعاً أو قهراً، فـ «التضامن الاجتماعي» كمصطلح من مصطلحات علم الاجتماع يرد في سياق تفسير تماسك المجتمعات الصناعية الحديثة، فالتقسيم المعقّد للعمل يترتب عليه بالضرورة أن يكون كل فرد من أفراد المجتمع متخصّصاً في مجال محدود، وعاجزاً عن أن يوفر لنفسه ما يحتاج إليه من دون التعاون والتبادل مع الآخرين، لذلك فالمجتمع يتماسك لأن الأفراد لا يملكون الموارد والإمكانات التي تمكّنهم من الانسحاب منه.

ويقصد بـ «التضامن الاجتماعي» الإحساس بمشاعر الرفقة والإلفة، وهو يمتد ليتجاوز الأشخاص الذين يكون المرء على صلة شخصية بهم، وهو في حدّه الأدنى تقبّل الأغراب كبشر لهم الاحتياجات والحقوق نفسها. فالتضامن الاجتماعي له أسبابه الاجتماعية. والعزلة الاجتماعية أو الاستبعاد الاجتماعي هو من العوامل المهمة في تقوية التضامن: الانخراط في المؤسسات المشتركة ومعايشة الخبرات، فحياة الناس تكون أفضل حالاً في مجتمع يتشارك أعضاؤه في بعض جوانب تلك الحياة (غدنز، 2005: 394).

إن جعل المجتمع يعيش تضامناً آلياً يحتاج إلى أسس مادية للمشاركة في حياة المجتمع، فمرافق الخدمات العامة التي توفرها الأنظمة الأساسية (كالمدارس والخدمات الصحية… إلخ) تُعدّ واحدة من أساليب تشكيل التضامن بين أفراد المجتمع، غير أنه من الملاحظ أنها أصبحت في كثير من الأحيان منتجة للاستبعاد الاجتماعي للأفراد أكثر مما تقدمه لهم من تضامن، وذلك لمستوى جودة هذه الخدمات، وكيفية تقديم هذه الخدمات للأفراد. فكثرة انتشار ظاهرة «الاستبعاد الاجتماعي» داخل المجتمع تقضي تدريجياً على التضامن بين أفراده (سلطانية وابن تركي، 2012: 20).

3 – الاستبعاد الاجتماعي وانتشار العنف في المجتمع

يمثل العنف ممارسة سلبية تهدد استقرار البناء الاجتماعي للمجتمع وعوامل استمراريته وتطوره الآمن. ويعتبر ظهور العنف ومختلف الجماعات الرافضة للدولة (Anti-state Movements)، هو نتيجة حتمية لما يعرف بـ «الاستبعاد الاجتماعي». وبالتالي، فإن ظاهرة العنف هي صورة من صور «الاستبعاد الاجتماعي»، الذي يعني الانسحاب من الالتزام بالقواعد والقوانين المنظّمة للمجتمع، وعدم الالتزام بالتسلسل الهرمي للأوضاع الاجتماعية، وللسلطوية المستقرّة في المجتمع، بفعل ظروف قد تكون قاهرة، ولا يستطيع الأفراد مواجهتها (Silver, 2006: 4411-4413). وهذا الوضع شهدته بعض دول أمريكا اللاتينية، مثل بوليفيا، والباراغواي، والإكوادور (Zibechi, 2010: 65-90, and Dangl, 2010).

واستناداً إلى هذا الاتجاه، يُعدّ الشخص مستبعداً اجتماعياً، عندما تتوافر فيه مجموعة من السمات، منها أن يكون مقيماً في منطقة معيّنة من المجتمع، مثل المناطق العشوائية، وألّا يستطيع المشاركة في الأنشطة العادية في المجتمع كباقي المواطنين، بالرغم من أنه قد تكون لديه الرغبة في المشاركة والانخراط (Barry, 2002).

وبناء على ذلك، يمثل العنف ممارسة سلبية تهدد استقرار البناء الاجتماعي للمجتمع، وعوامل استمراريته، وتطوره الآمن. وتتألف جماعات العنف والبلطجة، كفئة مستبعدة اجتماعياً، من الأفراد الذين سقطوا من شبكة الرعاية الاجتماعية بصورة رسمية، مثل المجرمين، والمسجلين الخطرين، ومعتادي الإجرام.

خاتمة

تقصّى الباحثان مفهوم الاستبعاد الذي عُرف بوصفه أحد أشكال الانغلاق الاجتماعي، فالانغلاق بمنزلة المحاولة التي تقوم بها جماعة لتؤمّن لنفسها مركزاً متميّزاً على حساب جماعه أخرى من خلال عملية إخضاعها. كما أن «الاستبعاد الاجتماعي» في أبسط صوره هو عدم الحصول على الموارد، وانعدام القدرة على الاستفادة منها، والحرمان من الفرص التي تعزّز الوصول إلى هذه الموارد واستخدامها. كما يشير مفهوم «الاستبعاد» إلى عدم التمكّن من التواصل مع الآخرين والمشاركة في حياة المجتمع، ويشكّل هذا الاستبعاد حرماناً ذا أهمية جوهرية، لما فيه من إفقار لحياة الشخص.

وقد توصّل الباحثان إلى أن لـ «الاستبعاد الاجتماعي» أبعاداً عديدة، وأنه موجود في مختلف المجالات والأشكال، فمثلاً هيمن مفهوم «العرق» أو «الطائفة» عند الحديث عن «الاستبعاد الاجتماعي» لفترة طويلة. ونجد مفهوم «الاستبعاد الاجتماعي»، ليس مفهوماً ساكناً في الواقع، بل هو عملية أو عمليات التهميش والتمييز في الحياة اليومية والتفاعل، إذ أصبح مصطلح «الإقصاء» جزءاً من المفردات الاجتماعية المهمة، ومن المفيد الاعتراف بأن لدى فكرة ومفهوم «الاستبعاد الاجتماعي» اتصالات مع مفاهيم راسخة في الكتابات عن الفقر والحرمان.

ويرى الباحثان أن هناك بعض المؤشرات التي تدل على «الاستبعاد الاجتماعي» مثل: الصعوبات المالية التي تواجه الأسرة، والنقصان الشديد في الاحتياجات الأساسية للإنسان، وظروف السكن غير الملائمة، وتدني قدرة الفرد على الإدراك الذاتي لحالته الصحية، وعدم الرضا عن العمل أو النشاط الأساسي للفرد داخل المجتمع، وقلة وندرة الاتصالات مع الأقارب والأصدقاء. ومن الجدير بالإشارة أن «الاستبعاد الاجتماعي» يمكن أن ينشأ عن طرق متنوعة، لكن من المهم التعرّف إلى براعة الفكرة وانتشارها، وضرورة توخّي الحذر في عدم استخدام هذا المفهوم بشكل عشوائي لوصف كل شكل من أشكال الحرمان.

ويؤكد الباحثان أن «الاستبعاد الاجتماعي» هو ظاهرة من الماضي والحاضر على حدّ سواء، وهو مؤثر في الملايين من الأشخاص الذين يكافحون للبقاء على قيد الحياة، بسبب ظروفهم الصعبة، سواء في العيش أو العمل. وعلى مر التاريخ، تطورت الأشكال التي يتخذها «الاستبعاد الاجتماعي»، سواء بخصائصه أو المواقف المعتمدة تجاهه. ويبدو أن الجهات الفاعلة المعنية لا تؤدي الدور المطلوب منها، والذي يعكس رغبتها في خفض «الاستبعاد الاجتماعي» والقضاء عليه.

 

قد يعجبكم ايضاً  العنف التسلطي والعنف الدفاعي في الفضاءات الحضرية في لبنان وفرنسا

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة إضافات العددان 31-32 لصيف وخريف 2015.

(**) هدى أحمد الديب: مدرِّس علم الاجتماع الريفي في كلية الزارعة، جامعة الزقازيق.

(***) محمود عبد العليم محمد: باحث ماجستير في علم الاجتماع في جامعة سوهاج، مقيم في الإمارات العربية المتحدة.

جلبي، علي عبد الرازق (2013). «الاندماج الاجتماعي والمواطنة النشطة: مصر بعد ثورة 25 يناير نموذجاً.» ورقة قُدِّمت إلى: المؤتمر السنوي الثاني للعلوم الاجتماعية والإنسانية، الذي أقامه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 30 – 31 آذار/مارس 2013، <http://www.dohainstitute.com/file/Get/408d0ac3-33e3-463c-b997-b380b8ab7915>.

اﻟﺤﻮراﻧﻲ، محمد ﻋﺒﺪ اﻟﻜﺮﻳﻢ (2012). «الاستبعاد والثورات الشعبية: محاولة للفهم في ضوء نموذج معدل لنظرية الحرمان النسبي.» اﻟﻤﺠﻠﺔ اﻷردﻧﻴﺔ ﻟﻠﻌﻠﻮم اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ: اﻟسنة 5، اﻟﻌﺪد 2.

سلطانية، بلقاسم وأسماء بن تركي (2012). «تشكل صور من الاستبعاد الاجتماعي: الفقر والبطالة في الجزائر.» مجلة العلوم الإنسانية (جامعة محمد خيضر – بسكرة): العدد 24، آذار/مارس.

شغيدل، كريم (2014). «مفهوم الاستبعاد الاجتماعي وأثره في النسيج المجتمعي.» المنتدى العربي للعلوم الاجتماعية والإنسانية: 25 أيلول/سبتمبر، <http://socio.montadarabi.com/t3560-topic>.

عبد الجواد، مصطفى خلف (2008). «التحضّر والاستبعاد الاجتماعي في مصر.» ورقة قُدِّمت إلى: مؤتمر «التحدیث والتغییر في مجتمعاتنا: تقییم للتجاري واستكشاف الآفاق»، الذي أقامه مركز الدراسات المعرفية بجامعة عين شمس، قسم علم الاجتماع، كلية الآداب، بالقاهرة، في 7 – 8 نيسان/أبريل.

عبد المعطي، عبد الباسط (2009). «الشباب العربي: الأوضاع الحالية والتبعات الاجتماعية.» ورقة قُدِّمت إلى: اجتماع الخبراء حول تعزيز الإنصاف الاجتماعي وإدماج قضايا الشباب في عملية التخطيط للتنمية، أبو ظبي، 29 – 31 آذار/مارس 2009.

عياد، هاني جرجس (2014). «الاستبعاد الاجتماعي.» المنتدى العربي للعلوم الاجتماعية والإنسانية: 20 أيلول/سبتمبر، <http://socio.montadarabi.com/t3560-topic>.

غدنز، أنتوني (2005). علم الاجتماع: مع مدخلات عربية. بمساعدة كارين بيردسال؛ ترجمة وتقديم فايز الصُيّاغ. بيروت: المنظمة العربية للترجمة. (علوم إنسانية واجتماعية)

الميتمي، محمد (2013). «من سياسات التخفيف من الفقر والبطالة إلى سياسات مواجهة الاستبعاد الاجتماعي.» الثورة: 25/4/2013، <http://www.althawranews.net/portal/news-42390.htm>.

هيلز، جون، جوليان لوغران ودافيد بياشو (2007). الاستبعاد الاجتماعي: محاولة للفهم. ترجمة وتقديم محمد الجوهري. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. (عالم المعرفة؛ 344)

Barry, Brian (2002). «Social Exclusion, Social Isolation, and Income Distribution.» in: John Hills, Julian Le Grand and David Piachaud, Understanding Social Exclusion. Oxford: Oxford University Press, <http://www.gs-drc.org/go/display&type=Docu ment&id=3395>.

Beall, Jo (2002). «Globalization and Social Exclusion in Cities: Framing the Debate with Lessons from Africa and Asia.» Environment and Urbanization: vol. 14, no. 1, April.

Bessis, Sophie (1995). «From Social Exclusion to Social Cohesion: Towards a Policy Agenda.» paper presented at: The Roskilde Symposium, University of Roskilde, Denmark, 2-4 March, <http://www.unesco.org/most/besseng.htm>.

Burchardt, Tania ([n. d.]). «Oxford Dictionary of Politics: Social Exclusion.» Answers, <http://www.answers.com/topic/social-exclusion#ixzz3bxwcbvq6>.

Burchardt, Tania, Julian Le Grand and David Piachaud (2002). «Degrees of Exclusion: Developing a Dynamic, Multidimensional Measure.» in: John Hills, Julian Le Grand and David Piachaud, Understanding Social Exclusion. Oxford: Oxford University Press, <http://www.gs-drc.org/go/display&type=Docu ment&id=3395>.

Dangl, Benjamin (2010). Dancing with Dynamite: Social Movement and States in Latin America. Oakland; Baltimore: AK Press.

Komter, Aafke Elisabeth (1996). «Reciprocity as a Principle of Exclusion: Gift Giving in the Netherlands.» Sociology: vol. 30, no. 2.

Lakshmanasamy, T. (2013). «How Deep is Caste Discrimination and Social Exclusion?: Methodologies for Measuring Economic Deprivation of Dalits.» Indian Journal of Dalit and Tribal Studies and Action: vol. 1, no. 3, June.

McDowell, Tiffany [et al.] ([n. d.]). «Social Exclusion.» Adler School of Professional Psychology, <http://www.adler.edu/page/institutes/instit ute-on-socialexclusion/about>.

Mok, Ka Ho and Maggie K. W. Lau (eds.) (2014). Managing Social Change and Social Policy in Greater China: Welfare Regimes in Transition. London: Routledge. (Routledge Research On Public and Social Policy in Asia)

Peace, Robin (2001). «Social Exclusion a Concept in Need of Definition?.» Social Policy Journal of New Zealand: 16/7/2001.

Scutella, Rosanna, Roger Wilkins and Weiping Kostenko (2009). Estimates of Poverty and Social Exclusion in Australia: A Multidimensional Approach. [Parkville, Vic.]: Melbourne Institute of Applied Economic and Social Research, University of Melbourne. (Melbourne Institute Working Paper; no. 26/09)

Silver, Hilary (2006). «Social Exclusion.» in: George Ritzer (ed.). Encyclopedia of Sociology. Oxford: Blackwell.

World Bank (2013). «Inclusion Matters: The Foundation for Shared Prosperity.» World Bank: 9 October, <http://www.worldbank.org/en/events/2013/09/23/inclus​ion-​matters-foundation-of-shared-prosperity>.

Zibechi, Paul (2010). Dispersing Power-Social Movements as Anti-state Forces. Oakland; Baltimore: AK Press.

[1] انظر: «حرمان اجتماعي،» ويكيبيديا (الموسوعة الحرّة)، <http://ar.wikipedia.org/wiki/%d8%ad%d8%b1%d9%85%d8%a7%d9%86_%d8%a7%d8%ac%d8%aa%d9%85%d8%a7%d8%b9%d9%8a>.

 


محمود عبد العليم محمد

باحث ماجستير في علم الاجتماع في جامعة سوهاج، مقيم في الإمارات العربية المتحدة.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز