تمهيد:

تمثل التجربة العملية للإسلاميين في الحكم حقـلاً بحثياً غير متناول كثيراً في ظل التحولات السياسية التي شهدتها عدة بلدان عربية خلال ما عُرف بالربيع العربي. منحت اللحظة التاريخية فرصة فارقة للتيارات السياسية الدينية للتقدم نحو صدارة المشهد السياسي في الكثير من البلدان العربية، وبخاصة أنها امتلكت أدوات هذا الحضور «كمياً» لطبيعة تنظيماتها وقوتها وحضورها بالتفاعل مع طبقات المجتمع بصور مختلفة، بالضد من أغلب التيارات المدنية التي تفتقر إلى أدوات الحضور في المجتمع. أما الأدوات «الكيفية» لهذه التيارات فتراث تنظيري تكوّن عبر عقود بشَّروا به كثيراً بوصفه الحل السحري لكل مشاكل مجتمعاتنا. رغم أن السياقات السياسية التي أتيحت لبعضهم – بدرجات متفاوتة – فهي لم تسهم في بلورة رؤية سياسية واضحة تنعكس على ممارسات هذه التيارات في الحكم فيما بعد. كان تبشير هذا التيار عبر عقود بالدولة الإسلامية أمراً نظرياً لم يُتح له – بحسب منظريه – فرصة الاختبار العملي مثلما حدث في مصر، حيث تولى الإخوان المسلمون حكم البلاد عاماً كامـلاً سبقه عامان من التمدد السياسي في البرلمان؛ لتنتهي التجربة بعزلهم من الحكم مع تغييرات كبيرة في بنية أغلب الجماعات الإسلامية. وبالتطبيق على جماعة الإخوان المسلمين – كنموذج وصل إلى قمة هرم السلطة – نجد أنها لم تستطع أن تقترب من أركان الدولة الموروثة من عهد مبارك لغياب الكوادر الإدارية التي يمكن إحلالها بديـلاً منهم، وهو ما أنتج سيطرة فعلية للدولة العميقة وتوجيه القرار السياسي، فضـلاً عن افتقارها إلى برنامج عملي للحكم أدى إلى تفاقم المشكلات الموروثة، وتزايدها مع غياب حلول ابتكارية. لذا سعت الجماعة إلى ترويض مراكز القوى بالسعي للاستفادة من مُعطيات الواقع في اتساق مع فكرة الإصلاح التدريجي الذي يحكم التنظيم ومن أبرز نتائجه غياب ثورية القرارات.

من هنا تنطلق هذه الدراسة من إشكالية رئيسة تتلخص في أنه من واقع المشاركة العملية بدرجات في الحكم نجد عدم امتلاك جماعات الإسلام السياسي آليةً مُحكمةً لانتقالها من مرحلة إدارة التنظيم إلى مرحلة إدارة الدولة، لغياب تصوُّر مُحدد عن طبيعة الدولة، فضـلاً عن غياب نموذج تطبيقي لتحقيق «الدولة الإسلامية» رغم أنهم – كجماعات لها مشروع سياسي معلن – يستهدفون منذ عقود إقامتها، حيث أسهبوا في الحديث عن العائد المحقق منها من دون الحديث عن آليات تسيير شؤونها. وهذا يعود إلى تراكم العديد من الإشكاليات أمام هذه الجماعات، سواء لأسباب «فكرية» في ما يتعلق بمسائل الدولة والحكم، أو لتراكمات تنظيمية حالت مسارات مكوناتها عبر عقود مضت دون تجاوزها حيث استمرت آلياتها التقليدية في التجاوب مع أزماتها التي أظهرتها تجربة الحكم دون استحداث آليات جديدة للتفاعل معها بحكم ما تفرضه التجربة العملية التي أصبحوا في قمتها.

ومن أجل تحقيق ذلك نسعى إلى تحليل تجربة الإسلاميين في الحكم في ضوء التعرف إلى التصورات العملية للنظام السياسي الإسلامي المستهدف تحقيقه في ضوء برامج الأحزاب الإسلامية، كذلك التعرف إلى كيفية تفاعل جماعة الإخوان المسلمين، كبرى الجماعات، تجاه مسألة الحكم، التي استطاعت الوصول إلى سدته من خلال التطرق إلى العوامل المؤثرة في أزمات الجماعة بالسلطة، كذلك تفاعلات الإسلاميين في تجربة الحكم، وأبرز تداعيات التجربة، وأسئلة التنظيم.

* * *

منحت التجربة السياسية فرصة التعرف بصورة أقرب – نظرياً وعملياً – إلى طبيعة نموذج الدولة الإسلامية المستهدف تحقيقها، وفق فهم المكونات الإسلامية لمسألة الشريعة وكيفية تطبيقها في ضوء تجربة الإسلاميين في تأسيس أحزاب حصلت على أغلبية مقاعد برلمان عام 2011. حيث وضعت تجربة الحكم مُسلّمات ودعوات المشروع الإسلامي عامّةً قيد الاختبار. عند تحليل برامج الأحزاب الإسلامية في ما يتعلق بتطبيق الشريعة نجد أنه من حيث:

1 – النظام السياسي المستهدف: تباينت مواقفهم من شكل النظام المستهدف لهم، منهم من لم يحدد ذلك، كما هو حال أحزاب «الوسط» و«النور» و«البناء والتنمية»؛ بينما ترى أحزاب «الحرية والعدالة» و«الأصالة» و«الفضيلة» أن النظام البرلماني هو الأمثل. بيد أنه عند النظر إلى مرجعية هذا النظام لم تختلف الأحزاب حول أهمية تطبيق الشريعة بل حول الصيغة المطروحة. فقد اتفقت أحزاب النور‏[1] والأصالة‏[2] والفضيلة‏[3] والبناء والتنمية‏[4] على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. في حين لم يُعلن حزب «الوسط»‏[5] صراحة المرجعية الإسلامية، حيث اختار الاهتمام بالمضمون لا بالشكل، وتضمين المقاصد والأهداف العليا من دون التطرق إلى الأصول المرجعية لهذه الصياغات.

2 – دور الدولة في تطبيق الشريعة: انقسمت الأحزاب الإسلامية في رُؤيتها لهذا التطبيق إلى قسمين: الأول، يتعلق بإيكال ذلك إلى المجالس التشريعية المنتخبة انطلاقاً من أن أي تغيير في الدولة يجب أن يحترم الشرعية الدستورية، مثلما هو الحال في حزبي «الحرية والعدالة»‏[6] و«البناء». والثاني، إيكال حزبي «النور» و«الفضيلة» ذلك إلى مُؤسسات الدولة الدينية والثقافية والإعلامية بعد تَقنين دورها في حماية الهوية الإسلامية والرقابة على عموم المجتمع.

3 – آليات المجتمع في تطبيق الشريعة: تباينت الرؤى حول ذلك، فهناك من دعا إلى ضرورة تهيئة المجتمع لتطبيق الشريعة، ببرامج تربوية وثقافية، إذ أَشار «حزب البناء والتنمية» إلى الدور الهام للمؤسسات الدينية ودعا إلى تطويرها، وطالب حزب «الأصالة» بتحقيق الإصلاح الفكري والقيمي والاجتماعي كما يرى، فضـلاً عن تحقيق العدالة الاجتماعية بحسب «الحرية والعدالة».

أولاً: الإخوان وأزمات السلطة

تعددت المؤثرات الفكرية والتنظيمية في الأداء السياسي للجماعة في لحظة وجودها في الحكم، وهو ما أثار حالة الجدل التي أثيرت سواء بين المتابعين أو في صفوف الجماعة. جزء أصيل من أزمة حكم جماعة الإخوان المسلمين كان عجزها عن إدارة التنوع المجتمعي، فبدلاً من الانفتاح على القوى المدنية بعامة والإسلامية بخاصة انغلق على نفسه، واستعدى أغلب المكونات السياسية إسلامية ومدنية. وهذا نتاج فكرتين حكمتا المسار الفكري للجماعة عبر العقود الأخيرة – وما زالت – وهما «القطبية» و«السلفية». هذا الجدل قديم يسبق الثورة. بداية النقاش العلني حول التغيرات التي لحقت بالمرجعية الإخوانية كانت في حديث تلفزيوني للشيخ يوسف القرضاوي حول سيد قطب‏[7] أشار فيه إلى أن الأفكار التكفيرية التي انتهى إليها قطب في كتاباته ليست على منهج أهل السنة والجماعة الذي ارتآه جمهور الأمة، مُؤكداً أنها لا توافق فكر الإخوان المسلمين، لأن فكر الإخوان ليس فيه تكفير. نجم عن هذا الحديث عاصفة من الجدل، حيث نفت قيادات الجماعة التي عقَّبت على حديث القرضاوي مُؤكدةً‏[8] أن الإسلام هو الذي يَحكم على الناس ويُصنفهم وليس قطب، وأن قضايا التكفير والحاكمية مُستقرة لدى العلماء، وما كتبه قطب ليس فيه ما يخالف الإسلام؛ فهو لم يخرج عن أهل السنّة والجماعة. كما أن السلفية صارت تياراً فاعـلاً بل وأكثر التيارات فاعلية وتأثيراً داخل الإخوان‏[9]. وخلال الأعوام الخمسة الماضية افتعلت الجماعة بعض الخطابات «المتسلفة»، واستخدمتها سياسياً لتسويق سياساتها بين أطياف المجتمع السلفي في أكثر من موضع وعبر مراحل متفاوتة، منها: استخدام الجماعة رموز السلفية الحركية‏[10] في ترويج مرشحيهم أثناء الجولة الثانية في الانتخابات البرلمانية، أيضاً الدفع بهذه الرموز إلى الرد على السلفيين المعارضين لها لإثارة قضية هل محمد مرسي ولي أمر شرعي أم لا، كذلك استخدامهم خطاب الهوية في مراحل متفاوتة بشكل غير مباشر رغم مآخذهم على السلفيين عندما استخدموا هذا الخطاب.

ملمح آخر يرتبط بالأزمة الفكرية وكانت له تداعياته على مستوى الممارسات السياسية هو مُراوحة التنظيم ما بين فكرة «الأمة» كأساس لتحقيق الخلافة الإسلامية، وبين مشروع «الدولة القطرية» في أوقات متعددة تبعاً للمواقف السياسية الآنية التي كان يتخذها‏[11]. كانت الجماعة تمثل حركة اجتماعية في المقام الأول، أي أنها حركة تغيير اجتماعي، اهتم حسن البنّا بتطوير النظام الاجتماعي وإصلاحه قبل تعديل النظام السياسي، حيث تعديل الأخير مرهون بإصلاح الأول. ومن ثم كان الاهتمام موجهاً في الأساس إلى الأمة وليس إلى السلطة‏[12]، وإن كان الغالب عليها فكرة الأمة كهدف يُراد تحقيقه مدخـلاً لتحقيق مشروع الخلافة أو الدولة الإسلامية. فجزء من المواقف الخارجية كان بناء على موقف التنظيم من ملفات بعينها، وجزء آخر مرتبط بالموقف السلبي لدول خارجية من الجماعة انعكس على سياساتها تجاه مصر. وجزء ثالث متحفظ عن فكرة الحراك الثوري وتغيير النظام بما يشكل تهديداً داخلياً في حال تمدد الحالة الثورية. وعليه، فإن فشل السياسات الخارجية كان نتيجة التداخل بين الداخل والخارج، حيث انعكست رؤية ومواقف الأطراف الخارجية على أطراف الصراع الداخلي من أجل تضييق الخناق على الإخوان ومشروعها الأممي، إذ دارت التوقعات حول السياسة الخارجية في المدى القريب نحو «إعادة صياغة منظومة التحالفات الخارجية وفق الميول العقائدية والقيمية للجماعة»‏[13].

لاحقاً، دفعت تطورات المشهد السياسي في مرحلة ما بعد مرسي إلى تغذية جدالات فكرية داخلية بين القواعد حول طبيعة التغيير وأدواته بصورة مثلت نكوصاً على ثوابت الجماعة. كانت فكرة التغيير في وعيهم عامة ومجردة‏[14]؛ هناك أهداف واضحة ولكنّها عامة تفتقر إلى استراتيجيات وآليات ملائمة لتحقيقها. لذا كان الحديث عنها خافتاً نظير أن أولويات اللحظة كانت لملفات أخرى. إلا أن التغيير المفاجئ في المشهد السياسي عقب 25 يناير 2011 قد فرض على الجماعة ضرورة التعامل معه، وهو ما لم يستوعبه جميع مستويات الجماعة – لأن التغيير الثوري لم يكن على أجندتها – وهذا انعكس في تفاعلات الجماعة سياسياً حيث تصادمت مواقفها مع رغبات جيل الثورة الذي رأى ضرورة القيام بخطوات ثورية واسعة للإصلاح والتغيير، لكنها لم تحدث حيث استمر إيقاع الجماعة البطيء في الحركة وكان له أثره في أداء مرسي السياسي طوال فترة حكمه. إلا أنه بعد المواجهات في مرحلة ما بعد عزله كان طبيعياً أن يخفت منهج الإصلاح التدريجي‏[15] حيث تجاوزته اللحظة الآنية وتطلبت ضرورة الحسم في المواجهة؛ فالوقت لم يعد وقت دعوة بل حركة. وهذا يتوافق مع أفكار سيد قطب الثورية التي تتمدد بين قطاعات من الجماعة، حيث أدى هذا التنازع الفكري إلى الاختلاف في الحركة مما أحدث انقساماً تنظيمياً مستمراً للعام الثالث.

ثانياً: تفاعلات التجربة

تنبع أهمية تجربة الحكم في أنها تمثل فرصة لاختبار السرديات النظرية عملياً، وانعكاسات التأطير النظري في الممارسة العملية للأفكار والتصورات؛ فبوصول جماعة الإخوان إلى الحكم وما صاحب التجربة من تفاعلات، يدخل التنظيم في المرحلة الثالثة من دورة حياته وهي «البيروقراطية». في ما يخص تفاعلات هذه التجربة نناقشها من عدة مستويات كما يلي:

1 – العلاقة مع التيار السلفي

بدت مظاهر تحولات الجماعة الفكرية وانعكاساتها السياسية في العلاقة مع أبرز المكونات السلفية، وهي جماعة الدعوة السلفية، التي حملت أوجه صراع وجود للطرفين، وحالة من الاستعلاء المتبادل، الذي بدت مظاهره في أمرين: الأول، رأت الدعوة السلفية نفسها الأقوم والأقرب إلى المنهج السليم‏[16] مقابل جماعة الإخوان المُفرطة في منهجها وعقيدتها؛ أما الأمر الثاني فيتعلق بأحد مكونات الإخوان المسلمين الفكرية، وهو الرافد السلفي بها، وهذا الرافد كان يقوِّي من رغبة الإخوان في استيعاب الدعوة فكرياً نظراً إلى المنهج السلفي الذي يشتركان به فضـلاً عن تعامل الإخوان بمنطق الجماعة الأم. وهذا كان يدفع دوماً الدعوة السلفية إلى الرغبة في التمايز منهجياً وسياسياً بمواقفها عن الإخوان حيث «حرصوا دوماً على الاشتباك عكسياً مع المواقف التي يتخذها الإخوان من أجل ترسيخ فكرة التمايز»‏[17]. ينعكس ذلك عملياً في استخدام الجماعة خطاب سلف واضحاً في فترة حكمها لجذب شرائح سلفية كأحد الموارد الداعمة لها بصورة مباشرة مثلما هو الحال مع حزبي الفضيلة والأصالة وشيوخها الداعمين – محمد عبد المقصود وفوزي السعيد -، فضـلاً عن دعمٍ غير مُباشر من قبل مجموعات سلفية ثورية الطابع مثل «حازمون». وتمرّ العلاقة بالكثير من موجات المد والجزر المتتالية تثير حماسة البعض حيناً وتحفظاته حيناً آخر لتنتهي بمشاركة حزب النور في بيان عزل مرسي، دون قدرته على تبرير موقفه‏[18]، فيصيبه العديد من الانتقادات الشديدة من كتلته السائلة من عموم الإسلاميين إضافة إلى الاستقالات على مستويات إدارية مختلفة‏[19].

2 – المؤسسة الدينية الرسمية

ظل المجال الديني الرسمي مساحة أزمة مستمرة بين الدولة والإسلاميين من أجل مزيد من السيطرة والتوجيه، وبخاصة أنه مساحة يسهل بها التمدد في أفكار المجتمع بكل يسر على الرغم من تنوع المرجعيات واختلاف الأهداف. وعلى الرغم من حالة التهدئة التي انتهجها الأزهر في مقابل جماعات الإسلام السياسي، لرغبة شيخه في تثبيت أقدامه كـ «مرجعية»، ليس بوصفه إماماً لـ «أهل السنة» بل كإمام «لجميع المصريين»‏[20]. إلّا أن واقع الحال يشير إلى وجود تصعيد لدى الجماعة ضد شخص شيخ الأزهر، منذ تنحي مبارك وحتى ما بعد عزل مرسي. وبسبب ما شاب العلاقة من توتر وتجاوزات رمزية في حق المؤسسة، بدا الأمر كمحاولة لتقليص دور الطيب تمهيداً لعزله من قبل السلطة، أو التضييق عليه لتقديم استقالته، كتجاهله في البروتوكولات واختيار وزير الأوقاف، والعضوية بالجمعية التأسيسية الأولى للدستور، والموقف من تكفير حركة تمرد. وبعد عزل مرسي يحاول الطيب القيام بمبادرة صلح لتصعِّد الجماعة هجومها عليه واصفة الأزهر بأنه «مختطَف على يد شيخه وأي مبادرة سيقدمها لن تكون مقبولة»‏[21]. حالة الصراع مماثلة ذات طابع سياسي حدثت في وزارة الأوقاف، ودار الإفتاء وإن كان الوضع في الأخيرة قد حمل طابعاً شخصياً، وخصوصاً مع حدة المواجهات التي قامت بينهم وبين المفتي السابق علي جمعة لتزداد بين الطرفين نتيجة مواقفه المُحرّضة على الإسلاميين‏[22] – بحسب رؤيتهم لتصرفاته – حيث كانت محاولات السيطرة على هذه المؤسسة واضحة من تحركاتهم وتصعيدهم السياسي ضد شخص المفتي‏[23].

3 – الكنيسة القبطية

تمثل علاقة الإخوان المسلمين في الحكم – ومجمل الكتلة الإسلامية – بالكنيسة اختباراً لمقولات التسامح والدولة المدنية المستهدف تحقيقها، ولا سيَّما مع سيادة منظور الإسلاميين الفقهي تجاه الأقباط وغياب منظور سياسي ومدني حديث مبني على أساس المواطنة وسيادة القانون، الأمر الذي يجعل مصيرهم وحقوقهم ملفاً خاضعاً للتفسيرات الدينية‏[24]. لذا ظلت العلاقة أسيرة الارتباك المتبادل والتشكيك نتيجة ميراث فقهي مُتشدد لدى بعضها، ولميراث سياسي يرى الكنيسة دولة داخل الدولة لها ميزات لا تتوافر لأغلبية الشعب، لذا أنتج كل هذا التراث دعوات مثل فرض الجزية على الأقباط، وتحديد المناصب العامة المتاحة لهم، بوصفهم مواطنين درجة ثانية‏[25]. وهذا الأمر دفع بالكنيسة إلى أن توافق على المشاركة في التظاهرات، رغم سابق رفضها في المشاركة في تظاهرات 25 يناير 2011. فرغم ما تردد عن وجود ضغوط من قبل جماعة الإخوان المسلمين ومؤسسة الرئاسة لمنع نزولهم، وذلك بمحاولة استخدام منهج النظام القديم نفسه واختزال الأقباط في الرموز الدينية، حسم البابا تواضروس الأمر بتأكيده أن الأقباط ليسوا قطيعاً يتم توجيههم في التظاهرات، مؤكداً أن دور الكنيسة روحي، وليس هناك توجيه للأقباط‏[26].

ثالثاً: تداعيات التجربة

بعزل الإخوان من الحكم تدخل الجماعة في طور «التراجع» وهو ما ينعكس على مكونات المشهد الإسلامي عامة وذلك عبر عدة مستويات:

1 – في ما يتعلق بالتماسك الإداري للتنظيم، انعكس الأداء السياسي الذي قامت به الجماعة في مرحلة ما قبل وما بعد عزل مرسي على قواعد التنظيم؛ حيث حدثت عدة تحولات تنظيمية أبرزها صعود الأجيال الشابة في صدارة الحراك، مما سبب تصادماً جيلياً بين قيادات الإخوان المسلمين القدامى والجدد، وتغييراً في المرجعية الفكرية، ومن ثم اختلافاً حول منهج التغيير الأمثل في هذه المرحلة، حيث يعكس هذا الصراع الدائر اختلاف مشروع كلا الطرفين واستراتيجيتهما المقترحة لحراك مثالي يناسب الأزمة السياسية الدائرة، هل هي السلمية أم تثوير الجماعة؟ ومن تداعياته أن أصبح هناك قيادتان متوازيتان وجهازان إعلاميان متعارضان حيث يملك كل فريق موقعاً إلكترونياً ومُتحدثاً إعلامياً للتعبير عن مشروعه‏[27]. ويظل هذا التشرذم التنظيمي مُرشحاً للاستمرارية إلى مدى غير منظور ما دام الموقف الرسمي من الدولة رافضاً المصالحة مع التنظيم.

2 – في ما يتعلق بـ «الكتلة الإسلامية»، رغم مشاركة مُكوِّن سلفي كالدعوة السلفية في عزل مرسي، فإن واقع الأمر يشير إلى أنها لم تُخيَّر في موافقتها أو رفضها، حيث تم فرض الأمر عليهم بحسب ما رووه عقب ذلك. كانوا آنذاك أمام أمرين: إما الموافقة ومن ثم الاستمرار بدون تضييقات، وإما أن يكونوا في مواجهة مع النظام، ويتعرضوا للاعتقال. هذا الحضور المرحلي يعود إلى أمرين: الأول، سعي النظام لنفي أطروحة معارضيه من الإسلاميين بأن ما يتعرضون له هو حرب على الإسلام وليس صراعاً سياسياً. لذا كان حضور حزب النور ثاني أكبر قوة برلمانية إسلامية بعد الإخوان ضرورياً آنذاك. والثاني: حرص الدعوة السلفية طوال فترة حكم مرسي على الوجود السياسي كممثل ديني في السياسة المصرية بديـلاً من الجماعة «المفرطة في شرع الله»، وبإزاحة الإخوان يكون هدفها قد أوشك على التحقق. وهكذا يرتبط مستقبل «التيار السلفي» ببعض التطورات التي ستطرأ – إيجاباً أو سلباً – على عدة متغيرات، أهمها: طبيعة الحل السياسي للأزمة، والموقف السُلطوي من التيار الديني إجمالاً، وقدرة مكونات التيار السلفي الرئيسة على مأسسة عملها التنظيمي وتطوير حركتها. كذلك موقف الكتلة السلفية السائلة من النظام الحاكم من جهة، وموقفها من فكرة العمل السياسي من جهة أخرى‏[28].

3 – مع حسم الخطاب الجهادي منذ عقود نظرتَه إلى التغيير بالتركيز على فكرة العمل المسلح والسري كوسيلة رآها أسرع وأفضل من إمكان التغيير بالممارسة السياسية التي كانت له تحفظاته عنها، والتي هدمتها الثورات العربية؛ فإن تنظيماً مثل القاعدة يقوم بعملية «تكيّف أيديولوجي» للثورات العربية حيث وجد أن الحد الأدنى من المكاسب هو «فرصة» أفضل للعمل والنشاط، وصولاً إلى الهدف الأكبر، ما دام هنالك ترجيح لقدرة التيارات الجهادية على البروز والعمل‏[29]. ومع حالة الانفتاح الثوري وانعكاساته تنظيمياً على مختلف الجماعات فإننا نجد أن المزاج الجهادي لم يزل هو المسيطر لدى مجموعات من الإسلاميين رغم محاولة قطاع من الجهادين تكوين حزب سياسي‏[30]. ولاحقاً أدت مُمارسات الإسلاميين في سنوات ما بعد 25 يناير 2011 إلى تغذية هذا المزاج الجهادي بصورة أو بأخرى. ومن صور ذلك:

  •  منح عزل محمد مرسي قبلة الحياة للجماعات الجهادية، التي أكدت سابق رؤيتها أن ما حدث حربٌ ضد الإسلام، وأن الأصل هو الجهاد ضد هذه الأجهزة.
  •  أسهمت المواجهات بين الثوار وبعض الأنظمة المتساقطة والدعوات التي انطلقت للجهاد في خلق مناخ يسمح بممارسة فكرة الجهاد بشكل واسع النطاق‏[31] وبصورة رسمية نوعاً ما.
  •  أيدت الممارسات التي انتهجتها كل من جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين القناعات الجهادية المسبقة بخطأ فكرة الدخول في ساحة السياسة والتفريط الذي كشفته الممارسة.

عموماً، تعكس التطورات الجهادية الآنية مكمن التهديد الفعلي المتعلق بالتغير النوعي في المشهد الجهادي وطبيعة المنضمين إليه، وبخاصة أن منهم من لم يكن له أي خلفية إسلامية، على عكس الأجيال السابقة التي تقلبت بين الجماعات الإسلامية حيث استقر بها الحال في تنظيمات الجهاد المختلفة، وهو ما يشير إلى دور المسارات السياسية في الداخل والخارج في تغذية هذه الأفكار العنيفة في أوساط شبابية لم تكن لها ارتباطات بأي جماعات إسلامية سابقاً‏[32].

رابعاً: أسئلة التنظيم

تعددت جوانب التغييرات التي لحقت ببنية تنظيم الإخوان المسلمين بعد تجربته في الحكم وما رافقها وتبعها من صراع مع «الدولة». وتظل أبرز التحديات الداخلية المطروحة هي تلك المرتبطة بثوابت التنظيم التقليدية كما يلي:

1 – فكرياً

تدفع التجربة نحو التساؤل حول مدى استمرارية ثوابت فكرية مركزية للجماعة من عدمها، مثل طبيعة الجماعة الشاملة بكونها «هيئة إسلامية جامعة» التي مثلت مصدر قوة مهمة للجماعة، وبخاصة مع الانتقادات التي وُجهت إليها نتيجة ذلك والدعوة إلى الفصل بين أدوارها السياسية والدعوية والاجتماعية. أيضاً الموقف الفقهي من المرأة حيث تثير ظاهرة «نشاط الأخوات» أمراً جديراً بالتأمل ولا سيَّما مع المواجهات المتبادلة لهن مع النظام بدرجة مكثفة لأول مرة، ليطرح جـدلاً حول مدى قابليتهن مستقبـلاً للاستمرارية بسهولة وفق نمط العلاقة الإدارية القديمة، والدور السياسي المحدود، أو للدفع بتأصيل شرعي يسمح بدمج المرأة أكثر في المناصب الإدارية العليا بالجماعة بعد نجاح تجربة قطاع الأخوات في الإبقاء على جسد الجماعة نشطاً رغم التضييقات‏[33].

2 – تنظيمياً

تعاني جماعة الإخوان المسلمين انقساماً داخلياً، ومحدودية جغرافية حراكها المناهض في الشارع، فضـلاً عن ضعف نشاطها العملياتي، وتناقص حجم الكتلة السائلةَ الداعمة، فضلاً عن أزمات متعددة في ما يخص التمويل. إضافة إلى ذلك هناك انقسام حول فكرة العنف وبخاصة مع تأزم علاقة الجماعة والنظام ما يزيد من دوافع العنف. ونرى أن تطوير فكرة العنف وتمدد مساحاته حاضرة في فكر التيار الإسلامي عامة – وفي القلب منه الإخوان المسلمون – حيث إن مساحات العنف المحتملة – نظرياً أو عملياً – ترتبط فرصها عكسياً بالمساحات السياسية والمجتمعية المفتوحة أمام التنظيم، فكلما انغلق المجال أمام التنظيم وضاقت الخيارات التي بين يديه زادت فرص انفلات القبضة التنظيمية على الأعضاء، وبالتالي تزداد فرص التوجه للعنف الذي نرى أنه سيكون طابعه فردياً – حتى ولو تزايد عدد هؤلاء الأفراد – وليس تنظيمياً بمعنى عودة التنظيم إلى ما كان عليه حتى الستينيات من القرن المنصرم وإعادة إحياء التنظيم الخاص، وبخاصة أن المجال السياسي تجاوز هذه الفكرة عما كان الأمر عليه سابقاً. لذا فالأسرع والأكثر منطقية توجه هؤلاء المتفلتين من التنظيم صوب جماعات جهادية مثل أنصار الدولة الإسلامية بسيناء أو غيرها من جماعات الداخل إضافة إلى جماعات الخارج في ظل توافر السياقات الداعمة لذلك.

3 – سياسياً

يتمثل التحدي المركزي أمام الجماعة في جناحيها بمدى قدرتها على إيجاد رُؤية سياسية تحكم مسارها وخصوصاً أن هذه الرؤية ترتبط بالتعرف إلى كيفية إدارة الجماعة صراعاتها الداخلية، كذلك قدرتها على إدارة مفاوضاتها مع النظام في ظل استمرار المعركة الصفرية بينهما؛ علماً أن السؤال الأساس الذي لا تزال تبحث عن إجابة عنه أمام «قواعدها» هو: ماذا تم من أجل القصاص لضحايا المواجهات الحالية؟ إضافة إلى طبيعة تفاعل الجماعة مع المجتمع المحلي ومدى تقبله لحراكها وموقعها من العمل السياسي/المجتمعي. كما يتمثل التحدي بقدرة التنظيم على بناء خطاب سياسي يتجاوز خطاب «المحنة» الذي يسم خطاب الجماعة منذ عقود. فضلاً عن قدرة الجماعة على إدارة حراكها الخارجي في ظل تنامي اليمين الديني والتغييرات في موازين القوى الدولية والإقليمية وخطاب مكافحة الإرهاب والجماعات الدينية والذي بات على أولوية الإدارة الأمريكية الحالية وحلفائها‏[34] .

خاتمة

بعد العرض السابق لتجربة ما يزيد على ستة أعوام على اشتباك الإسلاميين مع الحياة السياسية أكدت ممارساتهم استمرار جوانب القصور التي كانت لها تأثيراتها في المشروع والأداء الإسلامي – وهي متعلقة بأكثر من بُعد – وهو ما يمثل تحدياً كبيراً أمامهم. فعلى الجانب الفكري:

  •  أكدت التجربة أزمة التيار الإسلامي بتنويعاته في النظر إلى الدولة وأدواتها، وأدوارها، ومقاصدها، وامتد ذلك إلى فكرة الشريعة التي أظهرت الممارسات عدم وضوحها أو تحديد أطرها وكيفية تحقيقها. وهذا نتاج غياب مفهوم القانون والدولة الحديثة ودوره ومكانته ووظيفته في التنظيم الاجتماعي والسياسي. فمن خلال الممارسة غاب التصور عن شكل الدولة الإسلامية، وتبدى ذلك – كإشارة – في التجارب الدستورية، حيث غاب التصور العملي لدسترة التشريعة، خارج إطار الحديث الوعظي الذي اعتمدوا عليه في تجييش قواعدهم لسنوات. فضلاً عن الخلط في الممارسة بين الدستور والقانون في ضوء الرغبة في دسترة التفاصيل في الدستور – بديـلاً عن موضع ذلك الطبيعي في القانون – دون إجمالها.
  •  أمام هذا الارتباك في التفاعل كانت محاولات التوفيق من قبل الإسلاميين بين المرجو تحقيقه من تصورات وتراث وعظي وسابق ممارسة، وبين المتاح تحقيقه وفق تحولات السياسي والديني، من دون وجود قواعد واضحة المعايير تحكم هذه المواقف في ظل رغبة قطاعات إسلامية منهم للاستمرارية السياسية. وكمثال على ذلك موقع الشريعة في تجربتي 2012 و2013 وممارسات وتفاعلات مكونات التيار السلفي في التجربتين.
  •  يتحمل الإسلاميون جانباً كبيراً من الأزمة الفكرية فقد انعكست الدعوة بأفضلية العلوم الشرعية في وجود ضعف كمي ونوعي في كوادر هذه التيارات. وهذا نتاج مواقف سلبية قديمة تجاه العلوم الاجتماعية التي حال تفاعلهم معها من إنضاج رؤيتهم بصورة تمكن من تقديم أطروحات معمقة تناسب الواقع المعاصر.

في ما يخص الجانب العملي، كان للارتباك الفكري البادي من ممارسة الإسلاميين انعكاساته على ممارساتهم الدستورية والتنفيذية كالتالي:

–  رغم الموقف السلبي للجماعات الإسلامية تجاه إيران إلا أنهم سعوا لاستنساخ تجربتهم في «مرجعية الدولة الدينية» ممثلة بالأزهر الشريف – المؤسسة التي لديهم تحفظات كثيرة عنها في الأصل ورفضوها من قبل بدعوى عدم وجود كنيسة في الإسلام – بديـلاً من الأطر الدستورية الحديثة ممثلة بمرجعية مؤسسات كالبرلمان والمحكمة الدستورية العليا.

–  أدى غياب الإسلاميين عن مراكز الدولة العليا إلى افتقادهم الفرصة لوضع تصور واضح عن إدارة الدولة التي لا يعرفون هندستها عَملياً. جزء كبير من هذا القصور يعود إلى الاستراتيجيات الأمنية/السياسية بمنع ترقية كل من له توجُه إسلامي في مراكز الإدارة العليا. وانعكس ذلك في افتقار هذا التيار إلى الكوادر التي يمكنه إحلالها تنفيذياً، وهو ما انعكس على أدائهم عندما تقدموا سياسياً وتسلموا مقاليد الحكم فيما بعد.

إلى جانب تلك التحديات يأتي التحدي الأبرز المتعلق بإعادة إنتاج الصورة الذهنية للإسلاميين لدى عموم المجتمع بعد أدائهم السلبي. فضلاً عن مدى القدرة على الانفتاح المعرفي والاستفادة من إسهامات إسلاميين في تجارب مماثلة، بحيث يمكنهم ذلك مُستقبـلاً من تقديم إضافة تناسب المجتمع المحلي بإعادة طرح قضية تطبيق الشريعة. ويشترك الإخوان المسلمون في جوانب القصور السابقة، حيث كانت تجربتهم في الحكم تحمل أسباب فشلهم من قبل أن تبدأ، حيث وجدنا:

  •  تغلُّب منطق الجماعة في الحفاظ على «التنظيم» باعتباره رأس المال الأهم للمشروع الإسلامي على منطق الدولة التي تم التعامل معها بمنطق إدارة الجماعة نفسه.
  •  تعامل الجماعة مع الإسلاميين بمنطق أنها الجماعة الأم التي يجب أن تقود والآخرين يدعمونها، أدى إلى تشرذم الكتلة الإسلامية، حيث تم استخدام أطياف منها في مواجهة أطياف أخرى، ورغم اقتراب بعضهم من دوائر السلطة العليا إلا أنهم ظلوا على الهامش.

تظل تجربة الإسلاميين والحكم – رغم قِصر عمرها الزمني – بحاجة إلى مزيد من البحث في ملفات متعددة، سواء ما يخص أداء نوابها بمجلس الشعب وتحليل قوانينه ومشروعاتهم المقدمة، فضـلاً عن تحليل أدائهم في الوظائف الإدارية العليا بالرئاسة أو بالوزارات والمحافظات، أو تقييم تجربتهم في الوظائف الخدمية المختلفة لمعرفة أوجه الخلل فيها، وهو ما يعين مستقبـلاً في فهم وتقييم أفضل للتجربة بشكل هادئ، وهذا يرتبط أولاً وأخيراً بضرورة انتهاء أزمة الجماعة مع النظام الحالي.