مدخل:

بعد الثورات العربية، ناقش الأكاديميون الدور الذي أدّاه الإعلام الاجتماعي في هذه الثورات. وركّزت أغلب المناقشات على مصر وتونس، في حين أنها غضّت النظر عن الدول الأخرى مثل لبنان، على الرغم من أنه يقدّم تجربة غنية ويتمتع بمجتمع مدني حيوي. وعليه، تبحث هذه الدراسة في النشاط الرقمي (Digital Activism) في لبنان، ولا سيَّما من حيث إطاره الاجتماعي والسياسي الفريد وموقعه الرائد في المنطقة وميله المتزايد نحو النشاط الرقمي. وتتقصّى الدراسة كيفية استخدام الناشطين للإعلام الرقمي والاجتماعي والمنافع المُحققة وأعباء هذه المنصات، وهي مسألة لم تتطرّق إليها البحوث[1].

في هذه الدراسة، يشير «النشاط الرقمي» إلى استخدام التقنيات الرقمية لتسهيل التغيير في المجالات السياسية والاجتماعية[2]. وتشمل هذه الأدوات الإنترنت وتطبيقاته المختلفة والهواتف الخلوية وغيرها من الآلات الرقمية. وتشمل عبارة «منظمات الحركات الاجتماعية» المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والناشطين. أما «الحركات الاجتماعية» فهي نشاطات تهدف إلى تغيير الأنظمة الاجتماعية أو العلاقات الاجتماعية[3].

أولاً: الإطار النظري

يبدأ هذا الجزء بإطار نظري للدراسة يتمحور حول نظريات «الحركات الاجتماعية» وعلاقتها بالإعلام، ثم يناقش العوامل الثلاثة الأساسية التي تتصل بالإعلام (فرص التأطير، هياكل التعبئة، هياكل الفرص) وصِلتها بالواقع اللبناني. وقد درس العديد من فروع العلوم الاجتماعية تأثيرات تقنيات الإعلام الجديد في الحركات الاجتماعية. وذكر «غاريت»[4] الإطار النظري، الذي يرتكز على إطار «ماك آدام وماكارثي وزالد»[5] الشائع استخدامه، في محاولة لتوحيد الدراسات والأساليب المختلفة في نطاق أدبي موحد. وتعتمد هذه الدراسة الإطار نفسه الذي يشرح الحركات الاجتماعية من خلال «ثلاثة عوامل مترابطة: فرص التأطير، وهياكل التعبئة، وهياكل الفرص»[6]. تشمل «هياكل التعبئة» المنظمات والعلاقات الرسمية وغير الرسمية وأشكال التظاهرات المألوفة التي تسمح للناس بالتجمّع في حركات اجتماعية. أما «هياكل الفرص» فهي هياكل وفرص سياسية تسهّل أو تقوّض حركة ما. وأخيراً، تشير «فرص التأطير» إلى الجهود والإجراءات الجماعية المعنية في تفسير الأحداث والترويج للأفكار وبناء الحقائق وتوحيد الرؤى ووجهات النظر وانتقاد الخطابات المتعارضة.

1 – فرص التأطير: بيئة الإعلام اللبنانية المتنوّعة والرأي العام المقسّم

لطالما عانت حرية التعبير والتجمع والحق في المعارضة القمع في أغلبية البلدان العربية. وترى منظمة «فريدوم هاوس»[7] أن كل البلدان في المنطقة «ليست حرة» باستثناء الكويت ولبنان والمغرب، التي تُعتبر «حرة جزئياً». وبغض النظر عن المصدر المثير للجدل، فمن الصعب إنكار أن أغلبية الحكومات العربية منغلقة وسُلطوية وقمعية، وإن بدرجات متفاوتة[8]. في المقابل، يضمن النظام السياسي في لبنان حريات مدنية أكبر. غير أن هذه الحريات تبقى مقيّدة بسبب الفساد السياسي والاقتصادي المستشري والناجم عن التحالفات السياسية المتحيزة طائفياً وعائلياً[9]. وبحسب مؤشر الفساد، يحتلّ لبنان الموقع 134 من 183 دولة[10].

لكن لا تصِلُ الرقابة في لبنان إلى المستويات الصارمة كما في أكثر الدول الإقليمية، غير أن أكثر الصحافيين والمدوِّنين يمارسون الرقابة الذاتية[11]. ويتمتع لبنان بحرية صحافة قديمة العهد، على الرغم من ارتباط وسائل الإعلام كافة بمجموعات سياسية وطائفية[12]، وهو ما يترك فرصاً محدودة للترويج للأفكار المستقلة أو انتقاد الخطابات المتعارضة دون أن تبدو موالية لطرف ما. إلى ذلك، وفي حين يضمن الدستور الحرية الدينية، يستشري التمييز الديني. وتنظِّم الانتماءات الطائفية الشؤون اليومية والحياتية[13]، فتتمتع كلّ طائفة بقوانينها الخاصة التي ترعى شؤون العائلة والأحوال الشخصية[14]، في غياب قوانين وقوىً علمانية قوية في الدولة، الأمر الذي يؤدّي إلى بيئة طائفية وفضاء عام (Puplic Sphere) مجزإٍ إلى فضاءات عامة طائفية أصغر[15]، قلّما تتفاعل، على الرغم من المصالح المشتركة التي تجمعها. يفرض هذا الفضاء العام المجزأ، وهذه البيئة الإعلامية الحزبية، على المواطنين تفسير أيّ مسألة وطنية أو محلية من خلال منظور طائفي، الأمر الذي يحدّ فرص التأطير للناشطين الذين يعالجون المسائل العامة غير الحزبية وغير الطائفية.

2 – هياكل التعبئة في لبنان: المجتمع المدني وقضاياه

يشكّل الشباب بين 15 و24 سنة شريحة عمرية متنامية تصل إلى نحو 19.5 بالمئة من السكان[16]. ويرافق هذا النموّ السكاني الشبابي توسّعٌ أيضاً في المجتمع المدني. ففي عام 2005، تخطّى العدد الرسمي للمنظمات غير الحكومية في لبنان 3500 منظمة[17]. يوازي هذا العدد المرتفع للمنظمات، في بلد عدد سكانه أربعة ملايين نسمة، عدد المشاكل التي تعترض الشباب. ففي السنوات الأخيرة، احتشد مئات الآلاف من اللبنانيين للتعبير عن دعمهم أو معارضتهم للحكومة. كما انتشرت التظاهرات والتجمعات لدعم الحقوق المدنية وحريات المواطنين وغيرهم ممّن يعيشون أو يعملون في لبنان. وتقدّمت منظمات الحركات الاجتماعية المحلية، التي تعمل بشكل منفتح وقانوني، العديد من هذه الاحتجاجات التي تراوح بين حقوق المرأة، وحقوق اللاجئين، والمطالبة بخفض تكلفة استخدام الإنترنت وغيرها.

وفي حين تتمتع المرأة اللبنانية بالكثير من الحقوق المشابهة للرجل، فإنها تعاني التمييز الاجتماعي والقانوني المتمثّل أهمها بالقوانين التمييزية التي ترعى الزواج والطلاق والإرث وحضانة الأطفال[18]. فلا تستطيع المرأة اللبنانية المتزوجة من غير لبناني منح جنسيتها إلى زوجها أو أطفالها، وهي لا تحصل على مخصصات الضمان الاجتماعي نفسه الذي يحصل عليه الرجل[19]. وغالباً ما يكون تمثيل المرأة متدنياً في المناصب السياسية وقطاع الأخبار[20]. إضافة إلى ذلك، لا تحمي القوانين الحالية المرأة من العنف الأُسري المستشري، أو الاغتصاب الزوجي، ولا توجد قوانين فعّالة تحمي المرأة من التحرش الجنسي ولا حتى من الاغتصاب. وحتى الآونة الأخيرة، كان الرجال المحكوم عليهم بارتكاب جريمة شرف بحقّ المرأة يحصلون على أحكام مخففة، هذا إن صدر حكم قضائي أصلاً[21].

وبموجب القانون اللبناني، يملك اللاجئون والأقليات والعمال المهاجرون حقوقاً قليلة. وعلى الرغم من إحراز بعض التقدّم لمواجهة الاعتقال التعسفي والتعامل غير الإنساني، لا يطبّق المسؤولون الأنظمة ذات الصلة[22]. ويُحْرم اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، والبالغ عددهم 350 ألف تقريباً، الجنسية والحقوق المدنية، ويعانون قيوداً صارمة مفروضة على العمل وبناء المنازل وشراء الأراضي[23]. ويواجه العمال المهاجرون، ولا سيَّما العاملات المنزليات، الاستغلال اليومي والإساءة الجسدية والنفسية والجنسية. وقد كشفت منظمة هيومن رايتس ووتش[24] أن أكثر من عاملة منزلية واحدة تموت أسبوعياً في لبنان.

وفي الوقت الذي تعمل أغلبية منظمات الحركات الاجتماعية بشكل منفتح وقانوني، يختلف الوضع لدى المجموعات اللبنانية التي تدافع عن حقوق المثليين (LGBTQ)، لأن المثلية الجنسية لم تزل غير قانونية. غير أنّ هذه الحركات تعبّر صراحة عن رأيها وتسوّق قضاياها علانية، ويتمتع المثليون بنسبة حرية مستحيلة في البلدان العربية الأخرى[25].

إلى ذلك، تثير البنية التحتية الهشة والاقتصاد الضعيف في لبنان احتجاجات شعبية متقطّعة. فما زالت الحكومة تعتمد التقنين في توزيع المياه والكهرباء، وتجذب التكلفة المرتفعة وبطء خدمات الإنترنت والاتصالات نقداً واسعاً[26]. وقد أطلق موظّفو القطاعين العام والخاص سلسلة من الإضرابات خلال السنوات القليلة الماضية، كما نددت الإضرابات العمالية بارتفاع تكلفة المعيشة والتضخم وتدنّي الحد الأدنى للأجور وغياب فرص العمل والأمن الوظيفي.

أما المشاكل الأخرى فلا تتمتع بالأهمية نفسها، مثل حماية البيئة والمحافظة على المواقع الأثرية الثقافية، لكنها تشهد دعماً متزايداً.

على الرغم من العيوب الكبيرة في السياسات والتشريعات الحكومية، يتمتع لبنان ببيئة مؤاتية للنشاط. فالتوازن السياسي الحساس بين مختلف الطوائف يضمن استدامة مساحات الحرية، ويقدّم التاريخ المرموق للمجتمع المدني اللبناني تراثاً حيويّاً ونقطة انطلاق صلبة للنشاط المدني في المستقبل. وتشير هوامش الحرية الواسعة، مقارنة بالدول الأخرى، وعدد الشكاوى الكبير وعدد منظمات الناشطين وجيل شباب ثائر وماهر في استخدام الإعلام الرقمي والاجتماعي؛ إلى تأسيس مجتمع مدني متين ونشاط رقمي فعّال.

3 – هياكل الفرص في لبنان: البيئات الرقمية والقانونية الممكِّنة والمعطّلة

يضمّ الوطن العربي نحو 60 مليون مستخدم للإنترنت، وتصل التقديرات إلى 100 مليون مستخدم بحلول العام 2015‏[27]. غير أن الدراسات أظهرت أن مستخدمي الإنترنت هؤلاء يهتمّون أكثر بالتشبيك والترفيه منه بالنشاط السياسي. ووجد ملكي[28] أن 5 بالمئة فقط من الشباب في لبنان والأردن والإمارات استخدموا الإعلام الاجتماعي للنشاط السياسي، في حين أن 84 بالمئة منهم استخدموه للتسلية والتواصل مع الأصدقاء. على الرغم من ذلك، يشكّل استخدام الإعلام الرقمي في الثورات في الوطن العربي جزءاً من الزيادة المضطردة للنشاط الرقمي[29].

تشير التقديرات إلى تخطّي مستخدمي الإنترنت في لبنان نسبة 61 بالمئة من عدد السكان[30]، وهو ما يضع لبنان فوق متوسط معدل الاختراق العربي بنسبة 24.9 بالمئة[31]. يأتي معدل الاختراق المرتفع نسبياً بتكلفة عالية وسرعة متدنية. على سبيل المثال، ومنذ عام 2012، تمتّع أقل من 9.71 بالمئة من السكان بإنترنت عريض النطاق[32]. ويحتل لبنان المرتبة 163 في سرعة التنزيل والمرتبة ما قبل الأخيرة في التحميل من أصل 174 دولة[33]، في حين تبقى خدمات الإنترنت مكلفة وغير متوافرة في كل المناطق[34]. على الرغم من ذلك، يستخدم 98 بالمئة من اللبنانيين المتصلين بالإنترنت الإعلام الاجتماعي[35]، وقدّمت مبادرة حكومية في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 الجيل الثالث للهاتف الجوال، وخفضت قليلاً تكلفة الإنترنت، في محاولة بسيطة للحاق بالعديد من البلدان العربية التي تقدّم خدمات إنترنت أفضل وأقل تكلفة.

وتحصل نسبة حرية الإنترنت في لبنان بحسب مقياس «فريدوم هاوس» على 45/100 «حر جزئياً» في غياب حجب المواقع الإلكترونية أو مراقبتها[36]. كذلك، إن الحرية الأكاديمية وحقوق حرية تأسيس الجمعيات والتجمّع غير مقيدّة[37]. مع ذلك، تمنع قوانين الإعلام اللبناني إهانة رئيس الجمهورية، إذ اعتقلت السلطات العديد من الأفراد الذين عبّروا عن آراء اعتُبرت مهينة بحقّ السلطات الحكومية[38]. وارتفعت نسبة هذه الحالات مؤخراً، وهي تخلق اعتراضات عامة غالباً ما تؤدّي إلى إطلاق سراح المعتقل.

لذلك، يتمتع لبنان بمساحة الحرية اللازمة لتأمين بيئة عامة إلكترونية ناشطة، ولكنها مجزأة وتعاني عوائق تكنولوجية وبعض القيود القانونية، وهي بيئة تثير تساؤلات خاصة حول النشاط الرقمي اللبناني. وعليه، طرحت الدراسة السؤال التالي: ما هي المنافع والسلبيات المدرَكة الناتجة من استخدام الإعلام الرقمي والاجتماعي في النشاط المدني في لبنان؟

ثانياً: المنهجيّة

استخدمت الدراسة «مجموعات التركيز» (Focus Group) والمقابلات المعمّقة مع أعضاء من عدد من منظمات الحركات الاجتماعية اللبنانية، مستعملة «العينات الغرضية» (Purposive Sampling)، حيث أجرى الباحثون مقابلات فردية مع نخبة من 32 فرداً من 23 منظمة من الحركات الاجتماعية. شملت منظمات الحركات الاجتماعية عيّنة تمثيلية عن القضايا المدنية التي يُسلّط الضوء عليها في لبنان، وجرت المقابلات في المقارّ الرئيسية للمنظمات. إلى ذلك، عقد الباحثون مجموعات تركيز تضمنت سبع منظمات. وامتدّت عملية جمع البيانات سنة كاملة انتهت عام 2012. تألّفت أدوات المقابلة من 15 سؤالاً توجيهياً لتسليط الضوء على أدوات الإعلام الاجتماعي التي استخدمتها المنظمات ومنافعها وسيئاتها. وتضمنّت أسئلة مجموعة التركيز المسائل الرئيسية التي ظهرت في المقابلات للحصول على قضايا وأمثلة ملموسة. وبعد نقل سائر المعلومات وتنقيح البيانات، أجرى الباحثون مراجعة للبيانات عبر تحليل استقرائي لتحديد المواضيع البارزة[39]. وفي حين تمثّل فئات القضايا قيد الدراسة المشاكل الكبرى التي يُسلّط الضوء عليها في لبنان، لا يمثّل المشاركون كل منظمات الحركات الاجتماعية اللبنانية.

 

ثالثاً: النتائج: المنافع والأعباء المدركة للإعلام الرقمي والاجتماعي

عند دراسة منافع وسلبيات استخدام الإعلام الاجتماعي للنشاط المدني، وجدت الدراسة تداخلاً بين منظمات الحركات الاجتماعية. تنجم هذه الأفكار عن الخصائص الأساسية لمنصات الإعلام الجديد[40]، في حين تعود أخرى إلى الوسط السياسي والثقافي في لبنان.

1 – منافع الإعلام الرقمي والاجتماعي

يحقق الإعلام الاجتماعي والرقمي منافع مهمّة لمنظمات الحركات الاجتماعية في لبنان، ترتبط بشكل أساسي بالإعلان والتواصل والتنظيم والتعاون وجمع التمويل والمحاسبة والحصول على المعلومات وتفادي الرقابة.

أ – تحقيق انتشار فوريّ غير مكلف

ترى منظمات الحركات الاجتماعية في لبنان أن تحقيق انتشار سريع في الإعلام التقليدي والرقمي على حد سواء هو أفضل ما يمكن للإعلام الرقمي تقديمه. وتعتبر المجموعات الناشئة، وبخاصة هذه الأدوات، قيّمةً ولا سيَّما عندما تستهدف الناشطين الشباب. تسمح المنصات الرقمية للناشطين بالوصول إلى جمهور أوسع بتكلفة متدنية، وخصوصاً الشباب الذين يعتمدون أكثر فأكثر على الإعلام الإلكتروني[41]. فيؤكّد ناشط في منظمة روّاد (Frontiers) لدعم حقوق اللاجئين، أن الشباب اللبناني «لا يقرأ الصحف ويلجأ إلى المصادر الإلكترونية أكثر». أما جمعية الخط الأخضر البيئية فتعتبر أن «الانتشار عبر الإعلام الاجتماعي يسمح لنا بالوصول إلى جمهورٍ شابٍ عجزنا عن الوصول إليه سابقاً». ويتسّم الانتشار بأهمية أكبر بالنسبة إلى المنظمات الناشئة، فيقول مؤسس فريق عمل العمال المهاجرين (Migrant Workers Task Force)، «نحن اليوم منظمة جديدة وصغيرة ولا نملك المال للترويج لنفسنا، غير أننا تمكنّا من تحقيق الانتشار مباشرة عبر الإعلام الاجتماعي». يشمل داعمو المنظمة ناشطين دوليين، وهو أمر ما كان ممكناً من دون الإعلام الاجتماعي. إلى ذلك، تسمح المنصّات الرقمية للناشطين بالوصول إلى جمهور تمثيله متدنٍ وفي مناطق يصعب الوصول إليها. تاريخياً، تركّز النشاط في بيروت وواجهت المنظمات صعوبة في الوصول إلى المناطق الريفية. أما اليوم، «فبات بالإمكان بلوغ الملايين، ولا سيَّما الذين يعيشون خارج بيروت».

وغالباً ما يساعد الإعلام الاجتماعي المنظمات على استقطاب تغطية الإعلام التقليدي محلياً ودولياً، حيث حقق الناشطون لحقوق المرأة تقدماً كبيراً عام 2011 بمساعدة الإعلام الاجتماعي. فمن أجل الاحتفال بالذكرى المئوية ليوم المرأة، مورست عدّة نشاطات بما فيها حملتا توعية، وأعلنت منظمة «نسوية» عن المشاريع عبر وسائل الإعلام الاجتماعي بشكل شبه حصري. وعلى الرغم من عدم كثافة المشاركين، استحوذت المشاريع على تغطية إعلامية دولية ومحلية كبيرة. وتعتمد مجموعات حقوق المرأة بشكل مكثّف على الأدوات الإلكترونية لحفز الحوار في المجتمع. وأدّى التأثير التراكمي، إلى جانب الدعاوى القضائية، إلى نجاحات كبيرة، مثل تطبيق عقوبات أقسى على جرائم الشرف عام 2011‏[42]، وإدخال مشروع قانون يحمي من العنف الأسري إلى جدول البرلمان[43].

بالتوازي مع ذلك، أطلقت جمعية حيوانات لبنان حملة عام 2010 لإقفال سيرك اتُّهِم بسوء معاملة الحيوانات. أطلقت المجموعة حملة على فايسبوك وقائمة بريدها الإلكتروني وموقعها الإلكتروني، ونجحت في إقفال السيرك لمدّة شهر. والأهم من ذلك، أن الدعاية التي أحاطت بالحملة جذبت انتباه الإعلام المحلي والدولي، وحظيت بدعم واسع من مجموعات المدافعة عن حقوق الحيوانات، الأمر الذي أدّى إلى إصدار أول تشريع لحماية حقوق الحيوان في لبنان. وعام 2011، رفعت المنظمة مسودة القانون إلى وزير الزراعة[44] وبدأت الحملة عبر وسائل الإعلام الاجتماعي لجمع 25 ألف توقيع لدعم القانون في البرلمان. وفي غضون أسابيع، أنجزت العريضة التواقيع، التي أتى أكثر من نصفها عبر الإنترنت.

إلى ذلك، تعزو منظمة تبادل الإعلام الاجتماعي (SMEX) نجاح المجهودات التي بُذلت عام 2010 لوقف التصويت في البرلمان على قانون التعاملات الإلكترونية إلى استخدام المدوّنات الإلكترونية. كان هذا القانون يهدف إلى تنظيم التعاملات الإلكترونية، غير أن الكثيرين رأوا أن نطاقه الشاسع وصيغته المبهمة يهددان حرية التعبير الإلكترونية وينتهكان خصوصية الإنترنت[45]. إلى جانب الإعلان عن المسألة على الموقع الإلكتروني، كتب أعضاء المجموعة، وغيرهم من المنظمات، مدوّنات إلكترونية مفصّلة عن هذا القانون. استقطبت المدوّنات المتعددة جمهوراً أوسع وروّجت للمسألة في عدّة منتديات نقاش ووسائل إعلام اجتماعي، وجذب الإعلام الإلكتروني انتباه الإعلام الدولي ومن ثم الإعلام المحلي الذي غضّ النظر عن المسألة في البداية. وفي غضون 24 ساعة، بدأت ترد أسئلة من السياسيين الذين تساءلوا عن السبب وراء عدم تمرير القانون. نتيجة لذلك، تم تأخير التصويت عليه.

ب – التواصل بسهولة مع جمهور واسع بأساليب ولأغراض متعددة

تعدّ منظمات الحركات الاجتماعية اللبنانية سهولة ونطاق وتعدّد أغراض وأساليب وسائل الاتصال منافع مهمة للإعلام الرقمي، تسمح لها بتقاسم المعلومات بطرق لم تكن واردة سابقاً مستخدمة إياها لأهداف متعددة. ينطبق ذلك حتى على الاستخدامات البدائية للإعلام الإلكتروني. في هذا الإطار، يعترف مؤسس حملة الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان أن وجودها على الشبكة يقتصر على موقع إلكتروني. على الرغم من ذلك، «فإن سهولة التواصل الفوري والمباشر كأداة للمناصرة لا تُقدَّر بثمن، من تقاسم الصور والمستندات والدراسات، إلى التحادث وتعميم الرسائل». وتقدّم هذه المزايا العامة منافع كبيرة في لبنان نظراً إلى أن التطرّق إلى حقوق اللاجئين الفلسطينيين يغيب عن الإعلام التقليدي[46].

إلى ذلك، تسمح مرونة الإعلام الرقمي بتنوّع استخدامات الإنترنت وعدم الاكتفاء باستخدامه لنشر المعلومات. فيسمح للناشطين بتعزيز صدقية التواصل وبمُحاسبة المسؤولين والصحافيين. فتعتبر مجموعة «أُنطُرنت» (Ontornet)، التي تروّج لإنترنت أسرع بتكلفة أقل، هذه الميزة ذات أهمية قصوى؛ «فعندما نجتمع بالسياسيين، نسجّل كلّ شيء وننقله مباشرة على تويتر. فنجمع سجلاً لا يمكنهم إنكاره ونحقق مصداقية أكبر مع تقاسم المعلومات في الوقت نفسه، ما يتم حفظه في الأرشيف لاستخدامه في المستقبل». ويكرّر ناشط سوري يعيش في لبنان هذه المنافع: «تتواصل معنا غالبية الصحافيين اليوم عبر تويتر. نُجري مقابلات كاملة عبرها ويستطيع الناس رؤية الأسئلة والأجوبة مباشرة»، فتقدّم هذه الآلية مراقبة للإعلام تلقائية تشجع على الدقة في الصحافة، ولا سيَّما في الوضع السوري، حيث تحوّل معظم وسائل الإعلام إلى الترويج[47].

إلى ذلك، يفتح الإعلام الاجتماعي والمدونات حواراً أكثر ثراءً يؤدّي فيه الناشطون دور الوسطاء بين المسؤولين والرأي العام. ويؤكّد الناشطون في أُنطُرنت: «لا نكتفي فقط بطرح أسئلتنا، بل نطرح الأسئلة التي يردّدها الجميع». ويشدد كاهن وكيلنر[48] أن المدونات الإلكترونية تجعل من فكرة شبكة دينامية وحوار ونقاش وتعليق مستمر أمراً مركزياً، وتسلّط الضوء على تفسير وتعميم المعلومات البديلة والتفاعل المتواصل. وهنا، يشرح المسؤول الإعلامي في جمعية كفى: «تفسح لنا المدونات الإلكترونية المجال للشرح والتفاعل أكثر من الموقع الإلكتروني التقليدي».

ج – التنظيم الداخلي والتعاون الخارجي وتقوية العلاقات

تعتمد المنظمات على الإعلام الاجتماعي لتنظيم المشاريع داخلياً وبناء التحالفات والتعاون في المبادرات المشتركة وتقوية العلاقات مع الداعمين. ففي إطار التنظيم اليومي، تملك مجموعة (Flip The Switch)، التي تناصر من أجل إنترنت أسرع وأقل تكلفة، حسابين على موقع فايسبوك، «صفحة خاصة لعقد الاجتماعات والتنسيق داخلياً، وصفحة عامة حيث يعبّر الناس عن دعمهم». وتركّز عدة منظمات على أهمية أدوات الإعلام الاجتماعي في تقوية العلاقة مع الداعمين وتعزيز التزام المتطوّعين عبر تقديم ملاحظات مستمرّة. فتؤكد صحيفة حبر الشبابية، ومبادرة «AltCity» للإعلام الاجتماعي، أنه على مدة سنتين تولّى مؤسسو حبر إدارة صحيفة إلكترونية من دون التعرّف سابقاً إلى الكتّاب المتطوّعين والمدوّنين شخصياً. بالتوازي مع ذلك، تؤكد منظمة (SMEX) أن وجودهم الإلكتروني ساهم ليس فقط في زيادة عدد المتطوّعين والمتدرّبين، بل في تقوية العلاقات معهم. «تستمرّ الأرقام بالتزايد وتعزّزت معها أهمية العلاقات» إلى درجة اضطرت «المنظمة إلى توسيع مجموعتها التي لا تبغي الربح إلى هيكل مختلط عبر تأسيس فرع يتوخى الربح، الذي يدعم اليوم ويموّل الذراع التي لا تبغي الربح».

إضافة إلى ذلك، تستخدم بعض منظمات الحركات الاجتماعية الإعلام الاجتماعي لبناء تحالفات والتنسيق مع منظمات أخرى[49]، لكن النتيجة لم تكن دائماً إيجابية، لأن التنافس على التمويل وكسب التقدير غالباً ما يقوّض التعاون. ويقول منسّق التواصل في منظمة «نحو المواطنة» إن التعاون بين المنظمات ضروري جداً لأن أغلبية النشاطات تتداخل، ولطالما كانت أفضل النتائج ثمرة جهود التعاون. ويعزو الناشطون النسويون في لبنان النجاح النسبي لحركة حقوق المرأة إلى التزام بالعمل الجماعي. من جهة أخرى، تضع غالبيّة المنظمات فشل الحملة المناهضة للطائفية على التقسيم داخل الحركة. فقد نظمت الحركة عام 2011 عدّة مسيرات وتظاهرات استقطبت معارضين من مختلف المناطق اللبنانية، ضمّ أكبرها 10 آلاف مشارك[50]. دلّت هذه الزيادة الأولية في الأرقام على اتساع الحركة. غير أن المشاركة في التجمعات التالية كانت ضئيلة وطرحت أسئلة حول استدامة الحركة. ووصلت الحركة إلى طريق مسدود بعد تأسيسها بسبب تقسيمها والصراع الداخلي على الأهداف والاستراتيجية والتنازع على القيادة وكسب التقدير[51].

على الرغم من ذلك، تركّز المنظمات التي نجحت في تأسيس تحالفات ناجحة على أهمية دور الإعلام الاجتماعي في تقوية هذه التحالفات، حيث أجرت جمعية الخط الأخضر عام 2011 عدّة نشاطات في اليوم العالمي للبيئة في ثلاث مدن لبنانية وتعاونت مع ثلاث منظمات أخرى دون الاجتماع بها شخصياً.

د – تعزيز التمويل والمحاسبة

تعي غالبيّة المنظمات أن الجهات الممولة تزداد تمييزاً وحرصاً بسبب ارتفاع عدد المنظمات وسهولة تأسيسها[52]. ولكن، يزعم كثرٌ أن الحضور الرقمي يزيد صدقية المنظمة ويسمح للمانحين بمتابعة عملها. فيؤكد الشريك المؤسس لجمعية «كُن هادي» أن حضوراً إلكترونياً قوياً يبرهن عن جدية المنظمة: «نحصل على تمويل إضافي لأن نشاطاتنا لحظية وتحقق نتائج ملموسة». ومع أن الناشطين يعُون أن الإعلام الرقمي لا يمكنه أن يحلّ محل وسائل جمع الأموال التقليدية، يؤمن العديد أن الحضور الإلكتروني يعزز مقترحاتهم. في المقابل، تؤدّي السهولة النسبية لتأسيس حضور إلكتروني إلى زيادة التنافس على التمويل ما يعوّق التعاون بين المنظمات.

هـ – تفادي الرقابة وتسهيل الوصول إلى المعلومات

على الرغم من تدني الرقابة نسبياً في لبنان، يسمح الفضاء الرقمي لمنظمات الحركات الاجتماعية بتفادي الرقابة على مواضيع حساسة مثل حقوق الفلسطينيين وحقوق المثليين. فتقول حملة الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان إن الإعلام التقليدي ينقّح بياناتهم الصحفية لفرض الرقابة على بعض المواضيع الحساسة[53]. ولكن تقوم المجموعة بنشر نسخ غير منقحة إلكترونياً، تتضمّن لغة أقوى وصوراً لافتة. وغالباً ما تواجه بعض المبادرات الثقافية والفنية الرقابة أيضاً. فيقول ناشط في «أشكال ألوان» إن «مستوى الرقابة على الأفلام والموسيقى والكتب والمسرح مفاجئ. يساعدنا الإعلام الرقمي على مواجهة جهود الرقابة التي يبذلها أفراد الأمن العام الذين ما زال بعضهم غير مثقف رقمياً».

ويساعد الإعلام الرقمي على الوصول إلى معلومات ووثائق لدعم قضاياها، ولكن بشكل محصور، وبخاصة إذا كانت المعلومات من الدولة أو من مؤسسات لبنانية. فيشتكي الناشطون من غياب قوانين لحرية الوصول إلى المعلومات والوثائق العامة، على الرغم من رفع عدّة مشاريع قوانين إلى البرلمان خلال السنتين المنصرمتين[54]. وتشتكي منظمة «نحو المواطنة» أنه «من الصعب جداً الحصول على معلومات من الحكومة، ولا سيَّما في ظلّ الإجراءات الطويلة والبيروقراطية الصارمة». حتى المعلومات العامة المفروضة بالقوانين المحلية، مثل سجلات ملكية الإعلام، لا تتوافر إلكترونياً للرأي العام، وتحتاج إلى محامين مفوّضين قبل منح الموافقة للحصول عليها[55]. فمثلاً، أطلقت مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي مشروعاً حول الزواج المدني وحق منح الجنسية، وكانت بحاجة إلى بيانات حول عدد الزيجات المدنية في لبنان، «إلاّ أن وزير الداخلية رفض إعطاءنا الحقّ بالحصول عليها».

2 – أعباء الإعلام الرقمي والاجتماعي

إلى جانب كلّ هذه المنافع، يفرض الإعلام الاجتماعي أيضاً أعباء كبرى على الناشطين. فقالت غالبيّة المشاركين إن الأدوات الرقمية غالباً ما تفشل في تلبية حاجات الناشطين وكثيراً ما تعوّق عملهم.

أ – متطلبات عارمة وموارد ومهارات محدودة

تترك السهولة والسرعة التي يقدّمها الإعلام الرقمي نتائج حتمية تتجلّى في تحدي الاستجابة لطلبات المعلومات ومراقبتها وتحديثها باستمرار. فتعي أغلب المنظمات أن المنصات الرقمية، في غياب مراقبة فعالة، تؤذي أكثر مما تفيد[56]. وتهدد المعلومات السلبية صورة المنظمة وتقوّض قضيتها. مثلاً، عندما عرضت منظمة «مقاومون» قائمة بالكتب الممنوعة على فايسبوك، في إطار حملتها «لوقف الإرهاب الثقافي»، تضمنت هذه القائمة كتاباً بعنوان The Diary of Anne Frank، «وبدأ الناس باتهامنا بالصهيونية ومناصرة إسرائيل، الأمر الذي حرّف كلياً النقاش». إلى ذلك، يواجه الناشطون الرقميون معركة مستمرّة مع المتطفلين (Spammers)‏[57]. ويقول مساعد مدير «أشكال ألوان»، الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية، إن الفشل في مراقبة الفضاء الإلكتروني قادر على تحويل المنصات الرقمية إلى «مساحات للنقاشات الطفيلية» وأدوات للترويج لمشاريع ومنتجات غير ذي صلة.

غير أن غالبيّة المنظمات تملك موارد محدودة وعدداً قليلاً من الموظفين لتلبية الطلب على المراقبة المستمرة. في هذا الإطار، تود الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة أن تعتمد أدوات إلكترونية أكثر، غير أنها «بحاجة إلى أفراد يملكون المهارات والدراية لتقديم المساعدة بدوام كامل والعمل فقط في الإعلام الاجتماعي، غير أننا لا نتمتع بالموازنة للقيام بذلك». يحلّ البعض هذه المشكلة بالحدّ من وجودهم في الإعلام الاجتماعي. ولكنْ، حتى المنظمات القادرة على تحمُّل تكلفة استقدام شخص متخصص في الإعلام، تواجه مشكلة إيجاد أفراد ناشطين يملكون مهارات رقمية ومعرفة قوية في التواصل، وهو الموضوع الذي تناقشه الأقسام التالية.

ب – التواصل الاستراتيجي والتفكير النقدي

تعي منظمات الحركات الاجتماعية أن مجرد فتح منصة رقمية لا يساوي بالضرورة استخدامها بشكل هادف وفعّال. وعلى الرغم من تزايد عدد الناشطين الذين يتمتعون بمهارات رقمية، فما زال العديد منهم يفتقرون إلى مهارات التواصل الاستراتيجي والتفكير النقدي. إلى جانب تحديث المعلومات، تعبّر العديد من المنظمات عن الحاجة إلى سياسة تواصل واضحة تزيد فعالية الوصول إلى الجماهير المستهدفة وإدارة الملاحظات السلبية. فيقول أحد الناشطين: «كثر يعرفون كيفية استخدام تويتر، ولكن قلّة يستخدمونه استراتيجياً لجذب انتباه الإعلام». ويزيد ضعف مهارات التفكير النقدي من هذه المشكلة «فيفتقر الناشطون إلى مهارات التفكير النقدي لجمع معلومات موثوق بها… عوضاً عن نشر الشائعات».

ج – معضلة اللغة

تستخدم أغلب المنظمات اللغة الإنكليزية فقط في الإعلام الرقمي، ولا يستخدم أيّ منها اللغة العربية وحدَها. تتمتع ستّ منظمات فقط بنسخة عربية لموقعها الإلكتروني أو لمجموعتها على فايسبوك. غير أن ذلك يتعارض مع الواقع اللغوي اللبناني. ففي حين أن اللغة الإنكليزية منتشرة في بيروت وبين النخب الثرية والمثقفة، تبقى اللغة العربية مُسيطرة في مناطق أخرى ولا سيَّما خارج المدينة وبين السكان الأكبر سناً والأقل ثروة[58]. بالتوازي مع ذلك، تبقى اللغة العربية اللغة الأولى والرسمية للحكومة والسياسيين. في هذا الإطار، يقول الشريك المؤسس لـ «أُمم للتوثيق والأبحاث»، التي تعزز الوعي حول ماضي لبنان العنيف: «يستخدم السياسيون والمسؤولون اللغة العربية. ومن السخيف التوجه إليهم بالإنكليزية». غير أن اعتماد اللغة العربية فقط يطرح أعباء كبيرة؛ فتستمرّ مجموعة الناشطين الأكفاء الذين يتكلمون العربية بطلاقة، بالتراجع مع تحوّل الإنكليزية إلى اللغة المفضّلة بين النخب المثقفة، وهي المجموعة التي تملك المهارات الرقمية الضرورية. إلى ذلك، إن تخلي المنظمات عن اللغة الإنكليزية يُبعدها عن الجهات المموِّلة. وتحلّ بعض المنظمات هذه المعضلة باعتماد ثلاث لغات، حلٌّ لا يمكن إلّا لقلّة توفيره. إلى ذلك، يعجز الكثير من العمال المهاجرين واللاجئين وغيرهم من المجموعات المحرومة حقوقها عن قراءة العربية أو الإنكليزية، وتبقى الحملات الإنكليزية التي تستهدفهم من دون جدوى. في هذا الإطار، يشير ناشط في روّاد أن «الإعلام الاجتماعي والرقمي في لبنان يقتصر على مجموعات تنتمي إلى الطبقة الوسطى وتملك القدرة على الوصول إلى الإنترنت وتتكلّم الإنكليزية، ما يستثني المستفيدين من عملنا».

د – الوصول إلى الإنترنت

يشكّل الوصول المحدود إلى الإنترنت عقبة إضافية أمام النشاط الرقمي. ففي الوقت الذي تعتمد المنظمات على الإعلام الاجتماعي للوصول إلى الجماهير خارج بيروت، يقوّض الوصول المحدود إلى الإنترنت في المناطق الريفية هذه الجهود. على سبيل المثال، تركّز مبادرات حماية البيئة بشكل أساسي على السكان الريفيين في الشمال والجنوب. ويشرح ناشط في الخط الأخضر: «لا يستخدم العديد من الأشخاص الذين نريد الوصول إليهم الإعلام الاجتماعي، والكثير من القرى لا تملك حتى اليوم وصولاً إلى الإنترنت».

هـ – الاعتماد المفرط على الإعلام الاجتماعي والتقاعس ومفعول غرفة الصدى

على الرغم من مدح منافع الإعلام الاجتماعي، تركّز أغلبية المنظمات على أهمية التوازن بين النشاط الإلكتروني والميداني. وينتقد البعض عبارات مثل «ثورة فايسبوك» التي تعظّم دور الإعلام الاجتماعي في الثورات العربية، حيث أدت «هذه المبالغة في الإعلام الاجتماعي» إلى تقاعس متنامٍ. فذكرت أغلبية المشاركين الانعكاسات السلبية «للنشاط الإلكتروني»، مشيرة إلى إمكان تقويض العمل الذي يقوم به الناشطون المتفانون عبر ثنيهم عن المشاركة الفعلية. في كثير من الأحيان، يعني الانتقال إلى النشاط الإلكتروني ابتعاداً عن النشاط التقليدي[59]. فاشتكى أحد الناشطين أن «إعادة بث رسالة على تويتر أو الإعجاب (like) بمجموعة أو تشاطر المعلومات لا يجعلك ناشطاً، مقارنة بأولئك الذين يجتمعون مع الناس وينزلون إلى الشارع ليتظاهروا». وتشتكي أغلبية المنظمات من أن النشاط الإلكتروني قلّما يحقق نتائج ميدانية، وأشار المشاركون بشكل رئيسي إلى أدوات المناسبات (Events) على فايسبوك وفشلها في إعطاء صورة دقيقة عن عدد المشاركين في النشاطات الميدانية. فعدد الذين يؤكدون حضورهم على فايسبوك مضخّم جداً. ويقدّر بعض الناشطين أن 10 بالمئة فقط من الذين يختارون «مشارك» (Attending) على فايسبوك يشاركون فعلياً.

إلى ذلك، يشتكي الناشطون من أن النشاط الإلكتروني غالباً ما يخلق مفعول غرفة الصدى (Eco Chamber Effect) حيث تصل المعلومات إلى حلقة الناشطين الضيِّقة نفسها. ويقول مؤسس (Lebanon’s Time) إنه «في الوقت الذي تظن أنك تتواصل إلكترونياً مع مجموعات أخرى، غالباً ما تتواصل في الحقيقة مع داعمين يشاطرونك الرأي نفسه».

خاتمة

تعزو منظمات الحركات الاجتماعية اللبنانية إنجازاتها الأخيرة جزئياً إلى زيادة الانتشار الذي سهّله الإعلام الاجتماعي. وتعترف هذه المنظمات بقدرة الإعلام الرقمي على الوصول بسرعة وبتكلفة متدنية إلى جمهور أوسع وبالترويج بفعالية للقضايا والانتشار في الإعلام المحلي والدولي. وتعتمد على المنصات الرقمية لإعلام المناصرين والناشطين المدنيين بالمشاريع وخلق حوار تفاعلي وتنسيق العمل داخلياً وبناء التحالفات خارجياً وربط الناشطين الإلكترونيين والميدانيين وتقوية العلاقة بالمتطوّعين. ويعتبرون سهولة ونطاق التواصل عبر الإعلام الاجتماعي مفيديْن، نظراً إلى قدرة هذا التواصل على نشر معلومات غنية وتعزيز المشاركة مع تفادي القنوات التقليدية وجهات الرقابة وتقييم المعلومات التي يبقى الحصول عليها صعباً. بالإضافة إلى ذلك، تمدح بعض المنظمات مرونة الإعلام الاجتماعي وقدرته على تحديث المعلومات مع التوثيق وسجلات الأرشفة، التي تحوّلها إلى وسائل تواصل مع السياسيين والصحافيين والرأي العام. وذلك يعزز، بدوره، صدقية الناشطين في محاسبة المسؤولين والسياسيين وجذب الأموال.

تتوافق النتائج المرتبطة بمنافع الإعلام الاجتماعي مع كثير من الدراسات السابقة، غير أن غارنيت أشار إلى أن عدداً قليلاً جداً من الدراسات ركّزت على السلبيات[60]. وعليه، وجدت هذه الدراسة أن المنافع غالباً ما تواجه توافر موارد محدودة لإطلاق منصات إلكترونية، وتدنّي سرعة الإنترنت وارتفاع تكلفته والوصول المحدود وغياب الأفراد الماهرين، ليس في الإعلام الرقمي فحسب، بل في التواصل الاستراتيجي ومهارات اللغة والكتابة والتفكير النقدي والمناصرة. كما يخلق الإعلام الاجتماعي طلباً على المراقبة والاستجابة وتحديث المعلومات ومواجهة المعلومات المتطفلة والشائعات.

إلى جانب ذلك، تشمل السلبيات ثقافة «تقاعس» متنامية تثني الناشطين الجدّيين وتخلق انطباعاً يضخّم حجم الحركات الاجتماعية الإلكترونية، ليعود وينهار بعد مواجهة الحقيقة، وبخاصة عندما يُدعى الناشطون الإلكترونيون إلى التظاهر في الشارع، وهو أمر يدعم بشكل غير مباشر نتائج بيمبر التي تشير إلى أن زيادة القدرة على التواصل لا تُترجم بالضرورة في زيادة المشاركة السياسية[61]. غير أن بعض منظمات الحركات الاجتماعية وجدت وسائل للتعامل مع هذه المشكلة، وتقرّ أغلبيتها بأن الإعلام الرقمي لا يمكنه أن يحلّ محلّ النشاطات الميدانية[62]. في النهاية، لطالما تمحور النشاط الحقيقي دائماً حول الأفراد الذين يشاركون شخصياً[63].

إلى ذلك، تبقى فائدة الإعلام الرقمي محدودة بوجه المخاوف الهيكلية الأعمق التي تؤثر في نواحي المجتمع اللبناني كافة وتقسيم المجتمع المدني والتهديدات المستمرة للخصوصية الإلكترونية وحرية التعبير وغياب التشريعات والدعم الحكومي. وترتبط هذه المحدودية بالمشاكل الهيكلية ذاتها للنظام الطائفي المتجذر، الأمر الذي عدَّه كل المشاركين عقبة أساسية بوجه النشاط، ومسؤولاً بطريقة غير مباشرة عن الصراع ضمن المجموعات المتحالفة التي تركّز على قضايا متشابهة. لسوء الحظ، ما زالت غالبيّة اللبنانيين تنتمي إلى تحالفات سياسية طائفية قائمة على الانتماءات الدينية[64]، الأمر الذي يفاقم صعوبة الإصلاحات وجهود الحركات المدنية، حيث إنه حتى المبادرات غير السياسية تتحوّل إلى جدالات طائفية.

وفقاً لهذه النتائج، تقترح الدراسة التوصيات التالية لتحسين النشاط الرقمي في لبنان: أولاً، زيادة التعاون وتأسيس شبكات منظّمة ومحايدة لحركات المنظمات الاجتماعية التي تعمل على قضايا مماثلة. فعوضاً من السماح بالمنافسة وبالاختلافات لمنع التعاون، يستطيع الناشطون الاستفادة من توحيد طاقاتهم عبر بذل جهود تمويل وتعاون مشتركة[65]. ويستطيع الوسطاء الخارجيون، مثل الأكاديميين والجامعات، تسهيل إقامة هذه الشبكات المحايدة وتقديم التدريب والتوجيه. ثانياً، تحسين التواصل الاستراتيجي والتفكير النقدي ومهارات الإعلام الرقمي عبر تقديم مقررات وورش عمل في الجامعات تركّز على هذه المهارات وعلى مواد التربية الإعلامية والرقمية التي تركز على التفكير النقدي وعلى استخدام الإعلام الرقمي بشكل فعال وبعدة لغات. وأخيراً، من أجل تكوين فهم أفضل للعوائق وإيجاد الحلول، يجب على المؤسسات والجامعات تشجيع البحوث حول النشاط الرقمي. فقد يكرّر الباحثون هذه الدراسة ويكيِّفونها على دول عربية أخرى ومقارنة النشاط الرقمي في مختلف الدول. بالتالي، تستطيع الدراسات التي تتابع بعض المنظمات تسليط الضوء على تطوير الإعلام الاجتماعي في النشاط واستخلاص الدروس لتحسين النشاط الرقمي في المستقبل.

 

قد يهمكم أيضاً  التربية الإعلامية والرقمية وتحقيق المجتمع المعرفي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الإعلام_الرقمي #منصات_التواصل_الإجتماعي #الإعلام_الإجتماعي #الإعلام_الإلكتروني #الإعلام_اللبناني #الإعلام_الرقمي_في_لبنان #دراسات