لم يُعنَ النهضويون كثيراً، أو لم يُعنَ جلهم، بشؤون الإصلاح الديني رغم تشديدهم على ممانعة الدين وأربابه شؤون التقدم. وربما جنح الكثير منهم إلى اعتبار القضية الدينية على أنها ستجد حلها في تقدم المجتمع لا من داخل الدين وأربابه، وأن للتقدم أو للرقيّ مساراً مستقـلاً عن الدين قد يفلح في استتباع الدين وإعادة صياغته على نحو مضارع لمسار الحداثة، أو في استيداعه في مكامن هامشية أو في دواخل ذوات الأفراد. وقد انصّبت عناية هؤلاء في أجيالهم المتتالية على إصلاح النظم التعليمية والتربوية توخياً من ذلك آثاراً إيجابية على النصاب المعرفي والعقلي للكافة الذي ارتجيت منه؛ آثاراً على تخلف القطاع الديني من الحياتين الاجتماعية والفردية.. هذا مع عزوف لم يكن عزوفاً مطلقاً أو لدى الجميع عن المسّ بما اعتُقد أنه ثوابت العقائد والممارسات، وعن مظاهر الفوات في الممارسات الاجتماعية التي تركت للزمن أو للآثار السياسات الاجتماعية والتربوية للدولة وللمؤسسات التعليمية الخاصة. وإن الذي غلب على هذا الرهط من مفكري النهضة كان مجاملة لما أخذ على أنه العاطفة الدينية أو لما تمَّ تصوره على أنه حضور الدين في العلاقات الاجتماعية، مع أقوال وممارسات تشي بالتقيّة أو بالتملّق في أحايين كثيرة. لم يُعنَ المشتغلون بالنهضة بالدين إلّا في العقود الثلاثة الأخيرة التي شهدت انشغالاً أكبر بالدين وبالعمل على إصلاحه. وإن من عُني به على العموم قبل ذلك كان أرباب الصناعات الدينية – في عبارة مستوحاة من ابن خلدون – الذين توخوا الارتقاء بالفكر الديني وبالمؤسسات الدينية إلى مصاف مطابق للمتطلبات العامة والتنظيمية للحداثة.

هذا أمر بديّ في شخصية نموذجية هي الشيخ محمد عبده، وهو أمر ملحوظ في شخصيات دينية إصلاحية كثيرة، على امتداد قرن؛ انتمت الأكثرية منها إلى المجال الدولاني – السياسي كالأزهر في محطات شتى من تاريخه الحديث، وفي مؤسسات الإفتاء في سورية وتونس ودول عربية أخرى.

تفاوت تداخل خطاب ونشاط النهضة مع الخطاب الديني بين دولة عربية وأخرى، لعل المغرب شهد فيها تداخـلاً أكثر كثافة مما كان عليه في سورية على سبيل المثال. ولذلك فإن مداخلتي ستتناول الإصلاح في مجال الخطاب الديني لدى مفكري الإصلاح الديني، مع ضرورة الإشارة إلى أنني أعني بذلك الإصلاح حصراً في سياق التقدم لا الإصلاح بمعناه السلفي‏[1] الذي جنح إلى الغلبة في العقود الأخيرة. وقياساً على ذلك فإنني أقصد بالكلام على النهضة حصراً النهضة بمعناها الحداثي لا بالمعنى النكوصي المحافظ الذي جنح بدوره إلى الغلبة في المجال العام العربي في العقود الأخيرة.

ثم إن هذه المداخلة لن تتوخّى الإحاطة بتاريخ ومجالات الفكر الإصلاحي في المجال الديني، ولن تتحرّى التفاصيل والاستفاضة في العرض، بل هي تتوسل أدوات تعيننا على رصد وتحليل هذه الظاهرة، استناداً إلى نتائج ما نعدّه مجدياً من النقد الفكري والتاريخي لنتاج الإصلاحية الإسلامية. والحال أنه مع وجود حصيلة ثرية من النقد الفكري للإصلاحية الإسلامية سنلتفت إليها بعد قليل، إلّا أن معارفنا بتواريخها – تواريخ شخصياتها، تواريخها الاجتماعية والسياسية والفكرية – ضئيلة وغير متكاملة إلا على نحو مجمل وانطباعي في الغالب، غير مرتكز على أسس من البحث والتحليل التاريخيين المقنعين. وليس أقل مثال على هذا تاريخ «ثالوث الإصلاح»، جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا الذي غلبت عليه – خصوصاً بالإشارة إلى عبده – رواية محمد رشيد رضا، على ما فيها من حذف واختلاق وتقوّل، التي كانت ترتجي إدغام مؤلفها وتحولاته بأستاذه حياةً وفكراً وبرنامجاً‏[2].

إن زاوية المقاربة في هذا البحث، إذاً، هي تلك التي ترتجي الانطلاق من حدود الخطاب الإصلاحي الديني العربي في صياغته المعتمدة، إلى الإمكانات الإصلاحية التي انفتحت عليها زوايا – قد تكون هامشية – من زوايا الإصلاح الفكري الإسلامي في العقد الأخير. وقد جاء هذا الانفتاح بعد فترة من الزمن شهدت ضمور الفكر الإصلاحي الديني في الوطن العربي (على العكس من جنوب أفريقيا وأمريكا الشمالية) على مستوى الإنتاج الفكري ونوعيته، وجنوحه المتعاظم إلى الغمغمة والتقيّة والإحجام عن الإفصاح، واندغامه بوظائف سياسية وبالتملق المساير لها في وضع غير موائم. أما من استمر على نهج ثابت في إرادة الإصلاح خارج السرب كنصر حامد أبو زيد، فقد اضطر إلى دفع ثمن باهظ شخصياً، مع أن ما جاء به ما أضاف مفهومياً وتحليلياً إلى ما أتت به الإصلاحية الإسلامية العربية في صورتها المصرية المعتمدة (محمد عبده، محمد أحمد خلف الله، أمين الخولي) من رغبات في الإصلاح معطوفة على ضعف ثقافي ومفهومي ومن المنحى الخطابي ومنحى المنافحة عما هو وثيق الصلة بقضية الإيمان والكفر من قضايا‏[3]. ولهذا النهج ولهذا الضعف تاريخ أضحى الآن مديداً، من سماته مواقف تراجعية قد تبدو في أكثر أشكالها وضوحاً في مصر، وذلك في فترتين أولهما تلك التي تلت قضيتَي علي عبد الرازق وطه حسين، وثانيهما تلك المتزامنة مع الامتداد الاجتماعي للإسلام الحركي وجنوح أكثر من دولة عربية إلى إبداء مظاهر التدروش، واتباع سياسات محافظة في شؤون الدين، إبان الحرب الباردة ثم بنشاط أكبر منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي‏[4].

ولقد شهدت العقود الأخيرة من تاريخنا العربي تضافر الغلوّ المتنامي في شؤون الدين الذي مسّ الخطاب الديني في مواقعه الحركية والاجتماعية والدعوية الغالبة، مع تمدد المقالات الإسلامية الإصلاحية التقليدية إلى موقع مركزي في الخطاب الثقافي العام غير الإسلامي عنواناً ومآلاً، وجرى ذلك تحت عناوين شتىّ كالحوار القومي – الديني وغيره من المواقف التي قامت على مبدأ صريح أو ضمني هو مشايعة العامّة المستند إلى فهم انطباعي للمجتمعات العربية التي لا نعرف عنها سوى القليل يعزو عليها درجة من التديّن الورع لا نظير لها عند بني البشر. وعلى ذلك فقد تمكنت من مفاصل الخطاب العربي الثقافي العام مفاهيم وقضايا قائمة على حصيلة معرفية ضئيلة بالتاريخ وبالمجتمع، كالأصالة والمعاصرة والوافد والهوية والتغريب، كما تمثلت بتغييب مفاهيم أساسية كالعلمانية واستبدالها – عندما يجري هذا الاستبدال – بعبارات مراوغة كـــ «المدنية» (وهي عبارة استخدمها محمد عبده للتعبير عن فكرة العلمانية) دونما تفكّر وتدبّر معرفي أو منهجي على العموم. ودونما نظر منهجي في أمور التاريخ والتراث، مع نبذ وتجاهل ضمني لما جرى في الوطن العربي من تحولات بينّة في القرن المنصرم‏[5]. بل يمكننا القول بأن عبارة «الدولة المدنية» في بثها وتلقيها، وفي شروط الاثنين القائمة على استبعاد العلمانية، مدخل لاستدخال الدين في القوانين والدساتير.

وقد كانت عبارة الوسطية عنوان دخول الهاجس الديني على المساحات المركزية من الفكر العربي المعاصر‏[6] في فكرة الوسطية – وهي في واقع الأمر عبارة وليست مفهوماً، قادرة على قول كل شيء ولا شيء – هذه استيهام تعويضي عن عدم القابلية على الفعل‏[7] وفيها محاذرة من اتباع المنهج التاريخي، وتغليب ما يعتقد أنه المتطلبات الدبلوماسية والسياسية للحظة على التفكير المتسلسل إضافة إلى إعادة إنتاج مسلمات الفكر الإصلاحي الديني العربي في صياغاته الأولى. تم ذلك في وضع ضغط فيه الغلّو الحركي الإسلامي على ما كان وسطياً من مناحي الفكر الإصلاحي وجنح به إلى مواقع محافظة وحَرْفيّة، «ظاهرية» في النظر إلى النصوص التأسيسية، مع إهمال سعة التراث الثقافي العربي، وقصره على نصوص الدين، وإخراج القرآن من التراث بجعله متعالياً عليه وعلى التاريخ بعامة‏[8].

جرى كل ذلك وخطاب الوسطية آخذ في الإندراج في سياق من الرومانسية التاريخية الهويّاتية، أي ما يمكن أن يوصف على أنه النهج الحضاروي في تصور الحاضر على أنه استمرار مع الماضي والمستقبل على أنه اتصال عضوي مع الماضي لا يعرف الانقطاع ولا التحول إلّا على نحو خطابي دون الانصراف إلى رصد مكامن التحول والانتقال من الانطباع والانفصال إلى النظر المحكم في التاريخ وفي المجتمع، كل ذلك ارتكازاً على دعوى نرجسية تاريخية جمعيّة‏[9]. وفي ذلك مستند الحركات الشعبوية المحافظة التي ينتمي إليها الإسلام الحركي: الافتراض بأن هذا الإسلام مطابق للممارسة الاجتماعية، وإن هذه الممارسة مطابقة للتراث الديني، وأن هذا التراث يختزل في نصوص تتخذ لنفسها حيوات مستقلة عن الممارسة الاجتماعية. ومن هنا أسس دعوى الاستفراد والاستحقاق، ودعوى تمثيل المجتمع على وجه حصري وضرورة المطابقة بين المجتمع والدولة، وبين المجتمع والدولة والإسلام الحركي، التي حكمت فهم الديمقراطية لدى هذه الأحزاب السياسية‏[10]، مع الإشارة إلى بداية تحولات في هذا المضمار في تونس.

ومن الواضح أن دعوى التطابق العضوي بين الدين وبين المجتمع والثقافة هذه أصبحت من الثوابت المركزية للفكر العربي في العقود الثلاثة الأخيرة، بحيث إننا نرى فيها غلبة للدعوى الذاهبة إلى أن الحداثة في الوطن العربي ما كانت إلّا عملية سلخ للشعب عن هويته وامتداده التاريخي، ورهاباً من تأكيد واقع أن الحداثة كانت عملية تحول اجتماعي فعلي لا مجرّد تسلط وفساد من قبل قادة كبار كأتاتورك والحبيب بورقيبة‏[11]. ثمة رهاب من رصد التحول، وماضوية تأسيسية في النظر إلى التاريخ، بحيث لا تاريخ إلّا حيث يوجد تراث ديني، في منظور ربما عبّر سيد قطب عنه بأصفى صورة في اعتباره أن لا تاريخ سوى تاريخ بداية التأسيس الإسلامي‏[12].

ولهذا المنظور مواقع أضحت بالغة الأهمية في وطننا العربي، ومن ضمنها السياق المركزي للثقافة الفكرية التي بدت مستوعبة مقالة سياسية، أو متحوّطة، منها بثتها وسائل الاتصال وشبكاته التي سبق وأن أشير إليها، تذهب إلى أن المسلم بالولادة، فرداً أو جماعةً، إسلامي الهوى في السياسة بالفطرة والسليقة، وإن من لا يتوافق مع هذه الترسيمة الخيالية إنما هو معوّج مستلب حضارياً، متغرب أو عميل للإمبريالية تنبغي إعادته إلى سويته وطبيعته بالقسر، أكان القسر هذا عنفاً أم تعنيفاً أم دعوة. وفي هذا الخطاب غيابٌ للتمايز والتمييز، واندراجٌ للغة العنف والرجعية في سياق الخطاب عن التسامح والهوية والاستقلال الحضاري والخصوصية وغير ذلك من المفردات التي أصبحت مستحبة عالمياً منذ 1989‏[13].

نتيجة القول هو أن المخيال الإسلامي السياسي قد نجح في الاستيلاء على مساحات مركزية من الفكر العربي الحديث، حامـلاً إليه حصيلة الإصلاحية الإسلامية على صورة مشوبة بأثر سلفي متشدد كبير – أثر فكري في هذا المقام دون القول بأنه ينتج أيديولوجيا جهادية، مع الاقتصار على القول بأنه يردد لوازم فكرية وتاريخية واجتماعية مشتركة مع الإسلام السياسي. وقد نال المخيال الإسلامي السياسي هذا الموقع المركزي بالمطاولة لا بالمناجزة، وكانت ملحمة المناجزة هذه فتحت الباب أمامه الحرب الإسرائيلية الخاطفة علينا عام ١٩٦٧. من هذه اللوازم الفكرية أن الإسلام دين ودنيا. وأن الإسلام متعال على التاريخ. وكل ذلك من باب التقول الأيديولوجي على التاريخ الذي أصبح لدينا بمثابة الحس المشترك المستند إلى البداهة وإلى تفسير ثقافوي للتاريخ: تفسير يرجع التاريخ إلى ثوابت الثقافة، ويختزل الثقافة في الدين، ويماثل ما بين نصوص التراث الديني والممارسة الاجتماعية بل يرى اللاحقة تابعة للسابقة، ويختزل الدين إلى نصوصه. فيصبح المجتمع مطابقاً للكتاب، ويصبح المجتمع ممثـلاً بمن ينطق باسم الكتاب، مع افتراض التجانس الداخلي على المجتمع، والتجانس الزماني، أي الاستمرارية الجوهرية عبر أزمنة التاريخ المتحولة. من هنا على سبيل المثال القول بأن الإسلام مولد «بطبيعته» لنظام للسلطة، وأن السلطة العلمية الثقافية «الوحيدة» في تراثنا هي الفقهاء، وأن الحنبلية عقيدة «الشارع المعارض»، وأن كل فكر إذا لم يكن دينياً كان استبدادياً ومتموقعاً خارج «قضايا المجتمع والسياسة»‏[14]. كل هذا من قبيل الكلام الانطباعي والسوسيولوجيا العفوية البلدية القائمة على رهاب ما يحصل في مجتمعاتنا: هل لدينا أي دليل على أن تلاوة القرآن، على سبيل المثال، كانت أقرب إلى موقع المركز من الثقافة العامة كما مورست من ألف ليلة وليلة ومسرحيات ابن دانيال وعروض القرادني في الشوارع غير ما كتبه الفقهاء؟

ولمَ لا يصار إلى الاستناد في توصيف الثقافة إلا إلى كتب الفقهاء القائمة على الوعظ والتمني، بدلاً من الاستناد إلى إمتاع أبي حيان التوحيدي لثقافة الخاصة والرسالة البغدادية له للثقافة العامية؟ ولم لا يصار إلى رسم خريطة الثقافة على أنها حاوية على عنصرين تداخلاً اجتماعياً وانفصلا في اعتبارات أخرى، أحدهما علماني دنيوي أدبي فلسفي ينطوي في هوامشه على شيء من الفجور، والآخر ديني فقهي كلامي ينطوي في هوامشه على شيء من النفاق ومحاباة السلطان؟ مجال الدخول في سوسيولجيا العلماء والسوسيولوجيا التاريخية للثقافة في تواريخ العرب والمسلمين، مع أننا سنعرج في ما بعد، وفي عجالة، على العلماء. المهم الإشارة إلى الشكوك الأساسية على هذا المخيال السياسي الذي يقدم نفسه على أنه تاريخ.

أود إثارة قضية أخيرة قبل الولوج في لب الموضوع. ليس نتاج الإصلاحية الإسلامية في عهودها الماضية أو في محطتها المرجوّة اليوم من الشؤون الفكرية البحتة المستندة بكل بساطة إلى تقنيات البحث التاريخي والفيلولوجي أو إلى تقنيات البحوث الأصولية والفقهية، مع أن لهما روابط أكيدة مع كل هذا، أن بواعث ومصائر الإصلاحية الدينية أمور تترتب على كونها فعل اجتماعي سياسي أو طموح إلى الفصل، أي أن عقلها عقل علمي؛ وأن موقعها من جغرافية الثقافة وصلتها بالهوامش والمراكز الفكرية والاجتماعية والمؤسسية والسياسية هو شأن معتمد على علاقات القوى الاجتماعية والسياسية التي ترتكز عليها هذه الجغرافيا الثقافية وتتقوّم بها، وهي تعتمد على شبكات بث وتواصل، وشبكات البث والتواصل هذه وقائع اقتصادية واجتماعية وسياسية تشكل بنية وإمكانية لوجستية على درجات متفاوتة من الفاعلية والمقدرة. والحال أن هذه الشبكات التداولية في الوطن العربي في العقود الأخيرة كانت في مجملها مسخّرة لبث ونشر وتنظيم نوع من الإسلام مستجدّ على الساحة العربية خارج العربية السعودية وخارج نطاق الإسلام الحركي المتأثر على صورة بيِّنة بالإسلام السلفي الجديد القائم على التشدد والتزمّت في أمور السلوك الشخصي وعلى التدخل المستمر في شؤون التشريع والسياسة وعلى النهج السلفي في شؤون العقيدة، منتقـلاً بالإسلام الحركي من الإصلاح التقليدي إلى يوتوبيا السلف والفهم الحرفي للنصوص الدينية، وبالتديُّن الاجتماعي من التقوى والاحتشام المعهودين في مجتمعاتنا إلى محاولة إعادة تنشئة الأجيال عن طريق هندسة اجتماعية أصولية. وقد كان لهذه البنى اللوجستية من انتشار ونشاط أنها خلقت وضعاً جاء فيه العرض منتجاً للطلب على شاكلة تقنيات التسويق العالمية وجاء فيه المعروض بمثابة المطلوب وبمثابة العادة والحاجة. فإن استذكرنا أن الإصلاحية الإسلامية كانت تقليدياً مرتبطة بأغراض الدولة التحديثية، وجدنا اليوم أن هذا الإسلام الرسمي أصبح أكثر تزمتاً، وأن المؤسسات التربوية الدينية التابعة للدولة جنحت إلى التغافل عن الغرض الإصلاحي وإلى الانغماس في الغرض الإحيائي السلفي. ولعل مثال دار العلوم في مصر دليـلٌ على انتكاسة محاولة تعميم الإصلاحية الإسلامية، ولدينا أمثلة أخرى في النهج المحافظ الذي استجدّ على الزيتونة بعد 2011. ومن نافل القول في هذا المقام أن الإصلاحية الإسلامية، إن كان لها أن تنمو وأن تزدهر، لا بد من أن ترتجي أرضية سياسية مواتية قد تكون من عناصرها اليوم التحولات التي نراها في الإسلام الرسمي المغربي والتونسي في السنوات الماضية.

وإن كان لنا عقد مقارنة تاريخية مع الإصلاح البروتستانتي في أوروبا، وفي تاريخ أوروبا الحديث، دليـلاً ونموذجاً يمكننا من الإلمام بظروف وشروط الإصلاح، فإننا نرى أن حركة الإصلاح التاريخية النموذجية هذه ما كان لها النجاح إلّا عندما انضوت في إطار مؤسسات فكرية وتربوية. كانت أوائل هذه نشوء الجامعات البروتستانتية في أوروبا، بداية من ألمانيا، ثم في تطور المجتمعات الأوروبية على نحو أرغم مؤسسات الدين الفكرية والتربوية على الاندغام في مسارات فكرية وعقلانية أزكتها الدول الأوروبية في مؤسساتها الجامعية والثقافية المستجدة، وخصوصاً في القرن التاسع عشر. وقد كانت هذه المؤسسات هي ما صدر عنها وعن كليات اللاهوت فيها نهج البحث التاريخي في الدين وفي تاريخ نصوص الدين الذي أثّر بدوره في القوام الفكري للعقائد وللنظر في العقائد.

ليس مدعى هذه المقارنة مجرد إشارات محمد عبده والأفغاني إلى مارتن لوثر‏[15]. إن مدعاها نصاب تاريخي أعرض؛ ذلك بأنه كما أن الخطاب الشعبوي والرومانسي في التاريخ الذي وصفناه للتوّ مندرج في وضع عالمي طغت سياسات الهوية على مساحات مركزية منه متمثلة بالإنتاج الجامعي للعلوم الاجتماعية والإنسانية وسياسات الهيئات الدولية والحكومية وغير الحكومية ومراكز الأبحاث وتمويلها، نجد أن المصلحين الإسلاميين العرب الأوائل كمحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهما قد اندرجوا في فهم عالمي مستجد للدين متأثر أيّما أثر بالنحو البروتستانتي في تصور واستيعاب الدين ومعالجة شؤونه – وما كان المصلحون المسلمون الوحيدين الذين شعروا بهذا الأثر، إذ إن الأمر نفسه ينطبق على إصلاح الهندوسية والبوذية والأديان الآسيوية الأخرى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين‏[16]. ويرتكز هذا الفهم للدين – وهو فهم ما دخل على نحو أساسي على الكثلكة ولا على الأرثوذكسية – في التشديد على أمرين أساسيين. الأمر الأول أولوية النص التأسيسي على التاريخ اللاحق عليه، أولوية الإنجيل وأعمال بعض آباء الكنسية على التراث الكنسي اللاحق، وقياساً عليه، أولوية القرآن على ما يستبقي من الحديث وعلى الإجماع والأعمال الفقهية والكلامية. وبالإشارة إلى الهندوسية والبوذية، يجدر التنويه إلى أن أواخر القرن التاسع عشر شهد إفراد جملة نصوص تراثية وتم تعيينها على أنها نصوص مقدسة تأسيسية على شاكلة التوراة والإنجيل والقرآن، في تمييز بين النصوص ما كانت مألوفة حتى ذلك الوقت.

أما الأمر الثاني فهو التشديد على الإيمان والسلوك الشخصييّن، وترجمة سياق الدين إلى سياق الأخلاق، يسري ذلك – على ما سنرى للتو – على الإصلاحية الإسلامية كما سرى على الإصلاحية اليهودية في القرن التاسع عشر مع سوابق في القرن السابق له‏[17]. وقد كان في ذلك فصـلاً للإيمان عن التاريخ بتحولاته وإنقاذاً للإيمان من التاريخ على ما سنرى، وفي نفس الوقت فصـلاً للدين المجرد من التاريخ على هذه الصورة عن سياقاته الاجتماعية، وعلى رأسها القوام المؤسسي الكهنوتي لكل دين. فكما حوّل لوثر كل مؤمن إلى كاهن معاندة للكنيسة الكاثوليكية، نفى الإصلاحيون الإسلاميون مرجعية المؤسسة الدينية. ليس للعلماء مستند قرآني صريح، ولكنهم واقع تاريخي ما كان للإسلام التاريخي أن يقوم من دونه. في ذلك النفي معاندة للتاريخ، فقد كان السلك العلماني سلكاً متميزاً يفي بشروط المؤسسة الكهنوتية، والدلائل على ذلك اعتبار العلماء أنفسهم بمثابة خلفاء للأنبياء، وانضوائهم في مؤسسة لها مسارات تربوية معينة ولباس خاص، وسيطرة على موارد مهمة هي الأوقاف، إضافة إلى وظائف تربوية ودينية وعقائدية فكرية وشعائرية معلومة. وقد انتظم العلماء في طائفة مهنية كأرباب صناعة متميزة تقوم على إدارة المقدس وذلك خصوصاً بعد أن عمل السلاجقة على نشر المدارس ابتداءً من خراسان وانتهاء في المغرب بعد نحو قرنين من الزمن. ثم إن العلماء وسلكهم قد تمايزوا داخلياً تمايزات أفقية وعمودية مرتبة واختصاصاً، على شاكلة المؤسسات كافّة، تراتب النائب والشاهد والقاضي وقاضي القضاة والقيّم والأمين على الوقف ومتولّيه والطالب والمجتهد والمرجع وآية الله، والخطيب والإمام والحافظ والمقرئ والموقّت والفقيه والمتكلم وخلافه. صحيح أنه لا كنيسة في الإسلام بالمعنى الرسمي للكلمة. ولكن هذا لا يعني غياب المؤسسة الناظمة لحدود الدين ووظائفه وممارساته وقوامه العقيدي والفكري والعبادي، تلك المؤسسة التي تؤمن صناعة ورعاية وحماية المقدس وتعمل على استمرار الدين وتراثه‏[18]، والمعرفة في كل الديانات على اختلاف بناها المؤسسية والكهنوتية.

* * *

كان للإصلاح البروتستانتي في أوروبا آثار بالغة الأهمية، كان الكثير منها غير مقصود بل منتجاً من دينامية فكرية نصيّة تضافرت مع نمو وترقي النصاب المعرفي والعقلي في المجتمع‏[19]. أدى ذلك في القرن التاسع عشر إلى اعتبار نصوص العهدين القديم والجديد بمثابة نصوص ناتجة من التاريخ وقابلة بالتالي للدراسات التاريخية وتأريخية لا تمنحها أي امتيازات منهجية على غيرها من النصوص‏[20]. كما أدى هذا بعد ذلك إلى الفصل شبه الكلي بين منطوق ومفهوم نصوص الإنجيل في سبيل تشييد علم كلام يعتبر لاتاريخية الروايات الإنجيلية حول المسيح والطابع الأسطوري لهذه الروايات من قبل تحصيل للحاصل، وبناء لاهوت رمزي فلسفي انطلاقاً من ذلك، كما عند رودلف بولتمان (1884 – 1976)‏[21]. وكان أن نجح بولتمان على هذا النحو باعتماد التاريخ على ما يتطلبه العصر، في الوقت الذي عمل فيه على حماية الإيمان والعقيدة من التاريخ ومن النقد التاريخي. في ذلك كله إلمام بالتاريخ ومواجهة جدية لواقعة سنعود إليها بعد قليل. أما الإصلاح البروتستناتي في صورته الأولى، والإصلاح الإسلامي في القرن الأخير وفي أواخر القرن الذي سبقه، فلم يندرجا في سياق التاريخ إلا باعتباره مناطاً للاستمرار. وفي هذا صياغات لتاريخ منافح يعجز عن الإلمام بالتاريخية، وبالتحول وبالجدّة المترتبين عليها. من هنا بضاعة «بضاعتنا ردّت إلينا» التي تسم مجالات ليست قليلة من الفكر العربي المعاصر في تصورها للرقيِّ باسم الاستمرار، كمحاولة استيلاد المعاصرة من مفكرين قد تقادموا بعد أن استُوعِبوا وجرى تجاوزهم في أزمنة وأمكنة أخرى – ابن خلدون وابن رشد من أكثر الأسماء تواتراً في هذا السياق. نرى التاريخ المنافح نفسه في سياق التأريخ لصلة الإسلام بالإصلاح البروتستانتي. هو تأريخ بالتنميّ، مع عزو خصائص لاتاريخية للإسلام تربط ما بينه وبين ما هو مستحب من تواريخ لاحقة وربط تجربة الإصلاح المسيحي بما يخص المسلمين.

ألقى أمين الخولي على المؤتمر الدولي للمستشرقين عام 1916 بحثاً تم لاحقاً توسيعه ونشره تحت عنوان صلة الإسلام بإصلاح المسيحية‏[22]. وقد كانت حصيلة هذا الكتاب – المستند إلى بعض المطالعات المتفرقة والتحليلات الانطباعية المتحمّسة – الذهاب إلى الأفكار والمبادئ الأساسية للإصلاح المسيحي الذي تمثل أخيراً بالإصلاح البروتستانتي. وقد استند تحليله إلى عناصر: الغضّ من سلطة الكنيسة، ونقض فكرة الوساطة بين الله وخلقه؛ والذهاب إلى أن تصحيح العقيدة مناط النجاة. والذهاب إلى أن كلمة الله هي الضابط الوحيد؛ ومن ثم العدول عن التراث إلى الأصل النصيّ. وقد أسند الصلة بين الإسلام والمسيحية في هذه الاعتبارات إلى الفالديين (ابتداءً من شمال إيطاليا في القرن الثاني عشر، إلى الاندماج الفكري في النهج الكالفيني من الإصلاح البروتستانتي)، وإلى ابن حزم والحركة الظاهرية في الأندلس عامة. وعلى ذلك فإن الصورة التي رسمها الخولي للإسلام السابق على الإصلاح البروتستانتي هي تلك الصورة عن الإصلاح الإسلامي الذي تم لاحقاً للأثر البروتستانتي: غياب السلك الكهنوتي، الاحتكام إلى النص دون التراث الفاصل بينه وبيننا.

ليس ثمة فائدة كبيرة ترتجى من مناقشة تاريخية تفصيلية لما قد اقترحه الخولي. ولا شك في الأثر البين للحضارة العربية وللفكر الإسلامي في أوروبا في أواخر العصور الوسطى وفي عصر النهضة الإيطالية. ولكن هذا الأثر في واقعه التاريخي تمثل بأمور ليست مناظرة لما اقترحه الخولي، ولم يكن الأثر الرشدي مما أثر في إصلاح المسيحية بل إنه انصبّ أخيراً في مسارب الفكر الدنيوي والعقلاني في الرشدية الإيطالية للقرن السابع عشر – وخصوصاً في جامعتي بادوفا وبولونيا – المرتبطة لا باتجاهات الإصلاح الديني بل بموارد الفكر الحرّ المناهض للدين. ثم إن استلهام بعض التيارات الراديكالية في البروتستانتية للإسلام – غياب الأسرار والكهنوت – جاء على صورة أدت في النهاية إلى تيار اندمج مع التيار الرشدي الإيطالي، حيث أدى نقد ديانة واحدة إلى نقد المذهب الإلهي ثم إلى نقد الأديان جميعاً‏[23] – ولهذا الأمر نظائر من العصر العباسي الأوسط حيث قدمت السجالات بين الفرق الإسلامية وبين المسلمين وغيرهم مادّة أفادت في نقد الأديان جميعاً، النقد الذي نراه بأكثر صوره وضوحاً عند ابن الراوندي وأبو عيسى الورّاق ومحمد بن زكريا الرازي‏[24]. مهما يكن الأمر، كان القصد من إيراد تصور الخولي للصلة بين الإسلام والإصلاح البروتستانتي الإشارة إلى التمايزات بين النظرة التي تتمنى على التاريخ وبين تلك النظرة الأكثر التصاقاً بالتاريخ الواقع التي وشى بها في هذا الصدد محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الذي كان من كلف الخولي بهذا البحث نيابة عن الأزهر. فقد صاغ شيخ الأزهر تقديماً لكتاب أمين الخولي إلى القرّاء، على صورة علّق عليها الخولي بالعبارة التالية:

«ألّف الناس من هذه المقدمات ما هو للتقريظ أو ما يشبهه، لكنّما أراد الله أن تكون هذه المقدمة مثـلاً من حرية الفكر، ونزاهة النظر الديني في مناقشة مولانا الأستاذ الأكبر، نتائج هذا البحث، بما تركته بين يدي القارئ دون تعليق»‏[25] .

إن ما يشير إلى هذا العتاب المهذّب هو بالشكوك التي أبداها الشيخ المراغي على سلامة استنتاجات الخولي المتفائلة على التاريخ. فقد ذهب، تعليقاً على ما ذهب إليه الخولي حول رفض الإصلاح البروتستانتي سلطة الكنيسة، إلى التساؤل حول ما إذا كان ذلك عائداً إلى أصل لهذه الفكرة في الإسلام أم عودة إلى المسيحية قبل أن تبتكر الكنيسة رسومها. وتالياً لذلك، يتساءل الشيخ المراغي حول ما إذا كان الباعث على العودة إلى «المصادر المسيحية الصحيحة» هو ما قدمه الإسلام كما ادعى الخولي، أم كان بالأحرى العقل؟ مردفاً إن هذا شأن «يستوي الأمر عندي فيه، ومؤرخ الأديان أن يلحظ الصلة أو أن تقوى عنده سببيّة ما قدّمه الإسلام». ينطبق الأمر نفسه على اعتبار الوحي المرجعَ الأول، وهو موقف اعتبره الشيخ المراغي بديهياً لمن «لم تفسد فطرته»، فالرجوع إلى النص في الإصلاح البروتستانتي قد يكون رجوعاً إلى المسيحية، وقد يكون إلى مقتضى العقل ومن المحتمل أيضاً أن يكون عائداً إلى الأثر الكبير للإسلام‏[26].

فلئن حاول شيخ الأزهر الموازنة بين الرغبة التاريخية وبين التاريخ استناداً إلى ما يسمح به الواقع وما يفرضه من قيود على الحكم السليم، قام أمين الخولي بثلاثة تكتيكات تاريخية أيديولوجية متزامنة: هو يردّ الإصلاح المسيحي إلى الإسلام الأوَّل، ويربط الإسلام الإصلاحي في عصره بهذا الإسلام الأول، على اعتبار أن هذا إسلامٌ مستمر جوهري بل فطري، وهو بذلك يجعل من الإصلاح البروتستانتي ظاهرة جانبية متفرعة وكأنها بالعرض عن الإصلاح الإسلامي الموازي لإسلام الأصل والفطرة والجوهر‏[27]. بعبارات أخرى، إننا نجد أمين الخولي يعزو إلى إسلام الأصلَ والثباتَ والاستمرار – وهو غير محدد لديه على نحو دقيق بل جعله حاوياً كل ما أراده – ما هو مرجو لإسلام اليوم، ويلون الإصلاح المسيحي الذي أنتجت تواريخه الشروط الفكرية لنشوء الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر بألوان الإسلام الإصلاحي المعاصر الذي كان في أصوله التاريخية الفعلية إعادة صياغة لعلاقة اليوم بالماضي على الصورة التي أعادت فيها الإصلاحية المسيحية تشكيل المسيحية.

وفي تلك التكتيكات حالة تكاد تكون نموذجية من حالات الإصلاحية الإسلامية على صعيد الفكر: العلاقة الارتدادية بين اليوم وما يؤخذ على أنه أصل اليوم، بحيث يكون طموح اليوم دينامية استعادة الماضي المحصور بالأصول الأولى الجوهرية، مع استبعاد الزمان التاريخ الذي يصل بين لحظة التأسيس – الأصل، السلف – واليوم، على صورة يصار فيها تصور الأمس على أنه حاوٍ على اليوم بالقوة، واليوم مستوعباً للأمس بالفعل. بعبارة أخرى، لحظة اليوم كناية عن لحظة الأمس، ولحظة الأمس كناية عن لحظة اليوم، ويقوم شأن المصلح على إقامة الواحد مكان الآخر في علاقة تبادلية وارتدادية مستمرة، يتمثل فيها الأصل في معاني اليوم، ومعاني اليوم بعبارات ورموز الماضي، مع الأولوية لهذه اللحظة أوتلك حسب متطلبات لحظة الكتابة وحسب الحاجة. بعبارة أخيرة مجملة: يقوم خطاب الإصلاحية الإسلامية على ما هو مشهود على المراوغة وعلى تقصي الموافقات الخطابية بين الأزمنة وإدغام هذا بذاك، بناء على متطلبات اللحظة السياسية.

سيتضح هذا الأمر عندما نأتي للتو إلى تناول نمط عطف نص القرآن وغيره من النصوص التأسيسية على ما يرى المصلح أن الحداثة بحاجة إليه، وعندما نتناول حدود الخطاب الإصلاحي هذا، المعرفية والمؤسسية والسياسية وغيرها. قبل ذلك نعيد القول بأن الفصل بين الخطاب الإصلاحي والخطاب السلفي يكمن في القبلة التاريخية التي تشكل عماد عملية الإدغام والتأويل هذه: القول السلفي القائم على اعتبار النص ثابتاً في لفظه ومعناه واعتباره أصـلاً على الحقيقة، والقول الإصلاحي الذي يجعل من النص مكمناً رمزياً للسوية وأصـلاً افتراضياً قابـلاً للتأويل على ما تقتضيه ضرورات الحداثة. وإن اللحظة التي نتكلم انطلاقاً منها اليوم هي لحظة قد خمد فيها الاتجاه الثاني أو أنه فُلِجَ بفعل ضغط الإسلام الحركي المتسلفن، وعلينا في ما تبقى من هذه الدراسة رصد مواقع الانسداد ومواقع التجديد المعاصرة لنا في يومنا هذا. وإن هذا الفالج لهو انشطار مواز للصورة التي انشطر عليها الإصلاح البروتستانتي بين الاتجاه اللوثري – الدولاني والاتجاه الأبوي الكالفيني من جهة، والتيارات المعمدانية وغيرها التي آثرت مخاطبة الروح القدس على مخاطبة السياسة وأربابها.

ثمة تأزم خلقي في الإصلاحية الإسلامية، إذاً، وهو ما أشار إليه مصلح مسلم معاصر من جنوب أفريقيا في مناقشة قضية التجديد والمجددين على رأس القرن، حيث وجد أن الأصول التأسيسية التي يروم التجديد الإصلاحي الاستناد إليها ما هي في النهاية إلا نتاج أزمة الحاضر، ما يدعو لإصلاح إلى اتخاذ التسمية والإشارة مكان المفهوم في سعيه إلى افتراض الغياب الأساسي – غياب النبوة والنبي – وإلى استعادة هذا الغياب‏[28].

إن هذا التأزم ناجم عن خطابية وظرفية النظر إلى التفارق بين النص القديم والواقع المتجدد، مع وهم التطابق بينهما – وهوتأزم يضحي أكثر تأزماً مع حصر الأصل بالقرآن وربما بالحديث أو ببعض منه، في حين أننا نرى الممارسة التاريخية للإسلام على خلاف ذلك: غلّب الشافعي الحديث على القرآن وجوّز نسخ اللاحق بالسابق في علاقات خطابية وتبادلية معقدة‏[29]، وغلّب الطوخي (وكان حنبلياً) المصلحة على القرآن، والأكيد أن أي فقيه في العصور السابقة على نهاية القرن التاسع كان سيقف ذاهـلاً غير مصدِّق إن اقترح عليه دراسة القرآن من دون الرجوع إلى التفاسير، أو قراءة القرآن لأغراض خارجة عن أغراض التعبد والتبرك الخالصين، وإن قيل له إن القرآن – ومن الممارسة، ومن التفاسير وغيرها من مظان التراث – مصدر لنظرية في الدولة والسياسة على الصورة التي جعله فيها سيد قطب في منتصف القرن العشرين. وإن هذا الفقيه سيكون ذاهـلاً من هذا الاقتراح رغم علمه بأن الوحي القرآني أصل الأصول جمعياً، بيد أن علمه هذا كان واعياً وعي الممارسة وتراكم الممارسة للعلاقة بين العقلي والرمزي وبين القرآن وما جاء بعد القرآن. هذا ولو أصر على أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وعيه بأن للزمان والمكان أحكامهما وضوابطهما، ولو أقر إقرار الممارس أن مجرى الزمان لا وزن نوعي له قياساً على الوحي‏[30].

 

نعود إلى الإصلاحية الإسلامية ونجمل القول بأن القضية المحورية عندما أزالت الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر التراث التاريخي النوعي لصالح الأولوية القرآنية، إنما جعلت مناط كلامها جارياً على محطتين هما النص ومتطلبات الحداثة، جاعلة من الأول كناية عن الثاني، إذ هو صالح لكل زمان ومكان، ولا يأتيه الباطل والغلط، والثاني كناية عن الأول إذ هي الباعث على تأويله. ولئن ذهبت الإصلاحية البروتستانتية في أكثر أشكالها تقدماً – عند بولتمان على سبيل المثال – إلى أن الرواية الإنجيلية حاوية للأسطورة، وأن القراءة التاريخية لها تدرجها في نصاب الأسطورة، وإن الواجب على ذلك هو تحرير الإيمان من الأسطورة وجعله في مقام فيما وراء النص، فإن الإصلاحية الإسلامية اتخذت لنفسها صورة جامدة ومجتزأة للإصلاح وأحجمت عن ذلك، وتركز اهتمامها على الاحتكام إلى النص استناداً لا إلى معانيه في التاريخ المتعين لنشوئه بل إلى ما تتطلبه الظروف الحالية من معارف عقلية وتاريخية ولغويّة، تلك الظروف التي تتراوح في الممارسة بين النظر إلى الآيات المفردة التي ترتجي تأويلات معاصرة تؤكد معاني ضمنية للنص كما سنرى، والنظر إلى أمور عملية أكثر عموماً تنضوي في إطار المقاصد‏[31]. وكما سنرى، فإن في هذا العمل نزعٌ للمعنى المتضمن في النص والقابل للاستقراء والتقصي التاريخيين، وتوكيداً لمعاني ممتنعة الوجود عليه امتناعاً تاريخياً. ليس من الممكن نزع المعاني الفعلية للنص، وتوكيد المعاني الممتنعة الوجود فيه، إلّا بالمراوغة الخطابية وبتربيع الدوائر وتدوير المربعات التي تجري بموجبها ترجمة هذا بذاك. ليس غريباً هذا التوتر بين الواقع والإعلان، بين الفكر المعلن والفكر الممارس، بين الخطاب وأسس الخطاب، بين الواقعي والمثالي، بين الواقع والخيال، بل هو يشمل كل الأنشطة البشرية. أما الحكم بصدقية هذا التفسير للنص أوذاك، فهو في هذا المراوغة شأن تابع لمقدرة المفسّر على بث وتداول تفسيره في لحظة معينة أو في موضع معين، وهذه المقدرة تالية للقدرة المؤسسية واللوجستية والسياسية التي في متناوله.

يترتب على ذلك القول بأن خطاب الإصلاحية الإسلامية ما كان يوماً خطاباً فكرياً أو فلسفياً، بل هو ممارسة خطابية لعقل عملي مناطه السياسة بمعناها الأعرض. يعني ذلك أن ثمة عنصراً براغماتياً يحكم تراتب الأولويات لديها، ويعطي الأولوية عملياً للأثر الخطابي أو السياسي للكلام على التماسك والتسلسل الفكريين له. والحال أن ثمة تلازماً بين هاتين الناحيتين من خطاب الإصلاحية الإسلامية، تلازماً بين حرصها على تبيان تناظر‏[32] المفاهيم التراثية النصية تلك والاعتبارات الحديثة أي ما وصفناه بتربيع الدوائر من جهة، ورخاوة الانضباط المفهومي من جهة ثانية، على صورة تنحو فيها العناصر النصية التراثية، وأعراض الخطاب المباشرة، إلى الانزياح بعضها إلى بعض على صورة تجعل كليهما لزجاً قابـلاً للتحول إلى الآخر رغم الفوارق الزمانية والمكانية والمفهومية. بعبارة أخرى، نجد أن الواقعية المتمثلة بالانصراف الكلي على الظرف الآني للخطاب متلازمة مع تآكل الانضباط والتسلسل المفهومي. ولعل في قياس ذلك ما يدعى بالفهلوية السياسية تمثيـلاً يقرب هذه العملية على الأفهام. ليست الرخاوة الفكرية للإصلاحية الإسلامية بالشأن الذي بقي مستوراً، فهو أمر نال قسطاً لا بأس به من التعليق في ما يختص بنزوعه نحو التنميط المخل للماضي وإلى التبسيط وإدغام الأزمنة والمفاهيم بعضها ببعض‏[33]. وإن لاستسهال الاجتزاء الذي لا ينفك عن عقل عملي وثيق الصلة بالاحتراز والحجام رابط ضروري بضعف التجديد الفعلي في مجال العقائد والاقتصار فيها على التقريرات الأولية، مع عدم المقدرة، بل عدم الرغبة، على التجديد الكلامي على سبيل المثال. نجد ذلك واضحاً في التباين البين بين كتابات محمد عبده المبكرة والأكثر تقليدية وارتباطاً بوقائع التفكير الكلامي والفقهي، ورسالة التوحيد التي كثر ما يدعى فيها التجديد. نرى أن مؤلف محمد عبده المبكر الحاشية على شرح الدواني لعقائد الإيجي تنطوي على صرامة فكرية كلاسيكية وتعمل على تجديد في مجال العقائد من داخل منطق العقائد، على نحو يزعزع البناء القديم بتحويل الإيمان من شأن مرتبط بهذه الفرقة الكلامية أو تلك إلى شأن تابع لاجتهاد الفرد. نتيجة ذلك كانت تضييق سلطة النص المجرد والمرسل، والإعلاء من شأن المعالجة الفكرية على أرضية من الإجماع على حد أدنى من المسائل العقيدية الذي لا تختلف عليها الفرق والأديان كافة، وكأنها بمثابة مسائل دين طبيعي. أما رسالة التوحيد فقد جاءت عامية تقليدية، مضحية بالحقيقة في سبيل العقيدة المبسطة، متخلية عن صرامة المنطق الكلاسيكي في سبيل كلام نضالي استنهاضي مناطه البث الأيديولوجي. وليس ذلك بغريب، إذ إن الإصلاح الديني الإسلامي، كنظيره ونموذجه المسيحي، لم يعبِّر عن تجديد فلسفي، بل رام نشر أفكار قليلة التفلسف شديدة التأثير، وإن التباين بين الفكر الإصلاحي المسيحي واللاهوت المسيحي في العصور الوسطى يناظر التباين بين الإصلاحية الإسلامية وعلم الكلام التقليدي‏[34].

نعود ونكرر أن المنطق الناظم لخطاب الإصلاحية الإسلامية عقل عملي مناطه ومستنده التأثير المباشر للخطاب. لذلك فنحن نرى امكانية المزاوجة المستمرة – وهذا عنصر بنيوي تأسيسي في الإصلاحية الإسلامية – بين المفاهيم المطاطة، وبين تحقق المفاهيم هذه في مواقف سياسية: إن معيار الحق والباطل في عملية التحقق هذه ليست التماسك والتسلسل، بل المقدرة على الانتشار والإلزام المستنسل من المقدرة السياسية والاجتماعية. وبذلك فإنه يدعى أن ما بقي من المنهج السلفي الإخواني حسب توصيف جامع مانع للسيد راشد الغنوشي هو اعتبار أن الملزم هو النصوص دون تأويل متعسف أو تعطيل جائر، وأن ما يتطور هو الفقه لا الشريعة، وأن الإسلام شامل لكل زمان ومكان، والإقرار بشرعية الاختلاف «فيما يجوز الاختلاف فيه» مع الالتزام بوحدة صف المسلمين‏[35].

على ذلك يكون اليسير ما هو مشهود من النص على التناظر مع محو الفوارق: الديمقراطية والشورى، العلم والإيمان‏[36]، القرآن والاشتراكية، الحديبية وكامب ديفيد، المضاربة والمعاملات المالية الراهنة إلى آخر ذلك من الموافقات التي نشهدها يومياً» في هذه الترجمات المراوغة‏[37]. على أن منطق الترجيح، ومنطق الحسم، خارج عن الخطاب. ولذلك فإنه من الممكن الأخذ بما دخل الفكر العربي في العقود الأخيرة وغلب عليه من المسلمات الإسلامية، والاتجاه بها إلى نواحٍ تتفاوت بين التشدد والغلو من جهة، وبين منازع بالغة الانفتاح من جهة أخرى. وإن في نهج الاحتكام إلى النص باعتباره الثابت الذي يحرك ما يشير إليه ويضفي عليه المعنى، في هذا النهج، مساحة حاوية لقوى وخطابات بالغة التنوع. إلا أنه يتضمن غلبة لطرف على طرف هي غلبة خلقية طالما أخد النص مرجعاً، فإن التنازع بين أهل الغلو وأهل الوسطية مرتب لصالح الغلاة على حساب الوسطيين. فإن المتشدد واضح فيما يقصد ويريد، ويعالج النص على صورة تتوافق مع معانيه الأولية البادية للعيان، أما الوسطي فهو يلوك الكلام وليست لديه وسائل الدفاع عن النفس في مواجهة المتشدد، وليس لديه ما يقدمه ضد وضوح كلام الأول‏[38]. ليس غريباً من هذا المنظار أن نرى تراجع الإصلاحية الإسلامية عن الإفصاح في العقود الثلاثة الأخيرة، واتخاذها مواقع دفاعية لما تعتقد أنه الجمهور، وعلى الرغم مما بيّناه من غلبتها على المواقع الرئيسية من الخطاب العام في بلدان عربية أساسية.

وإن الجدير بالذكر هو أن التحليل الذي أسلفناه ينطبق على مختلف المجالات التي عالجتها الإصلاحية الإسلامية، هي تنسحب على الفقه الذي يشهد توتراً بين فقه المصالح والمقاصد من جهة، وفقه الشريعة من جهة أخرى، وعلى فقه السياسة الذي يشهد توتراً بين اعتبار الإسلام نظاماً سياسياً واضح المعالم ونقائض هذا الرأي، وعلى جل المجالات الأخرى‏[39]. ولما كان الاستناد إلى النص هو لب الحركة تجاه أسلمة الوقائع المستجدة أو وضعها في إطار يجعلها إسلامية مضارعة لما جاء في النص، علينا الالتفات إلى أسلوب معالجة النص التأسيسي. وتجدر بنا الإشارة العابرة إلى شأن الحديث. لم تكن ثمة أساليب تاريخية أو تأويلية تذكر على الرغم من الاتجاه نحو التعليل النسبي من شأن الحديث وحصره بجملة محصورة من الأحاديث، وعدم الأخذ بأحاديث الآحاد مهما بلغت درجتها في الصحة في نظر المحدثين، إذا خالفت القرآن أو العقل. ولكن محمد عبده ما قدم مساهمة تذكر في تجديد إشكالية البحث في الحديث. ويذهب في هذا السياق عبد المجيد الشرفي بحق إلى أن جهود عبده تركزت «على نقد الأحاديث التي تعترض سبيله أثناء معالجته المواضيع الإصلاحية التي اشتغل بها، وكان هذا النقد في الغالب ترجيحاً لرأي على آخر وانتصاراً لبعص المحدثين القدامى، وطعناً في آخرين ومن اجتهاد شخصي يتجاوز الطريقة التقليدية التي كان يتناول بها الحديث»‏[40].

يستند تأويل القرآن – أي تأويل ما يمكن تأويله بعد أن يصار إلى تفويض ما لا يجوز تأويله، وأن تصريف الآيات المفردة على هذا الجنس من الآيات أو ذاك هو في جوهره قائم على اعتبارات آنية تتعلق بظرف التأويل وجمهوره وسياقه -‏[41] إلى القطع بأن ظاهر الآية «غير مراد»‏[42]. وإن القرار بأن هذا المعنى أو ذاك هو بدوره راجع إلى سلطة من يتخذ هذا القرار، وهو قرار يكون له الاستتباب إن كان لصاحبه السلطة على جعله قولاً مرجعياً. من الأمثلة على ذلك خبر نوح وطوفانه، وهي مسألة تتراوح بين التفويض والتأويل وقد تحتمل عناصر منها الاثنان. فرأى عبده أن القول بعموم الطوفان الأرضَ لا أصل قرآنيَّ له بل هو قائم على أحاديث لا توجب اليقين. فأورد حججاً على أن وجود الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال يدل على صعود الماء إليها «ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض». ثم أكد أن الطوفان لم يعم الأرض كافة بدلالة «شواهد يطول شرحها»، واستنتج ما يلي: «لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاماً لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز، بل على كل من يعتقد بالدين أن لا ينفي شيئاً مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها وينصرف عنها التأويل إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل، وعناء شديد وعلم غزير في طبقات الأرض وما تحتوي عليه، وذلك يتوقف على علوم شتى عقلية ونقلية، ومن هذى برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف لا يسمح له قول ولا يسمح له ببث جهالاته، والله سبحانه وتعالى أعلم»‏[43].

في هذا النص الحذر قطع بأن الظاهر «غير مراد» – من المريد هنا، إلا المؤلف، والمؤلف المستند إلى مراد العصر الذي عاش فيه. تتأكد السلطة القطعية للنص بإجراء معنى اليوم عليها، فيصبح اليقين والنص صنوين. وعندما لا يكون التأويل قائماً ولا ينسجم مضمون النص مع التاريخ الطبيعي والتاريخ البشري، يصار إلى القول بأن دلالة النص عامة لا يقصد منها الإفادة بل الإرشاد: «فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من الكلام في الفلك. يراد بذلك كله التوجيه إلى العبرة والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته، لا تفصيل مسائل العلوم الطبيعية والفلكية التي مكن الله البشر من الوقوف عليها بالبحث والنظر والتجربة، وهداهم إلى ذلك بالفطرة وبالوحي معاً. لذلك نقول: لو فرضنا أن المسائل التاريخية والطبيعية المذكورة في الكتاب ليست مطابقة إلا لما يرى أو يعتقد الناس كلهم أو بعضهم في زمن التنزيل لما كان ذلك طعناً فيه، لأن هذه المسائل لم تقصد بذاتها بل المراد منها توجيه النفوس والاستفادة بما أشرنا إليه، فتنبه»‏[44].

في هذا النص إقرار بتاريخية القرآن وبأن أقواله محكومة بتواريخها وبعقليات متلقيها. ولكن هذه النظرة – وهي ما يثوي وراء أفضل ما أفضت إليها الإصلاحية الإسلامية، ككتاب الفن القصصي في القرآن لمحمد أحمد خلف الله – على محدوديته الفكرية – الذي أكد وجود الاضطراب النصي والأساطير حول الجان والثعابين والأنبياء، مع تبرير إصلاحي يرجعها إلى اتخاذ التمثيل أداة تربوية ترتجي الاعتبار -‏[45] ما كان لها الانتشار ما يجعلها بمثابة العادة الفكرية والمقدمة إلى التقصي التاريخي للقرآن باعتباره نصاً يسري عليه ما يسري على كل نص من اعتبارات التاريخ العقلي غير المتصل بالعقيدة. بل إن تأويلات القرآن قد جنحت إلى منع التقادم عن معانيه أو على الأقل إلى الغمغمة. وهي جنحت أيضاً إلى اعتبار النص القرآني بمثابة نص مُشفّر مفتاحه ما يرى الإصلاحي له مناسباً من المعاني. يدل الكلام القرآني على انشقاق القمر على إمكانية تبدل ترتيب الكون واختلال نظامه إذا ما شاء الله‏[46]: من التأكيد على عدم الفهم هنا وترك الأمر للمشيئة الإلهية التي لا سبيل لنا إلى الإطاحة بها، ينصرف محمد عبده في مكان آخر إلى تأويل الطيور الأبابيل وحجارتها من سجيل القرآنية: يجوز الاعتقاد بأن «هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه، فأثار فيه القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعدّ من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد اهلاكه من البشر، وإن هذه الحيوان الصغير الذي يسمونه الآن بالمكروب لا يخرج عنها، وهو فِرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها. لا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال، ولا أن يكون من نوع عنقاء مغرب، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها. فلله جند من كل شيء»‏[47].

في هذا الكلام مزيج من أجناس أدبية شتى: الورع الإيماني (الإشارة إلى المشيئة الإلهية غير المحدودة)، وتوخي العقلنة مع الرغبة في الإعجاب (الإشارة إلى عنقاء مغرب والعجيب والغريب من الخوارق، جند الله، رؤوس الجبال)، وتوسل المعارف الحديثة لفك شيفرة النص القرآني (الجراثيم) – في كل ذلك بيان قد يكون نموذجياً لما قامت عليه الإصلاحية الإسلامية فكرياً وما زالت قائمة عليه. وقد لا يكون من نافل القول ونحن قد سبق وأن أشرنا إلى العلاقة بين الإصلاحية الإسلامية ونظيرتها المسيحية، أن نشير إلى أنه كانت لهذا المنحى الإيماني المعقلن نسبياً لنص القرآن نظائر في المسائل والمناهج الواردة في كتاب فرنسيس المراش الحلبي شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة (١٨٦٧) الذي كان قد نشر على حلقات في الستينيات من القرن التاسع عشر في إحدى الصحف العثمانية، واستقى الكثير مما كان فيه من الوسط الكاثوليكي في كلية الطب في جامعة باريس حيث درس المؤلف‏[48].

في هذا السياق التاريخي كما في ذاك، يصار إلى اللجوء إلى النص القرآني أو الإنجيلي/التوراتي – لجوء المنافح عن حق لا يمكن إلا أن يناظر الحق المتعيّن في لحظة المصلح وفي حلقته السياسية والاجتماعية والثقافية والمؤسسية. يصار إلى تغيير المضامين الفقهية من دون تغيير آليات الخطاب الفقهي. على هذه الصورة نرى الخطاب الإصلاحي الإسلامي يفكك النص المرجعي عن سياقاته كلها – التفسيرية التراثية وعما تراكم عليها من جهد على امتداد قرون، بحيث ينقلب هذا النص إلى شواهد للاستشهاد، يصادر عليها ويسمي هذه المصادرة أصلاً، وهذا شيء في دراسة بالغة الدقة والإحكام حول كتابي قاسم أمين تحرير المرأة (١٨٩٩) والمرأة الجديدة (١٩٠٠) وأدوات الانتقال بينهما‏[49]. يلجأ الخطاب الإصلاحي إلى جعل النصوص رميماً ثم إحياء هذا الرميم في سياقات خارجة عليها ومن ثم إعادة تركيبها، في انقطاع عن تسلسلها وسياقاتها، بقصد استهلاكها. يتكيف الخطاب الإصلاحي، كما أسلفنا، بسياق وظروف البث والتلقي ويستند في مقدرته الإقناعية ليس على التسلسل والأحكام المفهومي، بل على المقدرة على التغلب في مجال التداول‏[50]. وهو يتكيّف مع المطلوب عملياً في وضعه الحدود بين الثابت والمتحول من الأمور‏[51]. وهو على ذلك خطاب راديكالي في انصرافه عن الزمان والزمانية وعاجز عن الإلمام بالزمان وعن عقل الزمان‏[52]. هو يعد خطاباً ينصرف في مجمله إلى تكرار الكلام الإنشائي حول علاقة التلازم والمصاحبة بين النص والاجتهاد والتمييز بين الثوابت الدينية والمتغيرات الدنيوية على نحو لا ضابط فيه لهذا ولا لذاك إلى ضرورات لحظة العبارة‏[53].

يترتب على ذلك نتائج على رأسها كون المراوغة والمراوحة بين السياقات أساس ثابت من أسس هذا الخطاب. فنحن نجد مثـلاً شخصية بالغة الانفتاح والمقدرة على التمييز كحسين أحمد أمين تراوح بين ما تراه مستحباً اليوم – وذلك في كتاب يتوخى دلالة المسلم الحزين على مقتضى السلوك في القرن العشرين – وما ترى ضرورة الإقرار به من الثوابت أو مما أصبح بمثابة الثوابت التي ثبتت في أجواء مصر في عهد السادات وما بعده. يعني أنه بعد كلام حول الملاحدة يفيد بمزاوجة بين «الحقد على الإسلام» وحرية الفكر «مؤمن بضرورة العودة إلى تطبيق الشريعة»، إلا أنه يرى أن الأمر ليس بسيطاً، إذ يتعلق الأمر بغياب مجموعات قانونية معتمدة، وبتضارب السوابق التاريخية، وبعدم وضوح مرجعية هذا المصدر أو ذاك‏[54].

اللافت للنظر هنا هو شعور المصلح الإسلامي بضرورة الإعلان عن الالتزام بأمور بعيدة ولكنها تنحو إلى الهيمنة – الترتيبات الحداثية اقتصادياً وسياسياً والوضعية علمياً وفكرياً وتاريخياً في حالة محمد عبده‏[55]، المسلّمات الحركية الإسلامية النكوصية المعلنة في حالة حسين أحمد أمين، رغماً عن انفتاحه ومقدرته على التمييز، أو بالأحرى في معية هذا الانفتاح وسعة الأفق المتبديان في نظرته إلى الحجاب على سبيل المثال‏[56]. إن ذلك من توابع الوضع السياسي والاجتماعي، كما أنه متاح في سياق عدم توازن وعدم اتساق الخطاب الإسلامي الإصلاحي، وتشييده على أساس من إمكان تربيع الدوائر. نعود ونكرر أن هذه الخصائص وإن نُظر إليها مفهومياً تجد مناطها في عدم إلمامها بالزمان وعدم استيعابها للتاريخ بوصفه تحولاً نوعياً، وعدم استعدادها إلى القول بالتقادم وتحديداً عدم الاستعداد لإقرار جريان مفهوم التقادم على معاني النص المؤسس، وعلى الفقه والشريعة وغير ذلك من معطيات التراث الديني الإسلامي.

كان خطاب الإصلاحية الإسلامية وما زال، كما حاولنا البيان، محكوماً بتوتر تكويني أفضى إلى حلول الاضطراب والمراوغة منه موقع العنصر البنيوي المكون. وعندي أن العلة الرئيسية لذلك تكمن في الإحجام عن الإلمام بالزمانية على نحو تترتب عليه نتائج. لا مجال لتحديث النظر في شؤون الفكر الديني الذي يولي اهتمامه للنص التأسيسي إلا إن صيرَ إلى الانتقال في الفكر المجازي الذي يضع النص في موضع المجاز في علاقته بمقاصد المصلح، إلى تناول الحقائق التاريخية للنص وحقيقته بوصفه نتاجاً للتاريخ يتطلب تقصياً بموجب معارف تاريخية ولغوية وأنثروبولوجية وغيرها مما هو واجب للبحث التاريخي في نص هو نتاج للتاريخ. إن هذا الانتقال انتقال من المنافحة الاعتذارية إلى التأريخ، وهو انتقال من تقاليد أسباب النزول إلى المعقولية التاريخية. المطلوب هنا أكثر من الالتزام بالمعاني المستقاة من اللغة كما أراد محمد عبده، أو من ظاهرات القرآن كما أراد حسين أحمد أمين‏[57] أو كما أراد مارتن لوثر. المطلوب الانتقال من الإصلاح إلى التجديد بمعناه الفعلي، من تربيع الدوائر إلى تناول المربع على أنه مربع والدائرة على أنها دائرة.

وفي هذا الظرف بالذات وبعد استشراء الغلوّ في وطننا العربي وبعد تصدير المسلمين العنف المطلق إلى سائر أرجاء الدنيا نجد أن البعض من المسلمين ذوي النزوع الإصلاحي ربما يكونون قد باشروا باجتراح مسارات تحليلية باتجاه القرآن والتراث الديني بمعنى أعرض، قد تكون تباشير تجديد مجد، أي تجديد قد يجدد صدقية قول عبد الله العروي عام ١٩٦٧ بأن «عهد التمويه، وإن كان لغرض نبيل، قد ولّى وأصبح من الضروري أن لا يكتفي الفكر العربي بتعقب ما أنجزه الغير، بل عليه أن يستبقه لكي يخرج من نطاق الأدلوجة ويطرق حيِّز الفكر الحديث المطابق للواقع»‏[58]. كتب العروي ذلك في وقت كانت الغلبة الفكرية فيه للفكر التقدمي التحديثي. وإن ما حصل من العقود الأخيرة كان صعود الخطاب النكوصي القائم على الهوية إلى مركز الغلبة، وعليه فإننا نصرف كلامه على الوضع الجديد، وعلى الفكر في مجال الدين تحديداً، الذي نجده قد يكون على أعتاب نقلة نوعية ما زالت مفاعيل انتشارها وتداولها وسياستها غير واضحة حتى الآن.

وإننا في ما سنورده الآن نستثني الكم الكبير في اللغو حول التفسير التقدمي للقرآن أو قراءة النص القرآني وكأنه درس في الهندسة المدنية أو الفصل الحسن النية بل الساذج تاريخياً في الإلزام بين الآيات المكية وتلك المدنية. في كل ذلك مقادير كبيرة من التعسف، وقد رأينا أن التعسف في التفسير والتأويل الإصلاحيين ليس خلـلاً في المنهج بل عنصر مكوِّن لخطاب الإصلاحية الإسلامية. في هذا اللغو، وفي هذا التعسف، بل وفي الخطاب الإصلاحي الإسلامي في قراءته للقرآن عموماً، نجد أن القرآن لا يقول ما يقول ولا يعني ما يقول على أي نحو تاريخي معتبر، وكأن القرآن يؤدي معاني ليس قادراً على تقديمها إن أخذنا الزمن واللازمانية بالاعتبار.

ما كان القصد المضمر في خطاب الإصلاحية الإسلامية إنتاج المعرفة بل كان المساوقة الرمزية بين أزمنة متباينة، أي ممارسة الدبلوماسية المفهومية في إطار سياسة ثقافية عريضة. إن مرادنا هنا نزوعات جديدة تتناول تاريخية النص القرآني على صورة مبتكرة قد تجاوز التاريخ وتضع لنفسها حدوداً ما فتئت الإصلاحية الإسلامية تشيدها. وجرياً على دأب الإصلاحية الإسلامية، نرى أن نزوع التجديد هذا ينطلق من متطلبات اليوم لإعادة صياغة النص الذي ما زال تأسيسياً بالنسبة إلى الإصلاحي. لذلك فنحن عندما ننشد فهم منطق الكتاب النفيس لسعيد ناشيد الحداثة والقرآن علينا الالتفات إلى ما يراه المؤلف ضرورياً من القواعد للتدين العاقل في وقت انتشرت فيه السلفية التي تبدو للمؤلف ديانة بدائية أساسها عبادة الأسلاف، وغاب فيه قوام الدين الإيماني الفردي عندما حصر بالطقوس وبالشريعة‏[59]. وفي وقت يصار فيه إلى محاولة إخضاع الفرد إلى مفاهيم الطاعة والجماعة والبيعة مما أرسى ثقافة القطيع والخنوع والنفاق‏[60].

يرى ناشيد أن الإيمان رهان شخصي غير ملزم (القاعدة ١)، وأن الحقيقة الدينية متعددة (القاعدة ٢) – مما يفيد بأن الشك ترياق مانع من اليقين المفضي إلى العنف، وذلك بناء على توكيد القرآن على تعدد الشرائع، والذهاب إلى أن وحدة الله لا تعني الديانات على مذهب واحد، وأن فطرة الإنسان لا تحتمل التشابه والتنميط. ويذهب ناشيد إلى أنه لا ثوابت في الدين، إذ لا أحكام نهائية في محكمة العقل (القاعدة ٣) – يترتب على ذلك أنه لا تجديد في الدين من دون تقويض الثوابت التي تجمده. ومن هذه الثوابت ما يدعى أنه «معلوم من الدين بالضرورة». ويشدد ناشيد على أن المهم الأعمال وليس العبادات أو العقائد (القاعدة ٤)، مستنداً بذلك إلى آيات قرآنية وإلى الغزالي والفطرة البشرية الدالة على امتناع عقوبة الله لمن يفعل الخير ولو لم يكن مسلماً – في اقتراب من مفهوم العدل الاعتزالي. يرتبط ذلك بالقاعدة الخامسة الذاهبة إلى أن الشعائر الدينية تطوعية لا إلزامية، إذ لا إكراه في الدين، وبالقاعدة السادسة أن مشروعية الفتح والغزو والقتال انتهت مباشرة بعد فتح مكة. ويضيف ناشيد القاعدة السابعة الذاهبة إلى أن الحجاب عادة لا عبادة، وأن المصطلح القرآني يدل على الستار المعنوي بينما دلت السنّة على الستار المنزلي، وفي كل الأحوال لا دلالة على لباس المرأة، كذلك الأمر فإن تعدد الزوجات على ما يرى ناشيد ليس سنة نبوية (القاعدة الثامنة) وإن منع الاختلاط في المساجد من مظاهر الانحطاط (القاعدة ١٠)، وإن كلام الرسول أساساً ليس معصوماً من الخطأ إلا إن بلغ الوحي (القاعدة ٩).

تلك مواقف محمودة نرى أن المؤلف يعضدها بحجج تتفاوت بين تلك البديهية قيمياً في هذا العصر، وتلك التي تتأول آيات من القرآن وأدلة من التراث الديني، وتتخذ من التدين مناطاً لها. وهي مواقف على أهميتها في الجو المحيط بنا نجدها تحاول الاستناد إلى حجج مستقاة من الدين. هي تذهب بهذه الحجج إلى مسافات بعيدة عمّا هو مألوف وتفصح عن استعداد لتفادي الغمغمة والتقية، وخصوصاً عندما تنفي ما يعرف بالثوابت المعلومة في الدين بالضرورة، وعندما تؤول بالتدين ممارسة وإيماناً إلى الضمير الفردي. ثم إنها تطوي مسافة لا بأس بها في النظر إلى النص المؤسس وفي اعتبار ما جاء فيه خاضعاً» للتحول التاريخي. وإن المؤلف يقلل من القدر المألوف من محاولات تربيع الدوائر، ويبدو أن ذلك مقتصر عنده على الكلام حول تعدد الزوجات، وذهابه إلى أن ذلك ليس سنّة نبوية (القاعدة ٨). هو يذهب إلى أن الصورة التي يتم تداولها بين مشايخ وشباب وفضائيات مسيئةٌ للرسول، وأن الرسول لم يثمن التعدد ولم يوحِ به. يتساءل المرء عن القرآن وعن السيرة وحول ما إذا كان ذلك يسمح لنا بأن ننمط النبي على صورة ما هو مستحب في هذا العصر ومناسب له من أمور تتناول علاقة الرجال بالنساء، في وقت بإمكاننا أن نذهب فيه إلى أن الرسول أقرب إلى أعراف وذائقة الأديان والبوادي في القرن السابع منه إلينا.

إن في هذا، أي في اعتماد النص الحديثي أو القرآني مرجعاً لنا، – وذلك دأب الخطاب الإصلاحي – فتحاً للباب على التنافس على التكلم باسم القرآن والسنّة، منافسة لن ينجح فيها التقدمي اليوم لأن خطاب القدامة أكثر اتساقاً بل في هذه الحالة أكثر وفاءً للتاريخ – ونحن نرى ناشيد يؤكد أن السلفيين صادقون مصدقون لصريح النص بينما هو يجد «المعتدلين» في موقع التبرير والتحايل‏[61].

ولكن القرآن الذي يقدَّم لنا مرجعاً قرآن مقيَّد بقيم الرسول وعصره‏[62]. هو نص تاريخي مرتبط بالرسول. أي أن ما نعرفه من المصحف العثماني هو التمظهر الأخير للقرآن الخالد الثاوي في أمكنة لا مداخل لنا إليها: «ترجمة بشرية للصور الوحيانية» ذات المصدر الإلهي التي ترجمها محمد لنفسه في خطاب وجهه إلى الناس وفق ثقافتهم وظروفهم ومداركهم. وهو نص صاغه الرسول لغوياً تبعاً لفهم النبوة استهواه السيد ناشيد – متقادم اليوم لا يستند إلى المعارف الأنثروبولوجية والتاريخية المتاحة – مستقى من الفارابي وابن عربي وسبينوزا، مستند إلى توهمات حول الفيض الإلهي وتأول الإشارات الربانية، في معالجة توحي بها بعض مناحي الإصلاحية الإسلامية الإيرانية عند الشبستري وسروش‏[63].

إن التفتنا عن هذا التنظير للنبوة، نرى أن ما يتبقى من القرآن هو ما جاء به الرسول: نص تاريخي مرتبط بظروف موضوعية معينة، مصحف عثماني مستند إلى قرآن محمدي المستقى بدوره من وحي إلهي، مع تفارق بين المحطات الثلاث وعدم مقدرتنا على النفاذ من الواحد إلى الآخر. وعلى ذلك فإن المضامين الآيلة عن النص قابلة للتبدل وللزوال بزوال أسبابها المباشرة، وإن ما يتبقى من الأحكام القرآنية ليس إلا شرائع بدوية بدائية كالقصاص والحدود والجزية والسبي، ومبدأ التوحيد الربوي دون زوائد – أي مفهوم ربوبي للدين عابر للديانات‏[64].

يتيح لنا كل ذلك فتح القرآن على التحليل التاريخي: من صعوبة فهمه للكافة، إلى لغته، إلى التفاوت في إتقان صياغاته، إلى مصادر أقواله التي يرد فيها ما قاله غير الرسول، إلى صعوبات ظروف إملائه وترتيبه والهنات اللغوية الواردة فيه (وهي ليست هنات إلا باعتبار قواعد اللغة العربية التي لم تستقر إلا بعد زمن الخليل بن أحمد وسيبويه، وينبغي أن تعتبر على أنها استخدامات لغوية متاحة في زمن إعداد النص القرآني) والآيات الشيطانية والدلائل على صراع الرسول مع نفسه وتأنيب إلهه له‏[65]. تلك أمارات تتيح للمؤرخ العمل على تقصي العملية التاريخية الفعلية لإنشاء القرآن في مراحلها ومكوناتها القابلة للتقصي دونما اعتبار للقضايا العقيدية‏[66]. ويبدو أن افتراض انفصال النص القرآني عن المصدر الإلهي الذي يُعزى إليه، وفصل النص المتداول عن نص سابق عليه، قد يصبح أحد السبل إلى تحرير نص القرآن من ضوابط الاستخدام السياسي والاجتماعي وفتحه على العقل التاريخي وعلى الإلمام بالزمانية. هكذا فعل ناشيد، وهكذا فعل بعض المفكرين الإيرانيين، وهكذا فعل المؤلف اللامع شهاب أحمد الذي توفي مبكراً، في محاولته الفصل بين ما قبل النص، والنص وسياق النص: الأول مستودع الوحي المباشر على ما يرى المؤلف، الثاني مستودع الكلام والثالث مستودع التناول‏[67].

ليست الفروق بين الاثنين واضحة بل تبدو فروقاً خطابية القصد ومنها الرد على دعاوى الغلاة الذين ينعون ما قبل النص وسياق النص، مع الاستبقاء على النص وحده من دون تاريخه. هذا من جهة؛ أما من جهة ثانية، فإن المؤلف يروم تشييد صرح جمالي يتضمن كل القراءات الممكنة للقرآن يحول الإسلام إلى فاعلة تأويلية مستمرة مناطها ما يطلق عليه المؤلف عبارة «إنتاج المعنى» الذاتي والجماعي: أي في ظروف الولايات المتحدة، بناء انتماء قائم على إعداد ذائقة إسلامية خاصة ذات طابع أدبي‏[68]؛ أي الأخذ بالإسلام إلى مجال الذات الفردية والجماعية. وفي هذا انفصال عملي عما آلت إليه مدرسة محمود محمد طه الإصلاحية في نسختها الأمريكية، التي نراها لدى أبرز ممثليها ما زالت تعمل على مساجلة العلمانية والحط منها ونرى أن نصاب الهوية الإسلامية يتمحور حول الشريعة بوصفها فرضاً دينياً قائماً على تأويل المسلمين لما هو وارد في القرآن‏[69]، على شاكلة الإصلاحية الإسلامية التي ما زالت تربع الدوائر.

 

قد يهمكم أيضاً  مقدمات في إصلاح المجال الديني

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الإصلاح_الديني #النهضة #الإصلاح_في_المجال_الديني #الإسلام #الفكر_الإصلاحي #التيارات_الدينية