إسم الكتاب بالفرنسي:
?Islam la dernière chance: Pourquoi, comment, que réformer dans l’islam
المؤلفان: Noureddine Boukrouh et Said Branine
مراجعة: نور الدين ثنيو
الناشر: Entrelacs, Paris
سنة النشر: 2018
عدد الصفحات: 285
أولًا: نور الدين بوكروح المثقف الأخير
يقدم نور الدين بوكروح في مؤلفه الأخير، شهادته الفكرية عن الجيل الذي ينتمي إليه وعن عصره في لحظة مواراة تاريخ الجيل الذي امتلك اللغة الفرنسية وفكَّر وكتب بها قضايا الجزائر والوطن العربي في سياق بناء الدول الوطنية ونهاية الاستعمار كظاهرة عالمية وتاريخية. في هذا الكتاب الذي جمعه مع الكاتب الصحافي السعيد برانين يروي الكاتب المثقف قضايا الإسلام، كما يراها لاعتقاده أن ما يُعْرف بالإسلام الحديث والمعاصر، يتمثل بنصيب كل واحد منّا في النظرة العامة التي يجب أن تعيد للإسلام وجوده في مجتمع ودولة وعالم.
في هذا الكتاب/الحديث، يعرض المؤلف جملة من القضايا والإشكاليات والمسائل، يجمعها كلها خيط رفيع هو الإسلام وكيف يمكنه أن يؤدي دوره الحضاري والمدني الجديد في عالم الدول القومية والمجتمعات المتطورة وأنظمة عربية وإسلامية متهرّئة؟ وجاءت القضايا التي تعرض لها المؤلف بالحديث على النحو التالي: فكر إصلاحي؛ لماذا نصلح الإسلام؟؛ ماذا نصلح في الإسلام؟؛ كيف نصلح الإسلام؟
واضح تمامًا أن الهاجس المركز في تفكير بوكروح هو الإسلام كنمط حياة وروح وعقل، لأن الإصلاح يجب أن يصيب كل شيء بالمعنى الذي يشير إلى أن الدين الإسلامي ضرورة وجودية، لكن كيف يمكن أن نصله بحياة الناس جميعاً في عالم آيل إلى أن يصير مجتمعاً واحداً، لأن أصل الإسلام جاء لكل الناس، وكلهم لهم الحق والواجب طَرْق قضاياه، أي بتعبير آخر يفيد ذات المعنى، أن الإسلام الذي يُراد إصلاحه هو الذي يجب أن يتخطى العرب ويتجاوز طريقة فهمهم له ونمط الحياة الذي هم عليه، لأنهم في الغالب يَضُرُّون بالإسلام في ماهيته ورسالته (نمط الإسلام السعودي).
الإسلام الفرصة الأخيرة، هو وثيقة أو بيان فكري عن الإسلام المعاصر وكيف يمكن أن نصلحه ليس من الداخل فحسب، بإعادة التراث الكلاسيكي كما ذهب البعض، بل بوصله وتواصله مع بقية العالم، وبخاصة في المجتمعات التي تتوافر على فضاءات علمانية يظهر فيها الدين وتظهر فيها الدولة، ويتم التفكير فيهما معاً دونما افتئات طرف على آخر، كما يفعل المتطرفون من العلمانيين والمتشددون من الأصوليين الدينيين. الحقيقة أن ما يشفع للمؤلف أن يطرق الإسلام في تعبيراته المدنية والثقافية والحضارية هو تواصله الأمين مع فكر أستاذه مالك بن نبي (1905-1973) الذي يعدّ الرائد الأول في طرق قضايا الإسلام من وجهة نظر حضارية ورسالة إلى الإنسانية جمعاء، في سياق كانت المجتمعات الإسلامية تعيش على نحوٍ محايث وضعية استعمارية تشهد على حضارة المستعمِر في البلاد المستعمَرة.
ثمة ما يستوجب القول إن حالة بوكروح كمثقف وفاعل في الشأن السياسي تكشف من جملة ما تكشف عن قيمة وأهمية فكر مالك بن نبي الذي أعاد تلميذه ترتيب مؤلفاته بالقدر الذي يَسّر إمكان قراءته لجيل يلي جيل الأستاذ. وهكذا فقيمة فكر مالك بن نبي من قيمة عمل تلميذه نور الدين بوكروح. كما أن هذا الأخير استمد مكانته وشهرته من فكر بن نبي ذاته، وبخاصة استخدامه للغة الفرنسية التي تجردت وتنزهت عن الطائفية والوثنية والعبودية، بحيث صار خطابها عالميًا على ما جاء في فكرها السياسي وخطاباتها الثورية بداية من عصر التنوير، لا بل يعد فكر بن نبي من هذه الناحية امتدادًا لعصر التنوير الأوروبي الذي اجترح عصر الأممية الدولية والنزعة العالمية فضلًا على انطوائه منذ عصر النهضة الأوروبية على النزعة الإنسانية.
نور الدين بوكروح مثقف وسياسي يمتلك اللغة الفرنسية، بها يفكر ويحلل ويكتب، ساعدته على التعبير عن جيل من رجال الفكر والثقافة في الجزائر الذي آل في الآونة الأخيرة إلى الزوال والتواري من خلف المشهد الثقافي العام. فالمثقف بوكروح حالة لازمت عصر ما بعد الاستقلال في الجزائر، امتدت بشكل أمين مع خطاب الحركة الوطنية الاستقلالية الصادر باللغة الفرنسية. لغة بوكروح لغة سلسة بالقدر الذي يعبّر بها عن قضايا وجوانب الإسلام والمسلمين بأسلوب قلّما يظهر في الكتابات العربية. يستطيع أن يضيف مصطلحات ومفردات جديدة تساعد على توضيح الفكرة وتقريبها من الفهم العام. فالوضع العربي والإسلامي المتخلف، ومنه بطبيعة الحال الجزائر لا يمكن الإفصاح عنه باللغة العربية فحسب، بل باللغة الفرنسية أيضًا على ما فعل قبله مالك بن نبي الذي يعدّ أستاذه الروحي، وآخرون قلّما نَحْفَل ونَحْتفي بهم.
أبرز ما تناوله بوكروح في كتابه الحوار، هو القرآن الكريم وكيف يمكن أن يفهم في سياق حديث ومعاصر. والخوض في موضوع القرآن بوصفه كلام الله وليس كلام البشر، يبرر إمكان تناوله بلغة غير العربية لبحث مكنوناته وما ينطوي عليه من معاني وعمق ومستويات في الفهم والدِّراية والعلم به، حقائق بلاغية وحقائق كونية أيضًا. وليس بعيدًا منّا حضارات وثقافات إسلامية غير عربية، لا بل اليوم، وأكثر من أي وقت مضى يمكن أن نستأنس بلغات غير عربية لسهولة تعلمها والكتابة بها والتعريف بالموضوع من خلالها. والقرآن الكريم، كما صرنا نفهمه اليوم قد نزل بلسان واضح وبيّن، تستطيع لغات أخرى غير العربية أن تساهم في هذا التوضيح والتبيين. ولا تعوزنا الشواهد الجديدة على ذلك، منها على سبيل المثال الكتاب القيم للمفكر مالك بن بني الظاهرة القرآنية (Le Phénomène coranique) عام 1944، والترجمات المتتالية والمتوالية المتعددة للقرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ناهيك بالترجمات إلى اللغات الأخرى ومنها على وجه الخصوص اللغات الحية العالمية.
ثانيًا: مسلمون وإسلام سياسي
يرى المؤلف أن الحديث عن الإسلام السياسي بدأ لحظة إخفاق الأحزاب القومية العربية مع نهاية سبعينيات القرن العشرين. فقد جاءت هذه الأحزاب الوطنية على أنقاض الأوضاع التي خلّفها الاستعمار الأوروبي في الديار الإسلامية، حيث كان المسلمون مجرد كتلة مُهْمَلة تؤشر إلى حالة من التخلف المزمن، عمل النظام الاستعماري على إبقاء الإسلام على ما هو عليه كأفضل إجراء لمواصلة الاحتلال والاستغلال. فقد كان الإسلام يرادف التخلف ويعادله، كما إن الإسلام في وعي شعوبه وعلمائه هو أيضًا تراث مرجعي ومحدد لهوية شعوبه، أي أن الإسلام في الحالة الاستعمارية كان ملاذًا للشخصية الإسلامية ضدًا على الوجود الغربي في البلدان العربية والإسلامية، فلم يكن الإسلام مقَوِّمًا ذاتيًا على رأي ابن باديس بقدر ما كان مجرد إرث من التقاليد والعادات والأعراف التي تؤبد النكوص والجمود والرتابة التاريخية.
وعليه، فقد ظهرت الحركات الإسلامية، أو ما أَطْلق عليه المستشار المصري محمد سعيد العشماوي الإسلام السياسي، نتيجة فشل الأنظمة العربية السلطوية في تجاوز الوضع الاستعماري، لتعيد تأهيل الدين الإسلامي في لحظة زمنية عرفت بمرحلة ما بعد الاستعمار. من هنا اقتران الأنظمة العربية السلطوية، في رأي جماعات الإسلام السياسي، بالأنظمة الاستعمارية، لأنها أرادت أن تواصل نفس معنى ومدلول الإسلام الذي يجب أن يبعد من السياسة، وشلّ دوره المدني وتعطيل فقهه الديني. فالربط بين النظام الاستعماري والنظام الوطني هو الذي مثّل وعي الجماعات الإسلامية ومن ثم صاغ الدور الذي يجب أن يضطلع به الدين الإسلامي في مواجهة أنظمة الحكم العربية في الداخل ومن يقف من ورائها في الخارج.
على خلاف الجماعات الإسلامية، لا بل ضدها، يرى بوكروح أن فرصة الإسلام الأخير لا تمثلها تيارات الإسلام السياسي، بل فكر إسلامي ليبرالي متفتح على الآخر، تنويري على ما ساهم فيه المفكر مالك بن نبي الذي عرض قضايا الإسلام والمسلمين في لحظة عالمية لم تدرك قيادة الدولة الجزائرية محاسنها ومزايا وفضائلها إلا بعد وفاة صاحب «الظاهرة القرآنية» و«وجهة العالم الإسلامي».. فقد كان مالك بن نبي، على ما يشرح ويوضّح بوكروح، «المستغرب» الذي خبر ودرس الغرب من الداخل لديه الشعور والوعي بروحه ونمط حياته، ومن هذه الخبرة أتى على الإسلام يبحثه في آخر حضارة الغرب وليس من آخر تخلف العرب فقط، كما فعل المفكرون الإسلاميون بداية من عصر ما عرف بالحركات الإصلاحية في الوطن العربي مطلع القرن العشرين. فـ«الاستغراب» في حالة بن نبي ليست بالمعنى الذي أراده حسن حنفي في كتابه مدخل إلى الاستغراب أي المناقض والمناهض للاستشراق، بل معالجة قضايا الشرق برصيد الفكر الغربي وعدته المفاهيمية ونمط حضارته الإنسانية. ففكر بن نبي، مثله مثل فكر بوكروح لا يقطع مع الاستشراق، بل يتواصل معه على صعيد الحوار الخصب والتكامل المعرفي والعلمي.
فالذي صار يتَطَلَّع إليه الإسلام المعاصر ليس فقه العبادات بقدر ما يرنو إلى حياة العمل وأسلوب إدارة وتسيير شؤون العباد ضمن مؤسسات تحترم آليات جديدة لتمثيل الشعوب وليس الرعايا. فقد تطورت جوانب من الحياة، وبخاصة السياسة والاقتصاد والفلسفة والعلوم والبيئة، بحيث صارت تلح على ضرورة بت قضايا من داخل تاريخها الخاص ومدلولاتها الجوانية، لأنها استقلت ولو نوع من الاستقلال، فلم تعد بحاجة إلى فتاوى فقهية، لا بل جرى التعتيم على حقائقها بخطاب ديني مقحم في ما لا يعنيه.
حديث بوكروح عن الإسلام وحوله يقتصر على القرآن الكريم بوصفه رسالة إلى الناس كافة، يفلت من الاحتكار العربي، أي من التصور العربي واللغة العربية، يتعامل مع الإسلام كذروة عليا وأخلاق متفتحة على الإنسانية كافة، مؤهلة للظفر بحكمته حيثما كانت. فالسياق العالمي الذي نعيشه اليوم هو سياق مهم لرسالة الإسلام إلى الناس جميعًا في لحظة تاريخية صنعها الغرب. فالإسلام، كما يتعامل معه بوكروح، هو آخر الديانات التوحيدية، ويجب أن يفهم ويدرس كذلك أي في سمت تاريخي يستوعب الديانات السابقة عليه ولا يستبعدها ولا يَجّبُّهَا، على خلاف ما يفعل الأصوليون الوهّابيون على وجه الخصوص.
ثالثًا: بوكروح.. ماسينيون وبن نبي
اهتمام الكاتب والمثقف بوكروح بالمستعرب والمستشرق الفرنسي بماسينيون، ليس كاهتمام سائر المثقفين والباحثين في شأن الفكر الغربي وخصوصًا منه الاستشراق. فنقده لماسينيون من الطراز الذي يكون قد تبنى مسبقًا ثقافته وفكره. لكن المشكلة التي تفاعل وتعامل معها بوكروح هو كيف يمكن التوفيق بين ماسينيون كمفكر إنساني وما جاء عنه في كتابات بن نبي. فقد سارع بوكروح إلى محاصرة شخصية لويس ماسينيون كعميل للاستعمار الفرنسي، مخبر لدى المصالح الأمنية والعسكرية ومنَظّر أيديولوجي للمشروع الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، من دون أن يترك له أي صفة يتحلّى بها كعالم ومفكر ورجل دين وإنساني عظيم، على ما عرف عنه، في الأوساط العلمية والدينية والأكاديمية وحتى الإنسانية. ولعلّ عدم اختصاص بوكروح في علوم القرآن والشريعة والأصول والديانات بصورة عامة هي التي حَرَمت ماسينيون من التنويه به ومنحه المقام «الحقيقي» له في الجزائر والوطن العربي، وهذا ما يَعْتَرف به بوكروح في متن الكتاب. فماسنيون، يُذكر في الأوساط العلمية إلى جانب كبار جهابذة الاستشراق والعلوم الدينية والاجتماعية وبخاصة التاريخ، كما يذكر في الأوساط الأكاديمية كصاحب مناهج ومقاربات ومؤسس للحقول العلم والمعرفة، وليس أخيرًا، يرِدُ أسمه في سجّل كبار الإنسانيين الذين تفتحت أخلاقهم على الإنسانية جمعاء: غاندي، مارتن لوثر كينغ، الأب بيير، غاندي، الأم تيريزا..
في مقال حول ماسينيون وبن نبي، يورد بوكروح الفقرة التالية: «عندما التقى بن نبي، لأول مرة عام 1931، بلويس ماسينيون، كان هذا الأخير يستند إلى خبرة طويلة في النشاط المخابرتي والاستعلامي والكفاح الأيديولوجي. ففي بعض الأحيان، عندما كان ابن نبي يريد أن يقصد «الاستعمار» ويوضح معناه يشير إلى ماسينيون، لأنه كان يجسده وحده في أدق تفاصيل أعماله وأفكاره. فقد جسّد ماسينيون، طوال حياته، النزعة الاستعمارية في صورتها العنصرية والتبشيرية عبر العصا والجزرة»[2]. والحقيقة، أن كل مقال بوكروح ينهض للدفاع عن أستاذه الروحي مالك بن نبي ضد ماسينيون. ولعل هنا مربط الخطيئة التي ارتكبها ليس في حق ماسينيون فحسب، بل في حق بن نبي أيضًا، الذي يجب ألّا يبعد في تكوينه وتفكيره من عالم الاستشراق وبخاصة ماسينيون نفسه. لا بل إن بوكروح نفسه لا يبتعد من عالم الفكر الذي تغذّى منه مالك بن نبي.
مقال بوكروح يفتقر إلى التحديد التاريخي، ليس إلى إعادة شخصية ماسينيون إلى السياق التاريخي، ويجب أن يفعل الأمر نفسه مع مالك بن نبي، بل إلى الاحتكام إلى المراجع المعرفية وروح العصر الذي انتمى إليه كل من بن نبي وماسينيون، ناهيك بالوضعية الاستعمارية التي عاشا فيها كلاهما. ولعلّ العصر الاستعماري يكفي ليشفع لماسينيون قراره المصيري بتصفية الاستعمار (النزعة الاستعمارية)، من مؤسسات الدولة الحديثة، كما تشفع لبن نبي النأي بفكره عن التطرف والوطنية الضيقة والشعوبية الدينية والذهنية المتكلسة.
ما يجب تأكيده في مدخل الرد على فكر بوكروح هو أن الحالة الاستعمارية كانت موجودة كوضع قائم يجب التعامل معه، نوع من التعامل، ولا بد من خيار مصيري، ويصعب، في حالة ماسينيون الفرنسي وبن نبي الجزائري، أن يطيحا بالنظام القائم لمجرد أنه استعماري، لا بل بتبني الموقف الذي يليق بتكوينه داخل المنظومة الاستعمارية ذاتها. فلم يتح لكل واحد منهما أن يختار الولادة في فرنسا أو في الجزائر المستعمرة. وعليه أو بناء عليه، فإن النشاط الاستعلامي والاستخباري الأمني منه والإداري والعسكري الذي اضطلع به ماسينيون يندرج ضمن مؤسسات الدولة ومرافقها سواء في المتروبول أو في بلاد المستعمرات كما كانت تعرف إلى غاية الحرب العالمية الأولى.
لا يحتاج منّا المقام هنا، لكي ننوه بالقيمة العلمية والمكانة الإنسانية لماسينيون، بل نحاول أن نعيد رأي بوكروح إلى الحقيقة التاريخية، أي قراءة التاريخ بعد حدوثه وليس متابعة قضاياه بفرض أسبابه ولو كانت وهمية، أي وكأن الاستعمار ما يزال قائمًا، ومن ثم تأبيد محاربته، على ما فعل بوكروح دفاعًا عن بن نبي ومناهضًا لماسينيون. فعندما يقترح ماسينيون «اعتماد اللغة العربية كلغة وطنية ثانية في الجزائر إذا ما أردنا أن البقاء فيها مع من يتكلمونها، وتشييد معهم مستقبل مشترك»، يرى بوكروح أن هذا نوع من الخِتَال الاستيطاني يندرج في منطق الاستغلال والاحتلال في صورتيهما المطلقة التي لا تقيم وزنًا ولا اعتبارًا لأية إنسانية أو مدنية حديثة أو رأي سديد موضوعي. ففي وضع استعماري قائم يُرجى منه الزوال، يعد اقتراح ماسينيون الفرنسي، ذروة الرأي الراجح الذي يساعد على تخطي التخلف التاريخي للمسلمين الجزائريين والتعالي الحضاري للفرنسيين.
والمتابعة المتأنية والقراءة الحصيفة لما كتب ماسينيون، توقفنا على المنهج الثابت الذي سلكه في تعامله مع الإدارة الفرنسية وسياستها حيال المسلمين الجزائريين. فهو رجل دين وعالم وإنساني، خاض غمار السياسة على خلفيته الشخصية القائم على الدين والعلم والإنسانية. فكونه قام بدراسات وبحوث مَسْحية إحصائية تكشف حالة الأهالي المسلمين في الجزائر والعمّال الجزائيين في فرنسا، لا يندرج في العمل الاستخباري الاستعلامي بمعناه المستهجن، بل في « دولنة» الرعية المهمَّشة في مؤسسات الدولة وإدراجهم في المجال العام الشرط اللازب لاستحقاق المواطنة والمركز القانوني المحترم، وهذا ما كانت تدعو إليه الحركة الوطنية والحركة الإصلاحية على تباين تياراتهما ومواقفهما.
إن ماسينيون كموظف إداري ومستشار وخبير في قضايا الإسلام والمسلمين لا يعفيه من مسؤولياته الفرنسية، بأن يُولي عنايته للواجب الذي لا تضيع فيه إنسانيته وفكره اللاهوتي السياسي. فقد جاء إلى الوظيفة ليس كمستطلع عسكري يقف على عموميات الأشياء الأهلية، بل من داخل التجربة الدينية الإبراهيمية التوحيدية التي أطرته وصنع بها مفاهيمه وأفكاره وخطابه الفكري.
رابعًا: بوكروح.. في انتظار الإصلاح الكبير
الحقيقة أن المشكلة ليست في النزعة الإسلامية أو الإسلام السياسي، عندما يقصد الحركات الإسلامية على اختلاف توجهاتها داخل «الحل الإسلامي»، بل المشكلة كلّها في النظام الحاكم الذي امتلك كل ما في جعبته وما في عدّته من أجهزة وأدوات السلطة لكي يؤبد سياسة الحكم المطلق. وظاهرة الإسلام السياسي والحركات الجهادية على تفاوتها هي وليدة الحكم الفاسد الذي لم يفسح المجال للمعارضة على تعددها وتنوعها من أجل التفكير في قضايا العباد والدولة والمجتمع من داخل فضاء المعارضة الشرعية وليس في زنزانات السجون والمحتشدات والمساجد وفي الهوامش الضائعة والمناطق العشوائية التي لا تعني السلطة ولا تحفل بها إطلاقًا.
مشكلة تخَلّف الإسلام والمسلمين، يجب ألّا تفترض في الأغلبية الساحقة من المجتمع الذي يمتلك إمكاناته الحقيقية وأنه لم يصوّت للنظام، لا بل حصوله على الأغلبية بيان واضح على فساد السلطة الحاكمة التي لم تكن تعي حقيقة ما يجري في البلد… وإلا ما ذهبت الأغلبية الساحقة من المجتمع إلى خيار الإسلاميين المؤجل دائمًا، لا بل المقصي إطلاقًا. لكن هذه الحقيقة هي حقيقية إلى حين ينظم طرف آخر نفسه ليخوض انتخابات ديمقراطية قد تصله إلى تحقيق الأغلبية، وهذا وارد جدًّا في اللعبة الديمقراطية التي تعني في ماهيتها التناوب على الحكم وتجديد تدبير الشأن العام. بتعبير آخر، يفيد المعنى نفسه، أن الحكم المطلق يعني من جملة ما يعني أن العَسْكر يمارس السياسة بدل المدنيين، وأن مجال المعارضة معدم، وأن إمكان التصحيح والتعديل والتَّغَلب على الأزمات غير وارد، وأن الوسيلة الوحيدة لتخطي نظام الحكم بانهياره والانقلاب عليه، إن من الداخل أو من الخارج. فالنظام السلطوي لا يقدم أية أدوات إسعاف وإجراءات تلطيف الحكم وترشيده، لأنه قام على مصادرة، في لحظة واحدة، الأزمنة الثلاث ماضٍ وحاضر ومستقبل، وقبض على الحكم والمعارضة في آن واحد أيضًا، من هنا قوة النظام في تفريخ وإنتاج قوة مناهضة له بالضرورة، لأن خطابها تستمده من خارج سياسة النظام وما يشبهه في أنظمة أخرى أي النظام السلطوي العربي وثقافته الغربية.
ما نريد أن نخلص إليه، على خلاف ما يرى بوكروح، هو أن النزعة الإسلامية كظاهرة في المجتمعات العربية، ومنها على وجه الخصوص الجزائر، ليس لها محلٌّ من شرعية الوجود إلا في مقابل النظام السلطوي الحاكم الذي سوّغ أبدية وجوده بمحاربة الحركات الإسلامية كعدو جديد لعدو قديم كان اسمه الاستعمار، ولا يزال كذلك كحالة افتراضية في الوقت الراهن. من هنا يبدأ كل شيء في إشكالية الديمقراطية ونظام الحكم الراشد، أي أن البداية هي في السؤال التالي: هل فعلًا يمكن أن تصل المعارضة الفعلية إلى الحكم وتعمل ببرنامج غير برنامج سلطة الموالاة ؟ ذلك هو السؤال الذي يجب أن يقدم للبحث والنقاش والجدل العام، إذا ما أُريد حل مسألة الإسلام والنظام السلطوي، وإلا ضاعت الرؤية وبقي الأمر كله متروك للهزات العنيفة للمصادفات وللارتجال الأعمى وللأقدار الغيبية. وعليه، وفي نهاية المطاف والتحليل، فمسؤولية النظام في إفراز ظاهرة الإسلام السياسي لا مشاحة فيها ولا غبار، لأنه الوحيد الذي يملك الأداة السياسية ذات القوة الفاعلة. إن الحركات الإسلامية على تفاوتها في استخدام العنف لم تكن تملك من السياسة شيئًا. ونسبة «السياسي» إلى الإسلام هو خطيئة تاريخية كبرى تبناها النظام السلطوي لنزع الشرعية عن الحركات الإسلامية وغيرها، على اعتبار أن الخاصية السياسية تُسْتَمد من داخل جهاز السلطة، وكل استناد على ما هو خارج السلطة فغير شرعي يجب تصفيته.
لا يوجد، حتى الوقت الرّاهن، أي إمكان لمواجه النظام السلطوي المستبد سوى الدين الذي يفلت من زمام نظام الحكم، ولا يمكن احتكاره أو مصادرته، لأن هامشًا كبيرًا من الدين مبني على العقيدة التي تعني الشخص بخالقه، أي كامنة في ضمائر الناس. أما الجانب الذي تتدخل فيه السلطة فهو نظام العبادات (culte) عندما يأخذ مظاهر معينة مثل المساجد والزوايا وشعائر الحج ورمضان والأوقاف.. التي تأخذ الطابع الموسمي التقليدي ولا تؤثر في وعي المجتمع السياسي والمدني. ولعّلنا لا نجانب الصواب إذا قدّمنا كمثال تجربة حزب النهضة التونسية الذي راح، في مؤتمره العاشر الأخير إلى فصل الدَّعوي عن السياسي، على خلفية أن النظام السلطوي الشمولي للرئيس زين الدين بن علي هو الذي استدعى ضرورة الربط الحتمي بين ما هو ديني وما هو سياسي في لحظة استؤصلت فيها المعارضة من الساحة السياسية. والمثال التونسي، ينسحب أيضًا على حالات عربية أخرى مثل الإخوان المسلمين في مصر عقب ثورة 25 يناير، عندما راحوا إلى تأسيس حزب الحرية والتنمية كشرط لازب للدخول إلى الانتخابات في زمن تحرير الديمقراطية من قبل الجماهير الشعبية، وقد انتصر فيها الإخوان، إلا أن فلول الدولة السابقة وقواها العميقة قلبت الطاولة وعمدت إلى انقلاب مخزٍ، أعاد مصر كلها إلى عهد ما قبل الدولة المستقلة بذاتها وليست فقط ملكية العساكر.
للوقوف على حقيقة الوضع العربي، ومنه الجزائري بطبيعة الحال، يجب أن نتمثل في لحظة واحدة، المشهد كاملًا الذي يعطي صورة النظام وصورة المعارضة المتمثلة بالحركات الإسلامية. أما أن نكتفي بما يقوله الخطاب الإعلامي الموالي للنظام، فمعناه إرجاء معرفة الحقيقة ومن ثم تأجيل الحل الحقيقي لحالة الإسلام والمسلمين ولمشكلة الحكم الراشد أيضًا. فتحرير المجالات وفصل السلطات هو الذي حرّر حزب العدالة والتنمية في تركيا، وساعده على الانتقال من المعارضة إلى السلطة وتحقيق النجاح الباهر الذي قلّما حققه حزب أو تنظيم تركي سابق. لا بل إن هذا النجاح هو الذي تحالفت ضده القوى الغربية وحرمت الشعوب العربية من إمكان تعميم تجربة العدالة والتنمية في البلدان العربية، وصار الجميع يدرك أن الغرب لا يرغب فعلًا في الديمقراطيات العربية لأن أوّل ضحاياها هي إسرائيل التي تعيش على اختلاف وتَخَلّف العرب والمسلمين، وأن بناء الدولة العربية التامة والكاملة ينغص عليها ويهدد وجودها أصلًا.
وما أفرزته التجربة السياسية للأحزاب ذات التوجه الإسلامي هي أنها امتثلت للُّعبة الديمقراطية وفق شروطها وقواعدها الحديثة والمعاصرة، واحتلت مكانتها ضمن أطراف أخرى ولم تُعْدِم الديمقراطية كما يزعم خصومها الألدّاء، وصارت صوتًا من جملة أصوات أخرى وجهة تقترح الإصلاح كما تقترح سائر التنظيمات السياسية والاجتماعية في البلد، وأبداً حاولت أو تمكنت من مصادرة الدولة والمجتمع كليهما. لا بل ما تبينّ أن التيار الإسلامي يخبو مع الوقت وتتراجع أرقامه بفعل مشاركاته السياسية وبسبب مشاركته في الحكم، لأن من طبيعة السلطة أنها تَحُدُّ من الزوائد غير السياسية والتَّخَلّص من غير ما هو موضوعي ونزيه وقانون وضعي. الإصلاح الذي غفل عنه بوكروح، هو أن الإسلام السياسي يحتاج إلى الحكم لكي يتحرر ليس من الطغمة العسكرية الحاكمة فقط بل ويتحرر الحزب نفسه من نفوذه الدعوي الديني ومن رصيد التخلف الذي يحمله من التراث العتيق ومن التصورات المبهمة والغريبة عن الوعي السياسي والحضاري المعاصر. منطق السلطة غير ذلك ومنطق المعارضة كذلك.
وبالعودة إلى الحالة الجزائرية التي شهدت عشرية سوداء ساد فيها الدم والدمار، لم تلتقط عينا بوكروح إلا ما كان يسجله إعلام الدولة من عنف وإرهاب الجماعات الجهادية المحسوبة على الإسلام والمسلمين، اللذين يجب ألّا يحاسب الإسلام والمسلمين عليهما، وأن الإصلاح، كل الإصلاح، يجب أن يأخذ مجراه بتخطي وتجاوز تلك الأفعال والمشاهد. وهذا نوع من انخراط الكاتب في الكتابة السياقية التي تنتصر من دون وجه حق لطرف على آخر، مع أن المطلوب منه كمثقف، أن يفكر في قضايا بلده والبلاد العربية على خلفية الفكر الإصلاحي ذاته الذي لا يتنكر للواقع ولا يرفضه بصورة مطلقة لأن عناصر وجوده وأسبابه التي صنعته ليست بعيدة منه بل تكمن في صلبه، ونقصد أن جريمة الجرائم ومدلولها المطلق هو الانقلاب الذي وضع حدّا للعملية الانتخابية وأعدم الحياة الديمقراطية بصورة نهائية فاسحًا المجال أمام العنف اليومي والإرهاب التداولي الذي يغذّي الإعلام ويخدّر ويزيف الوعي المجتمعي، صارفًا أنظار الجميع عن حقيقة المشكلة. فالوضع المدلهم الذي جاء في ما بعد هو من جوف وصلب فعل ضرب الدولة ومؤسساتها.
إن الإصلاح الكبير الذي تنتظره الشعوب العربية والإسلامية وأنظمتها هي الإصلاح العالمي، ليس كما حدث في أوروبا في القرن السادس عشر على يد النزعة البروتستانتية وفكرها السياسي العلماني الآيل دائمًا إلى تواري المقدس وزيادة فائض القيمة الاقتصادية. الإصلاح العالمي في سياق عولمي طافح، يعني التفكر في قضايا العالم كلها على خلفية التوحيد كما جاءت في رسالة الإسلام إلى الناس جميعًا، لأن معنى «الجميع» أبرز وأقوى ما تظهر في الزمن الراهن، الذي صار يؤشر فعلًا إلى بداية العهد المعاصر لرسالة التوحيد، بعد العهدين القديم والحديث. وأعتقد أن هذا ما يصب في توجه الكاتب والمثقف نور الدين بوكروح في كتابه الفرصة الأخيرة للإسلام.
المصادر:
نشرت هذه المراجعة في مجلة المستقبل العربي العدد 506 في نيسان/ أبريل 2021.
نور الدين ثنيو: أكاديمي وباحث جزائري.
[2] Nourredine Boukrouh, «Pensée de Malek Bennabi: L’énigme Massignon,» Le Soir d’Algérie, 22/11/2015.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.