تحاول هذه الدراسة تلمُّس الأبعاد الحيوية لتطور وتصاعد المواجهة المحتملة بين كينونة تيارين فكريَّين عالميَّين هما: النيوليبرالي والإنساني. التيار الأول بدأت ملامحه تتبدى منذ السبعينيات من القرن الماضي، ليصبح في مطلع الثمانينيات تيار الاقتصاد السياسي المهيمن بديـلاً لنموذج «دولة الرفاهية» الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى بروز التيار الجديد.

تيار النيوليبرالية، الذي يمثّل كليّة الرأسمالية المالية الراهنة، وهو تيار نفعي النوازع، ومادي التطلع. ولقد جهُد دعاته وداعموه منذ انطلاقته بدفع أنه لا بد للرأسمالية من أن تجدد ذاتها بصورة دينامية مستمرة. ومن أجل ذلك، حزمت جموع المصالح هذه أمرها واعتمدت استراتيجية دولية شاملة لتثبيت ركائزها، استهدافاً لتحقيق مآربها واحتواء كل اجتهاد قد يعارضها. وهذا بالفعل ما حصل خلال العقود الأربعة الفائتة.

في المقابل، الاستجابة الإنسانية، وهي نهج الحياة الطبيعية كحق وجود، لم تقف مكتوفة الأيدي تجاه المواجهة. فجاء أول الغيث أغزر أمطارها شامـلاً في تغطيته ورصيناً في أطر فلسفته وقناعاته. إنّه نهج التنمية البشرية الذي انطلق في مطلع التسعينيات من ثنايا منظومة الأمم المتحدة، ويتتابع من بعده سيل متدفق من النماذج والمواقف، جميعها تُسقى من شذى نبع واحد: حق الحياة الإنسانية والطبيعية معاً.

ومنذ فترة قريبة نسبياً، وبخاصة منذ وقوع الأزمة العالمية الائتمانية المصرفية انطلاقاً من عقر دار النيوليبرالية ذاتها، فإن حواراً قد أضحى أمره حتمياً بين التيارين. ويقع هذا الحوار، وإذا به جدلي بامتياز يرافقه تعزيز هادف متقابل ومتبادل للمواقع. ذلكم هو الذي ما زالت قدحات سجاله يتألق صداها شوقاً للحسم.

السنةالنيوليبرالية مقابل الإنسانية
1980تطبيق قواعد «إجماع واشنطن» في كل من إنكلترا وأمريكا.
1982فرض «برامج التكيُّف الهيكلي» على الدول النامية المدينة من قبل منظمات الحاكمية الاقتصادية الدولية.
1990انطلاق نهج «التنمية البشرية» من قبل منظومة الأمم المتحدة.
1995بدء تطبيق قواعد «الحوكمة الجيدة» على دول الاتحاد السوفياتي السابق من قبل منظمات الحاكمية الاقتصادية الدولية.
2000«إعلان الألفية» من قبل منظومة الأمم المتحدة.
2001البدء بتطبيق أجندة «الأهداف الألفية للتنمية» من قبل منظومة الأمم المتحدة.
2006بدء تطبيق «مقياس التنافسية الدولي» من قبل المنتدى الاقتصادي الدولي.
2007الأزمة الائتمانية المصرفية العالمية وبروز الدور الرائد «لصناديق الثروة السيادية»، والمحاولات النيوليبرالية الحثيثة لتطويقها.
2012صدور التقرير الأول «للثروة الشاملة» من قبل مفكرين رائدين.
2014إصدار التقرير الثاني «للثروة الشاملة».
2016البدء بتطبيق أجندة «أهداف التنمية المستدامة» من قبل منظومة الأمم المتحدة.

إن محاولة رصد وتحليل واستنتاج مضامين وتفاعلات هذه الوقائع التاريخية الحيوية الخاصة بالتيارين، هو ما نسعى إليه توثيقاً في هذا المقام.

1 – بناء الكيان الفلسفي والفكري

مخطط «بانوراما» الهيكل الكياني للنيوليبرالية


كما يظهر من المخطط، فإن نقطة الارتكاز الفلسفية للكيان النيوليبرالي برمَّته تتشكل من الاعتقاد بحيوية وثنائية الترابط بين الكينونة الأنوية الفردية، وبين الكينونة المحيطية المتمثلة بالسوق الحرة. فلقاؤهما الاندماجي هو الذي يضع الأسس لـ «القانون الطبيعي». كما أنه ينبغي، من أجل ترسيخ قواعد هذا اللقاء التفاعلي، أن يكون الفرد حُرّاً في حركته لإنعاش دوافع مصلحته الذاتية، وأن يدعم هذا كله ظروف تضمن حقوق الملكية الخاصة.

ينتج من هذه الركيزة جملة اعتبارات حيوية من أهمها:

– أن السوق الحرة التنافسية هي الحاضنة المحورية في النموذج. إنّها «اليد الخفيّة» المطلوبة لضمان تحقيق نبوءة العقيدة النيوليبرالية.

– النظام كلّه يتحرك ويتفاعل تطبيقياً من خلال الالتزام بمعايير خمسة تتمثل بالخصخصة، اللاقيدية، التحررية، التسويقية، والنقدية. وتتحرك هذه الخماسية جميعها في تناغم وتناسق بهدف ضمان تحقق أهداف السياسات النيوليبرالية.

– وفي إطار هذا التحرّك، تحصل إعادة تشكيل دور الدولة في انسجام مع معايير النموذج لتصبح أداته التنفيذية في تطبيق متطلباته.

– حدود النموذج إطارها ومحتواها اقتصادي في جوهره. ونتيجة لذلك، فإن الارتكاز على المصلحة الذاتية الفردية مع الاعتماد على آلية السوق، قد أدى بشكل حاسم ومباشر إلى تهميش القطاع الاجتماعي بما فيه قضايا عدالة التوزيع والمساواة. وهذا يبقى قائماً في ممارسات النموذج رغم ثبوت فشله في تحقيق العدالة والمساواة اعتماداً على آلية السوق التلقائية بدون تدخل الدولة.

2 – القواعد السلوكية للنموذج

يتمحور هذا النموذج وسياساته، حول رمزية «احتكار القرار». فهذه الرمزية تعبِّر عن هيمنة السلطة النيوليبرالية على مسار السياسات الدولية بحكم الهيمنة على مواقعها، وبالتالي القطرية تبعاً لذلك. ولقد اعتمدت النيوليبرالية استراتيجية شاملة انعكست في أجندات ومشاريع متتابعة أهمها تمثّل بإجماع واشنطن؛ برنامج التكيف الهيكلي؛ التنافسية، والحوكمة الجيدة.

انعكست الملامح الأساسية لهذه الاستراتيجية في طبيعة وأسلوب تطبيق محتوياتها، التي أظهرت أهم صفاتها أنها جاءت:

• مرحليةوتلك كانت علاقة مميزة في المسار التطبيقي للأجندات عبر السنوات منذ انطلاقته.
• التفصيليةنهج التطبيق فيها جاء اختياره مركّزاً على فترات محددة من كليّتها، والتوسع فيه تحليـلاً وتعميقاً وتطبيقاً.
• التجديديةلم يكن التطور تكرارياً، إنّما في كل مرحلة كان لمّاحاً في ابتداع أفكار جديدة لدعم اندفاعه.
•التصعيديّةوتتضمن الإصرار على الاستمرارية رغم تعاظم الانتقادات والرفض، وهو ما يعبّر عن ذاتية محكومة بالتحدّي.
• التراكميةوتلك سمة بارزة في مراحل التطبيق، حيث إن كل مرحلة، إذ هي تضيف جديداً للزخم، لكنها تبقى في ذات الوقت حاضرة في تأكيد أساسيات منطلقاته ومبادئه.
• التنوعيّةيتضح هذا من تباين تطبيق العقيدة على صعيد كل من المحتوى، والموقع الجغرافي، ومرحلة التطور الوطني للدول بخاصة.
• العدوانيةوهذه صورة رافقت بوضوح التحدّي والقرار، بالوقوف في مواجهة كل ما هو غير مطابق للفكر والنهج النيوليبرالي إمّا بمحاولة احتوائه وإما بتحجيمه.

 

هذه الملامح المرافقة للتطبيق تناغمت بشكل مثير عبر السنوات منذ مطلع الثمانينيات، ما أدى إلى توسيع سلطة وفاعلية القواعد السلوكية النيوليبرالية وبشكل حاسم.

من ناحية ثانية، فإن «المظلّة» التي مثّلت الوسيلة المركزية والفارضة كانت الحاكمية الاقتصادية الدولية المسيّرة لأهم أبعاد النموذج في توجيهاته الفكرية والسياسية والتطبيقية. هذه المظلّة المتشكلّة من ثلاثية حاكمة من الدول الأعضاء المؤثرة فيها، تضمنّت صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية. كل طرف فيها أنجز متطلبات اختصاصة، وفي ذات الوقت التزم حثيثاً بالتنسيق والتناغم مع رفيقيه على الدوام في القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، شكـلاً ومضموناً.

ويرتبط بهذه الصورة الكلية دولياً، بُعدان حيويان داعمان ومتممان لها، يعملان مع أنغام ما ينطلق من منافذ هذه الثلاثية الحاكمة في تناسق أوركسترالي عجيب. تلك هي قوى دافعة مانعة وتجسّدها العولمة التي اخترقتها واحتوتها النيوليبرالية، تدعمها شبكة إعلامية هائلة لا قرين لها في قدراتها وجبروتها.

3 – نهج «التنمية البشرية المستدامة»

من خلال هذا النهج نبدأ بالتعرّف إلى أعظم تحدٍّ يقف في مواجهة جموح وطموح وجنوح المدّ النيوليبرالي. ولهذا جاءت رمزيّة هذا الفصل هي «مواجهة المسار».

ففي 1990، أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريره الأول حول التنمية البشرية. ومنذ ذلك الحين، ما زالت هذه التقارير تتوالى بانتظام سنوي جدير بالتقدير، مغطية الفترة (1990 – 2016). تطورت منهجية هذه التقارير وتبلورت بوضوح خلال استمراريتها. فالتقارير الأولية ركزّت على أساسيات مفاهيم ومبادئ النهج، ثم من بعد ترصينها، تحوّلت إلى استعراض تحليلي وتطبيقي متميّز لمواضيع حيوية مختارة ذات صلة بالتنمية البشرية في كل إصدار منها.

بالإضافة إلى التشديد على رصانة المصدر وقدرته، وهو منظمة الأمم المتحدة بخلاصة قدراتها واتساع أهميتها وتأثير هذه التقارير على الصعد الفكرية والتطبيقية المتعلقة بالتنمية عموماً؛ فإنها أيضاً قد أضحت «المعيار» الذي تسترشد به المواقف اللاحقة لها. لهذا، يصبح قائماً تقديم مقتطفات مستقاة مباشرة من التقارير السنوية، كما هو وارد أدناه وبخاصة في مجالَي التنمية البشرية والاستدامة. وإنه في جميع هذه المقتطفات ستبرز حقيقة كبرى وهي التناقض الشاسع والكامل بين توجهات هذه التقارير مقارنة بمحتويات وتوجهات النموذج النيوليبرالي.

تتضمن أهم المقتطفات الانتقائية المرتبطة بالتنمية البشرية الآتي:

1990

– الناس هم الثروة الحقيقية للأمم (ص 9)، وبالتالي لا يمكن أن يختزلوا إلى بُعد واحد لمخلوقات اقتصادية (ص iii).

– الناتج المحلي الإجمالي ضرورة لكنه ليس كافياً لأجل تحقيق التنمية البشرية (ص 11).

1991– التنمية البشرية ضرورة للتنمية الاقتصادية، وأن هذه كثيراً ما تفقد مضمونها في غياب التنمية البشرية (ص 3).
1992

– الأسواق العالمية لا هي حرّة ولا كفؤة، كما أنها تقدم المنافع إلى الأقوى (ص 1).

– الفقر يهدد البيئة بقدر الإنفاق البذخي من قبل المجتمعات الغنية (ص 18).

1995

– ما زال عالمنا يفتقر إلى المساواة (ص 3).

– الغرض من التنمية هو زيادة جميع خيارات الناس، وليس مجرد زيادة الدخل (ص 11).

– حصلت في الثمانينيات عملية توازن الميزانيات المالية وعدم موازنة الناس (ص  117).

1997

– أعظم منافع العولمة حصدتها القلّة المحظوظة (ص 9).

– الأسواق العالمية الحرة تطبق انتقائياً (ص 82).

2010

– النظام الرأسمالي الذي تسيطر عليه القلّة قد لا يدوم طويـلاً (ص 7).

– للدولة دور حيوي في تقرير التنمية البشرية (ص 15).

2016– التنمية البشرية في كليّتها تدور حول الحريات للجميع وللحياة (ص iii).

 

أما بالنسبة إلى الاستدامة في تقارير التنمية البشرية، فيمكن اختيار المقتطفات الآتية:

1990

– النمو الاقتصادي المرافق لتوزيع عادل للدخل يشكّل عموماً أكثر الطرق لاستدامة التنمية البشرية (ص 3).

– استراتيجية التنمية المستدامة يجب أن تلبي حاجات الجيل الحاضر دون الإضرار بقدرة الأجيال المستقبلية على تلبية حاجاتها (ص 7).

– فكرة التنمية المستدامة أوسع من مجرد حماية البيئة المادية للموارد الطبيعية (ص 7).

1993– خلاصة القول، إن النماذج الجديدة للتنمية المستدامة يجب أن تكون أكثر حساسية للناس وللطبيعة (ص 3).
1994

– الديون المؤجلة بكل أنواعها الاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية، ترهن الاستدامة لأنها تمثّل اقتراضاً من المستقبل (ص 17).

– استراتيجية التنمية البشرية المستدامة هي إعادة تغذية رأس المال كلّه، المادي والبشري والطبيعي (ص 18).

2010

– الأسواق تعيش في فراغ سياسي مؤسسي. ومن دون إجراءات تتخذها الهيئات الاجتماعية أو الدولة لاستكمال عمل السوق، تبقى السوق قاصرة في ضمان الاستدامة البيئية، إذ هي تسهم في الظروف المؤدية إلى التدهور البيئي (ص 7).

– لا تستوفي أنماط الإنتاج والاستهلاك الحالية شروط الاستدامة البيئية (ص 103).

2011– العالم يحتاج إلى إطار تنموي يعكس المساواة والاستدامة (ص 7).

4 – الثروة الشاملة

صدر في العام 2012 تقرير نوعي تحت عنوان الثروة الشاملة، قام بإعداده فريق متميّز من المفكرين، منهم العديد من الحاصلين على جائزة نوبل، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة. هذا التقرير من حيث الجوهر بقي أميناً لمنبعه الفكري وهو نهج التنمية البشرية المستدامة. فهو ينظر إلى التنمية من وجهة شمولية تتضمن الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، باعتبارها كينونة مدمجة تحتضنها الاستدامة.

من ناحية ثانية، فإن التقرير إن لم يخرج عن فلسفة ونطاق نهج التنمية البشرية المستدامة، لكنه تناولها بإطار واضح في تميّزه، توسيعاً وتعميقاً وعلى صعد متنوعة، فاستحق بدوره رمزية «تعزيز الاستمرار»، كالآتي:

أولاً، أنه يناجيها رقيّاً في مستوى التحصيل الفكري والعلمي الذي قدّمه بحكم المشاركة الفعّالة من قبل مفكرين عالميين أسهموا في إعداد التقرير.

الثاني، تأكيده تعميق التحليل على صعيد مفهوم «رؤوس الأموال» التي تشكّل في مجموعها ثروة الأمم. رؤوس الأموال هذه، كما أصولها، تعود إلى ثلاثية أبعاد تتضمن: رأس المال المُنتج أو المصنّع في البعد الاقتصادي، رأس المال البشري في البعد الاجتماعي، ورأس المال الطبيعي في البعد البيئي. تلتئم هذه الثلاثية وتندمج بالضرورة في أحضان الاستدامة باعتبار أن هذا هو معيار استقامتها.

الثالث، أنه ابتدع مقياساً جامعاً للثروة الشاملة، من خلال دمج وتحليل وقياس رؤوس الأموال الثلاثة، وبيان المشاركة النسبية بينها.

الرابع، طبَّق هذا المقياس وحصد النتائج للعديد من الدول. وفي هذا الإطار، فإنّ التقرير الأول (2012) طبَّق المقياس على مجموعة من الدول (20 دولة) متنوعة المستويات التنموية، ورصد نتائجها.

التقرير الثاني للثروة الشاملة (2014)، الذي انساب رفيقاً في روافد سابقه، انفتح على مصراعيه في استخدام القياس لمكونات رؤوس الأموال إلى (140) دولة في العالم. كانت النتائج مبهرة، ما يجعلها جديرة بالعرض على المستويين الإقليمي والعالمي (الجدول أدناه):

جدول المساهمة النسبية لرؤوس الأموال (نسب مئوية)

المنطقةرأس المال البشريرأس المال المنتَجرأس المال الطبيعي
• أفريقيا

• آسيا

• أوروبا

• أمريكا اللاتينية والكاريبي

• أمريكا الشمالية

• الأوقيانوس

62

54

44

61

54

49

20

32

50

26

41

31

19

14

06

13

05

21

المعدل العالمي553213

Source – Inclusive Wealth Report, 2014. P. 26

– يُظهر الجدول أن معدلات المشاركة النسبية العالمية لرؤوس الأموال الثلاثة جاءت كالآتي: رأس المال البشري (55 بالمئة)، رأس المالي الطبيعي (32 بالمئة)، ورأس المال المصنّع (13 بالمئة).

– يؤكد التوزيع النسبي لهذه المشاركات محدودية إطار مساهمة النموذج النيوليبرالي باعتباره نموذجاً اقتصادياً/إنتاجياً بحتاً. وهذا دليل صارخ يؤكد إهمال هذا النموذج للأبعاد الاجتماعية والبيئية، لا بل يزيد هدرها.

– أثبتت اختبارات هذا النموذج مع المقارنة، وجود قصور في مكامن حادّة في المقاييس التقليدية وبخاصة الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، وهو مقياس منظومة النيوليبرالية الأوحد. وكذلك محدودية المقياس الآخر، إن يكن في النبع صائباً، وهو «مقياس التنمية البشرية «HDI».

وفي كل هذا السياق للنهج الجديد، فإنه منذ انطلاقته واجه تحدّيات كبيرة، ولمّا يزل، من جملتها:

– أنه في موقع مضاد لفلسفة وتوجهاتها ومصالحها.

– إثباته العلمي والواقعي بمحدودية مساهمة نموذجها السائد في التنمية الكلّية.

– إنّه «يُغرّد» خارج سرب توجيهات الحاكمية الاقتصادية الدولية، وهي أداة النيوليبرالية المركزية في التوجيه والسيطرة.

وهكذا، ليس غريباً أن يصطدم هذا النهج بمحدودية قدرات مالية وإمكانات معرّضة للتطويق، وإهمال متعمد من دور النشر ومؤسسات الفكر والثقافة المسيطر عليها من قبل الأموال والإعلام الدولي الموجّه. تبدو علائم هذا التطويق شبه الشامل على الصعوبات ومحدودية الإمكانات في قدرة أصحابه على نشر التقرير الثالث للثروة الشاملة الذي استحق في 2016 بحرية سوقية تليق به وبرونقه.

5 – الأجندة الأولى التي أصدرتها منظومة الأمم المتحدة عام 2001

أهم الملامح المنهجية في تنظيم الأجندة تضمنت الآتي:

– اعتماد مبدأ «تقسيم العمل» بين الدول النامية والدول الغنية في إطار مبدأ «الشراكة العالمية في التنمية».

– أهم أهداف الأجندة جاءت الهدف (1) المتضمن خفض الفقر إلى النصف، والهدف (8) المتعلق بالدعم المتوقع من الدول الغنية.

– الدول النامية مسؤولة عن تطبيق الهدف (1)، ومرفقاته الأهداف (2 – 7). تتضمن هذه الأهداف العمل في قطاعات داعمة للهدف المركزي، على الصعد التعليمية والصحية ومساواة الجنسين والاستدامة.

– بالنسبة إلى الدول الغنية، فإن مسؤوليتها في الهدف (8) تتضمن المعونة الدولية، تخفيف القروض، تقليص القيود التجارية، وزيادة المساعدات التقنية.

ونظراً إلى الأولوية المطلقة لقضية الفقر (الهدف 1)، فقد تمّ استعراض القضايا المرتبطة لها بإسهاب في ثنايا الفصل منذ بدايتها. وقد دعم هذا التفصيل بعرض الموقع الحيوي لقضية الفقر في ثنايا تقارير التنمية البشرية الدولية حيث استحوذ على موقع مكين فيها.

أما بالنسبة إلى الدول الغنية، فإن العرض تناول أبعاد الهدف (8) ومكوناته ضمن إطار «تطوير شراكة للتنمية عالمية»، كما وردت في رباعية أبعادها. سجل تطور هذا الهدف (الذي يتضمن فعلياً أداء وسياسات الدول الغنية في إطار تنفيذ الأجندة)، يظهر تراجعاً في الدعم والالتزام بالعهود إلى درجة النقض.

المعونة الدولية: بقيت قاصرة عن بلوغ المستوى المطلوب لتنفيذ أهداف الأجندة، حتى دون مستواها الأدنى.

التجارة الدولية: لقد غاب الإنصاف فيها في ممارسات الدول الغنية بشكل واضح. فالهيمنة التجارية بقيت للأقوى، والقيود المفروضة على أسواقها هي الأعلى.

الدين الخارجي: ما زال عبء المديونية الخارجية للدول النامية تجاه الدول والمصارف الأجنبية يشكل عبئاً قاهراً لتنميتها. فلا أمل في إعادة جدولة للديون، ولا تقليص محتمل فيها.

النقل التقني: ما زالت الفجوة التقنية بين مجموعة الدول الغنية والنامية هائلة، وهي في توسع أيضاً. فالدول الغنية تشكل جُلّ ينابيعها، تحيطها بالسرية والكتمان حجزاً للمعرفة حولها، وتُثقل أسواقها بالقيود والضوابط.

باختصار، «الشراكة التضامنية» المعلنة في رحاب الأجندة، بقيت في أحسن أحوالها مرهونة بقرارات الدول الغنية التي جاءت شحيحة كما هي دوماً. لهذا لم يكن حصاد الدول النامية إلّا تطويقاً للنمو الاقتصادي، وبالتالي تعجيزاً في إمكانات الإيفاء بالالتزامات والعقود رغم العهود.

6 – أداء الأجندة إلى وإنجازها

من أجل التوصل إلى خلاصة موقف، فقد اقتضى ذلك تقديم الحوار الهادف على عدة مستويات: العام والمحدد والملتزم.

الحوار العام: انصبّ على عرض الجوانب المتعلقة بعملية التكوين، والهيكل، والمحتوى، والتطبيق.

الحوار المحدد:  الذي ارتبط كليّاً بعرض معضلة «الشراكة الدولية» الواردة في الهدف (8).

الحوار الملتزم: الذي ارتبط بموقع الأجندة في التقارير السنوية الدولية لنهج التنمية البشرية.

وحيث تغيب ههنا جدوى تكرار المواقف الحوارية في كل مفرق، نقدم في هذا الموقع خلاصة مركّزة عن الاتجاهات العامة المرتبطة غالباً بأسبابها:

– من حيث المبدأ، فإن سجل الأداء والإنجاز في تطبيق أهداف الألفية جاء في أحسن الأحوال محدوداً ومقيّداً.

– الأساس الذي تمّ عليه بناء «الشراكة التضامنية الدولية»، جاء في غاية عدم التوازن، وبخاصة من جانب عدم وفاء الدول الغنية لمعظم التزاماتها تجاه الدول النامية.

– الدول النامية، التي أنيط بها تنفيذ الأهداف (1 – 7)، افتقدت قبل كل شيء قدرات وإمكانات تحقيق الأداء ذاتياً.

في الخلاصة، واضح أن جوهر قضية التنمية من خلال تفعيل الأجندة لم تُدرك أبعاده، سواءٌ عن قصد أو عن غير قصد. فالفقر، وهو في صميم القضية المركزية، المهم فيه ليس مجرّد تقليصه أو القضاء عليه، فهذا فقط شرطه ضروري. إنمّا الأعظم هو تأمين أصحاب العلاقة من عدم العودة إليه، وذلكم شرطه الكافي.

في الحالة القائمة، فإن رمزية «احتواء الآثار» كانت مدفوعة بنور الأمل. ولكن ما اكتُشف من خلال استعراض رمزية «تعميق الحوار» في فصلها اللاحق، أن رنين الأصداء قد احتواها الفشل. إن الشك الذي تنامى يشير إلى أن الأجندة، منذ انطلاقتها، أُريد بها أن تولد مشلولة ذاتياً ولا قدرة كافية فيها ولدى داعميها في تسلُّمها لمهمتها. لقد كانت خطوة انتعاش ميمونة، ولكنها أثبتت أنها غير مضمونة. إنه ظرف قد حكم بوجوب اعتماد البديل على صعيد مجهود التنمية الدولية، فكانت ولادة الأجندة الجديدة: أجندة «أهداف التنمية المستدامة».

7 – أجندة «أهداف التنمية المستدامة» الجديدة

لم يكن إعلان اعتماد هذه الأجندة خلفاً لسابقتها أجندة «الأهداف الألفية للتنمية» مجرد حدثٍ روتيني، بل كان فتحاً جديداً بكل معنى الكلمة. فلقد جسّدت تحولاً جوهرياً في كل أبعادها، بدءاً من مرحلة النشوء والولادة إلى الفلسفة والتكوين والمحتوى، ما جعلها تؤسس فعلياً لمسار هو المنار بكل المقاييس. وقد انعكس كل ذلك على ملامحها العامة، ومواقف تقارير التنمية البشرية الدولية في تقييمها تعزيزاً لعلو شأنها.

من ناحية ثانية، ونظراً إلى حداثة عمر هذه الأجندة، فهذا أمر يجعل القيام بتقييم الأداء بعيداً من المقام. ونتيجة لذلك، يكفينا هنا أن نشير إلى ثلاث قضايا، هي: الملامح العامة للأجندة؛ الروابط بين التنمية البشرية والأجندة؛ وإصلاح المؤسسات الدولية وبخاصة الحاكمية الاقتصادية الدولية.

بالنسبة إلى الملامح العامة للأجندات. تؤشر أهمية هذه الملامح إلى «شخصية الأجندة» وسعة وعمق تغطية محتوياتها، بما فيها أنّها: عالمية، تشاركية، إنسانية، مستقبلية، تحوّلية، تضامنية، انتمائية، توازنية، تشاورية، واقعية، حوارية، تعاونية، تشابكية، اندماجية، شمولية.

من ناحية ثانية، فبين نهج التنمية البشرية والأجندة روابط فكرية وتحليلية حيوية منها:

– أن كليهما قاعدته عالمية: نهج التنمية عبر تأكيده إنعاش الحريات لكل كائن حي، وللأجندة بالتركيز على عدم ترك أي شخص في الخلف.

– يشترك كلاهما في ذات المجالات الأساسية في التأكيد: القضاء على الفقر، إنهاء الجوع، خفض عدم المساواة، المساواة الجندرية، وغيرها.

– كلاهما يضع الاستدامة في صميم بنائه وأهدافه.

أما في ما يخص التحولّات الهيكلية في المؤسسات العالمية، فإن تقارير التنمية البشرية منذ بداية إصدارها ما فتئت تدعو إلى ضرورة إجراء إصلاحات جذرية في الكثير من المؤسسات الدولية، وبخاصة الحاكمية الاقتصادية الدولية المكونة أساساً من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. تستند الدعوة للتغيير هنا إلى دافعين مركزيين دعماً لأداء ونجاح تطبيق أجندة «أهداف التنمية المستدامة». وهذه الدعوة تزداد أهمية لعمق ارتباط هذه الحاكمية ومنظماتها بتنضيج وتبرير ومتابعة تنفيذ متطلبات الهيمنة النيوليبرالية. فالوقائع تشير بوضوح إلى أن هذه المنظمات تقع في توجيهات سياساتها تحت التاثير المباشر للدول الغنية الكبرى ما يجعل حوكمة العولمة الاقتصادية حالة بعيدة عن التوازن والعدالة، ودوماً تميل لإرضاء مصالح هذه الاقتصادات. يقابل هذا قصورها في استغلال إمكانات المجتمع المدني العالمي.

8 – صناديق الثروة السيادية

تتعلق القضية المهمة هنا بدور هذه الصناديق أثناء الأزمة الائتمانية والمصرفية العالمية التي انطلقت في الاقتصاد الأمريكي في 2007، وانتشر تأثيرها في عدة من الدول الأوروبية بخاصة.

ابتداءً، هذه الصناديق هي مؤسسات مالية تتمتع بالسيادة لكونها حكومية، تتجمع لديها موارد مالية فائضة عادة عن الحاجة الوطنية، فتقوم باستثمارها في الأسواق المالية الدولية سعياً وراء المردود المناسب.

بدأت أهمية هذه الصناديق تتعاظم منذ مطلع هذا القرن، حيث زادت أعدادها ومواردها بصورة كبيرة حتى أضحت لاعباً دينامياً في الأسواق المالية الدولية. هذا السجل المرموق كان كافياً لإثارة حفيظة العديد من المواقع الرسمية والخاصة. ولكن الذي فجّر الموقف وأثار المخاوف وحتى الرعب من هذه الصناديق هو وقوع الأزمة والدور الحاسم لها فيها الذي أدّى إلى احتواء آثارها.

كانت الأزمة المالية في الاقتصاد الأمريكي عنيفة وسريعة وجادة؛ حتى وصل الأمر إلى تهديدها بانهيار النظام المالي الأمريكي برمَّته وبالتالي العالمي. غير أن دينامية وسلوكية هذه الصناديق وقيامها بتقديم الدعم المالي الضخم إلى العديد من المؤسسات المالية والبنوك الأمريكية المرموقة، شكّل عامـلاً حاسماً في وقف الانهيار المحتّم. ولكن أغلبية ردود الفعل جاءت مثيرة للدهشة. فبدلاً من أن تحظى هذه الصناديق بالثناء والشكر، فإنها تعرّضت لحملة واسعة من الاتهامات والإدانة لسياساتها الاستثمارية والادعاء بمحاولاتها الاستحواذ والسيطرة على مرافق اقتصادية وحيوية أمريكية وغيرها.

ورغم ثبوت عدم صدقية هذه الادعاءات، غير أن استمرار الضغوط والاتهامات دفعت الكونغرس الأمريكي في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2007 إلى التحقق من الأمر. أعقب ذلك كما يبدو تدخل لتوجيه صندوق النقد الدولي لتدبير الأمور. وبعد اجتماعات متعددة، وبتوجيه شامل ومتواصل من الصندوق، أصدر هذا مجموعة «القواعد السلوكية» وعددها 24 قاعدة في تشرين الأول/أكتوبر 2008، وأردفها بمجموعة مبادئ لكل من الصناديق والدول المضيفة.

العبرة هنا، أن عمق وكثافة المبادئ والقواعد والإجراءات المؤسسية المرتبطة بها من تنظيم ورقابة ومتابعة، قد شكلّت في مجموعها بحق «كمّاشة تطويق» لا سابق لها. إنها تُمثّل فعلياً عملية كبرى للإخضاع غير مسبوقة، تتحكم بها نفثات النيوليبرالية، قلباً وقالباً. كل هذا يعزز القناعة بدوام الصراع بين فلسفة النيوليبرالية المصلحية، وانطلاقة الحرية الإنسانية في نطاق آفاق تنميتها المستدامة، البشرية والمادّية.

9 – أهم مَواطن الضعف والسلبية في النموذج النيوليبرالي السائد

كانت الثمانينيات شاهداً على بداية بروز الهيمنة الجارفة للنموذج النيوليبرالي. حينها عاشت الإنسانية فراغ وجود تملؤه المعاناة. هذا كان ظرفاً غابت فيه المواجهة. ولكن في مطلع التسعينيات وبصدور نهج التنمية البشرية تبدلت الأمور. فلقد شهدت هذه المرحلة وما بعدها بداية الاصطفاف المقابل للاجتياح النيوليبرالي. ومنذ ذلك الحين، توالت حركات التصعيد لكلا الطرفين.

المسار النيوليبرالي، ومن بعد تراكم تجارب وترصين مواقع، وجد ضالته في منظومة «الحوكمة الجيدة»، فركن عليها قلعته. لا تتعلق القضية هنا بالحوكمة الجيدة بحدِّ ذاتها، فتلك وسائل وأدوات مطلوبة في كل مجتمع واقتصاد فعّال؛ إنما لأنها قد استُغلت واستُخدمت إلى أقصى مداها لتحقيق مآرب النيوليبرالية، كما حصل للعولمة. في المقابل، توسعت قواعد الجبهة الإنسانية وهي الأشمل، بحيث باتت ركائزها تتعدد ولكنها جميعاً تسقى من بحيرة عطاء واحدة وهي نهج التنمية البشرية، تحدوها الاستدامة سنداً مكيناً.

تشير القناعة القائمة اليوم – بلا شك – إلى أن مواقع النيوليبرالية تتجه نحو الانحسار، بحكم تراكم محددات البقاء وارتباك ممارساته التطبيقية. ورغم ذلك، تبقى حالة «توازن التناقض» قائمة: النيوليبرالية تمتلك الهيمنة السلطوية؛ ولكنها تفتقد العقلانية. يقابلها النهج الذي يطفح بالخير والإصرار، ولكنه يفتقد ممارسة موقع القرار.

ذلكم للإنسانية قدر وأمل، وما تحتاجه هو دوام الإصرار والعمل.

 

قد يهمكم أيضاً  قراءة سريعة في الأيديولوجيات السائدة في العالم والوطن العربي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التيار_الإنساني #الإنسانية #النيوليبرالية #المسار_النيوليبرالي #التنمية_الإنسانية #إقتصاد #دراسات